ثم ذكر شيئًا من تقسيم العلماء للحديث، إلى أن قال (ص267): (تعدد طرق الحديث لا يقويها. قال العلامة السيد رشيد رضا: يقول المحدثون في بعض الأحاديث حتى التي لم يصح لها سند: إن تعدد طريقها يقويها وهي قاعدة للمحدثين لم يشر إليها الله في كتابه ولا ثبتت في سنته عن رسوله، وإنما هي مسألة نظرية غير مطردة).
أقول: أما إطلاق أبي رية في العنوان فباطل قطعًا كما سترى. وأما إشارة القرآن فيمكن إثباتها باشتراط القرآن العدد في الشهود وقوله تعالى: { إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ }، ومن السنة حديث ذي اليدين، والمعقول واضح. نعم قوله: (غير مطردة) حق لا ريب فيه، بل أزيد على ذلك أن بعض الأخبار يزيده تعدد الطرق وهنًا، كأن يكون الخبر في فضل رجل من كل طريق من طرق كذاب أو متهم ممن يتعصب له أو مغفل أو مجهول.
186
قال: (فتعدد الطرق في مسألة مقطوع ببطلانها شرعًا كمسألة الغرانيق أو عقلًا لا قيمة له لجواز اجتماع تلك الطرق على الباطل).
أقول: أما الباطل يقينًا فلا يفيده التعدد شيئًا، بل يبعد جدًا أن تتعدد طرقه تعددًا يفيده قوة قوية، نعم قد يختلف المتن في الجملة ويكون الحكم بالبطلان إنما هو بالنظر إلى ما وقع في بعض الطرق، وقد يكون ذلك الخطأ وقع فيه وقد يفهم الناظر معنى بحكم بطلانه، وللخبر معنى آخر مستقيم، وكثيرًا ما يقع الخلل في الحكم بالبطلان.
مالك والموطأ
وقال أبو رية (ص 269): (كتب الحديث المشهورة) ثم ذكر الموطأ وذكر أشياء ينبغي مراجعة مصادرها، إلى أن قال (ص273): (قال ابن معين: إن مالكًا لم يكن صاحب حديث، بل كان صاحب رأي).
أقول: لم يذكر مصدره إن كان له مصدر، ومن المتواتر ثناء
ابن معين البالغ على
مالك بمعرفة الحديث ورواته والإتقان والتثبت، وليس من شأن ابن معين النظر في الفقه.
قال: (وقال الليث بن سعد: أحصيت على مالك سبعين مسألة وكلها مخالفة لسنة الرسول).
أقول: قد عرفنا أن مالكًا ربما توقف عن الأخذ بالحديث لاعتقاده أنه منسوخ أو نحو ذلك، وقد تبنى على الحديث الواحد مئات من المسائل، وقد قال مالك: «إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي فما وافق السنة فخذوا به».
[60]
قال: (وقد اعترف مالك بذلك).
أقول: لم يذكر مأخذه حتى نبين له غلطه أو مغالطته.
قال: (وألف
الدارقطني جزءًا فيما خولف فيه مالك من الأحاديث في الموطأ وغيره، وفيه أكثر من عشرين حديثًا).
أقول: منها ما الصواب فيه مع مالك، ومنها ما كلا الوجهين صحيح، ومنها ما الاختلاف فيه في أمر لا يضر.
البخاري
ثم قال: (البخاري وكتابه…) إلى أن قال: (ص274) (كان البخاري يروي بالمعنى…).
أقول: تقدم النظر في ذلك (ص95).
قال: (قال ابن حجر: من نوادر ما وقع في البخاري أنه يخرج الحديث تامًا بإسناد واحد بلفظين…).
أقول: عزاه إلى
فتح الباري (10: 186) وإنما هو في (10: 193) من الطبعة الأولى الميرية، وبين ابن حجر هناك أن اختلاف اللفظ وقع ممن فوق البخاري لا من
البخاري، فراجعه، وتعجب من أمانة أبي رية!
187
ثم قال: (موت البخاري قبل أن يبيض كتابه. يظهر أن البخاري مات قبل أن يتم تبييض كتابه، فقد ذكر ابن حجر في
مقدمة فتح الباري أن أبا إسحاق إبراهيم بن أحمد المستملي قال: انتسخت كتاب البخاري من أصله الذي كان عند صاحبه محمد بن يوسف الفربري، فرأيت فيه أشياء لم تتم، وأشياء مبيضة، منها تراجم لم يثبت بعدها شيئًا، ومنها أحاديث لم يترجم لها. فأضفنا بعض ذلك إلى بعض. قال
أبو الوليد الباجي: ومما يدل على صحة هذا القول أن رواية أبي إسحاق المستملي ورواية… مختلفة بالتقديم والتأخير، مع أنهم انتسخوا من أصل واحد، وإنما ذلك بحسب ما قدر كل واحد منهم فيما كان في طرق أو رقعة مضافة أنه من موضع ما أضافه إليه. ويبين ذلك أنك تجد ترجمتين أو أكثر من ذلك متصلة ليس بينهما أحاديث).
أقول: قول أبي رية: (قبل أن يبيض) يوهم احتمال أن يكون في النسخة ما لم يكن البخاري مطمئنًا إليه على عادة المصنفين، يستعجل أحدهم في التسويد على أن يعود فينقح. وهذا باطل هنا، فإن البخاري حدث بتلك النسخة وسمع الناس منه منها وأخذوا لأنفسهم نسخًا في حياته، فثبت بذلك أنه مطمئن إلى جميع ما أثبته فيها. لكن ترك مواضع بياضًا رجاء أن يضيفها فيما بعد فلم يتفق ذلك، وهي ثلاثة أنواع: الأول: أن يثبت الترجمة وحديثًا أو أكثر ثم يترك بياضًا لحديث كان يفكر في زيادته وأخرّ ذلك لسبب ما ككونه كان يحب إثباته كما هو في أصله ولم يتيسر له الظفر به حينئذ.
الثاني: أن يكون في ذهنه حديث يرى إفراده بترجمة فيثبت الترجمة ويؤخر إثبات الحديث لنحو ما مر.
الثالث: أن يثبت الحديث ويترك قبله بياضًا للترجمة؛ لأنه يعني جدًا بالتراجم ويضمنها اختياره وينبه فيها على معنى خفي في الحديث أو حمله على معنى خاص أو نحو ذلك. فإذا كان مترددًا ترك بياضًا ليتمه حين يستقر رأيه. وليس في شيء من ذلك ما يوهم احتمال خلل في ما أثبته. فأما التقديم والتأخير فالاستقرار يبين أنه لم يقع إلا في الأبواب والتراجم؛ يتقدم أحد البابين في نسخة ويتأخر في أخرى، وتقع الترجمة قبل هذا الحديث في نسخة وتتأخر عنه في أخرى فيلتحق بالترجمة السابقة، ولم يقع من ذلك ما يمس سياق الأحاديث بضرر. وفي مقدمة الفتح بعد العبارة السابقة: (قلت: وهذه قاعدة حسنة يفزع إليها حيث يتعسر وجه الجمع بين الترجمة والحديث وهي مواضع قليلة جدًا).
ثم قال أبو رية (ص275): (وقد انتقده الحفاظ في عشرة ومائة حديث، منها (32) حديثًا وافقه مسلم على إخراجها).
أقول: قد ساقها الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح وبين حالها، ومن تدبر ذلك علم أن الأمر فيها هين،
188
ليس فيه ما يحط من قدر البخاري وصحيحه.
قال: (وكذلك ضغف الحفاظ من رجال البخاري نحو ثمانين رجلًا…).
أقول: سيأتي النظر في هذا قريبًا.
قال: (وقال السيد محمد رشيد رضا بعد أن عرض للأحاديث المتنقدة على البخاري ما يلي: إذا قرأت ما قاله الحافظ فيها رأيتها كلها في صناعة الفن… ولكنك إذا قرأت الشرح نفسه رأيت له في أحاديث كثيرة إشكالات في معانيها أو تعارضها مع غيرها مع محاولة الجمع بين المختلفات وحل المشكلات بما يرضيك بعضه فوق بعض).
أقول: السيد رشيد رضا وغيره يعلمون أن في القرآن آيات يشكل بعضها على كثير من الناس، وآيات يتراءى فيها التعارض. والذين فسروا القرآن ومنهم السيد رشيد يحاولون حل ما يتراءى إشكاله والجمع بين ما يتراءى تعارضه (بما يرضيك بعضه دون بعض). والقرآن كله حق: { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ }. فثبت بهذا أن ما ذكره السيد رشيد رضا في تلك الأحاديث لا تصلح دليلًا على البطلان.
هذا وللاستشكال أسباب، أشدها استعصاء أن يدل النص على معنى هو حق في نفس الأمر لكن سبق لك أن اعتقدت اعتقادًا جازمًا أنه باطل.
وقال (ص276): (وقال الدكتور أحمد أمين:.. إن بعض الرجال الذين روى لهم البخاري غير ثقات، وقد ضعف الحافظ من رجال البخاري فوق الثمانين).
أقول: هذا الأمر يتراءى مهولًا، فإذا تدبرنا حال أولئك الثمانين واستقرأنا ما أخرجه البخاري لهم اتضح أن الأمر هين، وقد ساق الحافظ
ابن حجر في
مقدمة فتح الباري تراجم هؤلاء وما قيل فيهم من مدح وقدح وما أخرجه لهم البخاري فذكر في أولهم ممن اسمه أحمد تسعة نفر اختلف فيهم وغالبهم من شيوخ البخاري الذين لقيهم واختبرهم، فثلاثة منهم اتضح أنهم ثقات وأنّ قدح من قدح فيهم ساقطًا كما تراه جليًا في مقدمة الفتح. وثلاثة فيهم كلام، وإنما أخرج لكل واحد منهم حديثًا واحدًا متابعة، يروي البخاري الحديث عن ثقة أو أكثر ويرويه مع ذلك عن ذاك المتكلم فيه، واثنان روى عن كل منهما أحاديث
189
يسيرة متابعة أيضًا. التاسع: أحمد بن عاصم البلخي ليس له في الصحيح نفسه شيء ولكن المستملي -أحد رواة الصحيح عن الفربري عن البخاري– أدرج في باب رفع الأمانة من الرقاق قوله: (قال الفربري: قال أبو جعفر حدثت أبا عبد الله البخاري فقال: سمعت أبا [جعفر] أحمد بن عاصم يقول: سمعت أبا عبيد يقول قال الأصمعي وأبو عمرو وغيرهما: جذور قلوب الرجال – الجذر: الأصل من كل شيء، والوكت: أثر الشيء).