وذكر محمد بن أحمد مولى بني سليم قال: حدثني الليث بن عبد العزيز الجوزجاني - وكان مجاورًا بمكة أربعين سنة - أن بعض الحجبة حدثه أن الرشيد لما حج دخل الكعبة، وقال على أصابعه، وقال:
يا من يملك حوائج السائلين، ويعلم ضمير الصامتين، فإن لكل مسألة منك ردًا حاضرًا، وجوابًا عتيدًا، ولكل صامت منك علم محيط ناطق بمواعيدك الصادقة، وأياديك الفاضلة؛ ورحمتك الواسعة. صل على محمد وعلى آل محمد، واغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا. يا من لا تضره الذنوب، ولا تخفى عليه العيوب، ولا تنقصه مغفرة الخطايا. يا من كبس الأرض على الماء، وسد الهواء بالسماء، واختار لنفسه الأسماء، صل على محمد، وخر لي في جميع أمري. يا من خشعت له الأصوات بألوان اللغات يسألونك الحاجات؛ إن حاجتي إليك أن تغفر لي إذا توفيتني، وصرت في لحدي، وتفرق عني أهلي وولدي. اللهم لك الحمد حمدًا يفضل على كل حمد كفضلك على جميع الخلق. اللهم صل على محمد صلاة تكون له رضًا، وصل على محمد صلاة تكون له حرزًا، واجزه عنا خير الجزاء في الآخرة والأولى. اللهم أحينا سعداء وتوفنا شهداء، واجعلنا سعداء مرزوقين ولا تجعلنا أشقياء محرومين! وذكر علي بن محمد عن عبد الله، قال: أخبرني القاسم بن يحيى، قال: بعث الرشيد إلى أبي داود والذين يخدمون قبر الحسين بن علي الحير، فأتى بهم، فنظر إليه الحسن بن راشد، وقال: ما لك؟ قال: بعث إلي هذا الرجل - يعني الرشيد - فأحضرني، ولست آمنة على نفسي، قال له: فإذا دخلت عليه فسألك، فقل له: الحسن بن راشد وضعني في ذلك الموضع. فلما دخل عليه قال هذا القول، قال: ما أخلق أن يكون هذا من تخليط الحسن! أحضروه، قال: فلما حضر قال: ما حملك على أن صيرت هذا الرجل في الحير؟ قال: رحم الله من صيره في الحير، أمرتني أم موسى أن أصيره فيه، وأن أجري عليه كل شهر ثلاثين درهمًا فقال: ردوه إلى الحير، وأجروا عليه ما أجرته أم موسى - وأم موسى هي أم المهدي ابنة يزيد بن منصور.
وذكر علي بن محمد أن أباه حدثه قال: دخلت على الرشيد في دار عون العبادي فإذا هو في هيئة الصيف، وفي بيت مكشوف؛ وليس فيه فرش على مقعد عند باب في الشق الأيمن من البيت، وعليه غلالة رقيقة، وإزار رشيدي عريض الأعلام، شديد التضريج؛ وكان لا يخيش البيت الذي هو فيه؛ لأنه كان يؤذيه؛ ولكنه كان يدخل عليه برد الخيش؛ ولا يجلس فيه. وكان أول من اتخذ في بيت مقيله في الصيف سقفًا دون سقف؛ وذلك أنه لما بلغه أن الأكاسرة كانوا يطينون ظهور بيوتهم في كل يوم من خارج ليكف عنهم حر الشمس؛ فاتخذ هو سقفًا يلي سقف البيت الذي يقيل فيه.
وقال علي عن أبيه: خبرت أنه كان في كل يوم القيظ تغار من فضة يعمل فيه العطار الطيب والزعفران والأفاوية وماء الورد، ثم يدخل إلى بيت مقيله، ويدخل معه سبع غلائل قصب رشيدية تقطيع النساء، ثم تغمس الغلال في ذلك الطيب، ويؤتى في كل يوم بسبع جوار، فتخلع عن كل جارية ثيابها عليها غلالة، وتجلس على كرسي مثقب، وترسل الغلالة على الكرسي فتجلله، ثم تبخر من تحت الكرسي بالعود المدرج في العنبر أمدًا حتى يجف القميص عليها، يفعل ذلك بهن، ويكون ذلك في بيت مقبله، فيعبق ذلك البيت بالبخور والطيب.
وذكر علي بن حمزة أن عبد الله بن عباس بن الحسن بن عبيد الله بن علي بن أبي طالب قال: قال لي العباس بن الحسن: قال لي الرشيد: أراك تكثر من ذكر ينبع وصفتها، فصفها لي وأوجز، قال: قلت: بكلام أو بشعر؟ قال: بكلام وشعر، قال: قلت: جدتها في أصل عذقها، وعذقها مسرح شأنها، قال: فتبسم، فقلت له:
يا وادي القصر نعم القصر والوادي ** من منزل حاضر إن شئت أو بادي
ترى قراقيره والعيس واقفةً ** والضب والنون والملاح والحادي
وذكر محمد بن هارون، عن أبيه، قال: حضرت الرشيد، وقال له الفضل بن الربيع: يا أمير المؤمنين، قد أحضرت ابن السماك كما أمرتني، قال: أدخله، فدخل، فقال له: عظني، قال: يا أمير المؤمنين، اتق الله وحده لا شريك له، واعلم أنك واقف غدًا بين يدي الله ربك، ثم مصروف إلى إحدى منزلتين لا ثالثة لهما؛ جنة أو نار. قال: فبكى هارون حتى اخضلت لحيته، فأقبل الفضل على ابن السماك، فقال: سبحان الله! وهل يتخالج أحد شك في أن أمير المؤمنين مصروف إلى الجنة إن شاء الله! لقيامه بحق الله وعدله في عباده، وفضله! قال: فلم يحفل بذلك ابن السماك من قوله، ولم يلتفت إليه، وأقبل على أمير المؤمنين، فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا - يعني الفضل بن الربيع - ليس والله معك ولا عندك في ذلك اليوم، فاتق الله وانظر لنفسك. قال: فبكى هارون حتى أشفقنا عليه. وأفحم الفضل بن الربيع فلم ينطق بحرف حتى خرجنا.
قال: ودخل ابن السماك على الرشيد يومًا؛ فبينا هو عنده إذ استسقى ماء، فأتى بقلة ماء؛ فلما أهوى بها إلى فيه ليشربها، قال ابن السماك: على رسلك يا أمير المؤمنين؛ بقرابتك من رسول الله
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png، لو منعت هذه الشربة فبكم كنت تشتريها؟ قال: بنصف ملكي، قال: اشرب هنأك الله؛ فلما شربها، قال له: أسألك بقرابتك من رسول الله
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png، لو منعت خروجها من بدنك، فبماذا كنت تشتريها؟ قال: بجميع ملكي؛ قال ابن السماك: إن ملكًا قيمته شربة ماء، لجدير ألا ينافس فيه. فبكى هارون؛ فأشار الفضل بن الربيع إلى السماك بالانصراف فانصرف.
قال: ووعظ الرشيد عبد الله بن عبد العزيز العمري، فتلقى قوله بنعم يا عم، فلما ولى لينصرف؛ بعث إليه بألفي دينار في كيس مع الأمين والمأمون فاعترضاه بها، وقالا: يا عم؛ يقول لك أمير المؤمنين: خذها وانتفع بها أو فرقها، فقال: هو أعلم بمن يفرقها عليه، ثم اخذ من الكيس دينارًا، وقال: كرهت أن اجمع سوء القول وسوء الفعل. وشخص إليه إلى بغداد بعد ذلك، فكره الرشيد مصيره إلى بغداد، وجمع العمريين، فقال: مالي ولابن عمتكم! احتملته بالحجاز، فشخص إلى دار مملكتي؛ يريد أن يفسد علي أوليائي! ردوه عني، فقالوا: لا يقبل منا؛ فكتب إلى موسى بن عيسى أن يرفق به حتى يرده، فدعا له عيسى ببني عشر سنين، قد حفظ الخطب والمواعظ، فكلمه كلامًا كثيرًا، ووعظه بما لم يسمع العمري بمثله، ونهاه عن التعرض لأمير المؤمنين. فأخذ نعله، وقام وهو يقول: " فاعترفوا بذنبهم فسحقًا لأصحاب السعير ".
وذكر بعضهم أنه كان مع الرشيد بالرقة بعد أن شخص من بغداد، فخرج يومًا مع الرشيد إلى الصيد، فعرض له رجل من النساك، فقال: يا هارون، اتق الله، فقال لإبراهيم بن عثمان بن نهيك: خذ هذا الرجل إليك حتى انصرف، فلما رجع دعا بغدائه، ثم أمر أن يطعم الرجل من خاص طعامه، فلما أكل وشرب دعا به، فقال: يا هذا، أنصفني في المخاطبة والمسألة، قال: ذاك أقل ما يجب لك، قال: فأخبرني: أنا شر وأخبث أم فرعون؟ قال: بل فرعون، قال: " أنا ربكم الأعلى " وقال: " ما علمت لكم من إله غيري "، قال: صدقت؛ فأخبرني فمن خير؟ أنت أم موسى بن عمران؟ قال: موسى كليم الله وصفيه، اصطنعه لنفسه، وأتمنه على وحيه، وكلمه من بين خلقه، قال: صدقت؛ أفما تعلم أنه لما بعثه وأخاه إلى فرعون قال لهما: " فقولا له قولًا لينًا لعله يتذكر أو يخشى "، ذكر المفسرون أنه أمرهما أن يكنياه؛ وهذا وهو في عتوه وجبريته؛ على ما قد علمت، وأنت جئتني وأنا بهذه الحالة التي تعلم، أؤدي أكثر فرائض الله علي، ولا أعبد أحدًا سواه، أقف عند أكبر حدوده وأمره ونهيه؛ فوعظتني بأغلظ الألفاظ وأشنعها وأخشن الكلام وأفظعه؛ فلا بأدب الله تأدبت، ولا بأخلاق الصالحين أخذت، فما كان يؤمنك أن أسطو بك! فإذا أنت قد عرضت نفسك لما كنت عنه غنيًا. قال الزاهد: أخطأت يا أمير المؤمنين؛ وأنا أستغفرك؛ قال: قد غفر لك الله؛ وأمر له بعشرين ألف درهم، فأبى أن يأخذها، وقال: لا حاجة لي في المال؛ أنا رجل سائح. فقال هرثمة - وخزره: أترد على أمير المؤمنين يا جاهل صلته! فقال الرشيد: أمسك عنه، ثم قال له: لم نعطك هذا المال لحاجتك إليه؛ ولكن من عادتنا أنه لا يخاطب الخليفة أحد ليس من أوليائه ولا أعدائه إلا وصله ومنحه؛ فاقبل من صلتنا ما شئت؛ وضعها حيث أحببت. فأخذ من المال ألفي درهم، وفرقها على الحجاب ومن حضر الباب.
ذكر من كان عند الرشيد من النساء والمهائر
قيل: إنه تزوج زبيدة؛ وهي أم جعفر بنت جعفر بن المنصور، وأعرس بها في سنة خمس وستين ومائة في خلافة المهدي ببغداد، في دار محمد بن سليمان - التي صارت بعد للعباسة، ثم صارت للمعتصم بالله - فولدت له محمدًا الأمين، وماتت ببغداد في جمادى الأولى سنة ست عشرة ومائتين.
وتزوج أمة العزيز أم ولد موسى، فولدت له علي بن الرشيد.
وتزوج أم محمد ابنة صالح المسكين، وأعرس بها بالرقة في ذي الحجة سنة سبع وثمانين ومائة، وأمها أم عبد الله ابنة عيسى بن علي صاحبة دار أم عبد الله بالكرخ التي فيها أصحاب الدبس؛ كانت أملكت من إبراهيم بن المهدي، ثم خلعت منه فتزوجها الرشيد.
وتزوج العباسة ابنة سليمان بن أبي جعفر، وأعرس بها في ذي الحجة سنة سبع وثمانين ومائة، حملت هي وأم محمد ابنة صالح إليه.
وتزوج عزيزة ابنة الغطريف؛ وكانت قبله عند سليمان بن أبي جعفر، فطلقها، فخلف عليها الرشيد، وهي ابنة أخي الخيزران.
وتزوج الجرشية العثمانية، وهي ابنة عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان، وسميت الجرشية لأنها ولدت بجرش باليمن، وجدة أبيها فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب، وعم أبيها عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم.
ومات الرشيد عن أربع مهائر: أم جعفر، وأم محمد ابنة صالح، وعباسة ابنة سليمان، والعثمانية.
ذكر ولد الرشيد
وولد للرشيد من الرجال: محمد الأكبر وأمه زبيدة، وعبد الله المأمون وأمه أم ولد يقال لها مراجل، والقاسم المؤتمن وأمه أم ولد يقال لها قصف، ومحمد أبو إسحاق المعتصم وأمه أم ولد يقال لها ماردة، وعلي وأمه أمة العزيز، وصالح وأمه أم ولد يقال لها رثم، ومحمد أبو عيسى وأمه أم ولد يقال لها عرابة، ومحمد أبو يعقوب وأمه أم ولد يقال لها خبث ومحمد أبو سليمان وأمه أم ولد يقال لها رواح، ومحمد أبو علي وأمه أم ولد يقال لها دواج، ومحمد أبو أحد وأمه أم ولد يقال لها كتمان.
ومن النساء: سكينة وأمها قصف وهي أخت القاسم، وأم حبيب وأمها ماردة وهي أخت أبي إسحاق المعتصم، وأروى أمها حلوب، وأم الحسن وأمها عرابة، وأم محمد وهي حمدونة، وفاطمة وأمها غصص واسمها مصفى، وأم أبيها وأمها سكر، وأم سلمة وأمها رحيق، وخديجة وأمها شجر، وهي أخت كريب، وأم القاسم وأمها خزق، ورملة أم جعفر وأمها حلى، وأم علي وأمها أنيق، وأم الغالية أمها سمندل، وريطة وأمها زينة.
بقية ذكر بعض سير الرشيد
ذكر يعقوب بن إسحاق الأصفهاني، قال: قال المفضل بن محمد الضبي: وجه الرشيد؛ فما علمت إلا وقد جاءتني الرسل ليلًا، فقالوا: أجب أمير المؤمنين، فخرجت حتى صرت إليه؛ وذلك في يوم خميس؛ وإذا هو متكئ ومحمد بن زبيدة عن يساره، والمأمون عن يمينه؛ فسلمت، فأومأ إلي فجلست، فقال لي: يا مفضل، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: كم إسمًا في: " فسيكفيكهم "؟ قلت: ثلاثة أسماء يا أمير المؤمنين، قال: وما هي؟ قلت: الكاف لرسول الله
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png، والهاء والميم، وهي للكفار، والياء وهي لله عز وجل. قال: صدقت؛ هكذا أفادنا هذا الشيخ - يعني الكسائي - ثم التفت إلى محمد، فقال له: أفهمت يا محمد؟ قال: نعم، قال: أعد علي المسألة كما قال المفضل، فأعادها، ثم التفت إلي فقال: يا مفضل، عندك مسألة تسألنا عنها بحضرة هذا الشيخ؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قال وما هي؟ قلت: قول الفرزدق:
أخذنا بآفاق السماء عليكم ** لنا قمراها والنجوم الطوالع
قال: هيهات أفادناها متقدمًا قبلك هذا الشيخ؛ لنا قمراها، يعني الشمس والقمر كما قالوا سنة العمرين: سنة أبي بكر وعمر، قال: قلت: فأزيد في السؤال؟ قال: زد، قلت: فلم استحسنوا هذا؟ قال: لأنه إذا اجتمع اسمان من جنس واحد، وكان أحدهما أخف على أفواه القائلين غلبوه وسموا به الآخر؛ فلما كانت أيام عمر أكثر من أيام أبي بكر وفتوحه أكثر، واسمه أخف غلبوه، وسموا أبا بكر باسمه، قال الله عز وجل: " بعد المشرقين " وهو المشرق والمغرب. قلت: قد بقيت زيادة في المسألة! فالتفت إلى الكسائي فقال: يقال في هذا غير ما قلنا؟ قال: هذا أوفى ما قالوا، وتمام المعنى عند العرب. قال: ثم التفت إلي فقال: ما الذي بقي؟ قلت: بقيت الغاية التي إليها أجرى الشاعر المفتخر في شعره، قال: وما هي؟ قلت: أراد بالشمس إبراهيم، وبالقمر محمدًا
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png، وبالنجوم الخلفاء الراشدين من آبائك الصالحين. قال: فاشرأب أمير المؤمنين؛ وقال: يا فضل بن الربيع؛ احمل إليه مائة ألف درهم لقضاء دينه، وانظر من بالباب من الشعراء فيؤذن لهم، فإذا العماني ومنصور النمري، فأذن لهما، فقال:
أذن مني الشيخ، فدنا منه وهو يقول:
قل للإمام المقتدي بأمه ** ما قاسم دون مدى ابن أمه
فقد رضيناه فقم فسمه
فقال الرشيد: ما ترضى أن تدعو إلى عقد البيعة له وأنا جالس حتى تنهضني قائمًا! قال: قيام عزم يا أمير المؤمنين، لا قيام حتم، فقال: يؤتى بالقاسم، فأتي به، وطبطب في أرجوزته، فقال الرشيد للقاسم: إن هذا الشيخ قد دعا إلى عقد البيعة لك، فأجزل له العطية، فقال: حكم أمير المؤمنين، قال: وما أنا وذاك! هات النمري، فدنا منه، وأنشده:
ما تنقضي حسرة مني ولا جزع