وكنت قد ذكرت لك قبل هذا أنك إن كنت بصنعة علم اللسان متدربا وفيه متوجها متقدما، أمكنك الوقوف على ما ذكرنا والنفوذ فيما وصفنا، وإلا فاجلس في مجلس المقلدين، وارض بمواقف المتحيرين.
ونصحتُ لك حيث قلت: انظر، هل تعرف عروق الذهب، ومحاسن الجوهر، وبدائع الياقوت، ودقائق السحر، من غير معرفة بأسباب هذه الأمور ومقدماتها؟ وهل يُقطع سَمْتُ البلاد من غير اهتداء فيها؟
ولكل شئ طريق يتوصل إليه به، وباب يؤخذ نحوه فيه، ووجه يؤتى منه.
ومعرفة الكلام أشد من المعرفة بجميع ما وصفت لك، وأغمض وأدق وألطف.
وتصوير ما في النفس وتشكيل ما في القلب، حتى تعلمه وكأنك مشاهده، وإن كان قد يقع بالإشارة، ويحصل بالدلالة والامارة، كما يحصل بالنطق الصريح، والقول الفصيح. فللإشارات أيضا مراتب، وللسان منازل. ورب وصف يصور لك الموصوف كما هو على جهته لا خلف فيه، ورب وصف ببر عليه ويتعداه. ورب وصف يقصر عنه.
ثم إذا صدق الوصف انقسم إلى صحة وإتقان، وحسن وإحسان، وإلى إجمال وشرح، وإلى استيفاء وتقريب، وإلى غير ذلك من الوجوه.
ولكل مذهب وطريق، وله باب وسبيل:
فوصف الجملة الواقعة كقوله تعالى: { لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منم رعبا }.
والتفسير كقوله: { ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا } إلى آخر الآيات في هذا المعنى.
وكنحو قوله: { يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شئ عظيم، يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد }.
هذا مما يصور الشئ على جهته، ويمثل أهوال ذلك اليوم.
ومما يصور لك الكلام الواقع في الصفة، كقوله حكاية عن السحرة لما توعدهم فرعون بما توعدهم به حين آمنوا: { قالوا لا ضير، إنا إلى ربنا منقلبون، إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين }.
وقال في موضع آخر: { إنا إلى ربنا منقلبون، وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا، ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين }، وهذا ينبئ عن كلام الحزين لما ناله، الجازع لما مسه.
ومن باب التسخير والتكوين قوله تعالى: { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون }.
وقوله: { فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين }.
وكقوله: { فأوحينا إلى موسى أن أضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم }.
وتقصي أقسام ذلك مما يطول، ولم أقصد استيفاء ذلك، وإنما ضربت لك المثل بما ذكرت لتستدل، وأشرت إليك بما أشرت لتتأمل.
http://upload.wikimedia.org/wikipedi...ts_ver.svg.png
وإنما اقتصرنا على ذكر قصيدة البحتري، لأن الكُتاب يفضلونه على أهل دهره، ويقدمونه على من في عصره، ومنهم من يدعي له الإعجاز غلوا، ويزعم أنه يناغي النجم في قوله علوا، والملحدة تستظهر بشعره، وتتكثر بقوله، وترى كلامه من شبهاتهم، وعباراته مضافة إلى ما عندهم من ترهاتهم. فبينا قد درجته وموضع رتبته، وحد كلامه.
وهيهات أن يكون المطموع فيه كالمأيوس منه، وأن يكون الليل كالنهار، والباطل كالحق، وكلام رب العالمين ككلام البشر.
http://upload.wikimedia.org/wikipedi...ts_ver.svg.png
فإن قال قائل: فقد قدح الملحد في نظم القرآن، وادعى عليه الخلل في البيان، وأضاف إليه الخطأ في المعنى واللفظ، [ وزعم ما زعم ]، وقال ما قال فهل من فصل؟
قيل: الكلام على مطاعن الملحدة في القرآن مما قد سُبقنا إليه، وصَنف أهل الأدب في بعضه، فكَفَوْا، وأتى المتكلمون على ما وقع إليهم، فشَفَوا، ولولا ذلك لاستقصينا القول فيه في كتابنا.
وأما الغرض الذي صنفنا فيه في التفصيل والكشف عن إعجاز القرآن، فلم نجده على التقريب الذي قصدنا، وقد رجونا أن يكون ذلك مُغنيا ووافيا.
وإن سهل الله لنا ما نويناه: من إملاء معاني القرآن ذكرنا في ذلك ما يشتبه من الجنس الذي ذكروه، لأن أكثر ما يقع من الطعن عليه، فإنما يقع على جهل القوم بالمعاني، أو بطريقة كلام العرب.
وليس ذلك من مقصود كتابنا هذا، وقد قال النبي
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png: "فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه".
[240]
وقد قصدنا فيما أمليناه الاختصار، ومهدنا الطريق، فمن كمل طبعه للوقوع على فضل أجناس الكلام استدرك ما بينا.
ومن تعذر عليه الحكم بين شعر
جرير و
الفرزدق و
الأخطل، والحكم بين فضل زهير والنابغة، أو الفضل بين البحتري وأصحابه، ولم يعرف سخف مسيلمة في نظمه، ولم يعلم أنه من الباب الذي يُهزأ به ويُسخر منه، كشعر أبي العَنبَس في جملة الشعر، وشعر علي بن صلاءة - فكيف يمكنه النظر فيما وصفنا، والحكم على ما بينا؟
http://upload.wikimedia.org/wikipedi...ts_ver.svg.png
فإن قال قائل: فاذكر لنا من هؤلاء الشعراء الذين سميتهم الأشعر والأبلغ.
قيل له، هذا أيضا خارج عن غرض هذا الكتاب، وقد تكلم فيه الأدباء. ويحتاج أن يجرد لنحو هذا كتاب، ويفرد له باب، وليس من قبيل ما نحن فيه بسبيل.
وليس لقائل أن يقول: قد يَسْلَمُ بعض الكلام من العوارض والعيوب، ويبلغ أمده في الفصاحة والنظم العجيب، ولا يبلغ عندكم حد المعجز، فلم قضيتم بما قضيتم به في القرآن دون غيره من الكلام؟
وإنما لم يصح هذا السؤال، وما نذكر فيه من أشعار في نهاية الحسن، وخطب ورسائل في غاية الفضل - لأنا قد بينا أن هذه الاجناس قد وقع التنازع فيها، والمساماة عليها، والتنافس في طرقها، والتنافر في بابها. وكان البون بين البعض والبعض في الطبقة الواحدة قريبا، والتفاوت خفيفا، وذلك القدر من السبق إن ذهب عنه الواحد لم ييأس منه الباقون، ولم ينقطع الطمع في مثله.
وليس كذلك سَمْتُ القرآن، لأنه قد عرف أن الوهم ينقطع دون مجاراته، والطمع يرتفع عن مباراته ومساماته، وأن الكل في العجز عنه على حد واحد.
وكذلك قد يزعم زاعمون أن كلام الجاحظ من السمت الذي لا يؤخذ فيه، والباب الذي لا يذهب عنه، وأنت تجد قوما يرون كلامه قريبا، ومنهاجه معيبا، ونطاق قوله ضيقا، حتى يستعين بكلام غيره، ويفزع إلى ما يوشح به كلامه، من بيت سائر، ومثل نادر، وحكمة ممهدة منقولة، وقصة عجيبة مأثورة. وأما كلامه في أثناء ذلك فسطور قليلة، وألفاظ يسيرة؛ فإذا أحوج إلى تطويل الكلام خاليا عن شئ يستعين به - فيخلط بقوله من قول غيره - كان كلاما ككلام غيره.
فإن أردت أن تحقق هذا، فانظر في كتبه في نظم القرآن
[241] وفي
الرد على النصارى وفي خبر الواحد، وغير ذلك مما يجرى هذا المجرى، هل تجد في ذلك كله ورقة [ واحدة ] تشتمل على نظم بديع أو كلام مليح؟
على أن متأخرى الكتاب قد نازعوه في طريقته، وجاذبوه على منهجه، فمنهم من ساواه حين ساماه، ومنهم من أبر عليه إذ باراه.
هذا أبو الفضل بن العميد قد سلك مسلكه، وأخذ طريقه، فلم يقصر عنه، ولعله قد بان تقدمه عليه، لأنه يأخذ في الرسالة الطويلة فيستوفيها على حدود مذهبه، ويكملها على شروط صنعته، ولا يقتصر على أن يأتي بالاسطر من نحو كلامه، كما ترى الجاحظ يفعله في كتبه، متى ذكر من كلامه سطرا أتبعه من كلام الناس أوراقا، وإذا ذكر منه صفحة بنى عليه من قول غيره كتابا.
وهذا يدلك على أن الشئ إذا استُحسن اتبع، وإذا استملح قصد له وتعمد. وهذا الشئ يرجع إلى الأخذ بالفضل، والتنافس في التقدم.
فلو كان في مقدور البشر معارضة القرآن لهذا الغرض وحده، لكثرت المعارضات، ودامت المنافسات.
فكيف وهناك دواع لا انتهاء لها، وجوالب لا حد لكثرتها، لأنهم لو كانوا عارضوه لتوصلوا إلى تكذيبه، ثم إلى قطع المحامين دونه عنه، أو تنفيرهم عليه، وإدخال الشبهات على قلوبهم، وكان القوم يكتفون بذلك عن بذل النفوس ونصب الأرواح والإخطار بالأموال والذراري في وجه عداوته، ويستغنون بكلام - هو طبعهم وعادتهم وصناعتهم - عن محاربته، وطول مناقشته ومجاذبته.
وهذا الذي عرضناه على [ عقلك، وجلوناه على ] قلبك، يكفي إن هديت لرشدك، ويشفي إن دللت على قصدك.
ونسأل الله حسن التوفيق، والعصمة والتسديد، إنه لا معرفة إلا بهدايته ولا عصمة إلا بكفايته، وهو على ما يشاء قدير، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
فصل
فإن قال قائل: قد يجوز أن يكون أهل عصر النبي
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png قد عجزوا عن الإتيان بمثل القرآن، وإن كان من بعدهم من أهل الاعصار لم يعجزوا.
قيل: هذا سؤال معروف، وقد أجيب عنه بوجوه، منها ما هو صواب، ومنها ما فيه خلل؛ لأن من كان يجيب عنه بأنهم لا يقدرون على معارضته في الإخبار عن الغيوب إن قدروا على مثل نظمه - فقد سَلَّم المسألة، لأنا ذكرنا أن نظمه معجز لا يُقدر عليه، فإذا أجاب بما قدمناه فقد وافق السائل على مراده.
والوجه أن يقال: فيه طرق: