M-AraBi
12-18-2010, 12:53 AM
د. أحمد بن صالح الزهراني
من أصعب الأمور على نفسي أن أضطر للمماحكة في شيء هو من الحق المتفق عليه، ومصدر صعوبته هو أنّ ذلك يجعلني في بعض ما أكتبه ظاهراً بصورة من يصادم الحق ويرفضه.
لكن يدفعني لتجشّم الكتابة فيه وتقبّل ما يترتب عليه ما يكتنفني من الحزن بسبب توظيف الحقيقة توظيفاً سيّئاً يؤدي في المحصلة إلى تعطيلها أو إفراغها من مضمونها.
من أكثر الأساليب خطورة في تغييب الحقيقة أو تعطيلها – وهي أساليب أصبحنا نفهمها جيداً من أصحابها – أسلوبان:
الأوّل: استخدام التنظير والتأصيل عائقاً عن التطبيق والتفعيل.
والآخر: القفز فوق جزء الحقيقة الذي خالفه المبطل، وإشغال الفكر بالجزء المتفق عليه.
وكلاهما تجدّد لهما أمثلة في الأيام القليلة الماضية.
أمّا الأوّل فقرأنا جميعاً مقالاً لأحد (الشرعيين) ينعى فيه كثيراً على
طريقة بعض المشايخ والفضلاء المحتسبين على المنكرات المتفشية هذه الأيام،
مذكراً بالأصول الشرعيّة التي يجب سلوكها إذا أردنا الإعذار إلى الله..
ما قاله ذلك الفاضل حق في الجملة..
المشكلة أنّ هذا الخطاب تعوّدناه اليوم فقط في مواجهة مشاريع الاحتساب..
وهي مشاريع (قد) نتناقش كثيراً في وقوع الأخطاء أثناءها، لكنّ ذلك يُقبل حين يكون المتكلم رائداً وعضواً فاعلاً في الاحتساب على المنكرات..
أمّا حين يستحيل هذا التأصيل والتنظير نوعاً من أشكال التصعيب والتعويق
فهنا سنضطر للتوقّف كثيراً أمامه..
في عهد النّبيّ -صلى الله عليه وسلّم- كان المنافقون يمتنعون من الدخول في
الإيمان بحجة أنّهم يترفّعون عن إيمان السفهاء..
لاشكّ أنّ طلب الكمال مرغوب، لكن اتخاذه حجة للامتناع عن مشاركة الفاعلين
فعلهم هو من قبيل تلك الحجة النفاقية الشهيرة.
نحن في أيّام عصيبة قلّ فيها المحتسبون وكثر فيها الساكتون المتخاذلون، فضلاً عن (المسايرين) و(الميسّرين)، وفي مثل هذه الأجواء ينبغي أن ندرك حجم التخذيل الذي يُصاب به كثيرٌ من القرّاء جرّاء مثل هذه المقالات، خاصة وهم لا يرون في المشاريع الاحتسابية - وكثير منها فردية - ما يتخوف منه صاحب المقال المشار إليه، إلاّ بحسب فهمه الخاص.
وخاصة – أيضاً – حين لا نعرف للمتكلّم شيئاً من الاحتساب الفعلي حتى نرى الأنموذج الصحيح الذي يعدّه تطبيقاً صائباً لشريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..
في أيّام التزامنا الأولى كنّا نتّقد حماساً ورغبة في إنكار المنكرات ونصْح
الناس.. وذات يوم خرجنا للنزهة على شاطئ البحر، وجلسنا مجموعة من الشباب والكبار، وكان معنا دكتور في الفقه..
كنا نعده – وما زال كذلك – شيخاً وقدوة، وفي تلك الأثناء جاء شاب ومعه آخر فجلسا على مقربة منّا، وارتفع من سيارتهما صوت الموسيقا، فتحمّس بعضنا لنصحهم والإنكار عليهم، وقال أحدنا: "أقيموا عليهم الحجة يا إخوان"، لكنّ الشيخ المذكور منعنا، وبدأ يلقي علينا محاضرة في أدب الإنكار، وأنّ الهدف ليس إقامة الحجة فقط، وإنّما ينبغي التفكير في الأسلوب والطريقة وووو.. كلام كثير صواب كله والله، لكنّه استغرق الوقت حتى قام ذلك الشاب وصديقه فانصرفا..
ولم ننكر عليهما.
كانت محاضرة قيّمة.. لكنّها كانت عائقاً عن أداء فرض..
تذكرت هذه الحادثة حين قرأت مقال الفاضل المشار إليه..
حرِيٌّ بنا أن نتبصّر حين نلقي بعض الكلام العام -ولو كان صواباً – أن ننظر في الجوّ الذي يُلقى فيه مثل هذا الكلام، نعم لو كان المقال تأصيلاً وذكراً للآداب معزولاً عن حكاية الحال لكان الكلام لا شيء فيه، أمّا عرضه في طريقة الشكاية من افتقاد المحتسبين للحكمة في تقدير المنكرات وطريقة الإنكار والمصالح والمفاسد المترتبة فقد أصبح حقيقاً بقول علي -رضي الله عنه-: (كلمة حق يُراد بها باطل).
أمّا الأسلوب الآخر فكان الداعي للكلام عنه ما سمعناه من بعض من يُشار إليهم عند الحديث عن استضافة قطر لكأس العالم والتنازلات الّتي قدّمتها في سبيل ذلك، لن أتحدث عمّن اعتبر ذلك نصراً من عند الله العزيز الحكيم، ولا عمّن عدّ ذلك فتحاً يُضاف إلى سجل الفتوحات الإسلامية؛ ففيه من السخف ما يغني عن تكلّف تسخيفه..
وإنّما أعني أولئك الذين تحدّثوا عن الإيجابية في التعامل مع الحدث، وأنّ هذا الحدث فرصة للدعوة إلى الله وتعريف الناس بدين الله.. إلى آخر هذا
الكلام الذي لا نختلف عليه من حيث المبدأ.
الشريعة أقرّت هذا الأصل، أعني التعامل بإيجابية مع الأمر القدري.. لكن لا يجوز أن يكون ذلك على حساب كتمان الأمر الشرعي.
كان على أولئك أولاً أن يبيّنوا الحكم الشرعي في السعي لاستضافة بطولة عالمية، والسماح مقابل ذلك بشرب الخمور وغير ذلك من المخالفات الّتي يعرفها من يعرف طبيعة هذه المسابقات، وما يصاحبها من اختلاط وسفور (مُجمَع) على أنّه حرام، أضفْ إلى ذلك ما فيه من تذويب الهوية وإلغاء الفروق بين المسلم والكافر، وهو ما لا يرفع به هؤلاء رأساً في أصل مذاهبهم (الجديدة).
كان عليهم أن يبيّنوا الحكم الشرعي في هذا، وهل هم بإيجابيّتهم تلك يقرّون سعي بقية الدول الإسلامية لاستضافة هذه البطولة، ولو على حساب الرضوخ، لكل شروط الجهات التي تديرها، (والّتي ظهر لنا منها): السماح ببعض المنكرات، ومنها شرب الخمور، والترحيب بمشاركة إسرائيل – ولو لم تشارك –ولا أدري عن غضّ الطرف عن العلاقات المحرمة -كما في أوروبا- هل هو ضمن الشروط أم لا؟
أعرف أنّ كلامي ربما يكون فيه قسوة وحِدّة، لكن ما هو أقسى أن يصل الأمر ببعض المتكلمين إلى المجاملة في الدين والتزييف باستعمال أسلوب القفز على الحقائق؛ فالإيجابية والتفكير في استغلال الحدث واستثماره قدر الإمكان هو نوع من محاولة التخفيف من ضرر المنكر، لكنّ المنكر حاصل حاصل، فالمفترض هو إبراء الذمة والصّدع بالحق - وهذا أوانه وهذا مكانه – إلاّ إن كان هؤلاء لا يرون بأساً بالسعي لاستضافة هذه المسابقة، وأن تحذو دولنا حذو ما فعلته قطر، وهذا ما لم يبلغه سوء ظني في الحقيقة، وإن كنت عوّدت نفسي على تصديق أيّ شيء في هذه الأيّام، وعدم تكلف إظهار العجب منه..
من الملاحظ أنّ بعض الأقلام الشرعيّة امتلكتها، وأمسكت بها أيدٍ غير نظيفة، وأصبحت تخطّ بها في صفحات مشبوهة وفي أوقات مشبوهة، وعلى المؤمن الفَطِن أن يكون على أهبة الاستعداد ليسمع في مستقبل الأيام ما هو أشدّ وأكثر إثارة للعجب ما دمنا نعيش واقعاً تغيّرت فيه معايير الصواب والخطأ، ومعايير الصدق والكذب، ومعايير السنة والبدعة..
ولو عدنا -لا أقول قروناً عدة - بل عقدين من الزمن، وقِسنا حجم هذه الأقوال في مثل تلك السنوات لتبيّن لنا أين كنّا وأين صِرنا، وإلى الله المشتكى.
من أصعب الأمور على نفسي أن أضطر للمماحكة في شيء هو من الحق المتفق عليه، ومصدر صعوبته هو أنّ ذلك يجعلني في بعض ما أكتبه ظاهراً بصورة من يصادم الحق ويرفضه.
لكن يدفعني لتجشّم الكتابة فيه وتقبّل ما يترتب عليه ما يكتنفني من الحزن بسبب توظيف الحقيقة توظيفاً سيّئاً يؤدي في المحصلة إلى تعطيلها أو إفراغها من مضمونها.
من أكثر الأساليب خطورة في تغييب الحقيقة أو تعطيلها – وهي أساليب أصبحنا نفهمها جيداً من أصحابها – أسلوبان:
الأوّل: استخدام التنظير والتأصيل عائقاً عن التطبيق والتفعيل.
والآخر: القفز فوق جزء الحقيقة الذي خالفه المبطل، وإشغال الفكر بالجزء المتفق عليه.
وكلاهما تجدّد لهما أمثلة في الأيام القليلة الماضية.
أمّا الأوّل فقرأنا جميعاً مقالاً لأحد (الشرعيين) ينعى فيه كثيراً على
طريقة بعض المشايخ والفضلاء المحتسبين على المنكرات المتفشية هذه الأيام،
مذكراً بالأصول الشرعيّة التي يجب سلوكها إذا أردنا الإعذار إلى الله..
ما قاله ذلك الفاضل حق في الجملة..
المشكلة أنّ هذا الخطاب تعوّدناه اليوم فقط في مواجهة مشاريع الاحتساب..
وهي مشاريع (قد) نتناقش كثيراً في وقوع الأخطاء أثناءها، لكنّ ذلك يُقبل حين يكون المتكلم رائداً وعضواً فاعلاً في الاحتساب على المنكرات..
أمّا حين يستحيل هذا التأصيل والتنظير نوعاً من أشكال التصعيب والتعويق
فهنا سنضطر للتوقّف كثيراً أمامه..
في عهد النّبيّ -صلى الله عليه وسلّم- كان المنافقون يمتنعون من الدخول في
الإيمان بحجة أنّهم يترفّعون عن إيمان السفهاء..
لاشكّ أنّ طلب الكمال مرغوب، لكن اتخاذه حجة للامتناع عن مشاركة الفاعلين
فعلهم هو من قبيل تلك الحجة النفاقية الشهيرة.
نحن في أيّام عصيبة قلّ فيها المحتسبون وكثر فيها الساكتون المتخاذلون، فضلاً عن (المسايرين) و(الميسّرين)، وفي مثل هذه الأجواء ينبغي أن ندرك حجم التخذيل الذي يُصاب به كثيرٌ من القرّاء جرّاء مثل هذه المقالات، خاصة وهم لا يرون في المشاريع الاحتسابية - وكثير منها فردية - ما يتخوف منه صاحب المقال المشار إليه، إلاّ بحسب فهمه الخاص.
وخاصة – أيضاً – حين لا نعرف للمتكلّم شيئاً من الاحتساب الفعلي حتى نرى الأنموذج الصحيح الذي يعدّه تطبيقاً صائباً لشريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..
في أيّام التزامنا الأولى كنّا نتّقد حماساً ورغبة في إنكار المنكرات ونصْح
الناس.. وذات يوم خرجنا للنزهة على شاطئ البحر، وجلسنا مجموعة من الشباب والكبار، وكان معنا دكتور في الفقه..
كنا نعده – وما زال كذلك – شيخاً وقدوة، وفي تلك الأثناء جاء شاب ومعه آخر فجلسا على مقربة منّا، وارتفع من سيارتهما صوت الموسيقا، فتحمّس بعضنا لنصحهم والإنكار عليهم، وقال أحدنا: "أقيموا عليهم الحجة يا إخوان"، لكنّ الشيخ المذكور منعنا، وبدأ يلقي علينا محاضرة في أدب الإنكار، وأنّ الهدف ليس إقامة الحجة فقط، وإنّما ينبغي التفكير في الأسلوب والطريقة وووو.. كلام كثير صواب كله والله، لكنّه استغرق الوقت حتى قام ذلك الشاب وصديقه فانصرفا..
ولم ننكر عليهما.
كانت محاضرة قيّمة.. لكنّها كانت عائقاً عن أداء فرض..
تذكرت هذه الحادثة حين قرأت مقال الفاضل المشار إليه..
حرِيٌّ بنا أن نتبصّر حين نلقي بعض الكلام العام -ولو كان صواباً – أن ننظر في الجوّ الذي يُلقى فيه مثل هذا الكلام، نعم لو كان المقال تأصيلاً وذكراً للآداب معزولاً عن حكاية الحال لكان الكلام لا شيء فيه، أمّا عرضه في طريقة الشكاية من افتقاد المحتسبين للحكمة في تقدير المنكرات وطريقة الإنكار والمصالح والمفاسد المترتبة فقد أصبح حقيقاً بقول علي -رضي الله عنه-: (كلمة حق يُراد بها باطل).
أمّا الأسلوب الآخر فكان الداعي للكلام عنه ما سمعناه من بعض من يُشار إليهم عند الحديث عن استضافة قطر لكأس العالم والتنازلات الّتي قدّمتها في سبيل ذلك، لن أتحدث عمّن اعتبر ذلك نصراً من عند الله العزيز الحكيم، ولا عمّن عدّ ذلك فتحاً يُضاف إلى سجل الفتوحات الإسلامية؛ ففيه من السخف ما يغني عن تكلّف تسخيفه..
وإنّما أعني أولئك الذين تحدّثوا عن الإيجابية في التعامل مع الحدث، وأنّ هذا الحدث فرصة للدعوة إلى الله وتعريف الناس بدين الله.. إلى آخر هذا
الكلام الذي لا نختلف عليه من حيث المبدأ.
الشريعة أقرّت هذا الأصل، أعني التعامل بإيجابية مع الأمر القدري.. لكن لا يجوز أن يكون ذلك على حساب كتمان الأمر الشرعي.
كان على أولئك أولاً أن يبيّنوا الحكم الشرعي في السعي لاستضافة بطولة عالمية، والسماح مقابل ذلك بشرب الخمور وغير ذلك من المخالفات الّتي يعرفها من يعرف طبيعة هذه المسابقات، وما يصاحبها من اختلاط وسفور (مُجمَع) على أنّه حرام، أضفْ إلى ذلك ما فيه من تذويب الهوية وإلغاء الفروق بين المسلم والكافر، وهو ما لا يرفع به هؤلاء رأساً في أصل مذاهبهم (الجديدة).
كان عليهم أن يبيّنوا الحكم الشرعي في هذا، وهل هم بإيجابيّتهم تلك يقرّون سعي بقية الدول الإسلامية لاستضافة هذه البطولة، ولو على حساب الرضوخ، لكل شروط الجهات التي تديرها، (والّتي ظهر لنا منها): السماح ببعض المنكرات، ومنها شرب الخمور، والترحيب بمشاركة إسرائيل – ولو لم تشارك –ولا أدري عن غضّ الطرف عن العلاقات المحرمة -كما في أوروبا- هل هو ضمن الشروط أم لا؟
أعرف أنّ كلامي ربما يكون فيه قسوة وحِدّة، لكن ما هو أقسى أن يصل الأمر ببعض المتكلمين إلى المجاملة في الدين والتزييف باستعمال أسلوب القفز على الحقائق؛ فالإيجابية والتفكير في استغلال الحدث واستثماره قدر الإمكان هو نوع من محاولة التخفيف من ضرر المنكر، لكنّ المنكر حاصل حاصل، فالمفترض هو إبراء الذمة والصّدع بالحق - وهذا أوانه وهذا مكانه – إلاّ إن كان هؤلاء لا يرون بأساً بالسعي لاستضافة هذه المسابقة، وأن تحذو دولنا حذو ما فعلته قطر، وهذا ما لم يبلغه سوء ظني في الحقيقة، وإن كنت عوّدت نفسي على تصديق أيّ شيء في هذه الأيّام، وعدم تكلف إظهار العجب منه..
من الملاحظ أنّ بعض الأقلام الشرعيّة امتلكتها، وأمسكت بها أيدٍ غير نظيفة، وأصبحت تخطّ بها في صفحات مشبوهة وفي أوقات مشبوهة، وعلى المؤمن الفَطِن أن يكون على أهبة الاستعداد ليسمع في مستقبل الأيام ما هو أشدّ وأكثر إثارة للعجب ما دمنا نعيش واقعاً تغيّرت فيه معايير الصواب والخطأ، ومعايير الصدق والكذب، ومعايير السنة والبدعة..
ولو عدنا -لا أقول قروناً عدة - بل عقدين من الزمن، وقِسنا حجم هذه الأقوال في مثل تلك السنوات لتبيّن لنا أين كنّا وأين صِرنا، وإلى الله المشتكى.