واعلم أن الذي بيناه قبل هذا وذهبنا إليه هو سديد، وهو أن هذه الأمور تنقسم؛ فمنها ما يمكن الوقوع عليه، والتعمل له، ويدرك بالتعلم، فما كان كذلك فلا سبيل إلى معرفة إعجاز القران به.
وأما ما لا سبيل إليه بالتعلم والتعمل من البلاغات، فلذلك هو الذي يدل على إعجازه، ونحن نضرب لك أمثله، لتقف على ما ذهبنا إليه.
وذكرنا في هذا الفصل عن هذا القائل أن التشبيه تعرف به البلاغة. وذلك مسلم، ولكن إن قلنا: ما وقع من التشبيه في القرآن معجز - عرض علينا من التشبيهات الجارية في الأشعار ما لا يخفى عليك، وأنت تجد في شعر ابن المعتز من التشبيه البديع الذي يشبه السحر، وقد تتبع في هذا ما لم يتتبع غيره، واتفق له ما لم يتفق لغيره من الشعراء.
وكذلك كثير من وجوه البلاغة، قد بينا أن تعلمها يمكن، وليس تقع البلاغة بوجه واحد منها دون غيره.
فإن كان إنما يعني هذا القائل أنه إذا أتى في كل معنى يتفق في كلامه بالطبقة العالية، ثم كان ما يصل به كلامه بعضه ببعض، وينتهى منه إلى متصرفاته -: على أتم البلاغة وأبدع البراعة - فهذا مما لا نأباه، بل نقول به.
وإنما ننكر أن يقول قائل إن بعض هذه الوجوه بانفرادها قد حصل فيه الإعجاز من غير أن يقارنه ما يصل به [ من ] الكلام ويفضى إليه، مثل ما يقول: إن ما أقسم به وحده بنفسه معجز، وإن التشبيه معجز، وإن التجنيس معجز، والمطابقة بنفسها معجزة.
فأما الآية التي فيها ذكر التشبيه، فإن ادعى إعجازها لألفاظها ونظمها وتأليفها - فإني لا أدفع ذلك وأصححه، ولكن لا أدعى إعجازها لموضع التشبيه.
وصاحب المقالة التي حكيناها، أضاف ذلك إلى موضع التشبيه وما قرن به من الوجوه، ومن تلك الوجوه ما قد بينا أن الإعجاز يتعلق به كالبيان، وذلك لا يختص بجنس من المبين دون جنس، ولذلك قال: { هذا بيان للناس } وقال: { تبيانا لكل شئ } وقال: { بلسان عربي مبين } فكرر في مواضع [ جل ] ذكره: أنه مبين.
فالقرآن أعلى منازل البيان، وأعلى مراتبه ما جمع وجوه الحسن وأسبابه، وطرقه وأبوابه: من تعديل النظم وسلامته، وحسنه وبهجته، وحسن موقعه في السمع، وسهولته على اللسان، ووقوعه في النفس موقع القبول، وتصوره تصور المشاهد، وتشكله على جهته حتى يحل محل البرهان ودلالة التأليف، مما لا ينحصر حسنا وبهجة وسناء ورفعة.
وإذا علا الكلام في نفسه، كان له من الوقع في القلوب والتمكن في النفوس، ما يذهل ويبهج، ويقلق ويؤنس، ويطمع ويؤيس، ويضحك ويبكى، ويحزن ويفرح، ويسكن ويزعج، ويشجي ويطرب. ويهز الاعطاف، ويستميل نحوه الأسماع. ويورث الأريحية والعزة، وقد يبعث على بذل المهج والأموال شجاعة وجودا، ويرمى السامع من وراء رأيه مرمى بعيدا.
وله مسالك في النفوس لطيفة، ومداخل إلى القلوب دقيقة.
وبحسب ما يترتب في نظمه، ويتنزل في موقعه، ويجرى على سمت مطلعه ومقطعه - يكون عجيب تأثيراته، وبديع مقتضياته.
وكذلك على حسب مصادره، يتصور وجوه موارده.
وقد ينبئ الكلام عن محل صاحبه، ويدل على مكان متلكمه، وينبه على عظيم شأن أهله، وعلى علو محله.
ألا ترى أن الشعر في الغزل إذا صدر عن محب كان أرق وأحسن، وإذا صدر عن متعمل وحصل من متصنع نادى على نفسه بالمداجاة وأخبر عن خبيئه في المراياة.
وكذلك قد يصدر الشعر في وصف الحرب عن الشجاع، فيعلم وجه صدوره، ويدل على كنهه وحقيقته.
وقد يصدر عن المتشبه، ويخرج عن المتصنع، فيعرف من حاله ما ظن أنه يخفيه، ويظهر من أمره خلاف ما يبديه.
وأنت تعرف لقول المتنبي:
فالخيل والليل والبيداء تعرفني * والحرب والضرب والقرطاس والقلم
من الوقع في القلب - لما تعلم أنه من أهل الشجاعة - ما لا تجده للبحتري في قوله:
وأنا الشجاع وقد بدا لك موقفي * بعَقَرْقَسٍ والمَشرَفيّةُ شُهَّدِي
وتجد لابن المعتز في موقع شعره من القلب، في الفخر وغيره، ما لا تجده لغيره، لأنه إذا قال:
إذا شئتُ أوقرتُ البلاد حوافرا * وسارت ورائي هاشمٌ ونزارُ
وعَمَّ السماءَ النَّقعُ حتى كأنه * دخانٌ وأطرافُ الرماح شَرارٌ
وقال:
قد تردّيت بالمكارم دهرا * وكفتني نفسي من الافتخار
أنا جيش إذا غزوت وحيدا * ووحيدٌ في الجَحفَل الجَرّار
وقال:
أيها السائلي عن الحسب الأط * يب ما فوقه لِخَلْقٍ مزيد
نحن آلُ الرسول والعِترةُ الحقُّ * وأهلُ القربى، فماذا تريد
ولنا ما أضاء صُبحٌ عليه * وأتته راياتُ ليلٍ سُودُ
وكما أنشدنا الحسن بن عبد الله، قال: أنشدنا محمد بن يحيى لابن المعتز قصيدته التي يقول فيها:
أنا ابن الذي سادهم في الحيا * ة وسادهم بي تحت الثرى
وما لي في أحد مَرغبٌ * بلى فيَّ يرغب كلُّ الورى
وأسهر للمجد والمكرمات * إذا اكتحلت أعينٌ بالكَرى
فانظر في القصيدة كلها، ثم في جميع شعره، تعلم أنه ملك الشعر، وأنه يليق به من الفخر خاصة، ثم مما يتبعه مما يتعاطاه، ما لا يليق بغيره، بل ينفر عن سواه.
ولم أحب أن أكثر عليك، فأطول الكتاب بما يخرج عن غرضه.
وكما ترى من قول أبي فراس الحمداني في نفسك إذا قال:
ولا أُصبِحُ الحَيَّ الخَلوفَ بغارة * ولا الجيشَ ما لم تأته قبلي النذر
ويا رُبَّ دار لم تخفني منيعةٍ * طلعتُ عليها بالردى أنا والفجر
وساحبة الأذيال نحوي لقيتها * فلم يلقها جافي اللقاء ولا وعر
وهبتُ لها ما حازه الجيش كله * وأُبْتُ ولم يكشف لأبياتها ستر
وما راح يطغيني بأثوابه الغنى * ولا بات يثنيني عن الكرم الفقر
وما حاجتي في المال أبغي وفوره * إذا لم أَفِرْ وَفري فلا وَفَرَ الوفرُ
والشئ إذا صدر من أهله، وبدا من أصله، وانتسب إلى ذويه، سلم في نفسه، وبانت فخامته وشوهد أثر الاستحقاق فيه.
وإذا صدر من متكلف، وبدا من متصنع، بان أثر الغربة عليه، وظهرت مخايل الاستيحاش فيه، وعرف شمائل التحير منه.
إنا نعرف في شعر أبي نواس أثر الشطارة، وتمكن البطالة، وموقع كلامه في وصف ما هو سبيله من أمر العيارة،
[317] ووصف الخمر والخمار، كما نعرف موقع كلام ذي الرمة في وصف المهامه والبوادي والجمال والأنساع والأزِمّة.
وعَيبُ أبي نواس التصرف في وصف الطلول والرباع والوحش، ففكر في قوله:
دع الأطلال تَسفيها الجنوب * وتُبلي عهد جدتها الخطوب
وخَلِّ لراكب الوجناء أرضا * تَخُبُّ به النجيبةُ والنجيب
بلادٌ نبتها عُشرٌ وطَلحٌ * وأكثر صيدها ضَبُعٌ وذيبُ
ولا تأخذْ عن الأعراب لهوا * ولا عيشا، فعيشهم جديب
دع الألبان يشربها رجال * رقيق العيش عندهم غريب
إذا راب الحليب فَبُلْ عليه * ولا تحرج، فما في ذاك حُوبُ
فأطيَبُ منه صافية شمول * يطوف بكأسها ساق أديب
كأن هديرها في الدن يحكي * قِراة القَسّ قابله الصليب
أعاذلَ أقصِري عن طول لومي * فراجي توبتي عندي يخيب
تَعيبينَ الذنوبَ، وأي حر * من الفتيان ليس له ذنوب
وقوله:
صِفةُ الطَّلول بلاغةُ الفَدمِ * فاجعل صفاتِكَ لابنة الكرم
وسمعت الصاحب إسماعيل بن عباد يقول: سمعت براكويه الزنجاني يقول: أنشد بعض الشعراء هلال بن يزيد قصيدة على وزن قصيدة الأعشى:
ودع هريرة إن الركب مرتحل * وهل تطيق وداعا أيها الرجل
وكان وصف فيها الطلل، قال براكويه: فقال لي هلال: فقلت بديها:
إذا سمعتَ فتًى يبكى على طَللٍ * مِن أهلِ زنجانَ، فاعلم أنه طَللُ