فأما قوله: لا تَكْلفَنَّ ليَ الدموعَ فإنّ لي * دَمعا يَنُمُّ عليه إن لم يفضُلِ
ولقد سكنتُ إلى الصدود من النوى * والشرْيُ أَرْيٌ عند أكل الحنظل
[229]
وكذاك طَرفةٌ حين أوجس ضربة * في الرأس هان عليه فَصدُ الأكحل
[230]
فالبيت الأول مخالف لما عليه مذهبهم، في طلب الإسعاد بالدموع، والإسعاف بالبكاء، ومخالف لأول كلامه، لأنه يفيد مخاطبة العذل، وهذا يفيد مخاطبة الرفيق.
وقد بينت لك أن القوم يسلكون حفظ الألفاظ وتصنيعها، دون ضبط المعاني وترتيبها، ولذلك قال الله عز وجل: { والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون. وأنهم يقولون ما لا يفعلون } فأخبر سبحانه أنهم يتبعون القول حيث توجه بهم، واللفظ كيف أطاعهم، والمعاني كيف تتبع ألفاظهم. وذلك خلاف ما وضع عليه الإبانة عن المقاصد بالخطاب، ولذلك كان طلب الفصاحة فيه أسهل وأمكن، فصار بهذا أبلغ خطابهم.
ثم لو أن هذا البيت وما يتلوه من البيتين سلم من نحو هذا، لم يكن في ذلك شئ يفوت شعر شاعر، أو كلام متكلم.
وأما قوله: "والشريُ أريٌ"، فإنه وإن كان قد تصنع له من جهة الطباق، ومن جهة التجنيس المقارب، فهي كلمة ثقيلة على اللسان، وهم يذمون نحو هذا، كما عابوا على أبي تمام قوله:
كريم متى أمدحه أمدحه والورى * معي، ومتى مالمته لمته وحدي
ذكر لي الصاحب [ إسماعيل ] بن عباد، أنه جارى أبا الفضل بن العميد في محاسن [ هذه ] القصيدة، حتى انتهى إلى هذا البيت، فذكر له في أن قوله أمدحه أمدحه، معيب، لثقله من جهة تدارك حروف الحلق.
ثم رأيت بعد ذلك المتقدمين قد تكلموا في هذه النكتة، فعلمت أن ذلك شئ عند أهل الصنعة معروف.
ثم إن قوله: "عند أكل الحنظل"، ليس بحسن ولا واقع.
وأما البيت الثالث، فهو أجنبي من كلامه، غريب في طباعه، نافر من جملة شعره، وفيه كَزَازة وفَجَاجة، وإن كان المعنى صالحا.
http://upload.wikimedia.org/wikipedi...ts_ver.svg.png
فأما قوله:
وأَغَرَّ في الزمن البهيم مُحَجَّلٍ * قد رُحتُ منه على أغَرَّ محجلِ
كالهيكل المبنيِّ إلا أنه * في الحسن جاء كصورةٍ في هيكل
فالبيت الأول لم يتفق له فيه خروج حسن، بل هو مقطوع عما سلف من الكلام.
وعامة خروجه نحو هذا، وهو غير بارع في هذا الباب، وهذا مذموم معيب منه، لأن من كان صناعته الشعر وهو يأكل به، وتغافل عما يدفع إليه في كل قصيدة، واستهان بإحكامه وتجويده، مع تتبعه لأن يكون عامة ما به يصدر أشعاره من النسيب عشرة أبيات، وتتبعه للصنعة الكثيرة، وتركيب العبارات، وتنقيح الألفاظ وتزويرها - كان ذلك أدخل في عيبه، وأدل على
تقصيره أو قصوره، وإنما يقع له الخروج الحسن في مواضع يسيرة. وأبو تمام أشد تتبعا لتحسين الخروج منه.
وأما قوله: "وأغر في الزمن البهيم محجل"، فإن ذكر التحجيل في الممدوح قريب، وليس بالجيد، وقد يمكن أن يقال: إنه إذا قرن بالاغر حسن، وجرى مجراه، وانخرط في سلكه، وأهوى إلى مضماره، ولم ينكر لمكانه من جواره. فهذا عذر، والعدول عنه أحسن.
وإنما أراد أن يرد العجز على الصدر، ويأتي بوجه [ في ] التجنيس.
وفيه شئ، لأن ظاهر كلامه يوهم أنه قد صار ممتطيا الأغر الأول ورائحا عليه.
ولو سلم من ذلك لم يكن فيه ما يفوت حدود الشعراء، وأقاويل الناس.
فأما ذكر الهيكل في البيت الثاني، ورده عجز البيت عليه، وظنه أنه قد ظفر بهذه اللفظة وعمل شيئا، حتى كررها، فهي كلمة فيها ثقل، ونحن نجدهم إذا أرادوا أن يصفوا بنحو هذا قالوا: "ما هو إلا صورة"، و "ما هو إلا تمثال"، و "ما هو إلا دُمية"، و "ما هو إلا ظبية"، ونحو ذلك من الكلمات الخفيفة على القلب واللسان.
وقد استدرك هو أيضا على نفسه، فذكر أنه كصورة في هيكل، ولو اقتصر على ذكر الصورة وحذف الهيكل كان أولى وأجمل.
ولو أن هذه الكلمة كررها أصحاب العزائم على الشياطين، لراعوهم بها، وأفزعوهم بذكرها! وذلك من كلامهم، وشبيه بصناعتهم.
http://upload.wikimedia.org/wikipedi...ts_ver.svg.png
وأما قوله:
وافي الضلوع يشُدُّ عَقدَ حِزامِه * يومَ اللقاء على مُعِمٍّ مُخْوِلِ
أخوالُه للرُّستمينِ بفارسٍ * وجُدودُه للتُّبَّعينِ بمَوْكلِ
نُبلُ المَحزَم مما يمدح به الخيل، فهو لم يأت فيه ببديع.
وقوله: "يشد عقد حزامه"، داخل في التكلف والتعسف، لا يقبل من مثله وإن قبلناه من غيره، لأنه يتتبع الألفاظ وينقدها نقدا شديدا، فهلا قال: "يشد حزامه"، أو يأتي بحشو آخر سوى العقد؟ فقد عقّد هذا البيت بذكر العقد.
ثم قوله: "يوم اللقاء"، حشو آخر لا يحتاج إليه.
وأما البيت الثاني فمعناه أصلح من ألفاظه، لأنها غير مجانسة لطباعه، وفيها غلظ ونفار.
http://upload.wikimedia.org/wikipedi...ts_ver.svg.png
وأما قوله:
يَهوي كما تهوي العقاب وقد رأت * صيدا وينتصب انتصاب الأجدل
متوجِّسٌ برقيقتين كأنما * تُرَيانِ من وَرَقٍ عليه مُوَصَّلِ
[231]
ما إن يعافُ قَذًى، ولو أوردتَه * يوما خلائقَ حَمدَوَيْهِ الأحولِ
البيت الأول صالح، وقد قاله الناس ولم يسبق إليه، ولم يقل ما لم يقولوه، بل هو منقول. وفي سرعة عدو الفرس تشبيهات ليس هذا بأبدعها، وقد يقولون: "يفوت الطرف"، و "يسبق الريح"، و "يجاري الوهم" و "يكد النظر". ولولا أن الإتيان على محاسن ما قالوه في ذلك يخرج الكلام عن غرض الكتاب، لنقلت لك جملة مما ذهبوا إليه في هذا المعنى. فتتبع تعلم أنه لم يأت فيها بما يجل عن الوصف أو يفوت منتهى الحد.
على أن الهُوِيّ يذكر عند الانقضاض خاصة، وليس للفرس هذه الصفة في الحقيقة، إلا أن يشبه حَدَّه في العدو بحالة انقضاض البازي والعُقاب، وليست تلك الحالة بأسرع أحوال طيرانها.
وأما البيت الثاني فقوله: إن الأذنين كأنهما من ورق موصَّل، وإنما أراد بذلك حدتهما، وسرعة حركتهما، واحساسهما بالصوت، كما يحس الورق بحفيف الريح. وظاهر التشبيه غير واقع، وإذا ضمن ما ذكرنا من المعنى كان المعنى حسنا، ولكن لا يدل عليه اللفظ، وإنما يجرى مجرى المُضَمَّن.
وليس هذا البيت برائق اللفظ، ولا مشاكل فيه لطبعه، غير قوله: "متوجس برقيقتين"، فإن هذا القدر هو حسن.
وأما البيت الثالث، فقد ذكرنا فيما مضى من الكتاب أنه من باب الاستطراد ونقلنا نظائر ذلك من قول أبي تمام وغيره، وقطعة أبي تمام في نهاية الحسن في هذا المعنى.
والذي وقع للبحتري في هذا البيت عندي ليس بجيد في لفظ ولا معنى، وهو بيت وَحِشٌ جدا، قد صار قذًى في عين هذه القصيدة، بل وَخزا فيها ووبالا عليها، قد كدّر صفاءها، وأذهب بهاءها وماءها، وطمس بظلمته سناءها.
وما وجه مدح الفرس بأنه لا يعاف قذًى من المياه إذا وردها؟ كأنه أراد أن يسلك مسلك بشار في قوله: * ولا يشربُ الماءَ إلا بدَمْ *
وإذا كان لهذا الباب مجانبا، وعن هذا السمت بعيدا، فهلا وصفها بعزة الشرب، كما وصفها المتنبي في قوله:
وَصُولٌ إلى المستصَعبات بخيله * فلو كان قرنُ الشمس ماء لأوردا
وهلا سلك فيه مسلك القائل:
وإني للماء الذي شابه القذى * إذا كَثُرَت وُرّادُه لَعَيوفُ
ثم قوله: "ولو أوردته يوما"، حشو بارد!
ثم قوله: "حمدوية الأحول"، وحش جدا، فما أمقت هذا البيت وأبغضه، وما أثقله وأسخفه! وإنما غطّى على عينه عيبه، وزين له إيراده طمعه في الاستطراد، وهلا طمع فيه على وجه لا يغض من بهجة كلامه، ولا معنى ألفاظه؟ فقد كان يمكن ذلك ولا يتعذر.
http://upload.wikimedia.org/wikipedi...ts_ver.svg.png
وأما قوله:
ذَنَبٌ كما سُحِبَ الرداءُ يذُبُّ عن * عُرفٍ وعُرفٍ كالقِناع المُسبَلِ
تتوهمُ الجَوزاءَ في أرساغه * والبدرَ فوق جبينه المتهلل
فالبيت الأول وحش الابتداء، منقطع عما سبق من الكلام. وقد ذكرنا أنه لا يهتدي لوصل الكلام، ونظام بعضه إلى بعضه، وإنما يتصنع لغير هذا الوجه.
وكان يحتاج أن يقول: ذنب كالرداء، فقد حذف، [ و ] الوصل غير متسق ولا مليح، وكان من سبيله أن لا يخفى عليه، ولا يذهب عن مثله.
ثم قوله: "كما سحب الرداء"، قبيح في تحقيق التشبيه، وليس بواقع ولا مستقيم في العبارة، إلا على إضمار أنه ذنب يسحبه كما يسحب الرداء!
وقوله: "يذب عن عرف"، ليس بحسن ولا صادق. والمحمود ما ذكره امرؤ القيس، وهو قوله: * فُوَيقَ الأرضِ ليسَ بأعزلِ *
[232]
وأما قوله: "تتوهم الجوزاء في أرساغه"، فهو تشبيه مليح، ولكنه لم يَسبِقْ إليه، ولا انفرد به.
ولو نسخت لك ما قاله الشعراء في تشبيه الغرة بالهلال والبدر والنجم وغير ذلك من الأمور، وتشبيه الحجول، لتعجبت من بدائعَ قد وقعوا عليها، وأمور مليحة قد ذهبوا إليها، وليس ذلك موضع كلامنا، فتتبع ذلك في أشعارهم، تعلم ما وصفتُ لك.
واعلم أنا تركنا بقية كلامه في وصف الفرس، لأنه ذكر عشرين بيتا في ذلك.
والذي ذكرناه في هذا المعنى يدل على ما بعده، ولا يعدو ما تركناه أن يكون [ حسنا مقولا، ولا بديعا منقولا، أو يكون ] متوسطا إلى حد لا يفوت طريقة الشعراء.
ولو تتبعت أقاويل الشعراء في وصف الخيل، علمت أنه وإن جمع فأوعى وحشر فنادى، ففيهم من سبقه في ميدانه، ومنهم من ساواه في شأوه، ومنهم من داناه. فالقبيل واحد، والنسيج متشاكل. ولولا كراهة التطويل لنقلت جملة من أشعارهم في ذلك، لتقف على ما قلت.
فتجاوزنا إلى الكلام على ما قاله في المدح في هذه القصيدة.