هذا جميع ما وجدناه عن الوليد عن النبي
ص، وأنت إذا تفقدت السند وجدته غير صحيح لجهالة الهمداني، وإذا تأملت المتن لم تجده
منكرا ولا فيه ما يمكن أن يتهم فيه الوليد، بل الأمر بالعكس، فإنه لم يذكر أن النبي
ص دعا له وذكر أنه لم يمسح رأسه. ولذلك قال بعضهم: قد علم الله تعالى حاله فحرمه بركة يد النبي
ص ودعائه. أفلا ترى معي في هذا دلالة واضحة على أنه كان بين القوم وبين الكذب على النبي
ص حجر محجور؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رده على الأخنائي (ص163): (فلا يعرف من الصحابة من كان يتعمد الكذب على رسول الله
ص، وإن كان فيهم من له ذنوب، لكن هذا الباب مما عصمهم الله فيه).
قد ينفر بعض الناس من لفظة (العصمة) وإنما المقصود أن الله عز وجل وفاءً بما تكفل به من حفظ دينه وشريعته هيأ من الأسباب ما حفظهم به وبتوفيقه سبحانه من أن يتعمد أحد منهم الكذب على رسول الله
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png.
فإن قيل: فلماذا لم يحفظهم الله تعالى من الخطأ؟ قلت: الخطأ إذا وقع من أحد منهم فإن الله تعالى يهيئ ما يوقف به عليه، وتبقى الثقة به قائمة في سائر الأحاديث التي حدث بها مما لم يظهر فيه خطأ؛ فأما تعمد الكذب فإنه إن وقع في حديث واحد لزم منه إهدار الأحاديث التي عند ذاك الرجل كلها، وقد تكون عنده أحاديث ليست عند غيره. راجع (ص20-21)
هذا وفي كتاب أبي رية (ص42-53) كلام أخرت النظر فيه إلى هنا كما أشرت إليه (ص52) من كتابي هذا. قال (ص42) (الكذب على النبي
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png قبل وفاته…).
199
ثم ذكر ما روي عن ابن بريدة عن أبيه بريدة بن الحصيب قال: «كان حي من بني ليث على ميلين من المدينة، فجاءهم رجل وعليه حلة، فقال: إن رسول الله
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png كساني هذه الحلة وأمرني أن أحكم في دمائكم وأموالكم بما أرى -وكان قد خطب منهم امرأة [في الجاهلية] فلم يزوجوه- فانطلق [حتى نزل] على تلك المرأة، فأرسلوا إلى رسول الله
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png. فقال: كذب عدو الله، ثم أرسل رجلًا. فقال: إن وجدته حيًا [ولا أراك تجده] فاضرب عنقه، وإن وجدته ميتًا فحرقه بالنار».
أقول: عزاه إلى أحكام ابن حزم، ومنه أضفت الكلمات المحجوزة، وانظر لماذا أسقطها أبو رية؟ ورواية عن ابن بريدة صالح بن حيان وهو ضعيف له أحاديث منكرة، وفي السند غيره، وقد رويت القصة من وجهين آخرين بقريب من هذا المعنى وفي كل منها ضعف. راجع مجمع الزوائد (1: 145). وعلى فرض صحته فهذا الرجل كان خطب تلك المرأة في الشرك فردوه، فلما أسلم أهلها سولت له نفسه أن يظهر الإسلام ويأتيهم بتلك الكذبة لعله يتمكن من الخلوة بها ثم يفر، إذ لا يعقل أن يريد البقاء وهو يعلم أنه ليس بينه وبين النبي
ص سوى ميلين، فأنكر أهلها أن يقع مثل ذلك عن أمر رسول الله
ص، فرأوا أن ينزلوا الرجل محترسين منه، ويرسلوا إلى النبي
ص يخبرونه. وقوله
صص («ولا أراك تجده») ظنًا منه أن عقوبة الله عز وجل ستعاجل الرجل. وكذلك كان كما في الطرق الأخرى، وجده الرسول قد مات، وفي رواية: (خرج ليبول فلدغته حية فهلك).
وحدوث مثل هذا لا يصلح للتشكيك في صدق بعض من صحب النبي
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png غير متهم بالنفاق ثم استمر على الإسلام بعد وفاة النبي
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png. يراجع (ص193) فما بعدها، وتعجيل العقوبة القدرية لذلك الرجل يمنع غيره من أن تحدثه نفسه بكذب على النبي
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png في حياته، وكذا من باب أولى بعد وفاته، فإن العقوبة القدرية لم تمهل ذاك مع أنه كان بصدد أن تناله العقوبة الشرعية، ولا يترتب على كذبه مفسدة، ولهذا جاء في رواية أن الصحابي بعد
ص ذكر حديثًا فاستثبته بعض الناس فحدث بالقصة ثم قال: (أتراني كذبت على رسول الله
ص بعد هذا)؟ وذكر أبو رية خبر المقنع التميمي، ويقال: المنقع، وسنده واهٍ جدًا يشمل على مجاهيل وضعفاء فلا أطيل به، هذا ومن الحكمة في اختصاص الله تعالى أصحاب رسوله بالحفظ من الكذب عليه أنه سبحانه كره أن يكونوا هدفًا لطعن من بعدهم؛ لأنه ذريعة إلى الطعن في الإسلام جملة. وليس هناك سبب مقبول للطعن إلا أن يقال: نحن مضطرون إلى بيان أحوالهم ليعرف من لا يحتج بروايته منهم، فاقتضت الحكمة حسم هذا لقطع العذر عمن يحاول الطعن في أحد منهم.
وقال (ص43): (الكذب على النبي
ص بعد موته… فإن الكذب قد كثر عليه بعد وفاته…).
أقول: قد كان كذب، لكن متى؟ وممن؟ لا شأن لنا بدعاوى أبي رية، وإنما ننظر في شواهده:
200
ذكر قصة بُشير (بالتصغير) ابن كعب العدوي مع ابن عباس في
مقدمة صحيح مسلم وجعلها قصتين، وإنما هي روايتان. وبُشير هذا غير بشير (بفتح فكسر) ابن كعب بن أبي الحميري العامري الذي شهد اليرموك، بل هذا أصغر منه بكثير، وأخطأ من عدهما واحدًا، راجع الإصابة. وهذا عراقي بصري له قصة مع
عمران بن حصين في الحياء تدل أنه كان يقرأ صحف أهل الكتاب، وقصته مع ابن عباس يظهر أنها كانت حوالي سنة ستين، فإن ابن عباس توفي (سنة 68) أو بعدها، وعاش بُشير بعد ابن عباس زمانًا.
روى مسلم القصة من طريق
طاوس و
مجاهد، وحاصلها أن بشيرًا جاء إلى ابن عباس فجعل يحدث: (زاد مجاهد: ويقول قال رسول الله
ص. قال رسول الله
ص) قال طاوس: فقال له ابن عباس: «عد لحديث كذا وكذا، فعاد له. ثم حدثه فقال له: عد لحديث كذا وكذا، فعاد له، فقال له ما أدري أعرفت حديثي كله وأنكرت هذا. أم أنكرت حديثي كله وعرفت هذا؟ فقال ابن عباس: إنا كنا نحدث عن رسول الله
ص إذ لم يكن يكذب عليه، فلما ركب الناس الصعب والذلول تركنا الحديث عنه -وفي رواية طاوس هي أثبت من الأولى- قال: إنما كنا نحفظ الحديث، والحديث يحفظ عن رسول الله
ص، فأما إذ ركبتم كل صعب وذلول فهيهات) ولفظ مجاهد: فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه ولا ينظر إليه، فقال: يا ابن عباس! ما لي لا أراك تسمع لحديثي..؟ فقال ابن عباس: إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلًا يقول قال رسول الله
ص ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف».
عرف ابن عباس أن بُشيرًا ليس بصحابي، ومع ذلك لم يدرك كبار الصحابة، ولعله مع ذلك لم يكن يعرف بالثقة، وفوق ذلك كان يرسل، لا جرم لم يصغ إلى أحاديثه. فأما استعادته بعضها فكأن المستعاد كان أحاديث يعرفها ابن عباس، فأراد أن يصححها لبُشير إن كان عنده فيها خطأ.
كانت القصة حوالي سنة ستين كما مر، وقد ظهر الكذب بالعراق قبل ذلك كما يؤخذ مما يأتي، وبُشير عراقي فليس في القصة ما يخدش في صدق الصحابة رضي الله عنهم، ولا ما يدل على ظهور الكذب بعد وفاة النبي بمدة يسيره، وقوله في إحدى روايتي طاوس: (تركنا الحديث عنه) يريد تركنا أخذ الحديث عنه إلا من حيث نعرف.
وذكر (ص44) ما في مقدمة صحيح مسلم أيضًا عن ابن أبي مليكة: «كتبت إلى ابن عباس أسأله أن يكتب لي كتابًا ويخفي عني قال: ولد ناصح، وأنا أختار له الأمور اختيارًا وأخفي عنه، قال: فدعا بقضاء علي رضي الله عنه
201
فجعل يكتب منه أشياء ويمر به الشيء فيقول: والله ما قضى بهذا علي، إلا أن يكون ضل».
أقول: أورد مسلم بعد هذا: (عن طاوس قال: أتى ابن عباس بكتاب فيه قضاء علي…) ثم أورد: (عن ابن إسحاق قال: لما أحدثوا تلك الأشياء بعد علي رضي الله عنه قال رجل من أصحاب علي: قاتلهم الله أي علم أفسدوا) التف حول علي رضي الله عنه بالكوفة نفر ليس لهم علم ولا كبير دين، وذاك الكتاب جمع من حكاياتهم وحكايات غيرهم عن قضاء علي، وجيئ إلى ابن عباس بنسخة منه. وذكر مسلم أيضًا ونقله أبو رية عن المغيرة بن مقسم قال: (لم يكن يصدق على علي رضي الله عنه في الحديث عنه إلا من أصحاب عبد الله بن مسعود).
وذلك أن
ابن مسعود كان بالكوفة في عهد علي وبعده، فكان له أصحاب طالت صحبتهم له وفقهوا، فلما جاء علي إلى الكوفة أخذوا عنه أيضًا وكانوا أوثق أصحابه، وهذه الآثار إنما تدل على فشو الكذب بالكوفة بعد علي رضي الله عنه.