هذه أدلة أبي رية على دعواه، وعلق على خبر البختري قوله (ارجع إلى ص101) وكان قد ذكر هناك بعض هذه الأخبار تحت عنوان: (كيف استجازوا وضع الأحاديث؟) وبهذا يعرف حاصل دعواه هنا ومناسبتها لأدلتها، فإن تكذيب الصديقين لا يتم إلا بتصديق الكذابين.
قال: (روى ذلك وغيره).
أقول: أما (ذلك) أي: الأخبار المتقدمة فقد تبين أن أبا هريرة لم يرو شيئًا منها، وأما غيره فما هو؟
قال: (على حين أن الثابت عن النبي أنه قال: «من نقل عني ما لم أقله فليتبوأ مقعده من النار»).
أقول: كذا ذكر الحديث هنا و ص 40، والثابت: «من يقل عليَّ ما لم أقل… إلخ» رواه أحمد من حديث أبي هريرة، وكذا من حديث
سلمة بن الأكوع، وكذا جاء في أثناء حديث لأبي قتادة، وكما أن هذا هو الثابت عن النبي
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png فكذلك هو الثابت عن أبي هريرة عنه كما ترى، وفي صحيح البخاري وغيره من حديث
مالك عن الزهري عن الأعرج عن أبي هريرة قال: «إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله
114
ما حدثت حديثًا ثم يتلو: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى } إلى قوله { الرحيم } » الحديث. وذكر مسلم سنده ولم يسق متنه. وفي الإصابة: (أخرج أحمد من طريق عاصم بن كليب عن أبيه سمعت أبا هريرة يبتدئ حديثه بأن يقول: قال رسول الله الصادق المصدوق أبو القاسم
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png: «من كذب عليَّ متعمدًا فليتبؤا مقعده من النار») وذكره
ابن كثير في البداية (8: 107) وقال: (وروي مثله من وجه آخر).
قال أبو رية: (وقد اضطر عمر أن يذكره بهذا الحديث لما أوغل في الرواية).
أقول: يريد ما روي عن أبي هريرة قال: («بلغ عمر حديثي فأرسل إليَّ فقال: كنت معنا يوم كنا مع رسول الله
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png في بيت فلان؟ قال: قلت: نعم. وقد علمت لم تسألني عن ذلك. قال: ولم سألتك؟ قلت: إن رسول الله
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png قال يومئذ: من كذب عليَّ متعمدًا فليتبؤا مقعده من النار. قال أما إذًا فاذهب فحدث». البداية (8: 107). وهذا يدل على بطلان ما حكي من منعه أو على أنه أذن له بعد منع ما، وهذا الخبر من جملة الأخبار التي قدمتُ (ص111) أني أعرضت عنها؛ لأن في أسانيدها مقالًا، وذكرته هنا لإشارة أبي رية إليه… وحديث: «من كذب عليَّ… إلخ» ثابت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة.
حقيقة التدليس وانتفاؤها عن الصحابة
قال أبو رية آخر ص 164: (تدليسه).
أقول: قال الخطيب في الكفاية (ص357): (تدليس الحديث الذي لم يسمعه الراوي ممن دلسه عنه بروايته إياه على وجه يوهم أنه سمعه منه) ومثال هذا أن قتادة كان قد سمع من أنس، ثم سمع من غيره عن أنس ما لم يسمعه من أنس، فربما بعض ذلك بقوله: (قال أنس…. ) ونحو ذلك، ثم ذكر الخطيب (ص358) ما يؤخذ على المدلس، وهاك تلخيصه بتصرف:
أولًا: إيهامه السماع ممن لم يسمع منه.
ثانيًا: إنما لم يبين لعلمه أن الواسطة غير مرضي..
ثالثًا: الأنفة من الرواية عمن حدثه.
رابعًا: إيهام علو الإسناد.
خامسًا: عدوله عن الكشف إلى الاحتمال.
أقول: هذه الأمور منتفية فيما كان يقع من الصحابة رضي الله عنهم من قول أحدهم فيما سمعه من
115
صحابي آخر عن النبي
ص: (قال النبي
ص). أما الأول فلأن الإيهام إنما نشأ منذ عني الناس بالإسناد، وذلك عقب حدوث الفتنة، وفي مقدمة صحيح مسلم: (عن ابن سيرين قال: لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم…) فمن حينئذ التزم أهل العلم الإسناد فأصبح هو الغالب حتى استقر في النفوس وصار المتبادر من قول من قد ثبت لقاؤه لحذيفة: (قال حذيفة سمعت النبي
ص يقول…) أو نحو ذلك أنه أسند، ومعنى الإسناد أنه ذكر من سمع منه فيفهم من ذاك القول أنه سمع من حذيفة، فلو قال قائل مثل ذلك مع أنه لم يسمع ذاك الخبر من حذيفة وإنما سمعه ممن أخبر به عن حذيفة كان موهمًا خلاف الواقع.
وهذا العرف لم يكن مستقرًا في حق الصحابة لا قبل الفتنة ولا بعدها، بل عرفهم المعروف عنهم أنهم كانوا يأخذون من النبي
ص بلا واسطة، ويأخذ بعضهم بواسطة بعض، فإذا قال أحدهم: (قال النبي
ص…. ) كان محتملًا أن يكون سمع النبي
ص وأن يكون سمعه من صحابي آخر عن النبي
ص. فلم يكن في ذلك إيهام.
وأما الثاني: فلم يكن ثم احتمال؛ لأن يكون الواسطة غير مرضي؛ لأنهم لم يكن أحد منهم يرسل إلا ما سمعه من صحابي آخر -يثق به وثوقه بنفسه- عن النبي
ص، ولم يكن أحد منهم يرسل ما سمعه من صبي أو من مغفل أو قريب العهد بالإسلام أو من مغموص بالنفاق أو من تابعي.
وأما الثالث: فلم يكن من شأنهم رضي الله عنهم.
وأما الرابع: فتبع الأول.
وأما الخامس: فلا ضرر في الاحتمال مع الوثوق بأنه إذا كان هناك واسطة فهو صحابي آخر.
قال أبو رية: (ذكر علماء الحديث أن أبا هريرة كان يدلس).
أقول: إنما جاء في ذلك كلمة شاذة يغلب على ظني أنها مصحفة سيأتي الكلام عليها.
وذكر (ص165) ما حكي عن شعبة في ذم التدليس وقال: (ومن الحفاظ من جرح من عرف بهذا التدليس من الرواة فرد روايته مطلقًا وإن أتى بلفظ الاتصال).
أقول: بعد أن استحكم العرف الذي مر بيانه نشأ أفراد لا يلتزمونه، وهم ضربان: