وذكر محمد بن عمر، أنه حدثه بذلك خالد بن القاسم، عن شعيب بن عمرو الأموي.
قال محمد بن عمر: حدثني يحيى بن سعيد بن دينار، عن أبيه، قال: قال معاوية: إني رأيت أن منبر رسول الله
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png وعصاه لا يتركان بالمدينة، وهم قتلة أمير المؤمنين عثمان وأعداؤه، فلما قدم طلب العصا وهي عند سعد القرظ، فجاءه أبو هريرة وجابر بن عبد الله، فقالا: يا أمير المؤمنين؛ نذكرك الله عز وجل أن تفعل هذا، فإن هذا لا يصلح، تخرج منبر رسول الله
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png من موضع وضعه، وتخرج عصاه إلى الشأم؛ فانقل المسجد؛ فأقصر وزاد فيه ست درجات، فهو اليوم ثماني درجات، واعتذر إلى الناس مما صنع.
قال محمد بن عمر: وحدثني سويد بن عبد العزيز، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن أبان بن صالح، عن قبيصة بن ذؤيب، قال: كان عبد الملك قد هم بالمنبر، فقال له قبيصة بن ذؤيب: أذكرك الله عز وجل أن تفعل هذا، وأن تحوله! إن أمير المؤمنين معاوية حركه فكسفت الشمس، وقال رسول الله
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png: " من حلف على منبري آثمًا فليتبوأ مقعده من النار "، فتخرجه من المدينة وهو مقطع الحقوق بينهم بالمدينة! فأقصر عبد الملك عن ذلك، وكف عن أن يذكره. فلما كان الوليد وحج هم بذلك وقال: خبراني عنه، وما أراني إلا سأفعل: فأرسل سعيد بن المسيب إلى عمر بن عبد العزيز، فقال: كلم صاحبك يتق الله عز وجل ولا يتعرض لله سبحانه ولسخطه، فكلمه عمر بن عبد العزيز، فأقصر وكف عن ذكره، فلما حج سليمان بن عبد الملك أخبره عمر بن عبد العزيز بما كان الوليد هم به وإرسال سعيد بن المسيب إليه، فقال سليمان: ما كنت أحب أن يذكر هذا عن أمير المؤمنين عبد الملك ولا عن الوليد، هذا مكابرة، وما لنا ولهذا! أخذنا الدنيا فهي في أيدينا، ونريد أن نعمد إلى علم من أعلام الإسلام يوفد إليه، فنحمله إلى ما قبلنا! هذا ما لا يصلح.
وفيها عزل معاوية بن حديج عن مصر وولى مسلمة بن مخلد مصر وإفريقية، وكان معاوية بن أبي سفيان قد بعث قبل أن يولي مسلمة مصر وإفريقية عقبة بن نافع الفهري إلى إفريقية، فافتتحها، واختط قيروانها، وكان موضعه غيضةً - فيما زعم محمد بن عمر - لا ترام من السباع والحيات وغير ذلك من الداب. فدعا الله عز وجل عليها فلم يبق منها شيء إلا خرج هاربًا، حتى إن السباع كانت تحمل أولادها.
قال محمد بن عمر: حدثني موسى بن علي، عن أبيه، قال: نادى عقبة بن نافع:
إنا نازلونا ** فاظعنوا عزينا
فخرجن من جحرتهن هوارب.
قال: وحدثني المفضل بن فضالة، عن زيد بن أبي حبيب، عن رجل من جند مصر، قال: قدمنا مع عقبة بن نافع، وهو أول الناس اختطها وأقطعها للناس مساكن ودورًا، وبنى مسجدها. فأقمنا معه حتى عزل، وهو خير والٍ وخير أمير.
ثم عزل معاوية في هذه السنة - أعني سنة خمسين - معاوية بن حديج عن مصر، وعقبة بن نافع عن إفريقية، وولى مسلمة بن مخلد مصر والمغرب كله، فهو أول من جمع له المغرب كله ومصر وبرقة وإفريقية وطرابلس، فولى مسلمة بن مخلد مولىً له يقال له: أبو المهاجر أفريقية، وعزل عقبة ابن نافع، وكشفه عن أشياء، فلم يزل واليًا على مصر والمغرب، وأبو المهاجر على إفريقية من قبله حتى هلك معاوية بن أبي سفيان.
وفي هذه السنة مات أبو موسى الأشعري، وقد قيل: كانت وفاة أبي موسى سنة اثنتين وخمسين.
واختلف فيمن حج بالناس في هذه السنة، فقال بعضهم: حج بهم معاوية، وقال بعضهم: بل حج بهم ابنه يزيد، وكان الوالي في هذه السنة على المدينة سعيد بن العاص، وعلى البصرة والكوفة والمشرق وسجستان وفارس والسند والهند زياد.
ذكر هرب الفرزدق من زياد
وفي هذه السنة طلب زيادٌ الفرزدق، واستعدت عليه بنو نهشل وفقيم، فهرب منه إلى سعيد بن العاص - وهو يومئذ والي المدينة من قبل معاوية - مستجيرًا به، فأجاره.
ذكر الخبر عن ذلك
حدثني عمر بن شبة، قال: حدثنا أبو عبيدة وأبو الحسن المدائني وغيرهما، أن الفرزدق لما هجا بني نهشل وبني فقيم. لم يزد أبو زيد في إسناد خبره على ما ذكرت؛ وأما محمد بن علي فإنه حدثني عن محمد بن سعد، عن أبي عبيدة، قال: حدثني أعين بن لبطة بن الفرزدق، قال: حدثني أبي عن أبيه، قال: لما هاجيت الأشهب بن رميلة والبعيث فسقطا، استعدت علي بنو نهشل وبنو فقيم زياد بن أبي سفيان. وزعم غيره أن يزيد بن مسعود بن خالد بن مالك بن ربعي بن سلمي بن جندل بن نهشل استعدى أيضًا عليه. فقال أعين: فلم يعرفه زياد حتى قيل له: الغلام الأعرابي الذي أنهب ورقه وألقى ثيابه؛ فعرفه.
قال أبو عبيدة: أخبرني أعين بن لبطة، قال: أخبرني أبي، عن أبيه، قال: بعثني أبي غالبٌ في عير له وجلبٍ أبيعه وأمتار له وأشتري لأهله كسًا، فقدمت البصرة، فبعت الجلب، فأخذت ثمنه فجعلته في ثوبي أزاوله، إذ عرض لي رجل أراه كأنه شيطان، فقال: لشد ما تستوثق منها! فقلت: وما يمنعني! قال: أما لو كان مكانك رجل أعرفه ما صبر عليها؛ فقلت: وما هو؟ قال: غالب بن صعصعة؛ قال: فدعوت أهل المربد فقلت: دونكموها - ونثرتها عليهم - فقال لي قائل: ألق رداءك يابن غالب، فألقيته. وقال آخر: ألق قميصك؛ فألقيته، وقال آخر: ألق عمامتك فألقيتها حتى بقيت في إزارٍ، فقالوا: ألق إزارك، فقلت: لن ألقيه وأمشي مجردًا، إني لست بمجنون. فبلغ الخبر زيادًا، فأرسل خيلًا إلى المربد ليأتوه بي، فجاء رجل من بني الهجيم على فرس؛ قال: أتيت فالنجاء! وأردفني خلفه، وركض حتى تغيب، وجاءت الخيل وقد سبقت، فأخذ زياد عمين لي: ذهيلا والزحاف ابني صعصعة - وكانا في الديوان على ألفين ألفين، وكانا معه - فحبسهما فأرسلت إليهما: إن شئتما أتيتكما، فبعثا إلي: لا تقربنا، إنه زياد! وما عسى أن يصنع بنا، ولم نذنب ذنبًا! فمكثا أيامًا. ثم كلم زياد فيهما، فقالوا: شيخان سامعان مطيعان، ليس لهما ذنب مما صنع غلام أعرابي من أهل البادية؛ فخلى عنهما؛ فقالا لي: أخبرنا بجميع ما أمرك أبوك من ميرةٍ أو كسوة؛ فخبرتهما به أجمع، فاشترياه وانطلقت حتى لحقت بغالب، وحملت ذلك معي أجمع، فأتيته وقد بلغه خبري، فسألني: كيف صنعت؟ فأخبرته بما كان؛ قال: وإنك لتحسن مثل هذا! ومسح رأسي. ولم يكن يومئذ يقول الشعر، وإنما قال الشعر بعد ذلك، فكانت في نفس زياد عليه.
ثم وفد الأحنف بن قيس وجارية بن قدامة، من بني ربيعة بن كعب ابن سعد والجون بن قتادة العبشمي والحتات بن يزيد أبو منازل، أحد بني حوى بن سفيان بن مجاشع إلى معاوية بن أبي سفيان، فأعطى كل رجل منهم مائة ألف، وأعطى الحتات سبعين ألفًا، فلما كانوا في الطريق سأل بعضهم بعضًا، فأخبروه بجوائزهم، فكان الحتان أخذ سبعين ألفًا، فرجع إلى معاوية، فقال: ما ردك يا أبا منازل؟ قال: فضحتني في بني تميم، أما حسبي بصحيح! أو لست ذا سن! أو لست مطاعًا في عشيرتي! فقال معاوية: بلى؛ قال: فما بالك خسست بي دون القوم! فقال: إني اشتريت من القوم دينهم ووكلتك إلى دينك ورأيك في عثمان بن عفان - وكان عثمانيًا - فقال: وأنا فاشتر مني ديني، فأمر له بتمام جائزة القوم. وطعن في جائزته، فحبسها معاوية، فقال الفرزدق في ذلك:
أبوك وعمي يا معاوي أورثا ** تراثًا فيحتاز التراث أقاربه
فما بال ميراث الحتات أخذته ** وميراث حربٍ جامدٌ لك ذائبه!
فلو كان هذا الأمر في جاهليةٍ ** علمت من المرء القليل حلائبه
ولو كان في دينس سوى ذا شنئتم ** لنا حقنا أو غص بالماء شاربه
ولو كان إذ كنا وفي الكف بسطةٌ ** لصممٌ غضبٌ فيك ماضٍ مضاربه
- وأنشد محمد بن علي وفي الكف مبسط
وقد رمت شيئًا يا معاوي دونه ** خياطف علودٍّ صعاب مراتبه
وما كنت أعطي النصف من غير قدرةٍ ** سواك، ولو مالت علي كتائبه
ألست أعز الناس قومًا وأسرةً ** وأمنعهم جارًا إذا ضيم جانبه
وما ولدت بعد النبي وآله ** كمثلي حصانٌ في الرجال يقاربه
أبى غالبٌ والمرء ناجية الذي ** إلى صعصعٍ ينمى، فمن ذا يناسبه!
وبيتي إلى جنب الثريا فناؤه ** ومن دونه البدر المضيء كواكبه
أنا ابن الجبال الصم في عدد الحصى ** وعرق الثرى عرقي، فمن ذا يحاسبه!
أنا ابن الذي أحيا الوئيد وضامنٌ ** على الدهر إذ عزت لدهرٍ مكاسبه
وكم من أبٍ لي يا معاوي لم يزل ** أغر يباري الريح ما ازور جانبه
نمته فروع المالكين ولم يكن ** أبوك الذي من عبد شمسٍ يقاربه
تراه كنصل السيف يهتز للندى ** كريمًا يلاقي المجد ما طر شاربه
طويل نجاد السيف مذ كان لم يكن ** قصيٌّ وعبد الشمس ممن يخاطبه
فرد ثلاثين ألفًا على أهله، وكانت أيضًا قد أغضبت زيادًا عليه. قال: فلما استعدت عليه نهشل وفقيم ازداد عليه غضبًا، فطلبه فهرب، فأتى عيسى بن خصيلة بن معتب بن نصر بن خالد البهزي، ثم أحد بني سليم، والحجاج بن علاط بن خالد السلمي.