M-AraBi
12-18-2010, 01:06 AM
بقلم:
د. أحمد بن صالح الزهراني
في مقال سابق تحدّثت عن فقه التيسير كاسم علم على منهج في الفتوى متميّز الملامح والمعالم أصبح يروّج له بقوّة بديلاً عن منهج القوّة، القوّة في الدين، أي العزم على الطاعة والجدّ في الامتثال، وهو المنهج السلفي الذي جاءت الوصاية به في أقوال أئمّة السّلف، وجاء كذلك ذمّ المنهج المخالف وهو منهج تتبّع الرخص والشّذوذات وزلاّت العلماء، وشرعنتها وصدم النّصوص بها.
بطبيعة الحال لقي المقال استنكاراً من بعض النّاس لما رسخ في أذهانهم من أنّ الدين يسر، وظنّ البعض أنّ الهدف من المقال ذمّ التيسير مطلقاً وإنكار يُسر الشريعة، وهذا أمر لا يخطر على قلب من عرف الإسلام وما فيه من وجوه التيسير.
واستكمالاً لما بدأته كان لزاماً أنّ أبيّن حقيقة يسر الشريعة وحقيقة التيسير المأمور به.
في صحيح البخاري عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إنّ الدّين يسر، ولن يشادّ الدّين أحد إلاّ غلبه، فسدِّدوا، وقاربوا، وأبشروا».
هذا الحديث صريح في أنّ دين الإسلام دين يسر وسهولة، وهذا موافق للنّصوص الكثيرة في الكتاب والسّنّة كقوله تعالى: (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)، وقوله: (مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ).
ومع هذا فقد أمر النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- بالتّيسير، كما في صحيح البخاري، ومسلم، عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يسّروا ولا تعسّروا، وبشّروا ولا تنفّروا».
وفي صحيح البخاري وغيره عن أبي هريرة قال: قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «دعوه، وهريقوا على بوله سجلاً من ماء أو ذنوباً من ماء، فإنما بُعثتم ميسّرين، ولم تُبعثوا معسّرين».
فإذا كان الدّين أصلاً دين يسر وسماحة، فما فائدة الأمر بالتّيسير والنّهي عن التّعسير؟
في الحقيقة هذا يلزم الباحث أن يتلمّس سيرة النّبيّ صلى الله عليه وسلّم وأصحابه ليعرف حقيقة التّيسير المأمور به، وبعد نظر يخرج الناظر بما يلي:
لا شكّ عند أحد من علماء المسلمين أنّ الواجب بيان الدّين كما هو في الكتاب والسّنّة، وأنّه لا يجوز العدول عن بيان الدّين والحقائق الشّرعيّة؛ لأنّه من كتْم العلم وهو من كبائر الذّنوب، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُون).
وفي مسند أحمد وغيره عن النّبيّ صلى الله عليه وسلّم: «من كتم علماً ألجمه الله بلجامٍ من نار».
فإذا كنّا متّفقين ـ وهذا هو الواقع ـ أنّ الدّين يُسرٌ؛ فعلينا بيان هذا الدّين كما علمناه، دون نقص أو زيادة، وهذه قاعدة شرعيّة لا يجوز خرمها ألبتّة.
فوظيفة المفتي والعالم هو بيان الدين وإعلام النّاس بحكم الله، إمّا يقيناً كما في الأحكام القطعيّة، وإمّا بغلبة الظن كما في المسائل الاجتهاديّة، فإذا تبيّن للعالم والفقيه باجتهاده أنّ حكم الله هو التحريم أو التحليل أو غير ذلك فعليه بيانه كما أدّاه إليه اجتهاده، وإلاّ توقّف و وكل الأمر إلى علم الله، هذا هو منهج الصحابة وسلف الأمّة، ولم يكن أحدهم يفتي السائل بقول عالم غيره للتسهيل عليه سواء كان ذلك لغرض دنيوي، أو كان احتساباً لوجه الله؛ فكل هذا جهل.
وهذا هو دأب النّبيّ صلى الله عليه وسلّم وأصحابه، فلم يكونوا يحابون أحداً أو يقدّمون عاطفتهم وآراءهم على بيان الدّين الصّحيح، لسبب لا يخفى على ذي فقه، وهو أنّه مهما بدا لنا أنّ موافقة الشّرع وحكمه فيه قسوة أو شدة فإنّها بلا شك منتهى الرّحمة من الله سبحانه، وغاية الحكمة الصّادرة عن العلم التّام، والله بيّن ذلك في كتابه فقال: (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُون)، فكم من حكم يبدو لنا قسوته، وهو في الحقيقة منتهى الرّحمة.
وإذا كان ضرب المثل يفيد في هذا المقام فإنّ الطّبيب يقطع العضو من الجسد وهو أمر قاسٍ على النّفس؛ لكنّه في الواقع مقتضى الرّحمة حتى لا يأتي المرض على الجسد كلّه.
والوالد قد يضرب الولد، لكنه ضرب صادر من الرّحمة والشّفقة على الولد.
وإذا عرفنا هذا بدا لنا أنّ التّيسير المطلوب من الفقيه والدّاعية المسلم يكون في مجالين:
الأوّل: مجال القبول والإقبال على الدّين بعامّة:
فمن التّيسير أن يبدأ الدّاعية بما هو أولى ويؤخّر ما يمكن تأخيره.
فيبدأ بالتّوحيد؛ لأنّه الأهم ولأنّه شرط صحة ما بعده، ثمّ الصّلاة ثمّ الزّكاة، وهذا نوع تيسير لقبول الدّين: فإنّ تأسيس القاعدة ثم البناء عليها أفضل من فعل ذلك جملة واحدة.
وشيء آخر هو: تأخير الدّعوة أو البيان لبعض فروع الدّين ممّا قد يصدّ المدعوّ عن الدّخول فيه مع كونه لا يحتاجه في مرحلة ما، مثل الحدود الشّرعيّة مثلاً، والعقوبات البدنيّة، والعوائد الّتي لا تدخل في أصل الدين وصحّته.
أمّا الأوّل ففيه قول عائشة رضي الله عنها: «إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل لا تزنوا لقالوا لا ندع الزنا أبداً. لقد نزل بمكة على محمد -صلى الله عليه وسلّم- وإني لجارية ألعب: (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَر)، وما نزلت سورة البقرة والنساء إلاّ وأنا عنده»، قال الحافظ: «أشارت إلى الحكمة الإلهية في ترتيب التنزيل، وأنّ أول ما نزل من القرآن الدعاء إلى التوحيد، والتبشير للمؤْمن والمطِيع بالجنةِ وللكافر والعاصي بالنار، فلما اطْمأنت النفوس على ذلك أُنزِلت الأحكام، ولهذا قالت ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندعها؛ وذلك لما طُبعت عليه النفوس من النفرة عن ترك المألوف». [الفتح (9/40)].
وأمّا الثّاني ففيه قوله صلى الله عليه وسلّم لعائشة: «يا عائشة، لولا أنّ قومك حديث عهد بجاهلية؛ لأمرت بالبيت فهُدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه، وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين: باباً شرقياً، وباباً غربياً، فبلغت به أساس إبراهيم» وهو في صحيح البخاري.
المجال الثّاني: مجال التّطبيق:
ويكون هذا للفرد كما يكون للمجتمع، فيمكن للفقيه التّيسير على النّاس في تطبيق الشّرع بطرق نفسيّة ومادّيّة.
فالنّفسيّة هي الّتي تكون ببيان الحكمة، ووجوه النّفع العائد على الفرد أو المجتمع بتطبيق الحكم الشّرعي.
والمادّيّة بمراعاة حال الفرد عن طريق غضّ النّظر عن حكم مهم مقابل اجتهاده في حكم أهمّ، فلو عرف الفقيه من شخص شدة تعلّقه الخمر ومن أجله لا يريد أن يسلم، فله أن ييسّر عليه قبول الإسلام وإنقاذه من النّار بغض الطّرف عن شربه للخمر حتّى يسلم ويؤمن، ويتمكّن الإيمان منه، فيُؤمر بترك الخمر حينئذ.
ومن صوره أيضاً قبول الواقع في حال الشّخص وعدم هدم كل ما عنده من الخير من أجل عجزه عن بعضه، وفي هذا سُنّتان:
الأولى: في مسند أحمد وسنن أبي داود عن أبي سعيد قال: جاءت امرأة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ونحن عنده، فقالت: يارسول الله! إن زوجي صفوان بن المعطل يضربني إذا صليت، ويفطّرني إذا صُمت، ولا يصلي صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، قال: وصفوان عنده، قال: فسأله عمّا قالت، فقال: يارسول الله، أما قولها: يضربني إذا صلّيت، فإنّها تقرأ بسورتين وقد نهيتُها، قال: فقال: «لو كانت سورة واحدة؛ لكفت الناس» وأما قولها: يفطرني؛ فإنها تنطلق فتصوم، وأنا رجل شاب فلا أصبر، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومئذ «لاتصوم امرأة إلاّ بإذن زوجها»، وأما قولها: إني لا أصلّي حتى تطلع الشمس، فإنّا أهل بيت قد عُرف لنا ذاك، لا نكادُ نستيقِظ حتى تطلع الشّمس، قال: «فإذا استيقظت فصلّ».
الثّانية: في صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: أن رجلاً اسمه عبد الله، يُلقّب: حماراً، كان يضحك النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد جلده في الشراب، فأُتي به يوماً، فأُمر به فجُلد، فقال رجل من القوم: اللهمّ العنْه، ما أكثر ما يُؤتى به، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا تلعنوه، فو الله ما علمتُ أنه يحب اللهَ ورسولَه».
والمجتمع أيضاً كذلك له نصيب من هذا الأصل؛ ففي بعض المجتمعات يكون من التّيسير عليهم تأخير تطبيق بعض الأحكام الشّرعيّة مراعاة لجانب معيّن، كما نص الأئمة على تعطيل حد السّرقة في سنيّ القحط والمجاعة ليس إباحة للسّرقة، ولكن لوجود شبهة الاضطرار، ومنه ما جاء في سنن أبي داود وصحّحه الشيخ الألباني -رحمه الله- عن وهب قال: سألتُ جابراً عن شأن ثقيف إذ بايعت، قال: اشترطت على النبي -صلى الله عليه وسلّم- أن لا صدقة عليها ولا جهاد، وأنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلّم- بعد ذلك يقول: «سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا».
وقد شكّك بعض أهل العلم في هذه النّصوص بزعم أنّها تخالف النّصوص الصحيحة والأصول الشرعية، وهذا خطأ منهم؛ لأنّ هذه النصوص الّتي سقتها لا تخالف تلك أصلاً، ولا تعطّلها، فهذه النصوص إنّما هي وقائع تحكي لنا صوراً من السياسة الّتي سلكها النّبيّ -صلى الله عليه وسلّم- مع النّاس، وليست مطّردة؛ فكونه قبل من ثقيف ما قبل لا يعني أنّه يفعل ذلك دائماً مع كلّ النّاس، وكونه رضي من صفوان حاله وقبله على نقصه لا يعني أنّه كان يقبل ذلك من كلّ أصحابه؛ فالفقيه هو من يعرف كيف يوظّف كلّ نصّ في الأحوال الّتي تمرّ به ممّا يصلح لها.
ومن التّيسير قبول كل خير من النّاس وعدم التّشديد عليهم في الشّروط:
نلاحظ هذا في أكثر من حادثة من أهمّها: ما رواه مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: «جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلّم- فقال: هلكت يا رسول الله. قال: وما أهلكك؟ قال: وقعتُ على امرأتي في رمضان، قال: هل تجد ما تعتق رقبة؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تجد ما تطعم ستين مسكيناً؟ قال: لا، قال: ثمّ جلَس، فأُتي النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- بعرق فيه تمر، فقال: تصدّق بهذا، قال: أفقر منّا! فما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منّا، فضحك النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- حتى بدت أنيابه ثم قال: اذهبْ فأطعمه أهلَك». انظر كيف لم يدقق معه في شرط العجز في الانتقال من درجة لأخرى، بل كيف أنه لم يعنّف عليه، كونه جاء بنفسه مقبلاً عليه، طالباً معرفة الحكم وتطبيقه.
* وباختصار فإنّ مظاهر التّيسير في السّيرة النّبويّة راجعة إلى أمور عدة:
منها: أنّه صلى الله عليه وسلّم لم يأت بهذا الدّين جملة واحدة، بل نـزلت شرائعه بالتّدريج.
ومنها: أنّه قدّم ما كان موضع اتّفاق بين العقلاء، مثل الأخلاق الحسنة والتأكيد عليها، مع عدم إغفال أساس الدّين وهو التّوحيد.
ومنها: أنّه كان يقبل ممّن أتى يريد الإسلام والخير ما جاء به، ولو كان أقلّ من الواجب بعد أن يعلّمه الواجب عليه.
ومنها: أنّه كان لا يعاقب على المخالفة من متأوّل أو جاهل إلاّ المعاند.
ومنها: أنه كان يقبل عذر المعتذر، ويكل الأمر لله.
ومنها: أنّه كان يفتح أبواب الأمل في الله تعالى وفي رحمته.
ومنها: أنّه لم يكن يعامل التّائب معاملة غيره.
وإذا كان كذلك عرفنا أنّ التيسير هو تيسير قبول الحكم الشرعي كما هو، لا تغيير الحكم الشرعي لأجل المستفتي، وهذا بيّن من حادثة بول الأعرابي؛ فالنّبيّ -صلى الله عليه وسلّم- لم يقل للأعرابي إنّه لم يخطئ، بل بيّن له حكم البول في المسجد وأنّه لا يصلح، وعلى الرغم من هذا قال للصحابة: «إنّما بُعثتم ميسّرين»؛ لأنّ الصحابة بتصرفهم كان يمكن أن ينفّروا الأعرابي، ويجعلوه يعاند ويكابر فلا يقبل الأمر، فدلّ على أنّ مقصوده بالتّيسير هو فعل ما يمكن من الوسائل المشروعة لتيسير قبول الحكم الشرعي من قبل السائل، ومن ثمّ تيسير تطبيقه وامتثاله.
فالواجب على الفقيه أن يعرف حال المدعوّ، وأن ييسّر عليه أمر قبول الإسلام بالوسائل الّتي استخدمها النّبيّ صلى الله عليه وسلّم، فلا يعرض عليه ما يحتاج إلى تمكّن الإيمان ورسوخ الرّضا بالدّين قبل أن يحصل له ذلك؛ فالكافر يُعرض عليه أولاً المعاني الكلية للإسلام كالتوحيد والخلق القويم.
والمسلم العاصي يعرض عليه التوبة بعامة، فإن رأى أنه لا يستطيع عرض عليه التوبة من ذنب بعد آخر.
ومن رأى ضعفه عن الانتهاء عن ذنب معين فليدارِه حتى لا يكون ذنبه سبباً لاستيلاء الشيطان عليه بالكليّة.
والّذي أحب الرجوع إليه وتكراره أنّ التيسير ومقتضياته هو في الوقائع الفرديّة العينية، فلا يكون قواعد عامّة يلزم منها إخفاء شيء من الدّين عمّن سأل عنه، أو في وقت الحاجة إليه، أو الكذب والتدليس في بيان الحق.
فلا يصحّ ابتداء أن لا يُؤمر بفروع الشريعة، ولا يصحّ أن يُفتى بالرخصة الخاصّة لعموم الناس؛ لأننا اتفقنا على أنّ التيسير يكون مقدّراً في كثير من الأحيان بحسب ظروف المدعوّين، فإن جُعل قاعدة عامّة عاد على أحكام الشّريعة بالإبطال أو الإهمال، وهذا خلاف طريقة الشّرع.
إنّك ترى مثلاً كيف يشدّد الشّرع في النصوص العامّة في قضايا، بينما نرى النّبيّ -صلى الله عليه وسلّم- في تعامل فردي غير ذلك.
في الخمر مثلاً نصوص تشدّد في أمرها، بينما في حق الصّحابي مضحك النّبيّ -صلى الله عليه وسلّم- كان يداريه ويعامله برفق؛ لأنّ مقتضى التّيسير على الرّجل في القيام بشؤون دينه اقتضى ذلك، فيعرف صلى الله عليه وسلّم أنّه يحب الله ورسوله لكن شهوته تغلبه، وهذا غاية ما يستطيعه، فقبله على عيبه هذا، ولم يطرده أو يقصيه.
وقد شدّد في أمر الصّلاة أيّ تشديد، ومع هذا قبل من أحدهم أن يصلي صلاتين في اليوم كما جاء في مسند الإمام أحمد: عن نصر بن عاصم عن رجل منهم أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلّم فأسلم على أنه لا يصلي إلاّ صلاتين فقبل ذلك منه»، لكن ليس على سبيل الديمومة، وإنّما هو مرحلي، فقد جاء في معرفة الصحابة لأبي نعيم زيادة في الحديث قوله: «إن يقبل منه فإذا دخل في الإسلام أُمر بالخمس».
وشدّد في أمر الزّكاة، ومع هذا قبل البيعة ممّن اشترط عدم الزكاة كما مرّ عن بني ثقيف.
إنّ هذه الأمثلة وغيرها شاهد عزيز على أنّ التيسير خلاف النّصوص داخل في الضّرورات الدّعويّة الّتي تترجّح فيها مصلحة على مفسدة، ولا ينبغي للضّرورة أن تكون قاعدة؛ بل لكل حالة ظروفها وملابساتها، قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ: «فإذا كان النّهي مستلزماً في القضية المعينة لترك المعروف الراجح؛ كان بمنزلة أن يكون مستلزماً لفعل المنكر الرّاجح، كمن أسلم على أن لا يصلّي إلاّ صلاتين، كما هو مأثور عن بعض من أسلم على عهد النبي صلى الله عليه وسلّم، أو أسلم بعض الملوك المسلطين وهو يشرب الخمر، أو يفعل بعض المحرمات، ولو نُهي عن ذلك ارتدّ عن الإسلام.
ففرق بين ترك العالم أو الأمير لنهي بعض الناس عن الشيء إذا كان في النّهي مفسدة راجحة؛ وبين إذنه في فعله، وهذا يختلف باختلاف الأحوال، ففي حال أخرى يجب إظهار النهي، إما لبيان التحريم واعتقاده والخوف من فعله، أو لرجاء الترك، أو لإقامة الحجة بحسب الأحوال، ولهذا تنوّع حال النبي -صلى الله عليه وسلّم- في أمره ونهيه، وجهاده وعفوه، وإقامته الحدود، وغلظته، ورحمته»[ الفتاوى(35/ 32)].
ومن التّيسير على النّاس أن يبيّن لهم مواطن الرّخص الشّرعيّة التي جاء بها النّص، كما قال سفيان الثّوري: «إنّما العلم عندنا أن تسمع بالرّخصة من ثقة، فأمّا التّشديد فيحسنه كلّ أحد».
وقال الإمام أحمد: «من أفتى الناس ليس ينبغي أن يحمل الناس على مذهبه ويشدّد عليهم» وقال في رواية ابن القاسم: «إنما ينبغي أن يؤمر الناس بالأمر البيّن الذي لا شك فيه، وليت الناس إذا أُمروا بالشّيءِ الصحيح أن لا يجاوزوه».
ويدخل في التشديد أن يُفتي الفقيه في كلّ مسألة فيها خلاف بالقول الأحوط، وهذا ليس فِقهاً، إنّما هو ورع، والورع لا يصعب الفتوى به، إنّما الفقه والعلم أن يعرف حكم كلّ مسألة، ويرجّح الرّاجح، سواء كان الأشدّ أو الأيسر.
قال ابن الصّلاح في تساهل المفتي: «وأمّا إذا صحّ قصده فاحتسب في تطلّب حيلة لا شبهة فيها، ولا تجرّ إلى مفسدة ليخلّص بها المستفتي من ورطة يمين أو نحوها فذلك حسنٌ جميل، يشهد له قول الله تبارك وتعالى لأيّوب صلّى الله عليه وعلى نبيّنا وسلّم لمّا حلف ليضربنّ امرأته مئة: (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّاب)».
وليس الأخذ بالأحوط هو المتقرّر دائماً؛ بل قد يحسن الأخذ بالأيسر، فعلى المفتي أن يفتي بما هو الرّاجح عنده من أنّه حكم الله تعالى، لا أن يحرم النّاس من رخص الله من باب الاحتياط، والأمر يحتاج إلى بصر ومقارنة.
ومن التّشديد: مخالفة الكثرة، والشّذوذ عنهم في غير معصية ممّا يُسبّب الثّقل والملل، وهو يحسب ذلك عبادة، كمن يرى قوم يتحدّثون في أمر دنيا فيقطع عليهم وينشئ كلاماً في أمر الآخرة، أو يراهم يبتسمون فيقطع عليهم ويذكّرهم بالموت مثلاً، وأشدّ من ذلك البدعة المعاصرة، وهي المحاضرات في الأعراس وحفلات الزّواج، حيث يلتقي النّاس ببعضهم يتحادثون في أمور من المؤانسة، ولربّما يقابل الواحد من لم يره منذ زمن بعيد، فإذا أحدهم يقوم محاضراً في النّاس ويلزمهم بالسّكوت، والإنصات فيلقي عليهم بعض الآداب أو يتكلّم في بعض المنكرات، وهذا مع أنّه خلاف الأولى، إلاّ أنّه يزيد كراهةً في حالات: كأن يطيل جدّاً فيستغرق وقت الحفل كلّه.
وأشدّ منه أن يتكلّم عن الموت والسّاعة والزّهد في الدّنيا والاستعداد للرّحيل، وهذا كلّه حق ولكن لكلّ مقام مقال، وما أظنّ ذلك إلاّ سيكون سبباً لتنفير النّاس لا لإقبالهم.
وقال حمّاد بن سلمة: «الصّوم في البستان من الثّقل»، ومراده ـ رحمه الله ـ صوم التّنفّل مع الرّفقة الّذين خرجوا للنـزهة والتّفرّج في البستان، أو على شواطئ البحار أو في أيّ مكان يطيب للمرء فيه الأكل والشّرب، فيأتي واحد منهم يصوم دونهم، وكأنّه المتنسّك الوحيد، تالله إنّه الثّقل بعينه، ولقد رأينا من ذلك ألواناً.
وآخر المقال وزبدته، أنّ مهمة العالم والفقيه أن يبلّغ دين الله كما تبيّن له يقيناً أو اجتهاداً، ولا يجوز له إفتاء الناس بما يخالف النصوص الشرعية والإجماع المشهور بدعوى التيسير عليهم.
ولئن كانت نيّة الفقيه في ذلك حسنة فكم من مريد الخير لا يدركه، وأشدّ من ذلك أن يكون قوله ومنهجه حجّة لأهل الباطل للكيد للسنّة وأهلها، والله المستعان.
د. أحمد بن صالح الزهراني
في مقال سابق تحدّثت عن فقه التيسير كاسم علم على منهج في الفتوى متميّز الملامح والمعالم أصبح يروّج له بقوّة بديلاً عن منهج القوّة، القوّة في الدين، أي العزم على الطاعة والجدّ في الامتثال، وهو المنهج السلفي الذي جاءت الوصاية به في أقوال أئمّة السّلف، وجاء كذلك ذمّ المنهج المخالف وهو منهج تتبّع الرخص والشّذوذات وزلاّت العلماء، وشرعنتها وصدم النّصوص بها.
بطبيعة الحال لقي المقال استنكاراً من بعض النّاس لما رسخ في أذهانهم من أنّ الدين يسر، وظنّ البعض أنّ الهدف من المقال ذمّ التيسير مطلقاً وإنكار يُسر الشريعة، وهذا أمر لا يخطر على قلب من عرف الإسلام وما فيه من وجوه التيسير.
واستكمالاً لما بدأته كان لزاماً أنّ أبيّن حقيقة يسر الشريعة وحقيقة التيسير المأمور به.
في صحيح البخاري عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إنّ الدّين يسر، ولن يشادّ الدّين أحد إلاّ غلبه، فسدِّدوا، وقاربوا، وأبشروا».
هذا الحديث صريح في أنّ دين الإسلام دين يسر وسهولة، وهذا موافق للنّصوص الكثيرة في الكتاب والسّنّة كقوله تعالى: (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)، وقوله: (مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ).
ومع هذا فقد أمر النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- بالتّيسير، كما في صحيح البخاري، ومسلم، عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يسّروا ولا تعسّروا، وبشّروا ولا تنفّروا».
وفي صحيح البخاري وغيره عن أبي هريرة قال: قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «دعوه، وهريقوا على بوله سجلاً من ماء أو ذنوباً من ماء، فإنما بُعثتم ميسّرين، ولم تُبعثوا معسّرين».
فإذا كان الدّين أصلاً دين يسر وسماحة، فما فائدة الأمر بالتّيسير والنّهي عن التّعسير؟
في الحقيقة هذا يلزم الباحث أن يتلمّس سيرة النّبيّ صلى الله عليه وسلّم وأصحابه ليعرف حقيقة التّيسير المأمور به، وبعد نظر يخرج الناظر بما يلي:
لا شكّ عند أحد من علماء المسلمين أنّ الواجب بيان الدّين كما هو في الكتاب والسّنّة، وأنّه لا يجوز العدول عن بيان الدّين والحقائق الشّرعيّة؛ لأنّه من كتْم العلم وهو من كبائر الذّنوب، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُون).
وفي مسند أحمد وغيره عن النّبيّ صلى الله عليه وسلّم: «من كتم علماً ألجمه الله بلجامٍ من نار».
فإذا كنّا متّفقين ـ وهذا هو الواقع ـ أنّ الدّين يُسرٌ؛ فعلينا بيان هذا الدّين كما علمناه، دون نقص أو زيادة، وهذه قاعدة شرعيّة لا يجوز خرمها ألبتّة.
فوظيفة المفتي والعالم هو بيان الدين وإعلام النّاس بحكم الله، إمّا يقيناً كما في الأحكام القطعيّة، وإمّا بغلبة الظن كما في المسائل الاجتهاديّة، فإذا تبيّن للعالم والفقيه باجتهاده أنّ حكم الله هو التحريم أو التحليل أو غير ذلك فعليه بيانه كما أدّاه إليه اجتهاده، وإلاّ توقّف و وكل الأمر إلى علم الله، هذا هو منهج الصحابة وسلف الأمّة، ولم يكن أحدهم يفتي السائل بقول عالم غيره للتسهيل عليه سواء كان ذلك لغرض دنيوي، أو كان احتساباً لوجه الله؛ فكل هذا جهل.
وهذا هو دأب النّبيّ صلى الله عليه وسلّم وأصحابه، فلم يكونوا يحابون أحداً أو يقدّمون عاطفتهم وآراءهم على بيان الدّين الصّحيح، لسبب لا يخفى على ذي فقه، وهو أنّه مهما بدا لنا أنّ موافقة الشّرع وحكمه فيه قسوة أو شدة فإنّها بلا شك منتهى الرّحمة من الله سبحانه، وغاية الحكمة الصّادرة عن العلم التّام، والله بيّن ذلك في كتابه فقال: (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُون)، فكم من حكم يبدو لنا قسوته، وهو في الحقيقة منتهى الرّحمة.
وإذا كان ضرب المثل يفيد في هذا المقام فإنّ الطّبيب يقطع العضو من الجسد وهو أمر قاسٍ على النّفس؛ لكنّه في الواقع مقتضى الرّحمة حتى لا يأتي المرض على الجسد كلّه.
والوالد قد يضرب الولد، لكنه ضرب صادر من الرّحمة والشّفقة على الولد.
وإذا عرفنا هذا بدا لنا أنّ التّيسير المطلوب من الفقيه والدّاعية المسلم يكون في مجالين:
الأوّل: مجال القبول والإقبال على الدّين بعامّة:
فمن التّيسير أن يبدأ الدّاعية بما هو أولى ويؤخّر ما يمكن تأخيره.
فيبدأ بالتّوحيد؛ لأنّه الأهم ولأنّه شرط صحة ما بعده، ثمّ الصّلاة ثمّ الزّكاة، وهذا نوع تيسير لقبول الدّين: فإنّ تأسيس القاعدة ثم البناء عليها أفضل من فعل ذلك جملة واحدة.
وشيء آخر هو: تأخير الدّعوة أو البيان لبعض فروع الدّين ممّا قد يصدّ المدعوّ عن الدّخول فيه مع كونه لا يحتاجه في مرحلة ما، مثل الحدود الشّرعيّة مثلاً، والعقوبات البدنيّة، والعوائد الّتي لا تدخل في أصل الدين وصحّته.
أمّا الأوّل ففيه قول عائشة رضي الله عنها: «إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل لا تزنوا لقالوا لا ندع الزنا أبداً. لقد نزل بمكة على محمد -صلى الله عليه وسلّم- وإني لجارية ألعب: (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَر)، وما نزلت سورة البقرة والنساء إلاّ وأنا عنده»، قال الحافظ: «أشارت إلى الحكمة الإلهية في ترتيب التنزيل، وأنّ أول ما نزل من القرآن الدعاء إلى التوحيد، والتبشير للمؤْمن والمطِيع بالجنةِ وللكافر والعاصي بالنار، فلما اطْمأنت النفوس على ذلك أُنزِلت الأحكام، ولهذا قالت ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندعها؛ وذلك لما طُبعت عليه النفوس من النفرة عن ترك المألوف». [الفتح (9/40)].
وأمّا الثّاني ففيه قوله صلى الله عليه وسلّم لعائشة: «يا عائشة، لولا أنّ قومك حديث عهد بجاهلية؛ لأمرت بالبيت فهُدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه، وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين: باباً شرقياً، وباباً غربياً، فبلغت به أساس إبراهيم» وهو في صحيح البخاري.
المجال الثّاني: مجال التّطبيق:
ويكون هذا للفرد كما يكون للمجتمع، فيمكن للفقيه التّيسير على النّاس في تطبيق الشّرع بطرق نفسيّة ومادّيّة.
فالنّفسيّة هي الّتي تكون ببيان الحكمة، ووجوه النّفع العائد على الفرد أو المجتمع بتطبيق الحكم الشّرعي.
والمادّيّة بمراعاة حال الفرد عن طريق غضّ النّظر عن حكم مهم مقابل اجتهاده في حكم أهمّ، فلو عرف الفقيه من شخص شدة تعلّقه الخمر ومن أجله لا يريد أن يسلم، فله أن ييسّر عليه قبول الإسلام وإنقاذه من النّار بغض الطّرف عن شربه للخمر حتّى يسلم ويؤمن، ويتمكّن الإيمان منه، فيُؤمر بترك الخمر حينئذ.
ومن صوره أيضاً قبول الواقع في حال الشّخص وعدم هدم كل ما عنده من الخير من أجل عجزه عن بعضه، وفي هذا سُنّتان:
الأولى: في مسند أحمد وسنن أبي داود عن أبي سعيد قال: جاءت امرأة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ونحن عنده، فقالت: يارسول الله! إن زوجي صفوان بن المعطل يضربني إذا صليت، ويفطّرني إذا صُمت، ولا يصلي صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، قال: وصفوان عنده، قال: فسأله عمّا قالت، فقال: يارسول الله، أما قولها: يضربني إذا صلّيت، فإنّها تقرأ بسورتين وقد نهيتُها، قال: فقال: «لو كانت سورة واحدة؛ لكفت الناس» وأما قولها: يفطرني؛ فإنها تنطلق فتصوم، وأنا رجل شاب فلا أصبر، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومئذ «لاتصوم امرأة إلاّ بإذن زوجها»، وأما قولها: إني لا أصلّي حتى تطلع الشمس، فإنّا أهل بيت قد عُرف لنا ذاك، لا نكادُ نستيقِظ حتى تطلع الشّمس، قال: «فإذا استيقظت فصلّ».
الثّانية: في صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: أن رجلاً اسمه عبد الله، يُلقّب: حماراً، كان يضحك النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد جلده في الشراب، فأُتي به يوماً، فأُمر به فجُلد، فقال رجل من القوم: اللهمّ العنْه، ما أكثر ما يُؤتى به، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا تلعنوه، فو الله ما علمتُ أنه يحب اللهَ ورسولَه».
والمجتمع أيضاً كذلك له نصيب من هذا الأصل؛ ففي بعض المجتمعات يكون من التّيسير عليهم تأخير تطبيق بعض الأحكام الشّرعيّة مراعاة لجانب معيّن، كما نص الأئمة على تعطيل حد السّرقة في سنيّ القحط والمجاعة ليس إباحة للسّرقة، ولكن لوجود شبهة الاضطرار، ومنه ما جاء في سنن أبي داود وصحّحه الشيخ الألباني -رحمه الله- عن وهب قال: سألتُ جابراً عن شأن ثقيف إذ بايعت، قال: اشترطت على النبي -صلى الله عليه وسلّم- أن لا صدقة عليها ولا جهاد، وأنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلّم- بعد ذلك يقول: «سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا».
وقد شكّك بعض أهل العلم في هذه النّصوص بزعم أنّها تخالف النّصوص الصحيحة والأصول الشرعية، وهذا خطأ منهم؛ لأنّ هذه النصوص الّتي سقتها لا تخالف تلك أصلاً، ولا تعطّلها، فهذه النصوص إنّما هي وقائع تحكي لنا صوراً من السياسة الّتي سلكها النّبيّ -صلى الله عليه وسلّم- مع النّاس، وليست مطّردة؛ فكونه قبل من ثقيف ما قبل لا يعني أنّه يفعل ذلك دائماً مع كلّ النّاس، وكونه رضي من صفوان حاله وقبله على نقصه لا يعني أنّه كان يقبل ذلك من كلّ أصحابه؛ فالفقيه هو من يعرف كيف يوظّف كلّ نصّ في الأحوال الّتي تمرّ به ممّا يصلح لها.
ومن التّيسير قبول كل خير من النّاس وعدم التّشديد عليهم في الشّروط:
نلاحظ هذا في أكثر من حادثة من أهمّها: ما رواه مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: «جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلّم- فقال: هلكت يا رسول الله. قال: وما أهلكك؟ قال: وقعتُ على امرأتي في رمضان، قال: هل تجد ما تعتق رقبة؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تجد ما تطعم ستين مسكيناً؟ قال: لا، قال: ثمّ جلَس، فأُتي النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- بعرق فيه تمر، فقال: تصدّق بهذا، قال: أفقر منّا! فما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منّا، فضحك النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- حتى بدت أنيابه ثم قال: اذهبْ فأطعمه أهلَك». انظر كيف لم يدقق معه في شرط العجز في الانتقال من درجة لأخرى، بل كيف أنه لم يعنّف عليه، كونه جاء بنفسه مقبلاً عليه، طالباً معرفة الحكم وتطبيقه.
* وباختصار فإنّ مظاهر التّيسير في السّيرة النّبويّة راجعة إلى أمور عدة:
منها: أنّه صلى الله عليه وسلّم لم يأت بهذا الدّين جملة واحدة، بل نـزلت شرائعه بالتّدريج.
ومنها: أنّه قدّم ما كان موضع اتّفاق بين العقلاء، مثل الأخلاق الحسنة والتأكيد عليها، مع عدم إغفال أساس الدّين وهو التّوحيد.
ومنها: أنّه كان يقبل ممّن أتى يريد الإسلام والخير ما جاء به، ولو كان أقلّ من الواجب بعد أن يعلّمه الواجب عليه.
ومنها: أنّه كان لا يعاقب على المخالفة من متأوّل أو جاهل إلاّ المعاند.
ومنها: أنه كان يقبل عذر المعتذر، ويكل الأمر لله.
ومنها: أنّه كان يفتح أبواب الأمل في الله تعالى وفي رحمته.
ومنها: أنّه لم يكن يعامل التّائب معاملة غيره.
وإذا كان كذلك عرفنا أنّ التيسير هو تيسير قبول الحكم الشرعي كما هو، لا تغيير الحكم الشرعي لأجل المستفتي، وهذا بيّن من حادثة بول الأعرابي؛ فالنّبيّ -صلى الله عليه وسلّم- لم يقل للأعرابي إنّه لم يخطئ، بل بيّن له حكم البول في المسجد وأنّه لا يصلح، وعلى الرغم من هذا قال للصحابة: «إنّما بُعثتم ميسّرين»؛ لأنّ الصحابة بتصرفهم كان يمكن أن ينفّروا الأعرابي، ويجعلوه يعاند ويكابر فلا يقبل الأمر، فدلّ على أنّ مقصوده بالتّيسير هو فعل ما يمكن من الوسائل المشروعة لتيسير قبول الحكم الشرعي من قبل السائل، ومن ثمّ تيسير تطبيقه وامتثاله.
فالواجب على الفقيه أن يعرف حال المدعوّ، وأن ييسّر عليه أمر قبول الإسلام بالوسائل الّتي استخدمها النّبيّ صلى الله عليه وسلّم، فلا يعرض عليه ما يحتاج إلى تمكّن الإيمان ورسوخ الرّضا بالدّين قبل أن يحصل له ذلك؛ فالكافر يُعرض عليه أولاً المعاني الكلية للإسلام كالتوحيد والخلق القويم.
والمسلم العاصي يعرض عليه التوبة بعامة، فإن رأى أنه لا يستطيع عرض عليه التوبة من ذنب بعد آخر.
ومن رأى ضعفه عن الانتهاء عن ذنب معين فليدارِه حتى لا يكون ذنبه سبباً لاستيلاء الشيطان عليه بالكليّة.
والّذي أحب الرجوع إليه وتكراره أنّ التيسير ومقتضياته هو في الوقائع الفرديّة العينية، فلا يكون قواعد عامّة يلزم منها إخفاء شيء من الدّين عمّن سأل عنه، أو في وقت الحاجة إليه، أو الكذب والتدليس في بيان الحق.
فلا يصحّ ابتداء أن لا يُؤمر بفروع الشريعة، ولا يصحّ أن يُفتى بالرخصة الخاصّة لعموم الناس؛ لأننا اتفقنا على أنّ التيسير يكون مقدّراً في كثير من الأحيان بحسب ظروف المدعوّين، فإن جُعل قاعدة عامّة عاد على أحكام الشّريعة بالإبطال أو الإهمال، وهذا خلاف طريقة الشّرع.
إنّك ترى مثلاً كيف يشدّد الشّرع في النصوص العامّة في قضايا، بينما نرى النّبيّ -صلى الله عليه وسلّم- في تعامل فردي غير ذلك.
في الخمر مثلاً نصوص تشدّد في أمرها، بينما في حق الصّحابي مضحك النّبيّ -صلى الله عليه وسلّم- كان يداريه ويعامله برفق؛ لأنّ مقتضى التّيسير على الرّجل في القيام بشؤون دينه اقتضى ذلك، فيعرف صلى الله عليه وسلّم أنّه يحب الله ورسوله لكن شهوته تغلبه، وهذا غاية ما يستطيعه، فقبله على عيبه هذا، ولم يطرده أو يقصيه.
وقد شدّد في أمر الصّلاة أيّ تشديد، ومع هذا قبل من أحدهم أن يصلي صلاتين في اليوم كما جاء في مسند الإمام أحمد: عن نصر بن عاصم عن رجل منهم أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلّم فأسلم على أنه لا يصلي إلاّ صلاتين فقبل ذلك منه»، لكن ليس على سبيل الديمومة، وإنّما هو مرحلي، فقد جاء في معرفة الصحابة لأبي نعيم زيادة في الحديث قوله: «إن يقبل منه فإذا دخل في الإسلام أُمر بالخمس».
وشدّد في أمر الزّكاة، ومع هذا قبل البيعة ممّن اشترط عدم الزكاة كما مرّ عن بني ثقيف.
إنّ هذه الأمثلة وغيرها شاهد عزيز على أنّ التيسير خلاف النّصوص داخل في الضّرورات الدّعويّة الّتي تترجّح فيها مصلحة على مفسدة، ولا ينبغي للضّرورة أن تكون قاعدة؛ بل لكل حالة ظروفها وملابساتها، قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ: «فإذا كان النّهي مستلزماً في القضية المعينة لترك المعروف الراجح؛ كان بمنزلة أن يكون مستلزماً لفعل المنكر الرّاجح، كمن أسلم على أن لا يصلّي إلاّ صلاتين، كما هو مأثور عن بعض من أسلم على عهد النبي صلى الله عليه وسلّم، أو أسلم بعض الملوك المسلطين وهو يشرب الخمر، أو يفعل بعض المحرمات، ولو نُهي عن ذلك ارتدّ عن الإسلام.
ففرق بين ترك العالم أو الأمير لنهي بعض الناس عن الشيء إذا كان في النّهي مفسدة راجحة؛ وبين إذنه في فعله، وهذا يختلف باختلاف الأحوال، ففي حال أخرى يجب إظهار النهي، إما لبيان التحريم واعتقاده والخوف من فعله، أو لرجاء الترك، أو لإقامة الحجة بحسب الأحوال، ولهذا تنوّع حال النبي -صلى الله عليه وسلّم- في أمره ونهيه، وجهاده وعفوه، وإقامته الحدود، وغلظته، ورحمته»[ الفتاوى(35/ 32)].
ومن التّيسير على النّاس أن يبيّن لهم مواطن الرّخص الشّرعيّة التي جاء بها النّص، كما قال سفيان الثّوري: «إنّما العلم عندنا أن تسمع بالرّخصة من ثقة، فأمّا التّشديد فيحسنه كلّ أحد».
وقال الإمام أحمد: «من أفتى الناس ليس ينبغي أن يحمل الناس على مذهبه ويشدّد عليهم» وقال في رواية ابن القاسم: «إنما ينبغي أن يؤمر الناس بالأمر البيّن الذي لا شك فيه، وليت الناس إذا أُمروا بالشّيءِ الصحيح أن لا يجاوزوه».
ويدخل في التشديد أن يُفتي الفقيه في كلّ مسألة فيها خلاف بالقول الأحوط، وهذا ليس فِقهاً، إنّما هو ورع، والورع لا يصعب الفتوى به، إنّما الفقه والعلم أن يعرف حكم كلّ مسألة، ويرجّح الرّاجح، سواء كان الأشدّ أو الأيسر.
قال ابن الصّلاح في تساهل المفتي: «وأمّا إذا صحّ قصده فاحتسب في تطلّب حيلة لا شبهة فيها، ولا تجرّ إلى مفسدة ليخلّص بها المستفتي من ورطة يمين أو نحوها فذلك حسنٌ جميل، يشهد له قول الله تبارك وتعالى لأيّوب صلّى الله عليه وعلى نبيّنا وسلّم لمّا حلف ليضربنّ امرأته مئة: (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّاب)».
وليس الأخذ بالأحوط هو المتقرّر دائماً؛ بل قد يحسن الأخذ بالأيسر، فعلى المفتي أن يفتي بما هو الرّاجح عنده من أنّه حكم الله تعالى، لا أن يحرم النّاس من رخص الله من باب الاحتياط، والأمر يحتاج إلى بصر ومقارنة.
ومن التّشديد: مخالفة الكثرة، والشّذوذ عنهم في غير معصية ممّا يُسبّب الثّقل والملل، وهو يحسب ذلك عبادة، كمن يرى قوم يتحدّثون في أمر دنيا فيقطع عليهم وينشئ كلاماً في أمر الآخرة، أو يراهم يبتسمون فيقطع عليهم ويذكّرهم بالموت مثلاً، وأشدّ من ذلك البدعة المعاصرة، وهي المحاضرات في الأعراس وحفلات الزّواج، حيث يلتقي النّاس ببعضهم يتحادثون في أمور من المؤانسة، ولربّما يقابل الواحد من لم يره منذ زمن بعيد، فإذا أحدهم يقوم محاضراً في النّاس ويلزمهم بالسّكوت، والإنصات فيلقي عليهم بعض الآداب أو يتكلّم في بعض المنكرات، وهذا مع أنّه خلاف الأولى، إلاّ أنّه يزيد كراهةً في حالات: كأن يطيل جدّاً فيستغرق وقت الحفل كلّه.
وأشدّ منه أن يتكلّم عن الموت والسّاعة والزّهد في الدّنيا والاستعداد للرّحيل، وهذا كلّه حق ولكن لكلّ مقام مقال، وما أظنّ ذلك إلاّ سيكون سبباً لتنفير النّاس لا لإقبالهم.
وقال حمّاد بن سلمة: «الصّوم في البستان من الثّقل»، ومراده ـ رحمه الله ـ صوم التّنفّل مع الرّفقة الّذين خرجوا للنـزهة والتّفرّج في البستان، أو على شواطئ البحار أو في أيّ مكان يطيب للمرء فيه الأكل والشّرب، فيأتي واحد منهم يصوم دونهم، وكأنّه المتنسّك الوحيد، تالله إنّه الثّقل بعينه، ولقد رأينا من ذلك ألواناً.
وآخر المقال وزبدته، أنّ مهمة العالم والفقيه أن يبلّغ دين الله كما تبيّن له يقيناً أو اجتهاداً، ولا يجوز له إفتاء الناس بما يخالف النصوص الشرعية والإجماع المشهور بدعوى التيسير عليهم.
ولئن كانت نيّة الفقيه في ذلك حسنة فكم من مريد الخير لا يدركه، وأشدّ من ذلك أن يكون قوله ومنهجه حجّة لأهل الباطل للكيد للسنّة وأهلها، والله المستعان.