فلو كان يمكن في لسان العجم إيراد مثل فصاحته، لم يكن ليرفعه عن هذه المنزلة. وأنه وإن كان يمكن أن يكون من فائدة قوله: إنه عربي مبين، أنه مما يفهمونه ولا يفتقرون فيه إلى الرجوع إلى غيرهم، ولا يحتاجون في تفسيره إلى سواهم، فلا يمتنع أن يفيد ما قلناه أيضا، كما أفاد بظاهره ما قدمناه.
ويبين ذلك أن كثيرا من المسلمين قد عرفوا تلك الألسنة، وهم من أهل البراعة فيها، وفى العربية، فقد وقفوا على أنه ليس فيها من التفاضل والفصاحة، ما يقع في العربية. ومعنى آخر، وهو أنا لم نجد أهل التوراة والإنجيل ادعوا الإعجاز لكتابهم، ولا ادعى لهم المسلمون. فعلم أن الإعجاز مما يختص به القرآن.
ويبين هذا أن الشعر لا يتأتي في تلك الألسنة، على ما قد اتفق في العربية. وإن كان قد يتفق منها صنف أو أصناف ضيقة، لم يتفق فيها من البديع ما يمكن ويتأتي في العربية، وكذلك لا يتأتي في الفارسية جميع الوجوه التي تتبين فيها الفصاحة على ما يتأتي في العربية.
فإن قيل: فإن المجوس تزعم أن كتاب زرادشت وكتاب ماني معجزان؟
قيل: الذي يتضمنه كتاب ماني، من طرق النيرنجات،
[7] وضروب من الشعوذة، ليس يقع فيه إعجاز. ويزعمون أن في الكتاب الحِكَم، وهي حكم منقولة متداولة على الألسن، لا تختص بها أمة دون أمة، وإن كان بعضهم أكثر اهتماما بها، وتحصيلا لها، وجمعا لأبوابها.
وقد ادعى قوم أن ابن المقفع عارض القرآن، وإنما فزعوا إلى الدرة واليتمية. وهما كتابان. أحدهما يتضمن حكما منقولة توجد عند حكماء كل أمة مذكورة بالفضل، فليس فيها شئ بديع من لفظ ولا معنى؛ والآخر في شئ من الديانات، وقد تهوس فيه بما لا يخفى على متأمل.
وكتابه الذي بيناه في الحكم منسوخ من كتاب بزرجمهر في الحكمة. فأي صنع له في ذلك؟ وأي فضيلة حازها فيما جاء به؟
وبعد، فليس يوجد له كتاب يدعي مدع أنه عارض فيه القرآن، بل يزعمون أنه اشتغل بذلك مدة، ثم مزق ما جمع، واستحيا لنفسه من إظهاره. فإن كان كذلك، فقد أصاب وأبصر القصد، ولا يمتنع أن يشتبه عليه الحال في الابتداء ثم يلوح له رشده، ويتبين له أمره، وينكشف له عجزه. ولو كان بقي على اشتباه الحال عليه، لم يخف علينا موضع غفلته، ولم يشتبه لدينا وجه شبهته.
ومتى أمكن أن تدعي الفرس في شئ من كتبها أنه معجز في حسن تأليفه وعجيب نظمه؟
فصل في جملة وجوه إعجاز القرآن
ذكر أصحابنا وغيرهم في ذلك ثلاثة أوجه من الإعجاز:
أحدها: يتضمن الإخبار عن الغيوب، وذلك مما لا يقدر عليه البشر، ولا سبيل لهم إليه.
فمن ذلك ما وعد الله تعالى نبيه، عليه السلام، أنه سيظهر دينه على الأديان، بقوله عز وجل: { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون }، ففعل ذلك.
وكان أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، إذا أغزى جيوشه عرفهم ما وعدهم الله، من إظهار دينه. ليثقوا بالنصر، ويستيقنوا بالنجح.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يفعل كذلك في أيامه، حتى وقف أصحاب جيوشه عليه، فكان سعد بن أبي وقاص رحمه الله وغيره من أمراء الجيوش، من جهته، يذكر ذلك لأصحابه، ويحرضهم به، ويوثق لهم، وكانوا يلقون الظفر في متوجهاتهم، حتى فتح إلى آخر أيام عمر رضي الله عنه، إلى بلخ، وبلاد الهند، وفتح في أيامه مرو الشاهجان، ومرو الروذ، ومنعهم من العبور إلى جيحون، وكذلك فتح في أيامه فارس إلى إصطخر، وكرمان، ومكران، وسجستان، وجميع ما كان من مملكة كسرى، وكل ما كان يملكه ملوك فارس بين البحرين من الفرات إلى جيحون، وأزال ملك ملوك الفرس، فلم يعد إلى اليوم ولا يعود أبدا، إن شاء الله تعالى، ثم إلى حدود إرمينية، وإلى باب الأبواب. وفتح أيضا ناحية الشام، والأردن، وفلسطين، وفسطاط مصر، وأزال ملك قيصر عنها، وذلك من الفرات إلى بحر مصر، وهو ملك قيصر. وغزت الخيول في أيامه إلى عمورية، فأخذ الضواحي كلها، ولم يبق منها إلا ما حجز دونه بحر، أو حال عنه جبل منيع، أو أرض خشنة، أو بادية غير مسلوكة.
وقال الله عز وجل: { قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد }، فصدق فيه.
وقال في أهل بدر: { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم }. ووفى لهم بما وعد.
وجميع الآيات التي يتضمنها القرآن، من الإخبار عن الغيوب، يكثر جدا، وإنما أردنا أن ننبه بالبعض على الكل.
http://upload.wikimedia.org/wikipedi...ts_ver.svg.png
والوجه الثاني: أنه كان معلوما من حال النبي
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png أنه كان أميا لا يكتب ولا يحسن أن يقرأ.
وكذلك كان معروفا من حاله أنه لم يكن يعرف شيئا من كتب المتقدمين، وأقاصيصهم وأنبائهم وسيرهم، ثم أتى بجمل ما وقع وحدث من عظيمات الأمور، ومهمات السير، من حين خلق الله آدم عليه السلام، إلى حين مبعثه، فذكر في الكتاب، الذي جاء به معجزة له: قصة آدم عليه السلام، وابتداء خلقه، وما صار أمره إليه من الخروج من الجنة. ثم جملا من أمر ولده وأحواله وتوبته، ثم ذكر قصة نوح عليه السلام، وما كان بينه وبين قومه، وما انتهى إليه أمرهم. وكذلك أمر إبراهيم عليه السلام، إلى ذكر سائر الأنبياء المذكورين في القرآن، والملوك والفراعنة الذين كانوا في أيام الأنبياء، صلوات الله عليهم.
ونحن نعلم ضرورة أن هذا مما لا سبيل إليه إلا عن تعلم؛ وإذ كان معروفا أنه لم يكن ملابسا لاهل الآثار وحملة الأخبار، ولا مترددا إلى التعلم منهم، ولا كان ممن يقرأ فيجوز أن يقع إليه كتاب فيأخذ منه - عُلم أنه لا يصل إلى علم ذلك إلا بتأييد من جهة الوحي. ولذلك قال الله عز وجل: { وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لا رتاب المبطلون } وقال: { وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست }.
وقد بينا أن من كان يختلف إلى تعلم علم، ويشتغل بملابسة أهل صنعة، لم يخف على الناس أمره، ولم يشتبه عندهم مذهبه، وقد كان يعرف فيهم من يحسن هذا العلم، وإن كان نادرا، وكذلك كان يعرف من يختلف إليه للتعلم، وليس يخفى في العرف عالم كل صنعة ومتعلمها، فلو كان منهم لم يخف أمره.
والوجه الثالث: أنه بديع النظم، عجيب التأليف، متناه في البلاغة إلى الحد الذي يعلم عجز الخلق عنه. والذي أطلقه العلماء هو على هذه الجملة، ونحن نفصل ذلك بعض التفصيل، ونكشف الجملة التي أطلقوها.
فالذي يشتمل عليه بديع نظمه، المتضمن للإعجاز وجوه:
منها ما يرجع إلى الجملة، وذلك أن نظم القرآن على تصرف وجوهه، وتباين مذاهبه - خارج عن المعهود من نظام جميع كلامهم، ومباين للمألوف من ترتيب خطابهم، وله أسلوب يختص به ويتميز في تصرفه عن أساليب الكلام المعتاد. وذلك أن الطرق التي يتقيد بها الكلام البديع المنظوم، تنقسم إلى أعاريض الشعر، على اختلاف أنواعه، ثم إلى أنواع الكلام الموزون غير المقفى، ثم إلى أصناف الكلام المعدل المسجع، ثم إلى معدل موزون غير مسجع، ثم إلى ما يرسل إرسالا، فتطلب فيه الإصابة والافادة، وإفهام المعاني المعترضة على وجه بديع، ترتيب لطيف، وإن لم يكن معتدلا في وزنه، وذلك شبيه بجملة الكلام الذي لا يتعمل [ فيه ]، ولا يتصنع له. وقد علمنا أن القرآن خارج عن هذه الوجوه، ومباين لهذه الطرق. ويبقى علينا أن نبين أنه ليس من باب السجع، ولا فيه شئ منه، وكذلك ليس من قبيل الشعر، لأن من الناس من زعم أنه كلام مسجع، ومنهم من يدعي فيه شعرا كثيرا. والكلام عليهم يذكر بعد هذا الموضع.
فهذا إذا تأمله المتأمل تبين - بخروجه عن أصناف كلامهم وأساليب خطابهم - أنه خارج عن العادة وأنه معجز. وهذه خصوصية ترجع إلى جملة القرآن، وتميُّز حاصل في جميعه.
http://upload.wikimedia.org/wikipedi...ts_ver.svg.png
ومنها أنه ليس للعرب كلام مشتمل على هذه الفصاحة والغرابة، والتصرف البديع، والمعاني اللطيفة، والفوائد الغزيرة، والحكم الكثيرة، والتناسب في البلاغة، والتشابه في البراعة، على هذا الطول، وعلى هذا القدر. وإنما تنسب إلى حكيمهم كلمات معدودة وألفاظ قليلة، وإلى شاعرهم قصائد محصورة، يقع فيها ما نبينه بعد هذا من الاختلال، ويعترضها ما نكشفه من الاختلاف، ويشملها ما نبديه من التعمل والتكلف، والتجوز والتعسف.
وقد حصل القرآن على كثرته وطوله متناسبا في الفصاحة، على ما وصفه الله تعالى به، فقال عز من قائل: { الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها، مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله } * وقوله: { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } فأخبر سبحانه أن كلام الآدمي إن امتد وقع فيه التفاوت وبان عليه الاختلال.
وهذا المعنى هو غير المعنى الأول الذي بدأنا بذكره، فتأمله تعرف الفصل.
http://upload.wikimedia.org/wikipedi...ts_ver.svg.png
وفي ذلك معنى ثالث: وهو أن عجيب نظمه، وبديع تأليفه لا يتفاوت ولا يتباين، على ما يتصرف إليه من الوجوه التي يتصرف فيها: من ذكر قصص ومواعظ واحتجاج، وحكم وأحكام، وإعذار وإنذار، ووعد ووعيد، وتبشير وتخويف، وأوصاف، وتعليم أخلاق كريمة، وشيم رفيعة، وسير مأثورة. وغير ذلك من الوجوه التي يشتمل عليها. ونجد كلام البليغ الكامل، والشاعر المفلق، والخطيب المصقع - يختلف على حسب اختلاف هذه الأمور.
فمن الشعراء من يجود في المدح دون الهجو.
ومنهم من يبرز في الهجو دون المدح.
ومنهم من يسبق في التقريط دون التأبين.
ومنهم من يجود في التأبين دون التقريط.
ومنهم من يغرب في وصف الابل أو الخيل، أو سير الليل، أو وصف الحرب، أو وصف الروض، أو وصف الخمر، أو الغزل، أو غير ذلك مما يشتمل عليه الشعر ويتناوله الكلام، ولذلك ضرب المثل بامرئ القيس إذا ركب، و
النابغة إذا رهب، وبزهير إذا رغب.