أَبصر زمانَنا هذا. قال عُروة: ونحن نقول: رَحِم الله عائشة فكيف لو أدركت زمانَنا هذا. وكان بعضهم يقول: ذهب الناسُ وبَقيَ النَسْناس فكيف لو أدْرك زماننا هذا. دخل مُسلم بن يَزِيد بن وَهْب على عبد الملك بن مَرْوَان. فقال له عبدُ الملك: أيُّ زمان أدركتَ أفضَل وأيُّ الملوك أكمل قال: أمّا المُلوك فلم أَرَ إلا حامداً أو ذامًّا وأما الزمان فيَرْفع أقواماً وكلّهم يَذُم زمانَه لأنه يُبْلِي جديدَهم ويُفرَق عديدهم ويهْرِم صغيرَهم ويهلك كَبيرَهم. أيا دهرُ إن كنتَ عاديتَنا فَها قد صَنَعتَ بِنا ما كفَاكَا جَعلت الشرَارَ علينا خِياراً وولَيتنا بعد وَجْهٍ قفَاكا وقال آخر: إذا كان الزمانُ زمانَ تَيْمٍ وعكْلٍ فالسلامُ على الزّمانِ زمان صارَ فيه الصدرُ عَجْزا وصار الزُّجّ قُدّامَ السّنان لعلّ زمانَنا سَيعود يومًا كما عاد الزمانُ على بِطان أبو جعفر الشّيباني قال: أتانا يوماً أبو مَيَّاس الشاعر ونحن في جماعة فقال: ما أنَتم " فيه " وما تتذاكرون قلنا: نَذْكُر الزمان وفَساده قال: كلا إنما الزمانُ وِعاء وما ألْقِي فيه مِن خَيْر أو شرّ كان على حاله ثم أنشأ يقول: أرَى حُللاً تُصان على أناسٍ وأخلاقاً تُدَاسُ فَما تُصَان يَقولوِن الزمانُ به فَسادٌ وهُم فَسدوا وما فَسد الزمان أنشد فرج بن سلاّم: هذا الزمان الذيِ كنَّا نُحذَّرُه فيما يُحدِّث كعبٌ وابن مسعودِ إن دام ذا الدهرُ لم نحْزَن على أحدٍ يموتُ منَا ولم نَفْرح بِمَوْلود لم أَبكِ في زَمن لم أرضَ خَلَته إلا بكيتُ عليه حين يَنْصَرِمُ وقال آخر في طاهر بن الحسين: إذا كانت الدُنيا تًنال بِطاهرٍ تَجَنَّبت منها كلَّ ما فيه طاهرُ وأعرضتُ عنها عِفَةَ وتكَرُّماَ وأرجأتُها حتى تَدورَ الدوائر وقال مُؤمن بن سَعيد في مَعْقل الضَّبيّ وابن أخيه عثمان: لقد ذلَّت الدنيا وقد ذلّ أهلُها وقد مَلَّها أهلُ النَدى والتَّفضُّل إذا كانت الدُّنيا تَميل بخَيّرها إلى مِثل عًثمانٍ ومِثل المُحوّل ففي استِ ام دُنيانا وفي آست ام خَيّرها وفي آست آم عثمان وفي آست ام مَعقِل وقال محمد بن مُناذر: يا طالبَ الأشعار والنَّحوِ هذا زمانٌ فاسدُ الحَشْوِ نهارُه أوْحشً من لَيْله ونَشْوُه من أخْبَث النّشْو فَدَع طِلاَبَ النَّحو لا تَبغِهِ ولا تقل شعراً ولا تَرْو فَما يَجوز اليومَ إلا آمرؤٌ مُسْتَحكم العَزْف أو الشَّدْو رَجاءٌ دُون أَقْربه السَّحابُ وَوَعْدٌ مثلُ ما لمَع السَّرَابُ ودَهْر سادت العُبْدان فيه وعاثَتْ في جوانبه الذِّئاب وأيّام خلَتْ من كلِّ خَيْرٍ ودُنيا قد تَوَزّعها الكِلاب كلابٌ لو سألتَهم تُرَاباً لقالوا عندنا آنقطع التّراب يُعاقَب مَن أساء القولَ فيهم وإنْ يُحْسِن فليس له ثَواب كتب عَمْرو بن بحر الجاحظ إلى بعض إِخوانه في ذمِّ الزمان: بسم الله الرحمن الرحيم حَفِظك الله حفْظ مَن وَفّقه للقَناعة واستَعمله في الطاعة. كتبتُ إليك وحالي حالُ من كَثُفت غمومه وأشْكلت عليه أموره واشتَبه عليه حالُ دهره ومَخْرج أمْره وقَلَّ عنده من يَثِق بوَفائه أو يَحمد مَغبة إخائه لاستحالة زمانِنا وفَساد أيّامنا ودَوْلة أنذالِنا. وقِدْماً كان يقال مَن قَدَم الحياءَ على نَفْسه وحكَّم الصِّدْق في قوله وآثر الحقً في أموره ونَبَذ المُشتبِهات عليه من شئونه تَمٌتْ له السلامة وفاز بوُفورِ حظّ العافية. وحَمِد مَغبة مكْروه العاقِبة فنَظرنا إذ حال عِنْدنا حُكْمُه وتحوّلت دولتُه فَوَجَدْنا الحياء متَّصلاً بالحِرْمان والصِّدْق آفةً علِى المال والقَصْدَ في الطّلَب برك استعمال القِحة وإخْلاقِ العِرض في طريق التوكّل دليلاَ على سَخافة الرأي إذا صارت الخُطوة السابقة والنًعمة السابغة في لُؤم النِّيَّة وتناولُ الرِّزق من جهة محاشاة الوفاء ومُلابسة مَعرّة العار. ثم نَظَرنا في تعقّب المُتعقّب لقولنا والكاسِر لحُجّتنا فأقَمنا له عًلَماً واضِحا وشاهِداً قائماً ومنارًا بيِّناً إذ وَجَدْنا مَن فيه السُّفوليةَ الواضحة والمَثالب الفاضحة والكَذِب المُبرِّح والخُلْفَ المُصَرّح والجَهالة المُفْرطة والرِّكاكة المُسْتَخِفّة وضَعْف اليقين والاستيثاب وسرْعة الغَضب والخِفّة قد استُكْمل سروره واعتدلت أمورُه وفاز بالسِّهْم الأغْلب والحظّ الأوْفر والقَدْر الرَّفيع وَالجَواب الطّائع والأمر النافِذ إن زلّ قيل حَكُم وإنْ أخطأَ قيل أصاب وإن هَذَى في كَلامه وهو يَقْظان قيل رُؤْيا صادِقة في سِنَة مُباركة فهذه حُجّتنا " أبقاك الله " على مَن زَعم أنّ الجهْل يَخْفِضُ وأن الحُمق يَضَع وأنّ النَّوْك يُرْدي وأن الكَذِب يَضُر وأنّ الخُلفَ يُزْرِي. ثم نَظَرْنا في الوَفاء والأمانة والنُّبْل والبَراعة وحُسْن المَذْهب وكماله المُروءَة وسَعة الصَّدْر وقلّة الغَضب وكَرِم الطبيعة والفائق في سَعة عِلْمه والحاكم على نَفْسه والغالِب لِهَواه فَوَجدنا فُلان بن فلان ثم وَجدنا الزَّمان لم يًنْصفه من حقّه ولا قامَ له بوَظائف فرْضه. وَوَجَدْنا فضائلَه القائمة له قاعدهً به. فهذا دليلٌ على أنّ الطًلاح أجدَى من الصَّلاح وأنّ الفَضْل قد مَضى زمانُه وعَفَت آثارُه وصارت الدائرة عليه كما كانت الدائرة على ضدّه وَوَجدْنا العَقْلَ يَشْقى به قرينُه كما أن الجَهْل والحمْق يَحْظَى به خَدِينُه. وَوَجدْنا الشعرَ ناطقاً على الزَّمان ومُعْرباً عن تَحَامَقْ مع الحَمْقَى إِذا ما لَقيتَهمِ ولاقِهمُ بالجَهْل فعْلَ أخِي الجَهْل وخَلِّط إذا لاقَتْ يوماً مُخَلِّطا يُخَلِّط في قَوْلٍ صَحيح وفي هَزْل فإنِّي رأيتُ المَرْء يَشْقَى بعَقْلِه كما كان قبلَ اليوم يَسْعد بالعَقْل فبقيتُ أبقاك الله مثلَ مَن أصبح على أَوْفاز ومن النُّقلة على جهَاز لا تَسوغ له نِعْمة ولا يُطعم عَيْنيه غَمْضة في أهاويل يُباكره مكْرُوهها وتُراوحه عقابيلُها فلو أنّ الدُّعاءَ أجيب والتَضرًع سُمع لكانت الهَدّة العُظمى والرَّجفة الكبرى فليتَ الذي يا أخي ما أَستَبْطئه من النّفْخة ومن فَجْأَة الصَّيحة قُضي فحان وأذن به فكان فواللهّ ما عُذبت أُمةٌ برَجفة ولا ريح ولا سَخْطة عذابَ عَينيّ برُؤْية المُغايظة المُضْنية والأخبار المُهلكة كأنّ الزَّمان توكَّل بعَذَابي أو انتصب لإيلامي فما عَيْشُ مَن لا يُسَر بأخ شقيق " ولا خِدْن شفيق " ولا يَصْطبح في أوَّل نهارِه إلا برُؤية من تُكْره " رؤيتُه " ونَغمة من تَغُمه طَلْعته فبدَّل الله " لي أي أخي بالمسكن مَسكنا وبالرَّبع رَبْعا فقد طالت الغُمة وواطنت الكُرْبة ادلهمتْ الظُّلمة وخَمد السِّراج وتَباطأ الانفِراج. " والسلام ".