المؤمنين إنا لسنا وفد مباهاة وإنما نحن وفد توبة ابتلينا بفتنة استخفت كريمنا واستفزت حليمنا ونحن بما قدمنا معترفون ومما سلف منا معتذرون فإن تعاقبنا فقد أجرمنا وإن تعف عنه فطالما أحسنت إلى من أساء منا فقال المنصور للحرسي: هذا خطيبهم وأمر برد ضياعه عليه بالغوطة. قال أحمد بن أبي داود: ما رأينا رجلاً نزل به الموت فما شغله ذلك ولا أذهله عما كان يحب أن يفعله إلا تميم بن جميل فإنه كان تغلب على شاطئ الفرات وأوفى به الرسول باب أمير المؤمنين المعتصم في يوم الموكب حين يجلس للعامة ودخل عليه فلما مثل بين يديه دعا بالنطع والسيف فأحضرا بجعل تميم بن جميل ينظر إليهما ولا يقول شيئاً وجعل المعتصم يصعد النظر فيه ويصوبه وكان جسيماً وسيماً ورأى أن يستنطقه لينظر أين جنانه ولسانه من منظره فقال: يا تميم إن كان لك عذر فأت به أو حجة فأدل بها فقال: أما إذ قد أذن لي أمير المؤمنين فإني أقول: الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين. يا أمير المؤمنين إن الذنوب تخرس الألسنة وتصدع الأفئدة ولقد عظمت الجريرة وكبر الذنب وساء الظن ولم يبق إلا عفوك أو انتقامك وأرجو أن يكون أقربهما منك وأسرعهما إليك أولاهما بإمامتك وأشبههما بخلافتك ثم أنشأ يقول: أرى الموت بين السيف والنطع كامناً يلاحظني من حيثما أتلفت وأكبر ظني أنك اليوم قاتلي وأي امرئ مما قضى الله يفلت ومن ذا الذي يدلى بعذر وحجة وسيف المنايا بين عينيه مصلت يعز على الأوس بن تغلب موقف يسل علي السيف فيه وأسكت ولكن خلفي صبية قد تركتهم وأكبادهم من حسرة تتفتت كأني أراهم حين أنعى إليهم وقد خمشوا تلك الوجوه وصوتوا فإن عشت عاشوا خافضين بغبطة أذود الردى عنهم وإن مت موتوا فكم من قائل: لا يبعد الله روحه وآخر جذلان يسر ويشمت قال: فتبسم المعتصم وقال: كاد والله يا تميم أن يسبق السيف العذل اذهب فقد غفرت لك الصبوة وتركتك للصبية. وحكي أن أمير المؤمنين المهدي قال لأبي عبيد الله لما قتل ابنه: إنه لو كان في صالح خدمتك وما تعرفناه من طاعتك وفاء يجب به الصفح عن ولدك ما تجاوز أمير المؤمنين ذلك به إلى غيره ولكنه نكص على عقبيه وكفر بربه قال أبو عبيد الله: رضانا عن أنفسنا وسخطنا عليها موصول برضاك وسخطك ونحن خدم نعمتك تثيبنا على الإحسان فنشكر وتعاقبنا على الإساءة فنصبر. أبو الحسن المدائني قال: لما حج المنصور مر بالمدينة فقال للربيع الحاجب: علي بن جعفر بن محمد قتلني الله إن لم أقتله فمطل به ثم ألح عليه فحضر فلما كشف الستر بينه وبينه ومثل بين يديه همس جعفر بشفتيه ثم تقرب وسلم فقال: لا سلم الله عليك يا عدو الله تعمل علي الغوائل في ملكي قتلني الله إن لم أقتلك قال: يا أمير المؤمنين إن سليمان صلى الله على محمد وعليه أعطى فشكر وإن أيوب ابتلى فصبر وإن يوسف ظلم فغفر وأنت على إرث منهم وأحق من تأسى بهم. فنكس أبو جعفر رأسه ملياً وجعفر واقف ثم رفع رأسه فقال: إلي أبا عبد الله فأنت القريب القرابة وذو الرحم الواشجة السليم الناحية القليل الغائلة ثم صافحه بيمينه وعانقه بشماله وأجلسه معه على فراشه وانحرف له عن بعضه وأقبل عليه بوجهه يحادثه ويسائله ثم قال: يا ربيع عجل لأبي عبد الله كسوته وجائزته وإذنه. قال الربيع: فلما حال الستر بيني وبينه أمسكت بثوبه فقال: ما أرانا يا ربيع إلا وقد حبسنا فقلت: لا عليك هذه مني لا منه فقال: هذه أيسر سل حاجتك فقلت له: إني منذ ثلاث أدفع عنك وأداري عليك ورأيتك إذ دخلت همست بشفتيك ثم رأيت الأمر انجلى عنك وأنا خادم سلطان ولا غنى لي عنه فأحب منك أن تعلمينه قال: نعم قلت: اللهم احرسني بعينك التي لا تنام واكنفني بحفظك الذي لا يرام ولا أهلك وأنت رجائي فكم من نعمة أنعمتها علي قل لك عندها شكري فلم تحرمني وكم من بلية ابتليت بها قل عندها صبري فلم تخذلن اللهم بك أدرأ في نحره وأستعيذ بخيرك من شره فإنك على كل شيء قدير وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم. كان يزيد بن راشد خطيباً وكان فيمن دعا إلى خلع سليمان بن عبد الملك والبيعة لعبد العزيز بن الوليد فنذر سليمان قطع لسانه. فلما أفضت الخلافة إليه دخل عليه يزيد بن راشد فجلس على طرف البساط مفكراً ثم قال: يا أمير المؤمنين كن كنبي الله
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png ابتلي فصبر وأعطي فشكر وقدر فغفر قال: ومن أنت قال: يزيد بن راشد. فعفا عنه. حبس الرشيد رجلاً فلما طال حبسه كتب إليه: إن كل يوم يمضي من نعيمك يمضي من بؤسي مثله والأمد قريب والحكم لله. فأطلقه. ومر أسد بن عبد الله القسري وهو والي خراسان بدار من دور الاستخراج ودهقان يعذب في حبسه وحول أسد مساكين يستجدونه فأمر لهم بدراهم تقسم فيهم فقال الدهقان: يا أسد إن كنت تعطى من يرحم فارحم من يظلم فإن السموات تنفرج لدعوة المظلوم يا أسد احذر من ليس له ناصر إلا الله واتق من لا جنة له إلا الابتهال إليه إن الظلم مصرعه وخيم ولا تغتر بإبطاء الغيثات من ناصر متى شاء أن يجيب أجاب وقد أملى لقوم ليزدادوا إثماً. فأمر أسد بالكف عنه. عتب المأمون على رجل من خاصته فقال: يا أمير المؤمنين إن قديم الحرمة وحديث التوبة يمحوان ما بينهما من الإساءة فقال: صدقت ورضي عنه. وكان ملك من ملوك فارس عظيم المملكة شديد النقمة وكان له صاحب مطبخ فلما قرب إليه طعامه صاحب المطبخ سقطت نقطة من الطعام على يديه فزوى لها الملك وجهه وعلم صاحب المطبخ أنه قاتله فكفأ الصحفة على يديه فقال الملك: علي به فلما أتاه قال له: قد علمت أن سقوط النقطة أخطأت بها يدك فما عذرك في الثانية قال: استحييت للملك أن يقتل مثلي في سني وقديم حرمتي في نقطة فأردت أن أعظم ذنبي ليحسن به قتلي فقال له الملك: لئن كان لطف الاعتذار ينجيك من القتل ما هو بمنجيك من العقوبة اجلدوه مائة جلدة وخلوه. الشيباني قال: دخل محمد بن عبد الملك بن صالح على المأمون حين قبض ضياعهم فقال: يا أمير المؤمنين محمد بن عبد الملك بين يديك ربيب دولتك وسليل نعمتك وغصن من أغصان دوحتك أتأذن لي في الكلام قال: نعم قال: نستمتع الله حياطة ديننا ودنيانا ورعاية أدنانا وأقصانا ببقائك ونسأله أن يزيد في عمرك من أعمارنا وفي أثرك من آثارنا ويقيك الأذى بأسماعنا وأبصارنا هذا مقام العائد بفضلك الهارب إلى كنفك وظلك الفقير إلى رحمتك وعدلك ثم تكلم في حاجته فقضاها. أذقني طعم النوم أو سل حقيقة علي فإن قامت ففصل بنانيا خلعت فاستطار فأصبحت ترامى به البيد القفار تراميا ولم يقل أحد في هذا المعنى أحسن من قول النابغة الذبياني للنعمان بن المنذر: أتاني أبيت اللعن أنك لمتني وتلك التي تستك منها المسامع فبت كأني ساورتني ضئيلة من الرقش في أنيابها السم ناقع أكلفتني ذنب امرئ وتركته كذي العر يكوى غيره وهو راتع فإنك كالليل الذي هو مدركي وإن خلت أن المنتأى عنك واسع وقال فيه أيضاً: ولست بمستبق أخاً لا تلمه على شعث أي الرجال المهذب فإن أك مظلوماً فعبد ظلمته وإن تك ذا عتب فمثلك يعتب حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب لئن كنت قد بلغت عني جناية لمبلغك الواشي أغش وأكذب ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب فهبني امرأ إما بريئاً علمته وإما مسيئاً تاب منه وأعتبا وكنت كذي داء يبغي لدائه طبيباً فلما لم يجده تطببا وقال الممزق لعمرو بن هند: تروح وتغدو ما يحل وضينها إليك ابن ماء المزن وابن محرق أحقاً أبيت اللعن أن ابن مزننا على غير إجرام بريقي مشرقي فإن كنت مأكولاً فكن خير آكل وإلا فادركني ولما أمزق فأنت عميد الناس مهما تقل نقل ومهما تضع من باطل لا يحقق وتمثل بهذه الأبيات عثمان بن عفان في كتابه إلى علي بن أبي طالب يوم الدار. وكتب محمد بن عبد الملك الزيات لما أحس بالموت وهو في حبس المتوكل برقعة إلى المتوكل فيها: هي السبيل فمن يوم إلى يوم كأنه ما تريك العين في النوم لا تعجلن رويداً إنما دول دنيا تنقل من قوم إلى قوم إن المنايا وإن أصبحت ذا فرح تحوم حولك حوماً أيما حوم وقال عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة للمنصور وقد أراد عقوبة رجل: يا أمير المؤمنين إن الانتقام عدل والتجاوز فضل والمتفضل قد جاوز حد المنصف ونحن نعيذ أمير المؤمنين أن يرضى لنفسه أوكس النصيبين دون أن يبلغ أرفع الدرجتين. جرى بين أبي مسلم صاحب الدعوة وبين قائد من قواده يقال له شهرام كلام فقال له قائده كلمة فيها بعض الغلظ ثم ندم على ما كان منه فجعل يتضرع ويتنصل إليه فقال له أبو مسلم: لا عليك لسان سبق ووهم أخطأ وإنما الغضب شيطان وأنا جرأتك علي بطول احتمالي منك فإن كنت للذنب متعمداً فقد شاركتك فيه وإن كنت مغلوباً فإن العذر يسعك وقد عفونا على كل حال. فقال: أصلح الله الأمير إن عفو مثلك لا يكون غروراً قال: أجل قال: فإن عظم الذنب لا يدع قلبي يسكن وألح في الاعتذار فقال له أبو مسلم: عجباً لك إنك أسأت فأحسنت فلما أحسنت أأسيء! دخل أبو دلف على المأمون وقد كان عتب عليه ثم أقاله فقال له وقد خلا مجلسه: قل أبا دلف وما عسيت أن تقول وقد رضي عنك أمير المؤمنين وغفر لك ما فعلت فقال يا أمير المؤمنين: ليالي تدنو منك بالبشر مجلسي ووجهك من ماء البشاشة يقطر قال المأمون: لك بها رجوعك إلى المناصحة وإقبالك على الطاعة ثم عاد له إلى ما كان عليه. وقال له المأمون يوماً: أنت الذي تقول: إني امرؤ كسروي الفعال أصيف الجبال وأشتوا العرافا ما أراك قدمت لحق طاعة ولا قضيت واجب حرمة قال له: يا أمير المؤمنين إنما هي نعمتك ونحن فيها خدمك وما هراقة دمي في طاعتك إلا بعض ما يجب لك. ودخل أبو دلف على المأمون فقال: أنت الذي يقول فيك ابن جبلة: إنما الدنيا أبو دلف بين باديه ومحتضره فإذا ولى أبو دلف ولت الدنيا على أثره فقال: يا أمير المؤمنين شهادة زور وكذب شاعر وملق مستجد وليكن الذي يقول فيه ابن أخيه: ذريني أجوب الأرض في طلب الغنى فما الكرج بالدنيا ولا الناس قاسم الكرج: منزل أبي دلف وكان اسمه القاسم بن عيسى. وقال المنصور وجعل لمعن بن زائدة: ما أظن ما قيل عنك من ظلمك أهل اليمن واعتسافك عليهم إلا حقاً قال: كيف ذلك يا أمير المؤمنين قال: بلغني عنك أنك أعطيت شاعراً لبيت قاله ألف دينار وأنشده البيت وهو: معن بن زائدة الذي زيدت به فخراً إلى فخر بنو شيبان قال: نعم يا أمير المؤمنين قد أعطيته ألف دينار ليس على هذا البيت ولكن على قوله: ما زلت يوم الهاشمية معلماً بالسيف دون خليفة الرحمن فمنعت حوزته وكنت وقاءه من وقع كل مهند وسنان قال: فاستحيا المنصور وجعل ينكت بالمخصرة ثم رفع رأسه وقال: اجلس أبا الوليد. أتي عبد الملك بن مروان بأعرابي سرق فأمر بقطع يده فأنشأ يقول: يدي يا أمير المؤمنين أعيذها بعفوك أن تلقى مكاناً يشينها ولا خير في الدنيا وكانت حبيبة إذا ما شمالي فارقتها يمينها فأبى إلا قطعه فقالت أمه: يا أمير المؤمنين واحدي وكاسبي قال: بئس الكاسب كان لك وهذا حد من حدود الله قالت: يا أمير المؤمنين اجعله من بعض ذنوبك التي تستغفر الله منها فعفا عنه.