-
« أمرت بصيانته وألّا يلحقه مكروه. » وردّه إلى دار السلطان وحبس في الموضع الذي كان إسحاق بن إسماعيل محبوسا فيه.
وورد يوم الثلاثاء لخمس خلون من جمادى الأولى كتاب أبي جعفر الكرخي وكتاب أبي يوسف عبد الرحمن بن محمّد الذي كان يكتب للسيدة بأنّ أصحاب ابن رائق كبسوا سوق الأهواز وأنّهم استولوا على سائر عمل الأهواز وصار كلّ من يتقلّد المعاون في أعمال الأهواز من قبله سوى محمّد بن ياقوت فإنّه كان يتقلّد المعاون بالسوس وجنديسابور فلم ينفذ لابن رائق لأنّه نظيره فكتب الخصيبي رقعة بما ورد عليه من ذلك إلى القاهر.
وكان القاهر قد ابتدأ بشرب فدعا بسلامة وأقرأه الكتاب وقال له:
« امض إلى الخصيبي واجتمع معه على التدبير في ذلك. » وعاود شربه فمضى سلامة وعيسى معه إلى الخصيبي وأطالا عنده إلى نصف الليل ولم يتقرر لهم رأى عليه شيء. فانصرف سلامة إلى منزله لعلمه بأنّ القاهر قد سكر ولا فضل فيه باقى ليلته وصدر نهار الغد، وبكّر سلامة إلى الخصيبي فوجد عنده عيسى المتطبّب وبلغهم خبر الساجيّة والحجريّة واجتماعهم لقصد دار السلطان. فتقدّم الخصيبي إلى عيسى بأن يبادر إلى دار السلطان ويعرّف القاهر الخبر ليتحرّز وإن وجده نائما أنبهه، فمضى عيسى واجتهد في إنباه القاهر فلم تكن فيه حيلة وقيل له: كان يشرب إلى أن طلعت الشمس وأنّه لو أنبه لما فهم عنه ما يقوله لشدّة سكره.
وكانت الحجريّة والساجيّة قد اجتمعوا عند سيما وتحالفوا على اجتماع الكلمة في كبس دار الخليفة والقبض على القاهر فقال لهم سيما:
« إن كان قد صحّ عزمكم على هذا فقوموا بنا الساعة حتى نمضيه. » فقالوا:
« بل نؤخّره إلى غد فهو يوم الموكب ويظهر لنا فنقبض عليه. » فقال لهم سيما:
« إن تفرّقتم الساعة وأخّرتموه إلى ساعة أخرى اتّصل الخبر به فتحرّز ودبّر علينا فأهلكنا كلّنا. » فقبلوا رأيه وركبوا معه إلى دار السلطان بالسلاح فرتّب سيما على كلّ باب من أبوابها غلاما من الساجيّة وغلاما من الحجرية ومعهما قطعة وافرة منهما فلمّا أحكم أمر الأبواب كلّها وقف على باب العامّة وأمر بالهجوم فهجموا كلّهم من جميع الأبواب في وقت واحد، وبلغ سلامة والخصيبي وهما مجتمعان في دار الخصيبي فخرج الخصيبي في زيّ امرأة واستتر وانحدر سلامة إلى مشرعة الساج واستتر.
ولمّا دخل الساجيّة والحجريّة الدار لم يدخلها سيما وأقام بمكانه من باب العامّة إلى أن قبض على القاهر فلما قبض عليه دخل.
ولمّا علم القاهر بحصول الغلمان في الدار انتبه من سكره وأفاق وهرب إلى سطح حمّام في دور الحرم فاستتر فيه ولمّا دخل الغلمان إلى المجلس الذي كان فيه ولم يجدوه وأخذوا من كان بالقرب [ منه ] مثل زيرك الخادم وعيسى المتطبّب واختيار القهرمانة فوكّلوا بهم ووقع في أيديهم خادم صغير فضربوه بالطبرزينات حتى دلّهم على موضعه فدخلوا فوجدوه على سطح الحمّام على رأسه منديل ديبقي وفي يده سيف مجرّد واجتهدوا به على سبيل الرفق أن ينزل إليهم وقالوا:
« نحن عبيدك وما نريد بك سوءا وإنّما نتوثق لأنفسنا. » فأقام على الامتناع من النزول إلى أن فوّق إليه واحد منهم بسهم وقال:
« إن لم تنزل وضعته في نحرك. » فنزل حينئذ وقبضوا عليه - وكان ذلك ضحوة نهار يوم الأربعاء لستّ خلون من جمادى الآخرة سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة - وصاروا به إلى موضع الحبوس وقصدوا البيت الذي فيه طريف السبكرى ففتحوه ووجدوا فيه طريفا فكسروا قيده وأطلقوه وأدخلوا القاهر إلى موضعه وحبسوه فيه ووكّلوا بالباب جماعة من الساجيّة والحجريّة ووقع النهب ببغداد وانقضت خلافة القاهر بالله.
خلافة الراضي بالله أبي العباس محمد بن المقتدر
في سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة
واستدلّ الغلمان الساجيّة والحجريّة حين اقبضوا على القاهر على الموضع الذي فيه أبو العبّاس ابن المقتدر فدلّهم عليه خليفة لزيرك الخادم. ففتحوا عنه الباب ودخلوا عليه وسلّموا عليه بالخلافة وأخرجوه وأجلسوه على السرير وبايع له قوّاد الساجيّة والحجريّة وطريف السبكرى وبدر الخرشنى ولقّب: الراضي بالله.
وتقدّم بإحضار عليّ بن عيسى وأخيه عبد الرحمن وأحضرا، فوصلا إليه وشاورهما واعتمد عليهما فيما يعمل. فعرّفه عليّ بن عيسى أنّ سبيله أن يعقد لواء لنفسه على الرسم في ذلك فاستحضر اللواء وعقده بيده، ثم أمر بالاحتفاظ به وأشار عليه بتسلّم الخلافة، فسلّمها من كان في يده وهو خاتم فضّة فصّه من حديد صينى وعليه كتابة ثلاثة أسطر:
« محمّد رسول الله. » وأشار عليه بتسلّم خاتم الخلافة من القاهر بالله. فوجّه إليه الراضي، ثم فتح عنه الباب وطالبه بخاتمه فسلّمه وكان فصّه ياقوتا أحمر وعليه منقوش:
« بالله محمّد الإمام القاهر بالله أمير المؤمنين يثق. » وصار به إلى الراضي فأمر أن يسلّم إلى حاذق من حذّاق الخزانة ليمحو ذلك النقش منه، ففعل ذلك ونقش له خاتم آخر عليه:
« الراضي بالله » وتقدّم عليّ بن عيسى بأن يحضر القاضي أبو الحسين عمر بن محمّد، والقاضي أبو محمّد ابن أبي الشوارب، والقاضي أبو طالب البهلول، وجماعة من الشهود وممّن يقرّب من دار السلطان فحضروا. فحكى القاضي أبو الحسن محمّد بن صالح الهاشمي ابن أمّ شيبان أنّه لمّا استدعى القاضي أبو الحسين عند القبض على القاهر بالله وجم جميع أطرافه وأخذ معه خمسين دينارا في حجزة سراويله استظهارا واستخلفه في داره ومضى وانصرف بعد أن مضى أكثر الليل إلى منزله قال: فقال لي:
« أنا أعرف ضيق صدرك وتطلّعك إلى معرفة حديثنا فاسمعه: اعلم أنّى مضيت فأدخلت إلى حجرة فيها القاهر بالله ومعي ثلاثة من الشهود وطريف السبكرى. فقال له طريف: تقول يا سيّدي. » وكرّر ذلك دفعات. فقال له:
« اصبر. » ثم التفت إليّ فقال:
« ألست تعرفني؟ » فقلت: « بلى. » فقال: « أنا أبو منصور محمّد بن المعتضد بالله رحمة الله عليه ثم القاهر بالله بيعتي في عنقك وأعناق أهلى وسائر الأولياء ولست أبرّئكم منها ولا أحلّكم بوجه ولا سبب، فانهضوا. » فقمنا فلمّا بعدنا عذلت طريفا ولمته ملاما كثيرا وقلت:
« أيّ رأى كان إحضارنا إلى رجل لم يوطّأ ولم يؤخذ خطّه ويشهد عليه الكتّاب والجند؟ كان ينبغي أن تقدّم ذلك ثم تحضرنا له. » وعدل بنا إلى عليّ بن عيسى فسألنا عمّا جرى فحدّثناه به فقطّب وجهه ثم قال:
« يخلع ولا يفكّر فيه فإنّ أفعاله مشهورة وأعماله معروفة وما يستحقّه غير خاف. » فقلت له:
« بنا لا تعقد الدول وإنّما يتمّ بأصحاب السيوف ونصلح نحن ونراد لشهادة واستيثاق وقد سمعت من الرجل ما حدّثتك به ولم يكن الرأي أن يجمع بيننا وبينه إلّا بعد إحكام أمره. » فتغاضب وحضر وقت الصلاة فقمنا.
فقال القاضي أبو الحسن محمّد بن صالح:
فسمعت ذلك منه وبكّرنا إلى دار السلطان فقيل له: إنّ القاهر سمل البارحة. فلمّا حضر أبو عليّ ابن مقلة استدعينا وكنت مع القاضي أبي الحسين وثلاثة من الشهود واجتمعنا بحضرة الراضي بالله فأومأ إلى مفلح الأسود فأحضر ثلاثة من إخوته فأجلسهم عن يمينه وأخرج أبو عليّ ابن مقلة قرطاسا من كمّه ونشره فاستحلفهم على البيعة ثم أومأ الراضي إلى مفلح إيماء ثانيا فأحضر اثنان آخران من إخوته فأجلسهما عن شماله وأخذت البيعة عليهما ثم أعطى أبو عليّ القرطاس القاضي أبا الحسين فأخذ عليه البيعة وكتبنا خطوطنا في ذلك القرطاس على من بايع وانصرفنا.
وكان سيما أشار بسمل القاهر تلك الليلة فستر الراضي ذلك عن عليّ بن عيسى واستحضرا بختيشوع بن يحيى المتطبّب وسأله عمّن يحسن أن يسمل فذكر له رجلا فأحضره وسمل القاهر.
وما زال عليّ بن عيسى يوم الأربعاء إلى الليل يأخذ البيعة للراضى بالله على القضاة والقوّاد وكتّاب الدواوين والغلمان وطالبه الراضي أن يتقلّد الوزارة فامتنع وذكر أنّه لا يفي بالأمر، فأشار سيما بأبي علي بن مقلة. قال:
« هو يضمن أن يقوم بسائر الأمور. » فقال عليّ بن عيسى:
« قد أشرت به على أمير المؤمنين وما يصلح للوقت غيره. » وكان عليّ بن عيسى يسأل في الفضل بن جعفر فأطلق بمسألته ووقّع الراضي إلى أبي عليّ ابن مقلة فبكّر يوم الخمسين لسبع خلون من جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة وحضر عليّ بن عيسى وأخوه عبد الرحمن ووقفا بين يديه يستحلفان من يحضر ويأخذان البيعة عليه وتأخّر الفضل بن جعفر والحسن بن هارون وخلع على أبي عليّ ابن مقلة خلع الوزارة وركب معه سيما وطريف السبكرى وسائر القوّاد والغلمان والخدم الخاصّة وظهر الحسن بن هارون وأبو بكر ابن قرابة وصاروا إلى أبي عليّ ابن مقلة ثم انصرفوا إلى منازلهم.
واستأنف أبو عليّ ابن مقلة سيرة حسنة وقال: « قد عاهدت الله في استتاري ألّا أسىء إلى أحد ونذرت نذورا. »
فوفى وأطلق كلّ من كان في حبس القاهر من كاتب وجنديّ وأطلق عيسى المتطبّب وإسحاق بن عليّ القنّائى وكان الراضي أنفذهم إليه. ثم تعقّب الرأي في عيسى المتطبّب فصادره. وكان القاهر قد اعترف بوديعة أودعها إيّاه من العين والورق والطيب، فاستخرج كلّه منه. وسأل في أمر أبي العبّاس الخصيبي فكتب له أمان وقّع الراضي فيه بخطّه وتسلّمه الوزير أبو عليّ وأنفذه في درج رقعة منه بخطّه إلى الخصيبي وخاطبه أجمل مخاطبة وظهر الخصيبي فقلّده دواوين الضياع الخاصّة والمستحدثة والعبّاسيّة والفراتيّة والمقبوضة عن أمّ موسى ونذير وشفيع اللؤللؤى وضياع المخالفين وضياع البرّ وضياع الجدّة والدة المقتدر وديوانى زمام المشرق والمغرب وأجرى عليه لنفسه سوى أرزاق كتّابه في هذه الدواوين ألف دينار في كلّ شهر وقلّد الراضي بدرا الخرشنى الشرطة بمدينة السلام.
ولمّا تقلّد الراضي الخلافة وردت كتب أبي جعفر الكرخي وأبي يوسف كاتب السيّدة بتخلصهما من الأهواز إلى نواحي دور الراسبي هاربين من محمّد بن رائق وكان بنو البريدي يستترون في أنهار الأهواز نهر بعد نهر.
ووصل الخبر إلى ابن رائق وهو بالباسيان: أنّ القاهر خلع من الخلافة وتقلّدها الراضي بالله وأنّه قد ندب للحجبة. فرجع منكفئا إلى واسط ولم يدخل البصرة ورجع الكرخي إلى البصرة ثم عاد إلى غيلة بالأهواز فنظر وعمل إلى أن ضمّن ابن مقلة بنى البريدي أعمال الأهواز.
ذكر ابتداء أمر أبي الحسن علي بن بويه الديلمي
كنّا كتبنا فيما تقدّم أنّ أبا الحسن عليّ بن بويه لحق بمرداويج وهو في حدود طبرستان فقوّده وضمّ رجالا إليه فلمّا أنفذه إلى الريّ - وكان أخوه وشمكير بها - اتفق أنّ عامل الكرج طمع في مالها فأنفذ عليّ بن بويه ليتلافى أمر الكرج ومعه دون مائة رجل من أصحابه فأقام بها وتلفّق إليه من الأطراف ديلم فصار في نحو ثلاثمائة رجل فأنكر مرداويج أمره وكاتبه بالانصراف فتأخّر، وروسل فتعلّل، وكان قد استخرج من مال الكرج نحو خمسمائة ألف وفوقها في مدّة يسيرة واستوحش مرداويج وهدّده ففزع وأخذ مرداويج ووشمكير في تدبير القبض عليه.
وكان عليّ بن بويه قد استخلف بحضرة وشمكير وهو بالريّ عند خروجه أحمد حاجبه - وهو والد أبي إسحاق الطبري الشاهد - في هذا الوقت، فكتب إليه أحمد بما فيه مرداويج ووشمكير من الخوض في سيّئه. وكان مرداويج قد صار إلى عند أخيه بالريّ بهذا السبب ولتسريب الجيوش إليه فخرج من الكرج إلى إصبهان خائفا ليستأمن إلى المظفّر بن ياقوت وكان عند المظفّر بن ياقوت في الوقت سبعمائة رجل من الديلم ووجههم فناخسره والد الحسن الديلمي الذي كان ببغداد ونظر في الشرطة بها. فلمّا قرب من إصبهان خرج إليه المظفّر ليمنعه ومعه نحو أربعة آلاف رجل فتخاذل أصحابه ووقع بين أصحابه من الديلم خلاف. لأنّ فناخسره كان له عدوّ من الديلم يضادّه فتقاعد المولّدون أيضا وافترقت كلمتهم وانهزم المظفّر بن ياقوت إلى فارس وبها أبوه ياقوت واستأمن إلى عليّ بن بويه نحو من أربعمائة رجل من الديلم فصارت عدّته سبعمائة رجل وملك إصبهان وهو في ثلاثمائة رجل.
وبلغ الخبر مرداويج فسيّر أخاه وشمكير لطلبه في الوقت فلمّا قرب إصبهان رحل عنها عليّ بن بويه وصار إلى أرجان وكان قد تهيّبها لحصوله بين ياقوت وهو بفارس وبين ابنه محمّد وهو برامهرمز فصوّر عنده بالمهانة واضطراب الرأي والرجال. فدخل أرجان واستوطنها وكاتب ياقوت واستخرج من مال أرجان خراجا نحو ألفي ألف درهم ووصل مع ذلك إلى ودائع ونظّم أمره للمسير إلى كرمان وبها ما كان بن كاكى الديلمي ليستأمن إليه فلم يجبه ياقوت عن كتابه ولم يقبله فكاتبه عليّ بن بويه وخاطبه بالإمارة والتعبّد وعرّفه أنّه يسأله أحد الأمرين: إمّا أن يقبله، أو يأذن له في المصير إلى باب السلطان. فلمّا لم يقبله ياقوت وسار إليه مع ابنه المظفّر ليحاربه سار عليّ بن بويه إلى النوبندجان وقدّر أن تكون الحرب بها وقدّم كتبه إليه وطلب منه الأمان واستعفاه من الحرب فحذّره ياقوت وخشي أن يغتاله وكان قيل له: إنّ عليّ بن بويه يريد الحيلة عليه ليحصل بفارس ويخدعه عنها.
وكان عليّ بن بويه قد حصل أيّام مقامه بكازرون وبلد سابور - وذلك عند خروجه من أرجان - نحو خمسمائة ألف دينار مع كنوز كثيرة وجدها فقويت شوكته وزاد رجاله. فلمّا صار إلى النوبندجان قام بأمره أبو طالب زيد بن عليّ وتكفّل بنفقاته فلزمه عليه في كلّ يوم خمسمائة دينار وأقام عنده مدّة. فلمّا خرج إليه ياقوت تهيّبه هيبة شديدة وذلك أنّ جيش ياقوت كانوا سبعة عشر ألف رجل من جميع الأصناف ساجيّة وحجريّة والرجّالة المصافية وغيرهم من الديلم وأصناف العسكر وعليّ بن بويه في ثمانمائة رجل، فسأله أن يفرج له عن الطريق لينصرف عنه ويجتاز إلى حيث يجتاز.
فمنعه ياقوت وطمع فيه لقلّة عدده ولوفور ما وصل إليه من المال.
فلم يثبت له عليّ بن بويه وسار إلى البيضاء فمنعه ياقوت وواقعه على باب إصطخر يومين فكانت لياقوت فاشتدّ طمع ياقوت فيه وزاد تهيّب عليّ بن بويه وحقّق عليه المسألة في الإفراج له لينصرف عنه فامتنع عليه فلمّا كان يوم الخميس لاثنى وعشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة واقعه مستقتلا.
فحدّثني من شهد الوقعة من الديلم أنّه ترجّل ستّة نفر من الديلم وصفّوا تراسهم وتقدّموا زحفا واستأخر من واجههم من أصحاب ياقوت فاشتملوا وتقدّموا وحمل أبو الحسين أحمد بن بويه في نحو ثلاثين رجلا فانهزم ياقوت وجميع من معه وذلك وقت الظهر من ذلك اليوم وانصرف إلى شيراز.
فقدّر عليّ بن بويه أنّ انصرافه مكيدة منه لا هزيمة فتوقّف في موضعه ولم يتبعه إلى وقت العصر، فلمّا صحّ عنده أنّها هزيمة سار إلى شيراز فنزل أوّل منزل قرية يقال لها: الزرقان على ستّة فراسخ من شيراز وبكّر منها يوم السبت فنزل قرية يقال لها: الدينكان، وعنده أنّ سيحارب عن البلد ويدفع عنه لأنّ الجيش الذي انهزم عنه كانوا قد انصرفوا عنه موفورين لم يحاربوه ولا وقفوا بين يديه، فنزل على فرسخ من شيراز في مضاربه، وبلغه أنّ ياقوتا وعليّ بن خلف بن طناب قد خرجا عن شيراز والبلد شاغر خال.
-
فوجّه بجماعة من الديلم وأخلاط من الجند إلى شيراز للمقام بها وضبطها فبادر إليهم العامّة بشيراز مع جماعة من الرجّالة السودان ومماليك للتنّاء.
وكان الديلم قد تفرقوا في الأسواق فقتلوا منهم نحو سبعين رجلا. فبلغ عليّ بن بويه ذلك ووجّه بأخيه أبي الحسين أحمد وكان إذ ذاك تسع عشرة سنة وهو أمرد وهو حينئذ صحيح اليدين وأنفذ معه ثمانين رجلا من الديلم فقتل من السودان نحو ألف رجل ونادى في البلد ألّا يقيم فيه أحد من أصحاب ياقوت ولا من الجند وأنّ من وجد بعد النداء فقد أباح دمه وماله.
فلم يبق في البلد أحد منهم.
اتفاقات عجيبة مساعدة لعلي بن بويه بعد دخوله شيراز وانفتاح وجوه الذخائر والودائع له
ودخل عليّ بن بويه شيراز واتفقت له بها ضروب من الاتفاقات عجيبة كانت سببا لثبات ملكه. فمنها أنّ أصحابه اجتمعوا وطالبوه بالمال ونظر فإذا القدر الذي معه لا يرضيهم وأشرف أمره على الانحلال فاشتغل قلبه واغتمّ غمّا شديدا فبينا هو مفكّر قد استلقى على ظهره في مجلس ياقوت من داره وقد خلا فيه للفكرة والتدبير، إذ رأى حيّة قد خرجت من موضع من سقف ذلك المجلس ودخلت موضعا آخر منه وخاف أن تسقط عليه وهو نائم فدعا بالفرّاشين وأمرهم بإحضار سلّم وإخراج تلك الحيّة ففعلوا. ولمّا صعدوا وبحثوا عنها، وجدوا ذلك السقف يفضى إلى غرفة بين سقفين، فعرّفوه ذلك، فأمرهم بفتحها ففتحت ووجد فيها عدّة صناديق من المال والصياغات خمسمائة ألف. فاستوى جالسا وحمل إلى بين يديه ذلك المال فسرّ به وأنفقه في رجاله وثبت أمره بعد أن أشفى على الانحلال.
وحكى أبو أحمد الفضل بن عبد الرحمن الشيرازي أنّ عليّ بن بويه أراد قطع ثياب وسأل عن خيّاط حاذق فوصف له خيّاط لياقوت فأمر بإحضاره وكان أطروشا ووقع له أنّه قد سعى به إليه في وديعة كانت لياقوت وأنّه طلبه بهذا السبب. فلمّا خاطبه حلف أنّه ليس عنده إلّا اثنا عشر صندوقا لا يدرى ما فيها. فعجب عليّ بن بويه من جوابه ووجّه معه بمن حملها. فوجد فيها أمرا عظيما من المال والثياب.
والذي كان يكتب لعليّ بن بويه في ذلك الوقت رجل نصراني من أهل الريّ يعرف بأبي سعد إسرائيل بن موسى ثم قتله بعد مدّة بسبب سنفرد له خبرا، واستكتب مكانه أبا العبّاس أحمد بن محمّد القمّى المعروف بالحنّاط.
وسفر الأمير أبو الحسن عليّ بن بويه بعد تمكّنه من البلد في أن يقاطع السلطان عنه ويتقلّده من قبل الراضي، فأجيب إلى ذلك وقنع منه بما بذل وهو في كلّ سنة بعد جميع المؤن والنفقات الراتبة والحادثة ثمانية آلاف ألف درهم خالصة للحمل.
وكتب إلى الوزير أبي عليّ ابن مقلة يحلف له بأغلظ الأيمان على موالاة الوزير أبي عليّ ابن مقلة وابنه الحسين ومعاضدتهما وما يقال في هذا المعنى وأكّده. فأنفذ إليه الوزير أبو عليّ بالخلع واللواء في شوّال سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة ورسم للرسول وهو أبو عيسى يحيى بن إبراهيم المالكي الكاتب ألّا يسلّم اللواء والخلع إلّا بعد أن يتسلّم المال ووقف عليه. فلمّا قرب المالكي من البلد تلقّاه عليّ بن بويه على بعد وسار معه إلى ظاهر شيراز وطالبه بأن يسلّم إليه اللواء والخلع فعرّفه ما رسم له وأنّه لا يمكنه من ذلك إلّا بعد تسلّم المال الذي ووقف عليه فخاشنه عليّ بن بويه وأرهبه حتى سلّم إليه الخلع ولبسها ودخل بها إلى شيراز وبين يديه اللواء.
وأقام المالكي مدّة يطالب بالمال فلم يدفع إليه شيئا بتّة وحصل على المواعيد والمطل والتوقّف ثم اعتلّ المالكي ومات بشيراز وحمل تابوته إلى بغداد في سنة ثلاث وعشرين.
وانفتح لعليّ بن بويه وجوه الذخائر والودائع ووزير [ ه ] أبو سعد النصراني فضمن له بقايا مال السنة أبو الفضل العبّاس بن فسانجس وابن مرداس وأبو طالب زيد بن عليّ وغيرهم من وجوه البلد بأربعة آلاف ألف درهم، واستخرجت له الذخائر وانفتحت له كنوز وودائع عمرو بن الليث ويعقوب بن الليث وياقوت وابنه وعليّ بن خلف ورجال السلطان وكثرت أموال عليّ بن بويه وعمرت خزائنه واستأمن إليه رجال ما كان بن كاكى من كرمان وكثر جمعه واستفحل أمره وانتهى خبره إلى مرداويج فقامت قيامته ووافى إصبهان وبها وشمكير أخوه لأنّه لمّا خلع القاهر من الخلافة وتأخّر محمّد بن ياقوت عنها وبقيت سبعة عشر يوما خالية أعاد مرداويج أخاه إليها. فلمّا استقرّ بها وورد مرداويج لتدبير عليّ بن بويه عند استعصائه عليه ردّ أخاه وشمكير إلى الريّ لخلافته عليها.
وأنفذ شيرج بن ليلى اسفهسلّاره مع حاجبه الشابشتى ومعهما ألفان وأربعمائة رجل من الجيل والديلم ووجوه القوّاد مثل بكران وإسماعيل الجبلي إلى الأهواز، وكان غرضه أن يملكها فيأخذ الطريق على عليّ بن بويه ويحجز بينه وبين السلطان حتى إذا قصده بعد ملكه الأهواز لم يكن له منفذ إلّا إلى تخوم كرمان والتيز ومكران وأرض خراسان.
ولمّا نزلت عساكر الجيل ايذج خاف ياقوت أن يحصل بينهم وبين عليّ بن بويه، فوافى الأهواز ومعه ابنه وقلّده السلطان أعمال الحرب والمعاون بها وارتسم أبو عبد الله أحمد بن محمّد البريدي بكتابة ياقوت مضافة إلى ما إليه من أعمال الخراج والضياع بالأهواز وصار أخوه أبو الحسين يخلف أخاه وياقوتا بالحضرة. وحصل رجال مرداويج برامهرمز في غرّة شوّال من سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة وصلّوا العيد بها وخطبوا لمرداويج وساروا إلى الأهواز فعسكر ياقوت بقنطرة أربق وقطعها والماء الذي تحت هذه القنطرة حاد الجرية فأقام رجال مرداويج بإزاء ياقوت أربعين يوما لا يمكنهم العبور إليه وسار ياقوت إلى بغداد على طريق دور الراسبي وسار عليّ بن خلف بن طناب في البحر من ساحل مهروبان إلى البصرة. ورحل جيش مرداويج عن قنطرة أربق وضمن لهم طائفة من العيّارين أن يعبروا بهم نحو المسرقان بعسكر مكرم حتى يصير الطريق بينهم وبين الأهواز جددا فعدلوا إليها.
واجتمع البريدي وياقوت فتشاوروا وقرّر الرأي على إنفاذ مونس غلام ياقوت في أربعة آلاف رجل إلى عسكر مكرم لدفعهم عن عبور المسرقان وكانا حسبا أنّ القوم بعد منازلة أربعين يوما قد ضجروا وانصرفوا وأنّهم لا يلبثون بعسكر مكرم إلّا يومين أو ثلاثة فلمّا حصلوا بها عملوا أطوافا من خشب وشاشا من قصب وعبر منهم خمسون رجلا عليها فانهزم مونس لوجهه وعاد إلى مولاه فأخبره الخبر. وكان قد ورد إليه مدد من بغداد وخيل عظيمة فرحل لوقته من قنطرة أربق بعد اجتماع الجيل إليه بيومين وصاروا بأجمعهم إلى قرية الريح وهم بالحقيقة قد حصلوا من أمرهم على الريح. وصار ياقوت ومن تبعه وهم عدّة وافرة كثيرة إلى باذاورد ومنها إلى واسط فأفرج له محمّد بن رائق عن غربيها فنزله بعسكره وعرف عليّ بن بويه حصول عسكر مرداويج بالأهواز وشرح ما جرى وتملّق لكاتب مرداويج واستصلحه وأقام الخطبة وواقفه على مال وأنفذ إليه رهينة فسكن مرداويج وقلّد عليّ بن بويه أرجان بعد انصراف ياقوت وعليّ بن خلف عنها إبراهيم بن كاسك.
واستقرّت كتابة ياقوت لأبي عبد الله البريدي فورد الخبر وهو بالبصرة في بستان المؤمّا يريد المسير في طيّاره إلى واسط بقتل مرداويج في الحمّام بإصبهان فأنفذ للوقت أبا عبد الله بن جني الجرجرائي إلى الأهواز بخلافته عليها وقال له:
« اقصد ظاهر البلد بل أقم على فرسخ منه فإذا صحّ عندك خروج الجيل والديلم فادخله واثبت عند دخولك الفرسان والرجّالة فإني أنفذ من واسط أبا الفتح ابن أبي طاهر وأبا أحمد السجستاني في ألف رجل لضبط البلد وكور الأهواز. » ثم وافى أبو عليّ غلام جوذاب كاتب البريدي في طريق الماء وترتب ابن أبي طاهر بالأهواز وأبو أحمد السجستاني بعسكر مكرم. ووافى إبراهيم بن كاسك من أرجان إلى رامهرمز طمعا في الأهواز لما خلت فكاتبه عليّ بن بويه بالتوقف وألّا يبرحها حتى يمدّه بالجيش فمن قبل ورود الجيش عليه من فارس ما وافى ياقوت إلى عسكر مكرم على طريق السوس فلمّا بلغ إبراهيم بن كاسك خبره رحل من رامهرمز إلى أرجان.
وكانت مع ياقوت قطعة من الديلم والأتراك والخراسانيّة فظنّ أنّهم يثبتون وأنّه مستظهر بهم ووافاه أبو عبد الله البريدي والتقيا بعسكر مكرم وأنفق فيه وفي رجاله ثلاثمائة ألف دينار على يد ابن بلوى وابن سريج المنفقين وسيّرهم إلى أرجان ووافاه عليّ بن بويه وحاربه بها فانهزم ياقوت هزيمة ثانية لم يفلح بعدها ولا شدّ منها حزاما ولم ينفعه عدد العجم والديلم ولا عجب من أمر الله وتبعه عليّ بن بويه إلى رامهرمز وخيف على الأهواز منه فراسله أبو عبد الله البريدي في الصلح فاستجاب له وكاتب الوزير أبا عليّ ابن مقلة فيما قرره من الصلح فعرضه على الراضي بالله فأمضاه فانصرف عليّ بن بويه إلى شيراز وعقدت فارس على عليّ بن بويه بما ذكرناه ونفذ إليه أبو عيسى المالكي باللواء والعهد وكان من أمره ما قدّمت ذكره.
وقتل أبو الحسن عليّ بن بويه أبا سعد إسرائيل كاتبه
ذكر السبب في ذلك
كان السبب في ذلك أنّ أبا سعد كان مكينا عند عليّ بن بويه يتبرّك به ويكرّمه جدا وكان يقود الجيش وله غلمان أتراك ولبس القباء والسيف والمنطقة وكان قد حارب في وقت ياقوتا فهزمه. فكان أبو العبّاس الحنّاط القمّى يضرّب عليه دائما ويجتهد في إفساد رأى صاحبه فيه فلا يقبل منه وينهاه عن ذكره فلا ينتهى إلى أن قال يوما وقد أكثر عليه في الإغراء به:
« يا هذا إنّ هذا الرجل صحبني وحالي صغيرة وقد بلغت ما ترى ولست أدرى هل ما وصلت إليه بدولته أم بدولتى وليس إلى تغيير أمره طريق فإيّاك أن تعاودني فيه. » فما أغنى ذلك منه ولا انتهى عن الوقيعة فيه وثلبه.
وكان بين أبي سعد هذا وبين حاجب لعليّ بن بويه يقال له: خطلخ - وإليه مع الحجبة رئاسة الجيش - عداوة فاتفق أن دعى أبو سعد دعوة عظيمة دعا فيها عليّ بن بويه والقوّاد وأنفق فيها في الخلع والحملان ما له قدر كثير ودعا خطلخ فلم يستجب إلى المصير إليه واجتهد به فلم يكن فيه حيلة وأصبح أبو سعد من غد يوم الدعوة فأقام على أمره ودعا من يأنس به وانتبه خطلخ من نومه وهو مغتاظ يزعم أنّه لا بدّ له من أن يركب إلى أبي سعد فيقتله لأنّه رأى في نومه أبا سعيد يريد قتله فاجتهد به خواصّه في أن يؤخّر ذلك فامتنع وحمل في خفّه دشنيا وركب وقيل لأبي سعد أنّ خطلخ قد ركب على أن يجيئه فأنكر ذلك لأنّه كان دعاه فامتنع فلم يعرف لمجيئه إليه بغير استدعاء وجها، فاستعدّ ليستظهر وقال لغلمانه:
« تأهّبوا بالطبرزينات وكونوا مستترين في المجالس حوله فإن أنكر من خطلخ أمرا صاح بهم فخرجوا ووضعوا عليه. » وحضر خطلخ فتلقّاه أبو سعد وجاء حتى جلس وأخذ يتجنّى ويعربد إلى أن ضرب يده إلى خفّه وأخرج الدشنى فصاح أبو سعد بالغلمان فخرجوا بالدبابيس والطبرزينات ووضعوا على خطلخ ووقع في رأسه دبّوس فدوّخه وسقط وقدّر أنّه مات وحمل إلى منزله فعاش يومين ومات.
فبادر أبو العبّاس الحنّاط إلى الأمير في الوقت فوجده نائما فقال للغلمان:
« أنبهوه ».
فلم يجسروا، فصاح وجلب إلى أن أنبهه ودخل إليه وقال له:
« إنّ أبا سعد قتل حاجبك خطلخ. » فلم يصدّقه وانتهره فقال:
« وجّه وانظر. » فورد عليه الخبر بصدقه فاستعظم ذلك ووجم ساعة ودخل أبو سعد فلم يظهر له أنّه أنكر شيئا ولا أنّه استوحش وسأله عن السبب فيما فعله فعرّفه الصورة واستشهد من حضر فاستصوب ما فعله. وخاف أبو سعد ووجد أبو العبّاس الحنّاط فرصته وأقبل يقول:
« هو ذا يأخذ البيعة على القوّاد وهو خارج عليك لا محالة. » فوجّه الأمير إلى أبي سعد فأنسه غاية التأنيس وحلف له أيمانا مؤكّدة على ثقته به وأنّه لا يلحقه سوء من جهته. واتّفق أن أخرج أبو سعد صناديقه من البيوت إلى صحن داره ليسترها استظهارا وخلا بموسى فياذه يشاوره فمضى الحنّاط إلى الأمير عليّ بن بويه فقال له:
« قد استحلف أبو سعيد قوّادك وآخر من استحلفه موسى فياذه وها هو قد أخرج صناديقه وهو خارج الساعة. » فوجّه بالأمير بمن عرف خبره فرأى الرسول الصناديق وموسى فياذه خارجا من عنده فعاد إليه بالخبر فلم يشكّ الأمير حينئذ في صحّة قول الحنّاط فقبض عليه وعلى جميع ماله من سائر الأصناف واعتقله. وكان في الاعتقال إلى أن ورد بعض قوّاد الأتراك من بعض أعمال فارس فواطأه الحنّاط على الدخول مع أصحابه وهم خمسون رجلا مخرّقي الثياب مسودّي الوجوه يضجّون بما جرى على خطلخ من أبي سعد ويتهددون إن لم يقتل أبو سعد. ففعل القائد ذلك ودخل والأمير على شرب فأمر بقتل أبي سعد ثم وقعت الندامة عند الصحو وبعد فوت الأمر واستكتب الأمير بعده أبا العبّاس الحنّاط وبقي معه إلى أن مات الأمير عليّ بن بويه.
عود إلى ذكر الأحوال الجارية بمدينة السلام
ونعود إلى ذكر الأحوال الجارية بمدينة السلام. لمّا حصل محمّد بن ياقوت بالحضرة وحصلت له الحجبة ورئاسة الجيش أدخل يده في تدبير أعمال الخراج والضياع ونظر فيما ينظر فيه الوزراء وطالب أصحاب الدواوين بحضور مجلسه وألّا يقبلوا توقيعا بولاية ولا صرف ولا غير ذلك من سائر الأحوال إلّا بعد أن يوقّع فيه بخطّه. وتجلّد أبو عليّ واحتمل ذلك وألزم نفسه المصير إليه فإذا صار إليه دفعتين صار هو إليه دفعة واحدة فكان أبو على كالمتعطّل لا يعمل شيئا ملازما لمنزله ويجيئه أبو إسحاق القراريطي كاتب محمّد ابن ياقوت فيطالعه بما يجرى وما يعمل.
وفي هذه السنة قتل هارون بن غريب الخال.
ذكر السبب في قتله
كان سبب ذلك أنّه لمّا بلغ هارون بن غريب تقليد الراضي بالخلافة وكان مقيما بالدينور - وهي قصبة أعمال ماه الكوفة - وهو متقلّد أعمال المعاون بها وبما سبذان ومهرجانقذق وحلوان وتدبّر أعمال الخراج والضياع بها - وهي النواحي التي كانت بقيت في يد السلطان من نواحي المشرق بعد الذي غلب عليه مرداويج - رأى أنّه أحقّ بالدولة من كلّ أحد. فكاتب جميع القوّاد بالحضرة وأنّه إن صار إلى الحضرة وتقلّد رئاسة الجيش وتدبير الأمور أطلق لهم أرزاقهم على التمام ولم يؤخّر عنهم شيئا منها. وسار إلى بغداد حتى وافى خانقين فغلظ ذلك على الوزير أبي عليّ ابن مقلة وعلى محمّد ابن ياقوت وعلى الحجريّة والساجيّة والمونسيّة وخاطبوا بأجمعهم فقال الراضي:
« أنا كاره له، فامنعوه من دخول الحضرة وحاربوه إن أحوج إلى ذلك. » فلمّا كان يوم السبت لسبع خلون من جمادى الآخرة استحضر أبو بكر ابن ياقوت أبا جعفر بن شيرزاد وأوصله إلى الراضي بالله حتى حمّله رسالة إلى هارون بن غريب بأن يرجع إلى الدينور وكتب معه كتابا فنفذ من وقته ووجد هارون قد صار إلى جسر النهروان وأدّى الرسالة وأوصل الكتاب فأجاب هارون بأنّه قد انضمّ إليه من الرجال من لا يكفيهم مال عمله. وعاد أبو جعفر بالجواب وأدّاه إلى الراضي بالله بحضرة الوزير أبي عليّ والحاجب أبي بكر محمّد بن ياقوت، فبذلوا له أن يقلّدوه أعمال طريق خراسان كلّها ويكون مالها مصروفا إليه زائدا على ما يأخذه. وقال الراضي بالله:
« سبيله أن يقتصر على بعض من معه من الرجال. » فنفذ أبو جعفر ومعه أبو إسحاق القراريطي بهذا الجواب. فلمّا أدّيا إليه الرسالة امتنع وقال:
« إنّ الرجال لا يقنعون بهذه الزيادة. » ثم قال:
« ومن جعل ابن ياقوت أحقّ بالحجبة والرئاسة مني؟ الناس يعلمون أنّه كان في آخر أيّام المقتدر يجلس بين يديّ ويمتثل أمري. ومن جعله أخصّ بالخليفة مني؟ وأنا نسيب أمير المؤمنين وقريبه وابن ياقوت ابن غلام من غلمانه. » فقال القراريطي:
« لو كنت تراعى ما بينك وبينه من القرابة لما عصيته » فقال: « لو لا أنّك رسول لأوقعت بك. قم فانصرف. » ووضع هارون يده في الاستخراج، فاستخرج أموال طريق خراسان وقبض على عمّال السلطان وجبى المال بعسف وخبط وظلم وتهوّر وكان الوقت قريبا من الافتتاح. فلمّا اشتدّت شوكته شخص محمّد بن ياقوت من بغداد في سائر الجيوش بالحضرة ونزل في المضارب بنهربين بإنفاذ أبي جعفر محمّد بن شيرزاد دفعة ثانية برسالة جميلة ووعده أن يواقفه على عدّة الرجال الذين يتقرر الأمر معه على كونهم في جملته وينظر في جرائدهم وأرزاقهم لسنة خراجيّة. فإن وفي مال أعماله بماله ومالهم رجع إلى الدينور وإلّا سبّب له بالباقي على أعمال طساسيج النهروانات ونفذ إليه بهذه الرسالة يوم الاثنين.
وقد وقعت طلائع عسكر هارون على طلائع عسكر محمّد بن ياقوت وأصحاب هارون هم المستظهرون وكثر مضيّ الجند من عسكر محمّد ابن ياقوت إلى هارون بن غريب مستأمنة إليه فتبيّن أبو جعفر من هارون أنّه اتّهمه بالميل إلى محمّد بن ياقوت وابن مقلة. فلمّا رأى منه ذلك استأذنه في الانصراف بالجواب فقال:
« إني أخاف عليك منه أن يعتقلك وإنّما بيننا وبين الوقعة وانكشاف الأمر بيننا ليلة واحدة. »
تزاحف العسكرين
فلمّا كان في يوم الثلاثاء لستّ بقين من جمادى الآخرة تزاحف العسكران وكان المبدأ من أصحاب هارون واشتدّ القتال واستظهر أصحاب هارون لأنّ عددهم أضعاف عدد ابن ياقوت وانهزم أكثر أصحاب ابن ياقوت وقطعة من الغلمان الحجريّة ونهب أصحاب هارون أكثر سواد ابن ياقوت ونكّسوهم عن دوابّهم وأثخنوا فيهم الجراحات وقتلوا منهم عدّة. فركب حينئذ محمّد بن ياقوت وسار حتى عبر قنطرة نهربين ولم تزل الحرب غليظة إلى أن قارب انتصاف النهار وركب هارون بن غريب مبادرا وسار منفردا عن أصحابه على شاطئ نهربين يريد قنطرته لمّا بلغه أنّ ابن ياقوت قد عبر القنطرة وقدّر أنّه يقتله أو يأسره فتقطّر به فرسه فسقط منه في ساقيه فلحقه يمن غلامه فضربه حتى أثخنه بالطبرزينات ثم سلّ سيفه ليذبحه فقال له هارون:
« يا عبد السوء أنت تفعل هذا وتتولى بيدك قتلى أيّ شيء أذنبت به إليك؟ » فقال له:
« نعم أنا أفعل بك هذا. » وحزّ رأسه ورفعه وكبّر، فتبدّد رجال هارون ودخل بعضهم من طرق آخر إلى بغداد ونهب سواد هارون وأصحابه وأسر قوم. وسار محمّد بن ياقوت إلى موضع جثة هارون فأمر بحملها إلى مضربه فحملت وأمر بتكفينه ودفنه وأنفذ بمن يحفظ دار هارون من النهب ودخل بغداد وبين يديه رأس هارون وعدّة من قوّاده. فأمر الراضي بنصب الرؤوس على باب العامّة وخلع على ابن ياقوت وطوّق وسوّر.
ودخلت سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة
تقليد الراضي ابنيه المشرق والمغرب
وفيها قلّد الراضي ابنيه الأمير أبا جعفر وأبا الفضل المشرق والمغرب واستكتب لهما أبا الحسين عليّ بن أبي عليّ ابن مقلة وخلع على أبي الحسين لذلك يوم الاثنين لخمس خلون من .
-
المحرّم واستخلف أبو الحسين على كتابتهما أبا الحسن سعيد بن عمرو بن سنجلا وكتبت به الكتب. قتل مرداويج في الحمام بإصبهان
وفيها ورد الخبر بغداد بأنّ غلمان مرداويج بن زيار الجبلي قتلوه في الحمّام بإصبهان فتبجّح محمّد بن ياقوت وزعم أنّ التدبير في ذلك كان له وأنّه كاتب غلاما كان له واستأمن إلى مرداويج بضعة عشر كتابا مع فيوج ذكرهم وسمّاهم من حيث لا يعلم أحد وأظهر كتبا من الغلام إليه في هذا المعنى وأنشأ كتبا قرئ بعضها في المسجد الجامع بهذا الخبر والشرح وكتب إلى أصحاب الأطراف وأعلمهم أنّ التدبير كان له وكلّ ذلك كذب فإنّا سمعنا من شرح الصورة ما اقتضاه الأمر من أوّله إلى آخره ما نعلم أنّه لم يكن من تدبير بشريّ.
ذكر السبب في قتل مرداويج وذكر ليلة الوقود المعروفة بالسذق
قال الأستاذ أبو عليّ أحمد بن محمّد مسكويه أدام الله نعمته: حدّثني الأستاذ الرئيس حقّا أبو الفضل ابن العميد رحمه الله أنّه لمّا حضرت ليلة الوقود التي تعرف بالسّذق كان تقدّم مرداويج قبل ذلك بمدّة طويلة أن تجمع له الأحطاب من الجبال والنواحي البعيدة وأن ينقل له في الوادي المعروف روذ وما قرب من الغياض والمحتطب. فكان يجمع ذلك من كلّ وجه وأمر بجمع النفط والنفّاطين والزرّاقات ومن يحسن معالجتها واللعب بها وتقدّم بإعداد الشموع العظام المجلّسة ولم يبق جبل مشرف على جرين إصبهان ولا تلّ ظاهر إلّا عبّئت عليه الأحطاب والشوك وعمل على مسافة بعيدة من مجلسه بحيث لا يمكن أن يتأذّى بالوقود كهيئة قصور عظيمة من الأجذاع وضبّبت بالحديد الكثير حتى تماسكت وحشيت بالشوك والقصب وصيدت له الغربان والحدأ وعلّق بمناقرها وأرجلها الجوز المحشوّ مشاقة ونفطا وعمل بمجلسه الخاصّ تماثيل من الشمع وأساطين عظام منه لم ير مثلها ليكون الوقود في ساعة واحدة على الجبال ورؤوس اليفاعات وفي الصحراء وفي المجلس على الطيور التي تطلق. ثم عمل له سماط عظيم في الصحراء التي يبرز إليها من داره وجمع فيه من الحيوانات والبقر والغنم ألوف كثيرة وزيّن واحتشد له بما لم تجر العادة بمثله فلمّا فرغ من جميع ذلك وضربت مضاربه قريبا من السماط وحضر الوقت الذي ينبغي أن يجلس فيه مع القوم للطعام ثم للشرب خرج من منزله وطاف على سماطه وعلى الآلات التي ذكرتها للوقود فاستحقرها كلّها واستصغر شأنها وذلك لأجل سعة الصحراء ولأنّ البصر إذا امتدّ في فضاء واسع ثم انقلب عنه إلى هذه الأشياء المصنوعة استحقرها وإن كانت عظيمة.
فاغتاظ وتداخله من النخوة والجبريّة ما سكت معه ولم يتكلّم بحرف ودخل إلى خركاه في خيمة عظيمة واضطجع ثم حوّل وجهه إلى خلاف الباب والتفّ بكسائه لئلّا يكلّمه أحد. واجتمع الأمراء والكبار والقوّاد وسائر الجند والنظّارة ولم يجسر على خطابه أحد ولا على تحريكه وأبطأ على الناس خروجه حتى فات الوقت.
وأخذ الناس في الإرجاف به فتحدّثوا سرّا وهمسا وخيفت الفتنة. فحينئذ مشى العميد حول الخركاه ودمدم بكلامه المقتضى للجواب فلم يتكلّم بحرف ولم يزل يدارى في الكلام ويدعو له إلى أن اضطرّه إلى الجلوس ثم دخل إليه فقال:
« أيّها الأمير ما هذا الكسل في وقت النشاط وحضور الأولياء وفرح الصديق وانخزال العدوّ؟ » فقال: « يا أبا عبد الله وأيّ نشاط يحضرني مع الاستخفاف والاستهانة وقصور الأمر؟ والله لقد افتضحت فضيحة لا يغسلها عني شيء أبدا. » قال [ العميد ]: ودهشت ساعة ثم قلت:
« أيّها الأمير وما ذلك؟ » فقال: « أما ترى نزارة ما أمرت به من الاستكثار منه وقلّته ووتاحته من الطعام والسماط ثم من جميع آلات الوقود والأشياء المتصلة بها. » فقلت: « والله أيّها الأمير لقد عمل من هذه الأشياء ما لم يسمع بمثله فضلا عن أن يرى، فقم إلى مجلس أنسك وعاود النظر. »
فأبى ولجّ إلى أن قلت:
« فإنّ الأعداء يرجفون بكيت وكيت، فاتقّ الله اركب وطف طوفة لتزول الأراجيف ثم اعمل ما بدا لك فإنّا سنعتذر عنك. » فزاده ما حكيته له من أراجيف الناس به غيظا وحنقا. ثم قام فركب كارها متحاملا وطاف مغضبا مغتاظا بقدر ما رآه الناس وانصرف إلى موضعه ولزم حالته الأولى وجمع الناس الذين دعوا على خبط فأبى أكثرهم وانصرف من كان حاضرا وقالوا:
« لا نأنس إلّا يأنس الأمير. » وبقي في معسكره ثلاثا لا يظهر ولا يرى إلّا أنّه يعلم أنّه حاصل في قصر أبي عليّ ابن رستم، فلمّا كان اليوم الثالث تقدّم بإسراج الدوابّ ليعود من جرين إلى داره وهي التي كانت لأبي عليّ ابن رستم بالمدينة ولها باب إلى الصحراء وباب إلى المدينة. فأسرج الغلمان واجتمعوا بالباب وذلك بعد الظهر فنعس نعسة
-
ونام فأبطأ ودخل وقت العصر واتفق أن شغبت دوابّ الغلمان وارتفعت أصواتها وأصوات من يزجرها ولم يمكن أن يفرّق بينها لازدحامها بالباب ولأنّ أكثرها بأيدي غلمان الغلمان. ينتظرون ركوب الأمير فركب الغلمان بركوبه. فانتبه مرداويج مذعورا لما كان في نفسه من إقدام الناس عليه بالأراجيف وسأل من يليه عن السبب فلم يعرفوا صورة الأمر. فقام بنفسه واطّلع على الدوابّ والشاكريّة وإذا هم بأسرهم يصيحون لزجر الدوابّ والدوابّ قد سقط بعضها على بعض ولها أصوات هائلة منكرة فارتاع ساعة حتى عرف حقيقة الأمر. ثم سكن فسأل عن أصحاب الدوابّ فقيل: هم الغلمان الأتراك. فأمر أن تحطّ السروج عن ظهور الدوابّ وتجعل على ظهور الغلمان مع جميع آلتها ويدفع الدوابّ بأرسانها إليهم ليقودوها بأنفسهم إلى الاصطبلات. ففعلوا ذلك وكانت صورة قبيحة يتطيّر من مثلها ويتشاءم بها.
ثم ركب هو بنفسه مع خاصّته وهو يتوعّد الغلمان حتى صار إلى منزله قرب العشاء وكانت طشّة من مطرة بلّته. فلمّا دخل داره كانت كالخالية ليس فيها إلّا صبيان أصاغر وخادم أسود كان أستاذ أولئك الغلمان. فدخل الحمّام يغيّر ثيابه وقد كان قبل ذلك بطش بغلمان أتراك كبار فحقدوه ولكن لم يكونوا يجدون أعوانا. فلمّا فعل بالجماعة ما فعل اغتنموا الصورة وانتهزوا الفرصة وقال بعضهم لبعض:
« ما وجه صبرنا على هذا الشيطان؟ » فاتفقوا على الفتك به. ولمّا دخل الحمّام سألوا الغلام الذي يلي خدمته في الحمّام ألّا يحمل معه سلاحه - وكان رسمه أن يدخل معه إلى الحمّام دشنيّا ملفوفا في منديل - فقال الغلام:
« لا أجسر أن أتقدّم بين يديه وليس معي الدشنيّ. فاتفقوا على أن يكسروا حديدته ويتركوا النصاب في الجفن ثم يلفّ في المنديل حتى لا ينكر الصورة ويتركه في زاوية الحمّام على الرسم. ثم هجم عليه جماعة والخادم الأسود جالس على كرسيّ بباب الحمّام. فلمّا رآهم ثار في وجوههم وصاح بهم فضربه بعضهم بسيفه فاتقاه بيده فطاحت من الذراع وسقط، وهجم القوم وارتفعت الضجّة فأحسّ مرداويج بالشرّ فبادر فسند الباب من داخل بسرير - وكان يجلس عليه - بعد أن طلب الدشنيّ فلم يجده ودفع الغلمان الباب فتعذّر عليهم فصعد نفر منهم إلى قبّة الحمّام فكسر الجامات ورموه بالنشّاب فدخل البيت الحار وأخذ في مداراتهم وضمن لهم كل جميل فكأنّهم تهيّبوه ساعة ثم علموا أنّ الغاية التي بلغوها منه ليس يجوز أن يكون بعدها صلح. فحمل بعضهم على ناحية الباب الذي وراءه السرير حتى كسروه ودخلوا عليه، فشقّ بعضهم جوفه بسكين معه وضرب هو وجه بعضهم بكرنيب فضّة في يده فأثّر فيه أثرا قبيحا وخرجوا من عنده وعندهم أنّه قد فرغوا منه. فقال لهم رفقاؤهم الذين كانوا خارج الحمّام:
« ما صنعتم؟ » قالوا: « شققنا جوفه. » فقال أحدهم:
« عودوا إليه فحزّوا رأسه. » وإنّما فعلوا ذلك لأنّه كان اتّفق في تلك الأيّام أنّ بعض الفرّاشين في الدار شقّ بطنه بجراحة فخيط الجرح وعولج فسلم فخافوا أن يجرى ذلك المجرى فحزّوا رأسه.
وقيل: إنّه لمّا عاودوه قد جمع حشوة بطنه وردّها وقبض عليها بشماله وقاتل بكرنيبه ساعة حتى فرغ منه. فلمّا طرحوا رأسه في الدار بادروا إلى الإصطبلات فأسرجوا الدوابّ وأوكفوا البغال واحتملوا من الخزائن ما أمكنهم من المال والسلاح ورحلوا.
وفي خلال ذلك تهيّأ لبعض من في الدار تسوّر الحيطان، فدخلوا المدينة وقد جنّهم الليل، فخبّروا الجند والقوّاد بما جرى وهم سكارى متفرقون واجتمع بعضهم وأوقدوا النيران وضربوا بالبوقات وأسرجوا الدوابّ وأخذوا السلاح وساروا إلى الصحراء لينقلبوا إلى الباب الذي منه المدخل فإلى أن يفعلوا ذلك فاتهم الغلمان ولم يجدوا غير غليمة أصاغر لا ذنب لهم فقتلوا منهم عدّة ثم كفّوا عنهم. وخشي أهل الرأي من حشمه أن تنتهب الخزائن.
فأشار العميد بإحراقها وهدم البنيان عليها فسلم المال وأكثر الذخائر لأنّ المتهمين حضروا والنار والدخان ثائره في الموضع فلم يصلوا إلى شيء.
هروب ركن الدولة
وكان ركن الدولة أبو عليّ الحسن بن بويه رهينة عند مرداويج من جهة أخيه عليّ بن بويه عماد الدولة. فلمّا أحسّ بالصورة دارى الموكلين به وضمن لهم ضمانات كثيرة فساعدوه حتى هرب بعد ليلة من قتل مرداويج.
اتفاق عجيب اتفق له في هربه
لمّا خرج بقيوده إلى الصحراء وجلس ليكسرها أقبلت بغال عليها تبن وعليها أصحابه فنكسهم وركب هو ومن معه البغال وحثّها حتى سلم وفات الطلب.
افتراق الأتراك فرقتين
فأمّا الأتراك فافترقوا فرقتين: أمّا فرقة فسلكوا نحو فارس مستأمنين إلى عليّ بن بويه وفيهم خجخج الذي سملة توزون لمّا ملك العراق. وأمّا فرقة فسلكت الجبل وهي الأكثر عددا وفيهم بجكم الذي ملك الأمر بالعراق وتقلّد إمارة الأمراء بها في أيّام الراضي وسنذكر من أخباره ما يليق بهذا الكتاب.
ما كان من أمر أصحاب مرداويج
فأمّا ما جرى عليه أمر أصحاب مرداويج فانّ أبا مخلد كان يتحدّث - وكان من خدم مرداويج وصاحب دولته - أنّ تابوت مرداويج حمل إلى الريّ. وقال: فما رأيت يوما أعظم من اليوم الذي دخل فيه تابوته الريّ وذاك أنّ الجيل والديلم بأجمعهم ساروا مشاة حفاة معه أربعة فراسخ.
وذكر أنّه كان أخوه وشمكير ماشيا معهم ثم مضوا من إصبهان على بكرة أبيهم معه إلى الريّ وكان الناس لا يشكون أنّهم يستأمنون إلى عليّ بن بويه فبطل هذا الظنّ وقال:
« لم أر قطّ عسكرا هلك صاحبه فوفى له رجاله وجنده بغير درهم ولا دينار ذلك الوفاء فإنّهم صاروا إلى أخيه وشمكير على هذه الحال. » وعرف شيرج أن إصبهان خالية - وكان بالأهواز من قبله - فسار للوقت إلى عسكر مكرم وستر الخبر وكان بها هرجام الجيليّ فأسرّ إليه بالخبر وأخذه معه ثم سار إلى تستر وبها جيليّ وكان وجها كبيرا فحدّثه وأخذه معه وقصد جنديسابور وبها إسماعيل الجيلي وكلّ واحد من هؤلاء نظير لشيرج، فأطلعه على الأمر وسار بمسيره فصارت الجماعة إلى السوس وبها عبد الله بن وهبان القصباني البصري عامل كور الأهواز من قبل مرداويج والشابشتى الحاجب وكان ثقة مرداويج وكان رتّبهم مرداويج على ما ذكر أبو مخلد على أن يتوجّه شيرج إلى واسط ثم إلى بغداد وكان مرداويج ينتظر خروج الشتاء في سنة ثلاث وعشرين فيقصد أرجان أوّلا ثم يناجز عليّ بن بويه.
فإذا فرغ منه عدل إلى الأهواز ثم منها إلى السوس وينفذ معظم خيله إلى شيرج ليتقدّمه إلى واسط.
نوايا مرداويج
وكان في نفسه أن يملك بغداد ويعقد التاج على رأسه ويعيد ملك الفرس فعوجل بالقتل. فسار عسكره كلّه كما ذكرنا مع شيرج والشابشتى وابن وهبان من السوس إلى الريّ على طريق شابرخواست والكرج يريدون وشمكير أخاه ما عارضهم معارض ولا أقدم أحد على منابذتهم والإفساد عليهم. ولمّا حصلوا بها بايعوه واستوزر وشمكير ابن وهبان وشكر له حسن تصرّفه لأخيه بالأهواز.
وكان مرداويج يوم قلّده الأهواز أرزقه ألفى دينار في الشهر وقال له:
« إن نصحت وأدّيت الأمانة استوزرتك بالحضرة ونصّبت الرايات بين يديك إلى باب نصيبين، وإن خنتني وشرهت نفسك فإنّ كركرتك كبيرة ومعدتك عظيمة والحلاوات بالأهواز كثيرة فهذا دشنى ترى انبساطه وحدّه والله لاشقنّ به بطنك هذه الكبيرة. » فقال له:
« ستعلم أيّها الأمير كيف أنصح وأؤدّى الأمانة وأنّى مستحقّ لاصطناعك. » وكان هذا الرجل من أهل البصرة وله أب قصبانى وإنّما تقلّد في أيّام ابن الخال همذان. فلمّا انهزم ابن الخال من وقعة مرداويج وقصد الحضرة لانتزاع الرئاسة من محمّد بن ياقوت وجرى عليه ما جرى حصل مرداويج بهمذان ووقع في يده ابن وهبان فعفا عنه واستعمله فنفق عليه.
وكانت كتب مرداويج ترد على ابن وهبان أن يعدّ له ايوان كسرى منزلا إذا تقدّمه إلى الحضرة ويعمّره ويعيده كهيئته قبل الإسلام وأنّه معتقد للمقام بواسط إلى أن يستتمّ ذلك وأنّه يراه وشيرج مع من معهما أكفاء لمن بالحضرة من ابن ياقوت والحجريّة والساجيّة وسائر الأصناف وأنّه مستغن عن أن يلقاهم بنفسه.
وكان قد صاغ تاجا عظيما ورصّعه بالجوهر. وذكر أبو مخلد أنّه رآه قبل الحادثة بأيّام جالسا على سرير ذهب قد جعل عليه منصّة عظيمة وتفرّد بالجلوس عليه وجعل دونه سرير فضّة وعليه فرش مبسوط ودون ذلك كراسي كبار مذهّبة وغير ذلك ليرتّب أصحاب الأقدار مراتبهم في الإجلاس. قال: وكان الكافّة من الناس بالبعد قياما ينظرون إليه ما ينطقون إلّا همسا إعظاما له وإكبارا لقدره.
وفيها وقع بين أصحاب ياقوت ومحمّد بن رائق شرّ فاقتتلوا وقتل بينهم خلق.
وفيها قبض على المظفّر ومحمّد ابنيّ ياقوت بتدبير أبي عليّ بن مقلة
ذكر السبب في ذلك
كان السبب في ذلك أنّ أبا عليّ كان قلقا من غلبة محمّد بن ياقوت على سير الأمور ونظره في جباية الأموال وحضور أصحاب الدواوين مجلسه وتفرّده بما يعمله الوزراء وعطلته هو، إلى أن تمّ تدبيره عليه. فلمّا كان يوم الاثنين لستّ خلون من جمادى الأولى ركب القوّاد إلى دار السلطان على رسمهم في أيّام المواكب وحضر الوزير أبو عليّ ابن مقلة وأظهر الراضي أنّه يريد أن يقلّد جماعة من القوّاد عدّة نواح من المملكة ويخلع عليهم. وحضر محمّد بن ياقوت للخدمة وأبو إسحاق القراريطي كاتبه معه وجلسوا على رسمهم في الصحن التسعينى. ثم خرج الخدم إلى محمّد بن ياقوت فعرّفوه أنّ الخليفة يطلبه فقام مبادرا. فلمّا دخل عدل به إلى حجرة قد أعدّت له وأخذ سيفه ومنطقته ووكّل به. ثم خرج الخدم إلى أبي إسحاق القراريطي فعرّفوه أنّ صاحبه يطلبه. فلمّا دخل عدل به إلى حجرة أخرى وحبس.
ووجّه بقوم إلى دار المظفّر بن ياقوت فقبض عليه وحمل إلى دار السلطان وحبس مع أخيه وكان وجد قريبا من السكر لأنّه كان يشرب ونفذت حيلة الوزير أبي عليّ عليهم وتقدّم إلى الغلمان الحجريّة والساجيّة أن يصيروا إلى دار السلطان وأن يضربوا مضاربهم في بابى الخاصّة والعامّة ليحفظوا الدار وأمر مفلح الأسود أن يصير إلى دار محمّد بن ياقوت.. وخلع عليه وسلّم القراريطي إلى الوزير أبي عليّ فأخذ خطّه بخمسمائة ألف دينار ثم تقرّر أمره على ثلاثة آلاف ألف درهم.
وانحدر ياقوت من واسط إلى السوس بجميع أصحابه وكتب إلى الراضي بالله كتابا في أمر ابنيه يستعطفه فيه لهما ويرقّق قلبه عليهما ويسأله الإحسان إليهما وتجديد الصنيعة عندهما وعنده فيهما وأن يلحقهما ليعاوناه على أمره ويكونان معه في حروبه.
ولمّا زال أمر محمّد بن ياقوت وتفرّد أبو عليّ بالتدبير استخلف ابنه أبا الحسين على جميع الدواوين والأعمال وصارت مكاتبة جميع أصحاب الدواوين له وإنفاذهم الأعمال إليه. فصار يعزل ويولّى ويحلّ ويعقد وصار إليه أبو عبد الله أحمد بن علي الكوفي وطرح نفسه عليه وارتسم بكتابته وكان يكتب لأبي إسحاق القراريطي وكان مستوليا عليه فقبله أبو عليّ واختصّ به وبابنه.
وشغب الجند وطالبوا بأرزاقهم وصاروا إلى دار الوزير أبي عليّ ونهبوا اصطبلاته وأخذوا من بابه من كان في مجلسه ونكسوا جماعة ممّن لقيهم من الكتّاب عن دوابّهم وأخذوها منهم فأطلق لهم أرزاقهم وسكنوا.
وفيها قوى أمر أبي عبد الله البريدي واستفحل أمره
ذكر أسباب ذلك
كان أبو عبد الله البريدي ضامنا أعمال الخراج والضياع بالأهواز. فلمّا وافاها شيرج بن ليلى الديلمي من قبل مرداويج خرج إلى البصرة بعد هزيمة ياقوت وغلامه مونس كما كتبناه قبل وأقام يدبّر أسافل الأهواز إلى أن قرر له محمّد كتابة ابنه. فخرج معه إلى واسط فبينا هو معه يدبّر أمره إذ ورد [ الخبر ] بالقبض على محمّد والمظفّر ابني ياقوت فارتاع ياقوت من ذلك ارتياعا شديدا.
وكتب أبو عليّ ابن مقلة إلى أبي عبد الله البريدي: أن يسكّنه ويعرّفه أنّ الجند اضطربوا وتطيّروا لهما وشغبوا مرارا كما بلغك. ثم أرسلوا للخليفة بأنّه إن لم يقبض عليهما أحدثوا في الملك حادثة عظيمة واضطرّ إلى أن يرضيهم بما أمضاه فيهما وأنّه يتلافى أمرهما عن قرب وينفذهما إليه وأنّ الرأي أن يبادر هو لفتح فارس.
فخرج ياقوت من واسط على طريق السوس إلى عسكر مكرم وأخرج أبو عبد الله البريدي معه أبا الحسن ابن حميد البصري ليخلفه على كتابته وكان صنيعته وأخرج أبا زكريا يحيى بن سعيد السوسي لخدمته في بلده، فدخل ياقوت عسكر مكرم وهما معه. ثم وافى أبو عبد الله البريدي من طريق الماء إلى الأهواز وورد بعده أبو يوسف أخوه وكان إليه السوس وجنديسابور شركة بينه وبين أخيه أبي الحسين. وادّعيا أنّ مال سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة احتمله شيرج بن ليلى وأنّ النواحي معطّلة الارتفاع في السنة التي بعدها فأنفذ أبو عليّ ابن مقلة ابن عينويه لكشف ذلك وطابقهما وكتب يصدّقهما.
فكانت هذه الفتنة نعمة على أبي عبد الله وأبي يوسف البريديين فإنّه تحصّل لهما بها وممّا بعدها إلى وقت انهزامهما من الأهواز على ما حدّث به أبو الفرج ابن أبي هشام أربعة آلاف ألف دينار خرجا بها على السلطان ثم قصدا عسكر مكرم للاجتماع مع ياقوت فوافياها وتلقاهما في الموضع المعروف بفوهة النهرين وسيّراه إلى أرجان لفتح فارس.
خروج توقيع من الراضي بالله
وفيها خرج توقيع الراضي بالله بأن تكون المخاطبة والمكاتبة من جميع الناس لأبي الحسين عليّ بن محمّد بن مقلة بالوزارة وكان سنّة إذ ذاك ثماني عشرة سنة وأن يكون الناظر في الأمور صغيرها وكبيرها وتقدّم إلى جميع أصحاب الدواوين بذلك وخلع على أبي الحسين خلع الوزارة وخوطب بها وحمل على شهري وانصرف من دار السلطان على الظهر ومعه القوّاد والجيش والخدم وأصحاب الدواوين.
وانصرف أبو عليّ في طيّاره إلى منزله وصار إليه ابنه بالخلع وطرح له مصلّى في مجلس أبيه ودخل الناس معه وهنّئوا أبا عليّ وأنشده الشعراء وأمر أبو الحسين ونهى ووقع وصار طرح المصلّى في مجلس أبيه رسما له.
وخرج رسم أبيه إلى جميع أصحاب الدواوين ألّا ينفذوا توقيعا له إلّا بعد عرضهم إيّاه على ابنه أبي الحسين واستيماره فيه وأخذ توقيعه بخطّه فيه بامتثاله.
وشغب الفرسان شغبا بعد شغب وكانوا يأخذون دوابّ الناس من باب الوزير.
وفيها ركب بدر الخرشنى فنادى في جانبي بغداد في أصحاب أبي محمّد البربهارى الحنبليّة ألّا يجتمع منهم نفسان في موضع واحد وحبس جماعة منهم واستتر البربهارى وكان سبب ذلك كثرة تشرّطهم على الناس وإيقاعهم الفتن المتصلة.
وخرج توقيع الراضي بالله إلى الحنبليين بما نسخته:
« بسم الله الرحمن الرحيم. من نافق بإظهار الدين وتوثّب على المسلمين وأكل به أموال المعاهدين كان قريبا من سخط ربّ العالمين وغضب الله وهو من الضالين. وقد تأمّل أمير المؤمنين أمر جماعتكم وكشفت له الخبرة عن مذهب صاحبكم [ فوجده كإبليس اللعين ي ] زيّن لحزبه المحظور ويدلّى لهم حبل الغرور. فمن ذلك: تشاغلكم بالكلام في ربّ العزّة تباركت أسماؤه وفي نبيه والعرش والكرسيّ، وطعنكم على خيار الأمّة ونسبكم شيعة أهل بيت رسول الله http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png إلى الكفر والضلال، وإرصادهم بالمكاره في الطرقات والمحالّ، ثم استدعاؤكم المسلمين إلى الدين بالبدع الظاهرة، والمذاهب الفاجرة التي لا يشهد بها القرآن، ولا يقتضيها فرائض الرحمن، وإنكاركم زيارة قبور الأئمة صلوات الله عليهم، وتشنيعكم على زوّارها بالابتداع، وإنّكم مع إنكاركم ذلك تتلفّقون وتجتمعون لقصد رجل من العوامّ ليس بذي شرف ولا نسب ولا سبب برسول الله http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png، وتأمرون بزيارة قبره والخشوع لدى تربته والتضرّع عند حفرته.
« فلعن الله ربّا حملكم على هذه المنكرات ما أرداه، وشيطانا زيّنها لكم ما أغراه، وأمير المؤمنين يقسم الله قسما جهد أليّة يلزمه الوفاء به، لئن لم تنصرفوا عن مذموم مذهبكم ومعوّج طريقتكم ليوسعنّكم ضربا وتشريدا وقتلا وتبديدا وليستعملنّ السيف في رقابكم، والنار في محالّكم ومنازلكم فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فقد أعذر من أنذر، وما توفيق أمير المؤمنين إلّا بالله، عليه يتوكّل وإليه ينيب. »
شغب الجند
وفيها شغب الجند وصاروا إلى دار الوزير فوقع النهب في خزانة له فيها زجاج مخروط وبلور وصينى وغير ذلك فدخلوا الدار وشغبوا فيها وخرج الوزيران عن دورهما وصارا إلى الجانب الغربي.
وكان الوزير أبو عليّ نفى الخصيبي وسليمان بن الحسن إلى عمان وكاتب صاحب عمان بحبسهما والتضييق عليهما فأطلقهما ووردا بغداد مستترين فورد على الوزير من ذلك ما أقلقه وكبس عليهما عدّة مواضع فلم يظفر بهما.
خروج ابن مقلة إلى الموصل
وفيها قتل الحسن بن عبد الله بن حمدان عمّه أبا العلاء سعيد بن حمدان وخرج لذلك أبو عليّ ابن مقلة إلى الموصل.
ذكر السبب في ذلك
كان أبو العلاء شرع في تضمّن الموصل وديار ربيعة فضمّن ذلك سرّا وخلع عليه وأظهر أنّه ينفذ إلى الموصل لمواقفة ابن أخيه أبي محمّد على ما عليه من مال الضمان ومطالبته بحمله وشخص في نحو خمسين غلاما من غلمانه. فدخل الموصل وعرف ابن أخيه خبر موافاته فخرج نحوه مظهرا لتلقّيه واعتمد أن يخالفه الطريق فلا يراه ومضى أبو العلاء إلى دار أبي محمّد فنزلها وسأل عن خبره فعرّف أنّه خرج ليتلقّاه فجلس ينتظره. فلمّا علم أبو محمّد أنّ عمّه قد حصل في داره وجّه بغلمانه فدخلوا إلى أبي العلاء إلى البيت الذي كان فيه فقبضوا عليه وقيّدوه. ثم وجّه بقوم علوه بأسيافهم وقتلوه ولم يقع بينه وبين ابن أخيه لقاء.
-
وورد الخبر بذلك إلى الراضي فأنكره وتقدّم إلى الوزير أبي عليّ بالتأهّب للخروج إلى الموصل والإيقاع بالحسن بن عبد الله بن حمدان والنائب عنه بالحضرة. فذكر أنّ عليّ بن عيسى كتب إلى الحسن بن عبد الله بن حمدان بخطّه عن أمير المؤمنين الراضي بالله بالانفراج عن ضمانه وألّا يحمل شيئا إلى الحضرة من ماله وأن يمنع من حمل الميرة إلى بغداد فأخذ أبو عليّ ابن مقلة خطّة بذلك وأحضر جماعة من الشهود حتى شهدوا عليه.
وسلّم الوزير الكتاب إلى ابن سنجلا ليعرضه على الراضي بالله. فلمّا كان من غد وهو يوم الأربعاء انحدر الوزير أبو عليّ إلى دار السلطان وانصرف إلى منزله. فوجّه الراضي براغب وبشرى خادميه إلى عليّ بن عيسى فحملاه إلى الوزير أبي عليّ فلم يوصله إليه واعتقله في حجرة من داره وراسله عليّ بن أحمد بن عليّ النوبختي وعرّفه ما أشهد به سهل بن هاشم على نفسه وأنّ الخليفة أنكر فعله. وما زالت المراسلات تتردد بينهما إلى أن ألزمه أبو عليّ مصادرة خمسين ألف دينار على أن يجعل في باب أبي جعفر بن شيرزاد صاحب ديوان النفقات للأتراك عشرة آلاف دينار وتؤخذ منه عقار وضياع بعشرة آلاف دينار فالتزم أبو الحسن ذلك.
فيقال: إنّ طليبا الهاشمي كان قال لعليّ بن عيسى عن الراضي بالله أن يكاتب الحسن بن عبد الله عنه ويتوسّط بينهما على أن يحمل إليه سرّا سبعين ألف دينار في نجوم، وشرط عليه الحسين أن يحميه ويمنع منه ومن تشعيث أمره ويقرّه على ضمانه ولا يقبل زيادة عليه فحمل بعض تلك النجوم وأخّر باقيها وأنكر الخليفة كلّ ما جرى في هذا الباب وذكر أنّه لم يصل إليه شيء.
وأخرج مضرب الوزير أبي عليّ وخرج على مقدمته نقيط الصغير وابن بدر الشرابي وجماعة من الحجريّة وغيرهم وخلّف ابنه الوزير أبا الحسين بالحضرة في خدمة السلطان وتدبير الأمور. وقبل شخوصه أطلق أبا الحسن عليّ بن عيسى وأخرجه إلى ضيعته بالصافية وأحلفه على أنّه لا يسعى في مكروهه ولا يتكلّم فيه بما يقدح في حاله ولا فيما يفسد أمره ولا يسعى في الوزارة لنفسه ولا لغيره من سائر الناس. فحلف وخرج من وقته إلى الصافية.
ولمّا قرب الوزير أبو عليّ من الموصل رحل عنها أبو محمّد وتبعه الوزير إلى أن صعد جبل التنين ودخل بلد الزوزان فعاد حينئذ أبو عليّ إلى الموصل وأقام بها يستخرج مال البلد ويستسلف من التجّار المجهزين للدقيق مالا على أن يطلق لهم به غلّات البلد فاجتمع له من ذلك أربعمائة ألف دينار.
ولمّا طال مقام الوزير بالموصل احتال سهل بن هاشم كاتب أبي محمّد بن حمدان فبذل للوزير أبي الحسين ابن الوزير أبي عليّ عشرة آلاف دينار حتى كتب إلى أبيه بأنّ الأمور بالحضرة قد اضطربت عليه وأنّه متى تأخّر وروده الحضرة لم يأمن حدوث حادثة يبطل بها أمرهم.
فانزعج الوزير من ذلك وقلّد عليّ بن خلف بن طناب أعمال الخراج والضياع بالموصل وديار ربيعة وقلّد أعمال المعاون بها ماكرد الديلمي من الساجيّة وتقدّم بتوفية التجّار ما استسلفه منهم من المال، وانحدر إلى الحضرة وخرج لتلقّيه الأمير أبو الفضل وأصحاب الدواوين والقوّاد ولقي الخليفة وانصرف إلى منزله وخلع عليه من الغد وعلى ابنه خلع منادمة وحمل إليهما ألطاف وشراب وطيب وبلّور.
وكان الوزير أبو عليّ كتب إلى الوزير ابنه قبل أن ينحدر من الموصل بإزالة التوكيل عن أبي الحسن عليّ بن عيسى وأن يكتب إليه أجمل خطاب ويخيّره بين الانصراف إلى مدينة السلام وبين المقام بالصافية، فكتب إليه الوزير أبو الحسين بذلك.
وكان السبب فيما كتب به الوزير أبو عليّ من ذلك أنّه كان كتب إلى أبي محمّد الحسن بن عبد الله بن حمدان كتابا يدعوه فيه إلى الطاعة ويبذل له الأمان فقبل الكتاب وقال للرسول:
« ليس بيني وبين هذا الرجل عمل - يعنى ابن مقلة - ولا أقبل ضمانه لأنّه لا عهد له ولا وفاء ولا ذمّة ولا أسمع منه شيئا. اللهم إلّا أن يتوسّط أبو الحسن عليّ بن عيسى بيني وبينه ويضمن لي عنه فاسكن إلى ذلك وأقبله. » وكان أبو عبد الله أحمد بن علي الكوفي مقيما بالحضرة في وقت خروج أبي على ابن مقلة إلى الموصل ويلزم مجلس الوزير أبي الحسين يظهر له النصيحة والموالاة ويجتهد في التخلّص منه والبعد عنه إلى أن ورد كتاب أبي عبد الله البريدي يوئس فيه من حمل مال إلى الحضرة في ذلك الوقت. فغلظ على الوزير أبي الحسين ذلك لأنّه كان أعدّ ما يحمله لوجوه فأقرأ أبا عبد الله الكوفي كتاب البريدي فاستعظم ما فيه وأشار بأن يخرج هو إلى الأهواز ليواقف البريدي على أمر الرجال الذين أحال بصرف المال إليهم ويعرضهم ويطلق ما يجب لهم ثم يحمل إلى الحضرة مالا عظيما ويحمل ساعة وصوله مائة ألف دينار.
فكتب الوزير أبو الحسين إلى أبي عبد الله البريدي بأنّه لا يقبل في تأخّر المال عنه عذره وقد أحوجه إلى إنفاذ أبي عبد الله أحمد بن عليّ الكوفي لمواقفته على أمر المال ومطالبته بحمله ونفذ الكتاب وتبعه أحمد بن عليّ إلى الأهواز. فلمّا حصل عند أبي عبد الله البريدي لم يمكنه مخالفته على ما يريد وكتب أنّه لم يتمكّن من عرض الرجال ولا المواقفة على أمر المال، وأقام عنده إلى أن انظر أبو بكر ابن رائق في الأمور بالحضرة.
واستوحش أبو عبد الله الكوفي من البريدي وخافه وأراد البعد منه وخاف بوادره فأطمعه في إفساد أمر الحسين بن عليّ النوبختي مع ابن رائق.
وكان الحسين بن عليّ من أعدى الناس للبريديين فقبل منه وأطلقه وواقفه على ما يعمل به ويبذله من المال لإزالة أمر الحسين بن عليّ النوبختي. وكان أبو عبد الله الكوفي عند مقامه عند أبي عبد الله البريدي يصغّر في نفسه أمر الحضرة ويصف له إدبارها بسوء تدبير ابن مقلة وإبطاله مال واسط والبصرة بابن رائق وبإيقاعه ببني ياقوت وما دبّر في أمر الحسن ابن عبد الله بن حمدان وباجتثاثه أصل الخلافة دفعة واحدة وقال في ذلك وأكثر وقال في عرض ذلك:
-
« هو الذي جرّأ الغلمان الحجريّة على ابن ياقوت فهم بعد أشدّ جرأة عليه وأنّ هلاكه ليس يبعد. » فوقع ذلك من البريدي أحسن موقع واختصّ الكوفي ولم يستكتبه بل كان يشاوره ويكرمه ويعاشره.
فذكر أبو الفرج ابن أبي هشام أنّ أبا عبد الله الكوفي قال له بواسط في أيّام سيف الدولة:
« ما مرّ لي عيش أطيب من عيشي مع البريدي فإني أقمت عنده نحو سنة غير متصرّف ولا داخل تحت تبعة ولا تعب بنظر في عمل ولقد عاشرنى أجمل عشرة ووصل إليّ منه عينا وورقا ومن قيمة العروض التي أنفذها إليّ خمسة وثلاثون ألف دينار ولم أخرج من الأهواز إلّا وأنا متقلّد كتابة ابن رائق وقد كفيت أمر ابن مقلة بالقبض عليه وكان غير مأمون.
والحمد لله الذي لم يخرجه من الدنيا حتى دمّر عليه كتدميره على الدنيا.
ألحق الله ابنه به فإنّه شرّ منه لأنّ ما كان في أبيه فهو فيه من وقاحة وقساوة وخسّة وكان الأب على عيوبه ربّما رحم وأكرم على حاشيته وأهل داره دون الغرباء ولكنّ هذا ناصر الدولة مجتهد في أن يغرّه ويحصّله وإن حصل رجوت أن يسمله، فإنّ في نفسه عليه وعلى ابنه العظائم. » وأطلق الكوفي لسانه بهذا كلّه في مجلسه وليس بين يديه غيري وغير أبي عليّ ابن صفيّة كاتبه النصراني.
وأظهر أبو عبد الله البريدي بالأهواز كتابا من أبي عليّ ابن مقلة بخطّة إليه يقول فيه:
« الويل للكوفيّ العاضّ مني أنفذته ليصلحك لي فأفسدك عليّ وأطمعك وأصغيت بالشره إليه والله لأقطعنّ يديه ورجليه فأمّا أنت فأرجو ألّا تصرّ على كفر نعمتي وإحسانى إليك وأنت تنيب بك الرؤية إلى رعاية حقوق اصطناعى لك فترضينى من نفسك وتعينني في مثل هذه الحالة الصعبة التي لم يدفع من جلس مجلسي في دولة من الدول إلى مثلها وأن تجيرني ممّا قد أظلّنى بمال تحمله فتحفظ به نعمتك التي إحداهما في يدي والأخرى في يدك إن شاء الله. » ولمّا انحدر أبو عليّ ابن مقلة من الموصل عاد أبو محمّد عن الزوزان إليها وحارب ماكرد الديلمي وانهزم الحسن بن عبد الله ثم عاود محاربته وكانت الوقعة بينهما على باب الروم من أبواب نصيبين فانهزم ماكرد إلى الرقّة وانحدر منها في الفرات إلى بغداد وانحدر عليّ بن خلف بن طناب وتمكّن الحسن بن عبد الله من الموصل وديار ربيعة وكتب إلى السلطان يسأل الصفح عنه وأن يضمن نواحيه فأجيب إلى ذلك وضمنها.
ووافى التجّار الذين استسلف أبو عليّ مالهم ولم يوفوا الغلّات التي ابتاعوها فطالبوا أبا عليّ بردّ أموالهم عليهم فدفعته الضرورة إلى أن يسبّب لهم على عمّال السواد بعض مالهم ودافعهم ثم باع عليهم بالباقي ضياعا سلطانيّة فلم يحصل لخرجته كبير فائدة بعد الذي ردّ على التجّار وبعد الذي أنفق على سفره والجيش الخارج معه.
اعتراض أبي طاهر القرمطي للحاج
وفي هذه السنة حجّ الناس فلمّا بلغوا القادسيّة اعترضهم أبو طاهر القرمطي وكان مع الحاجّ من قبل السلطان لؤلؤ غلام المتهشّم. فظنّ لؤلؤ أنّهم أعراب فحاربهم أهل القوافل شيئا كثيرا وسأل عمر بن يحيى العلوي فيمن دخل القادسيّة فآمنهم ثم تسلّلوا من القادسيّة وبطل الحجّ في هذه السنة.
وصار أبو طاهر إلى الكوفة وأقام بها.
انقضاض الكواكب
وفي تلك الليلة بعينها انقضّت الكواكب من أوّل الليل إلى آخره ببغداد والكوفة وما والاهما انقضاض مسرفا جدا لم يعهد مثله ولا ما يقاربهما.
وشغب الجند وصاروا إلى دار الوزير فنقبوا عدّة مواضع ولم يصلوا لأنّ غلمان الوزير دفعوهم ورموهم بالنشّاب من فوق السور.
وفيها مات أبو بكر محمّد بن ياقوت في الحبس في دار السلطان بنفث الدمّ فأحضر القاضي أبو الحسين عمر بن محمّد ومعه جماعة وأخرج إليهم محمّد بن ياقوت حتى فتّشوه ومدّوا لحيته وعلموا أنّه مات حتف أنفه. ثم تسلّم إلى أهله وباع الوزير ضياعه وأملاكه وقبض على أسباب محمّد بن ياقوت كلّهم.
استيمان غلمان مرداويج
وفي هذه السنة قلّد الوزير أعمال الجبل أبا عليّ الحسن بن هارون وخرج إليها فلمّا حصل بها استأمن إليه غلمان مرداويج الأتراك الذين قتلوه في الحمّام فقبلهم وكانوا ثلاثمائة غلام. فلمّا كان بعد مدّة شغبوا عليه وطالبوه بالأرزاق وقبضوا عليه وقيّدوه ثم أطلقوه. ولمّا ورد الخبر بالقبض عليه قلّد الوزير مكانه أبا عبد الله محمّد بن خلف النيرمانى وبلغ ذلك الحسن بن هارون فخافه للعداوة بينهما واستتر وصار إلى بغداد مستترا وأقام على استتاره مدّة. ثم راسل الوزير أبا عليّ وقرّر أمره على مصادرة أوقعها بخمسة عشر ألف دينار فلمّا تقرّر أمره ظهر وأقام محمّد بن خلف في الجبل مديدة.
وأقبل غلمان مرداويج وفيهم بجكم إلى جسر النهروان وراسلوا السلطان فأمرهم بدخول الحضرة فدخلوا وعسكروا بالمصلّى. واضطربت الحجريّة وظنّوا أنّها حيلة عليهم فاجتمعوا وطالبوا الوزير أبا عليّ بأن يرضيهم ويردّهم فاستدعى جماعة من وجوههم وواقفهم على أن ينضمّوا إلى محمّد بن عليّ غلام الراشدي ويقلّده الجبل ويطلق لهم أربعة عشر ألف دينار نفقات لهم ثم بسبّب مالهم على أعمال الجبل فقالوا:
« ننصرف ونعلم باقى أصحابنا ذلك. »
فلمّا انصرفوا لم يقنعوا وكان خبرهم قد اتّصل بأبي بكر ابن رائق بواسط وهو متقلّد أعمال المعاون بها وبالبصرة فكاتبهم فراسلهم واستدعاهم ووعدهم الإحسان. فمالوا إليه واختاروه وساروا إليه فقبلهم وأثبتهم وأسنى لهم بالرزق ورأس عليهم بجكم وسمّاه: بجكم الرائقى، ورفع منه وموّله وأحسن إليه وأفراط في ذلك وضمّ جميع الغلمان إليه وتقدّم إليه بأن يكاتب كلّ من بالجبل من الأتراك والديلم بالمصير إليه ليثبتهم فصار إليه عدّة وافرة منهم فأثبتهم وضمّهم إلى بجكم.
ودخلت سنة أربع وعشرين وثلاثمائة
عدة حوادث
وفيها أطلق المظفّر بن ياقوت من حبسه في دار السلطان إلى منزله بمسألة الوزير أبي عليّ فيه، وحلف الوزير بالأيمان الغليظة على أنّه يواليه ولا ينحرف عنه ولا يسعى له في مكروه.
وفيها قلّد الوزير محمّد بن طغج أعمال المعاون بمصر مضافة إلى ما يتقلّد من أعمال معاون الشام وأدخل الراضي القضاة والعدول حتى عرّفهم تقليده محمّد بن طغج وأمرهم بمكاتبة أصحابهم وخلطائهم بذلك لئلّا ينازعه أحمد ابن كيغلغ فإنّه كان يتولّى مصر.
وفيها قطع محمّد بن رائق حمل مال ضمانه عن واسط والبصرة إلى الحضرة واحتجّ باجتماع الجيش عنده وحاجته إلى صرف المال إليهم.
وفيها تمّت حيلة المظفّر بن ياقوت حتى قبض على الوزير أبي عليّ ابن مقلة لأنّه صحّ عنده أنّه هو قتل أخاه وكان السبب في حبسهما وإزالة أمرهما.
ذكر هذه الحيلة على أبي علي ابن مقلة
لم يزل يحبّ التشفّى والأخذ بالثأر منذ أطلقه الوزير ولكنّه يكتم ذلك إلى أن واقف الحجريّة وضرّبهم عليه. وبلغ الوزير ذلك فأخذ يعتضد ببدر الخرشنى صاحب الشرطة فقوى أمر بدر وواقفه على أن يستولى على دار السلطان فيحصل فيها ويمنع الغلمان الحجريّة منها لأنّه بلغه أنّهم قد عملوا على المصير إلى الدار والمقام ففعل بدر ذلك وحصل هو وأصحابه بالسلاح في الدار ومنع الغلمان الحجريّة من دخولها ولم يظهر الوزير أنّ الذي فعله بدر كان عن رأيه. ثم جمع بين الساجيّة وبين بدر حتى تحالفوا على معاونة بعضهم بعضا.
فلمّا وقف المظفّر بن ياقوت على ذلك ضعفت نفسه وأشار الحجريّة بالخضوع للوزير والتذلّل له ولم يزالوا يلطفون للوزير ويتحققون بخدمته إلى أن أنس بهم وسألوه صرف بدر وبذلوا له كلّ ما أراد من الطاعة والموالاة له إلى أن انخدع وصرف بدرا وأصحابه. فلمّا خلت دار السلطان منهم ومن الساجيّة تحالف الحجريّة على أن تكون كلمتهم واحدة فصاروا بأجمعهم إلى دار السلطان وضربوا خيمهم فيها وحولها وملكوها وصار الراضي في أيديهم وحزبهم. فندم الوزير وعلم أنّ الحيلة تمّت عليه فتقدّم إلى بدر بأن يخرج إلى المصلّى في أصحابه من غير أن يعلم أحد أنّه فعل ذلك برأى الوزير وأمره فخرج بدر وأثبت زيادة من الرجّالة.
وبلغ ذلك الحجريّة فطالبوا الراضي بالله أن يخرج معهم إلى المسجد الجامع في داره فيصلّى بالناس ليراه الناس معهم فيعلمون أنّه في حيّزهم.
فخرج الراضي يوم الجمعة إلى المسجد الجامع الذي في داره ومشى الغلمان بأسرهم بين يديه وحوله بالسلاح رجّالة وصلّى بالناس وصعد المنبر وخطب وقال في خطبته:
« اللهم إنّ هؤلاء الغلمان بطانتى وظهارتى فمن أرادهم بسوء فأراده به ومن كادهم فكده. » وقلّد بدر الخرشنى دمشق وأمره بالخروج إليها من المصلّى وألّا يدخل البدر.
وكان المظفّر بن ياقوت في هذا كلّه يظهر للوزير أنّه مجتهد في الصلح ويظهر له الخضوع وهو في الباطن يسعى في حنقه وقد قوى أمره بما فعله الراضي. ثم إنّ الصلح تمّ بين بدر الخرشنى وبين الحجريّة فدخل من المصلّى إلى منزله وأقرّ بدر على الشرطة.
فلمّا انقضت هذه القصّة أشار الوزير على الراضي بالله سرّا أن يخرج بنفسه ومعه الجيش والحجريّة والساجيّة ليدفع محمّد بن رائق عن واسط والبصرة وقال له:
« قد انغلقت عليك هذه البلدان وهي بلدان المال بما فعله محمّد بن رائق من الامتناع من حمل مال ضمانه ومتى رأى غيره أنّ ذلك قد تمّ له واحتمال عليه تأسّى به فذهب مال الأهواز فبطلت المملكة. فعمل الراضي على ذلك وتقدّم إليه بالعمل عليه فافتتح الوزير الأمر مع ابن رائق بأن ينفذ إليه ينال الكبير من الحجريّة وماكرد الديلمي من الساجيّة برسالة من الراضي بالله يأمره فيها أن يبعث بالحسين بن عليّ النوبختي ليواقف على ما جرى على يده من ارتفاع واسط والبصرة.
فلم يستجب ابن رائق إلى إنفاذ الحسين ووهب للرسولين مالا وأحسن إليهما وسألهما أن يتحمّلا له إلى الخليفة رسالة في السرّ وهي: أنّه إن استدعى إلى الحضرة وفوّض إليه التدبير قام بكلّ ما يحتاج إليه من نفقات السلطان وأرزاق الجند ومشّى الأمور أحسن تمشئة وكفى أمير المؤمنين الفكر في شيء من أمره.
فلمّا قدم الرسولان خلوا بالراضى بالله بعد تأدية الرسالة الظاهرة فأدّيا الرسالة السرّية فلم ينشط الراضي لتسليم وزيره وأمسك.
ولمّا رأى الوزير امتناع ابن رائق من تسليم الحسين بن عليّ عمل على القاضي أبا الحسين برسالة من الراضي ليعرّفه ذلك وأنّه لم يأمن أن يقع له أنّ الخروج إنّما هو إليه فيستوحش وأنّه أنفذ القاضي ليكشف ما في نفسه وعزمه، وتوثّق له بما يسكن إليه.
فلمّا كان يوم الاثنين لأربع عشر ليلة بقيت من جمادى الأولى وانحدر الوزير إلى دار الراضي بالله ومعه القاضي أبو الحسين ليوصله فيسمع من الراضي بالله الرسالة فلمّا حصل في دهليز التسعينى قبل أن يصل إلى الخليفة وثب الغلمان الحجريّة ومعهم المظفّر بن ياقوت به فقبضوا عليه ووجّهوا إلى الراضي بالله يعرّفونه قبضهم عليه إذ كان هو المفسد المضرّب ويسألونه أن يستوزر غيره. فوجّه إليهم يستصوب فعلهم ويعرّفهم أنّهم لو لم يفعلوا ذلك لفعله هو وردّ الخيار إليهم فيمن يستوزره فذكروا عليّ بن عيسى ووصفوه بالأمانة والكفاءة وأنّه ليس في الزمان مثله. فاستحضره الراضي بالله وخاطبه في تقلّد الوزارة فامتنع وتكرّه ذلك فراجعه الراضي بالله وخاطبه الغلمان فيه وطال الخطب معه فأقام على الامتناع فقالوا:
« فنشير بمن تراه. » فأومأ إلى أخيه عبد الرحمن. فأنفذ الراضي بالله المظفّر بن ياقوت إلى عبد الرحمن فأحضره وأوصله إلى الراضي وعرّفه أنّه قلّده وزارته ودواوينه وخلع عليه وركب في الخلع ومعه الجيش إلى داره وأحرقت دار أبي عليّ.
وزارة عبد الرحمن بن عيسى
لمّا تقلّد عبد الرحمن غلب عليّ بن عيسى على التدبير فعلم أبو العبّاس الخصيبي وأبو القاسم سليمان بن الحسن وقد كنّا ذكرنا أمرهما وما كان من نفى عليّ بن مقلة إيّاهما إلى عمان وتقدّمه إلى يوسف بن وجيه صاحب عمان بحبسهما وأنّ يوسف بن وجيه أطلقهما فصارا إلى بغداد واستترا بها إلى أن قبض أبو عليّ ابن مقلة.
فلمّا كان في هذا الوقت أكرمهما عبد الرحمن الوزير وكانا يصلان معه إلى الراضي بالله مع أبي جعفر محمّد بن القاسم الكرخي وأبي عليّ الحسن بن هارون وعليّ بن عيسى لا يتأخّر أيضا عن الحضور معهم وسلّم أبو عليّ ابن مقلة إلى الوزير عبد الرحمن فضربه بالمقارع وأخذ خطّه بألف ألف دينار ثم سلّمه إلى أبي العبّاس الخصيبي فجرت عليه من المكاره والضرب والرهق أمر عظيم وحضر أبو بكر ابن قرابة بعد مدّة فتوسّط أمره وضمن ما عليه وتسلّمه وكان أدّى إلى الخصيبي نيّفا وخمسين ألف دينار.
وصرف بدر الخرشنى عن الشرطة لانحراف الحجريّة عنه وولّى أعمال المعاون بإصبهان وفارس لأنّ الحجريّة كرهوا مقامه بالحضرة فخلع عليه وأخرج مضاربه إلى ميدان الإشنان وأنفذ إليه اللواء وضمّ إليه الحسن بن هارون لتدبير أمر الخراج بهذه النواحي ثم توقّف عن إمضاء هذا الرأي فبطل خروجه.
وعجز عبد الرحمن عن تمشية الأمور وضاق المال حتى استعفى عبد الرحمن عن تمشية الأمور للراضى بالله ومن الوزارة وسأله أن يقرضه عشرة آلاف دينار إذ كانت وجوه المال قد تعذّرت عليه فقبض عليه الراضي في هذه السنة وقلّد وزارته الكرخي.
ذكر وزارة أبي جعفر محمد بن القاسم الكرخي
لمّا قلّد أبو جعفر الكرخي الوزارة وخلع عليه وانصرف إلى منزله ومعه الجيش كلّف مناظرة عليّ بن عيسى وأخيه عبد الرحمن وحملا إلى داره فصادر عليّ بن عيسى على مائة ألف دينار وصادر أخاه على سبعين ألف دينار وأقاما على حال صيانة وتكرمة إلى أن أدّى عليّ بن عيسى سبعين ألف دينار وأدّى أخوه ثلاثين ألف دينار ثم صرفا إلى منازلهما.
وكان الوزير أبو جعفر الكرخي قصيرا فاحتيج بسبب قصره إلى أن ينقص من ارتفاع سرير الملك فنقص منه أربع أصابع مفتوحة.
وفيها قتل ياقوت بعسكر مكرم.
ذكر مقتل ياقوت
قد ذكرنا أمر ياقوت في خروجه إلى أرجان لحرب عليّ بن بويه في قضّه وقضيضه وديلمه وأتراكه وسائر خيله. وكان معه من الرجّالة السودان ثلاثة آلاف رجل وانهزم من بين يدي عليّ بن بويه بباب أرجان بعسكره كلّه وكان على الساقة في الهزيمة لأنّه ثبت وسار عليّ بن بويه خلفه إلى رامهرمز وحصل ياقوت بعسكر مكرم في غربيّها وقطع الجسر المعقود على المسرقان وأقام عليّ بن بويه برامهرمز إلى أن وقع الصلح بينه وبين السلطان.
وكتب أبو عبد الله البريدي إلى ياقوت أن يقيم بعسكر مكرم إلى أن يستريح ويقع التدبير لأمره من بعد وكان غرضه ألّا يجمعه وإيّاه بلد فقبل ياقوت. وأتاه أبو يوسف البريدي متوجّعا بما جرى عليه من الهزيمة ومهنّئا له بالسلامة وتوسّط بينه وبين أخيه أبي عبد الله يعلّل بها عسكره إلى أن يكتب إلى السلطان ويستأمره فيما يطلقه له ولرجاله وعرّفه أنّ الرجال المقيمين بالأهواز فيهم كثرة ويطالبون بمالهم وهم البربر والشفيعية والنازوكيّة واليلبقيّة والهارونيّة وكان أبو عليّ ابن مقلة ميّز هؤلاء وأنفذهم إلى الأهواز لتخفّ مؤونتهم عن الحضرة وتتوفّر أموال الساجيّة والحجريّة. فذكر أبو يوسف أنّ هؤلاء لا يطلقون مالا يخرج من الأهواز إلى سواهم وأنّهم إن أحسّوا شغبوا فاحتاج أبو عبد الله إلى مفارقة الأهواز إشفاقا على نفسه منهم.
ثم تؤول الحال إلى حرب تقع بعد الهزيمة الأرجانيّة ولا يدرى كيف تكون الحال فيها وأنّ السلطان مع ذلك مطالب بحمل مال إليه وقال له:
« إنّ رجالك مع سوء أثرهم وقبح بلائهم وهزيمتهم دفعة إذا أعطوا اليسير قنعوا به وصبروا عليه. » فقبل ياقوت ذلك وسبّب له بهذا المال على عسكر مكرم وتستر فأرضى ببعضه الحجريّة وببعضه وجوه القوّاد وأنفق في سودانه في المسجد الجامع بعسكر مكرم ثلاثة دراهم لكلّ رجل ومضى الأمر على ذلك شهورا.
وأفتتح مال سنة أربع وعشرين وثلاثمائة فضجّ رجاله وطالبوه وقالوا:
-
« إنّه لا صبر لهم على الضرّ وإنّ المنافسة على خيرات الدنيا في الطبع والجبلّة لو كانوا أغنياء فكيف بهم مع اختلالهم وأنّهم لا يرضون أن يقبض نظراؤهم بالأهواز على الإدرار ويحرموا هم وأن يتجرّعوا الأسف والحسرات وأنّهم قد سئموا الفقر ومعاناة المجاعة. » وقد كان استأمن من أصحاب عليّ بن بويه إلى ياقوت طاهر الجيلي وكان ممّن يرشّح نفسه للأمور الكبار ويرى أنّه نظير لشيرج وطبقته واجتمع إليه نحو ثمانمائة رجل من العجم. فشغب على ياقوت ثم رحل مع أصحابه وانصرف عنه وقدّر أنّه يملك ماه البصرة وماه الكوفة فكبسه عليّ بن بويه ثم سجنه فلجأ بنفسه مع بعض غلمانه وأبو جعفر الصيمري كاتبه في الأسر وخلّصه الحنّاط فخرج إلى كرمان فكان سببا لإقباله واتصاله بالأمير أبي الحسين أحمد بن بويه فضعفت نفس ياقوت بخروج طاهر الجيلي وأصحابه واستطال باقى رجاله عليه وخاف أن يعقدوا لبعض قوّاده الرئاسة وينصرفوا عنه فكاتب أبا عبد الله البريدي بالصورة وأعلمه أنّه كاتبه ومدبّر أمره وأنّه قد فوّض إليه الرأي والتدبير في رجاله ليمضى عليه وعليهم ما يستصوبه.
ذكر الخديعة التي نفذت على ياقوت
كان ياقوت واثقا برجل ساقط يعرف بأبي بكر النيلي يجريه مجرى الأب وينحطّ إلى رأيه وقوله مع ضعة في النيلي وخساسة في همّته وقدره.
فاستصلحه أبو عبد الله البريدي ووسّع عليه فكان النيلي رسول ياقوت إلى أبي عبد الله بما قد ذكرته فكتب أبو عبد الله البريدي أنّ عسكره قد فسدوا وفيهم من ينبغي أن يميّز ويخرج لأنّ عليّ بن خلف بن طناب خانه واقتطع أموالا باسم هؤلاء القوم وزاد قوم زيادات كثيرة وأنّ الصواب أن ينفذوا إليه ليعرّفهم أنّ هذه الزيادات تفوّتهم الأصول السلطانيّة ويشافههم بأنّ الصواب أن يسقطوها ليتوفّر عليهم الأصول وقال:
« إنّما يتمّ هذا بالأهواز لأنّهم يردونها أفواجا وزمرا فإن أساءوا آدابهم وامتنعوا قوّموا بالجيش المقيمين بالأهواز وأنّهم إن خوطبوا بهذا الكلام وهم بعسكر مكرم تظاهروا وتضافروا وتعاقدوا فلم يتمّ عليهم ردّهم من الكثير إلى القليل. » وأكثر في هذا المعنى حتى قال:
« يا أبا بكر سبيل العرض أن يقع بحيث الهيبة والخوف لا بحيث الحكم والاستطالة. » فما قال له النيلي:
« الهيبة حيث يكون الأمير لا أنت ولا كانت له منّة لأن يردّ عليه شيئا. » وسأل أبو عبد الله البريدي أن ينفذ إليه أبا الفتح ابن أبي طاهر وأبا أحمد السجستاني ليشاورهما في التقرير ويتعرّف منهما منازل الرجال واستدعى أبا بكر النقيب الذي كان مع أبي طاهر محمّد بن عبد الصمد ليعرف منه أحوالهم. وأنفذ إليه ياقوت من التمس وتقدّم إلى رجاله بالخروج للعرض. فلمّا حصلوا عند البريدي استصلح الرجال لنفسه وانتخب منهم من أراد ووعدهم أن يجريهم مجرى من معه بالأهواز فأجابوه وصاروا إلى عسكره وردّوا الأرذال إلى ياقوت بعد أن أسقط زياداتهم. فلمّا استتمّ العرض وجد نصف الياقوتيّة قد انحازوا عنه. فقيل لياقوت ذلك ووبّخ وعذّل فقال:
« قد اجتمع لي بمقام من أقام بالأهواز خفّة المطالبة عني وحصولهم مع كاتبي وليس يصلح ابن البريدي لما أصلح له فأخافه وإن احتجت أو احتيج إلى حرب فالجماعة بالضرورة يعودون إليّ وهم عدّة لي عنده. » وعاد رجال ياقوت إليه فقالوا له:
« ما حصلنا من الغرض إلّا على أن خرج شطرنا وهيض جناحنا وضعفت شوكتنا فاكتب إلى البريدي أن يحمل ما قرره لنا. » فكتب ياقوت بذلك فأجابه أبو عبد الله بأنّه يحتال ويحمل.
ثم زاد الإلحاح على ياقوت فخرج بنفسه إلى الأهواز في ثلاثمائة رجل وقلّل العدّة لئلّا يستوحش البريدي وقدّر أنّه إلى كاتبه يمضى. فتلقاه أبو عبد الله البريدي بالسواد الأعظم وأخرج معه كلّ من بالأهواز من الجيش فلمّا رأى ياقوتا ترجّل له وانكبّ ياقوت عليه حتى كاد ينزل عن دابّته ثم سار وأنزله داره وخدمه بنفسه وقام بين يديه إلى أن طعم وغسل يده فناوله الماورد والمنديل وبخّره بيده فهو في ذلك قبل أن يفاوضه، إذ ارتفعت ضجّة عظيمة وشغب الجند وقالوا:
« إنّما وافى ياقوت إليه. » فقال البريدي: « أيّها الأمير الله الله اخرج وبادر وإلّا قتلنا جميعا. » فخرج ياقوت من وقته خائفا يترقّب من طريق يخالف طريق المشغّبين وعاد إلى عسكر مكرم كما بدأ منها.
ثم ورد عليه كتاب البريدي بأنّ الرجال بالأهواز قد استوحشوا منه وأنّ الوجه أن يخرج إلى تستر فإنّ بينها وبين الأهواز ستّة عشر فرسخا. وعسكر مكرم فهي على ثمانية فراسخ وإذا نأت الدار زال الاستيحاش وسبّب له على عامل تستر بخمسين ألف دينار فخرج إليها. فقال له مونس - وكان مونس هذا تربية ياقوت وثقته -:
« أيّها الأمير، إنّ البريدي يحزّ مفاصلنا مفصلا مفصلا ويسخر منّا وأنت مغترّ به وقد حاز شطر رجالنا ووجوه قوّادنا إلى نفسه وضمن لنا اليسير من المقرّر وليس يطلق ذلك أيضا ليستأمن إليه الباقون ثم يأتى على أنفسنا وقد اتّصلت كتب الحجريّة إليك بأنّه لم يبق لهم شيخ غيرك. فإمّا دخلت بغداد وجميع من بها يسلّم لك الرئاسة وأوّلهم محمّد بن رائق بالضرورة لسنّك وأنّك نظير أبيه، وإمّا خرجت إلى الأهواز حتى تطرد البريدي عنها وتقيم أنت بها فإنّا وإن كانت عدّتنا يسيرة دون عدّته فهو كاتب ونحن في خمسمائة رجل وهو في عشرة آلاف رجل وقد أحصيت من عندنا فوجدتهم نحو خمسة آلاف رجل وفيهم كفاية والعسكر بصاحبه وأنت أنت.
وقد قال عدوّك عليّ ابن بويه: لو كان في عسكر ياقوت مائة رجل مثله ما قاومته. فالله الله يا مولاي، لم تضيّع نفسك وتضيّعنا؟ » فقال: « سأنظر وأفكر. » فخرج مونس مغضبا من عنده وركب في ثلاثة آلاف رجل شاذّا عن مولاه ياقوت ووافى عسكر مكرم يريد الأهواز وقال لنا.
« لا أعصى مولاي، فإنّه اشترانى وربّانى واصطنعني ولكني أفتح الأهواز وأسلّمها إليه. » فما استقرّ بعسكر مكرم ثلاث ساعات من النهار حتى ورد كتاب ياقوت على درك - وكان والى الشرطة بعسكر مكرم - يعرّفه أنّ مونسا غلامه خرج بغير إذنه وشرح له صورته وسأله أن يجتمع معه ويخوّفه الله عز وجل ويحذّره كفر نعمته ويستوقفه إلى أن يلحق به. فعبر درك من شرقيّ عسكر مكرم إلى غربيّها ووعظ مونسا وعظا كثيرا وخاطبه خطابا بليغا وكان درك شيخا مقدّما إلّا أنّ السنّ قد أخذت منه وحضر بحضوره أصحابه. فقال لمونس خادم كان معه مكينا منه وكان معقّلا:
« يا مونس إنّ مولاك قبض على ابنيه وهما تاجان ودرّتان فلم يستحلّ أن يعصى مولاه ولا يكفر نعمته وسلّمهما ولم يحارب فيهما ولا طلب بهما أفأنت تعصى مولاك فترسل يدك عن طاعته؟ أما تخاف العقوبة؟
وإن تخذل في هذه الحرب ويظفر بك فتخسر الدنيا والآخرة ولا سيّما وقد بذل أن يوافيك ويساعدك على ما تريده. انتظر ريث ورود كتابنا وورود جوابه. » فأقام مونس لما أخذه العذل والتأنيب من درك وأصحابه ووافى ياقوت في اليوم الثاني واجتمع مع غلمانه. ووافى عسكر البريدي بأسره فنزلوا في صحراء خان طوق ومعهم غلام البريدي يرؤسهم ومعه القوّاد الكبار وأكبرهم أبو الفتح ابن أبي طاهر. ووقعت المنازلة بين ياقوت وأبي جعفر الجمّال وتثبّت ياقوت بعسكر مكرم عن المسير إلى الأهواز وتهيّب الصورة وقال لمونس:
« السلطان لنا على النيّة التي عرفناها وكان منه إلى ابني ما لا يجوز أن يصلح لي أبدا وفارس فقد عرفت صورتنا بها ولا مذهب لنا في الدنيا ولا لنا موضع نأويه إلّا هذا البلد والحرب سجال وقد كثر عسكر الرجل فإن نحن حاربناه وانهزمنا كنّا بين الأسر والحمل إلى الحضرة وشهرت بها وأركبت الفيل ثم يظنّ أنّى كفرت نعمة مولاي فيلعننى الناس وبين أن أقتل. والوجه المداراة والمقاربة لهذا الرجل وأن نعود إلى تستر ونصير منها إلى الجبل فإن استقام لنا بها أمر وإلّا لحقنا بخراسان. » وشاع هذا الكلام فضعفت نفوس أصحابه وطالت الأيّام في منازلة عسكر البريدي فكان كلّ يوم يستأمن عدّة من أصحابه إلى البريدي فكان مونس يبكّر إليه في كلّ يوم ويقول له:
« يا مولاي مضى البارحة من أصحابنا ثلاثمائة أو أكثر أو أقلّ. » فلا يزيده على أن يقول:
« إلى كاتبنا يمضون وإذا كانت هذه نيّاتهم لنا فما الانتفاع بهم؟ ولأن يبقى معنا ألف رجل فنمضى بهم إلى حيث نقصد أصلح من جميع هذا اللفيف الذي هم كلّ في الرخاء وأعداء يوم اللقاء وقد جرّبناهم بباب فارس وباب أرجان. » فلم يزل كذلك حتى بقي في ثمانمائة رجل.
فلمّا علم البريدي أنّه قد استظهر الاستظهار التامّ راسله في الموادعة بأبي القاسم التنوخي القاضي وقال:
« إني لك على العهد والميثاق. » وأنّه كاتبه وأنّ الإمارة لا تصلح له وأنّ البلوى والشقاء قد حلّا به وصارت مطالبة الرجال عليه وأنّه يلاقي الموت صباح مساء ويخاف على نفسه منهم وأنّه لا رغبة له في ارتباطهم وإنّما جرّ سبب سببا حتى اجتمعوا عنده وأنّه يصاهره حتى يزداد ثقة به.
ووكلّ القاضي في تزويج ابنته من أبي العباس أحمد بن ياقوت فوافاه القاضي أبو القاسم التنوخي وأدّى إليه الرسالة وقبلها وانعقد الصهر ورحل للوقت إلى تستر. ووافاه بعقب ذلك غلام للسلطان من الحجريّة ومعه المظفّر ابنه بكتاب إليه يذكر فيه أنّه قد وهب ابنه هذا له ومن به عليه. فالتقيا بتستر فأشار عليه ابنه المظفّر بالخروج إلى حضرة السلطان ليشكره على إنفاذه ويقيم بدير العاقول ويستأذنه في الدخول. فإن أذن له فقد تمّ له ما يحبّ ووجد الحجريّة مسرعين إليه، وإن لم يأذن له تقلّد الموصل وديار ربيعة وخرج إليها، وإن منع من ذلك جعل مقصده الشام. فخالف ابنه ولم يرتض رأيه وقال:
« أنا أتأمّل ما ذكرته فأقم عندي لنتشاور. » فاستعفاه من ذلك وسأله أن يأذن له في المقام بعسكر مكرم فأذن له.
فأطمع البريدي المظفّر في أن يجعله اسفهسلار عسكره وأن يتدبّر بتدبيره حتى فارق أباه واستأمن إليه فحصل في بستانه المشهور بالأهواز وأحاط بالبستان من يراعيه ويحفظه من حيث لا يعلم.
ولمّا استوثق البريدي لنفسه واستظهر، تخوّف من الياقوتيّة الذين عنده وأن يراسلوه بلون من الألوان المنكرة من التدبير عليه أو أن يتداخلهم التعصّب له فيشغبوا عليه ويدعوا بشعار ياقوت.
وكتب إلى ياقوت بأنّ السلطان قد أمره بالخروج عن تستر إلى الحضرة في خمسة عشر غلاما أو النفوذ إلى الجبل متقلّدا لها وبأن يقصده إلى تستر ويخرجه منها قهرا فتحيّر ودعا مونسا غلامه فقال له:
« أيّ شيء ترى؟ » فقال له:
« الآن وقد مضى ما مضى والله لا صحبك إلى الحضرة ولا إلى الجبل أحد ممّن معك ولا لهم نفقات تنهضم. فإن أردت أن تمضى في عشرين غلاما إلى السلطان فذاك إليك. »
فأجاب البريدي عن كتابه بأنّه يروى ويذكر له ما عنده بعد أن استمهله شهرا ليتأهّب للسفر الذي يقصده. فعاد إليه من جواسيسه واحد كذبه فأخبره بأنّ الجيش وافى عسكر مكرم ونزلوا الدور وانبسطوا في المدينة فأحضر غلامه مونسا وقال له:
« ظفرنا والحمد لله بعدوّنا وكافر نعمتنا فنسير من تستر وقت عتمة ونصبّح عسكر مكرم والقوم غارّون في الدور فنكبسهم ونشرّدهم ونمتدّ إلى الأهواز فلا يثبت لنا البريدي بل يكون همّه الهرب لوجهه. » فقال مونس:
« أرجو أن يكون هذا صوابا. » وسار ياقوت ووصل إلى عسكر مكرم وقد بدأت الشمس من مطلعها وامتدّ مشتقّا للبلد إلى ناعورة السبيل ونهر جارود فلم ير لرجال البريدي أثرا فخيّم ونزل عند النهر ومضى يومه إلى آخره وهو متعجّب من الغرور الذي غرّه جاسوسه.
فلمّا كان وقت العصر ظهرت الطلائع ثم أقبل العسكر وأميرهم أبو جعفر الجمّال فنزل على فرسخ من ياقوت وحجز الليل بين العسكرين وأصبح فكانت بينهم مناوشة ومبارزة واتّعدوا للحرب في اليوم الذي يليه لأنّ عسكر البريدي كان منتظرا عسكرا قد سيّره البريدي على طريق دجيل ليدخل من ضفّته كمينا على ياقوت حتى يصير وراءه. ثم أصبحوا في اليوم الثالث من ورود ياقوت عسكر مكرم فابتدأت الحرب منذ وقت طلوع الشمس إلى وقت الظهر وثبت ياقوت ومعه ممّن نصره مثل مونس وآذريون ومشرق وغيرهم في دون ألف رجل. فأعيا من بإزائه من أبي جعفر الجمال وغيره على كثرة عددهم حتى كادت البريديّة تنهزم.
وجاءت الظهر وقد بلغت القلوب الحناجر فطلع الكمين وهم ثلاثة آلاف رجل جامّين. فأبلس ياقوت وقال:
« لا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم. » وأومأ مونس أن يقصدهم ويكفيه إيّاهم فعدل مونس مع ثلاثمائة رجل إليهم وبقي ياقوت في خمسمائة رجل فما مضت ساعة حتى وافى منهزما فرمى ياقوت نفسه من دابّته ونزع سلاحه وما عليه من ثيابه حتى بقي بسراويل وقميص سينيزيّ. ثم أوى إلى رباط يعرف برباط الحسين بن دبار فاستند إليه ولو دخل الرباط واستتر فيه لانستر أمره ولجنّه الليل ولجاز أن يسلم.
فجلس بحيث ذكرت وهو بقرب ناعورة السبيل وغطّى وجهه ومدّ يده يسأله ليقدّر فيه أنّه من أرباب النعم افتقر وهو يطلب هديّة فركب إليه قوم من البربر ورأوه بهذه الصورة فطلبوه بكشف وجهه فامتنع وأومأ إليه أحدهم بمزراق فقال:
« أنا ياقوت احملونى إلى البريدي. » فاجتمعوا عليه وحزّوا رأسه وانهزم مونس ومشرق وآذريون إلى تستر واتّبعهم الأعراب والبربر فأسروهم وردّوهم. وأطلق أبو جعفر الجمال طائرا بالخبر إلى البريدي يستأذن في رأس ياقوت. فردّ إليه في الجواب مع غلام يركض بأن يجمع الرأس والجثّة ويدفن الجميع في الموضع الذي قتل فيه.
طغيان البريدي بعد مقتل ياقوت
وقبض البريدي على المظفّر ابنه مدّة ثم أنفذه إلى الحضرة.
وطغى البريدي بعد ذلك وشهّر نفسه بالعصيان وقد كانت نفسه ضعيفة فيما ارتكبه من أمر ياقوت فقوّاها أخوه أبو يوسف حتى جهّز إليه العساكر وقتله.
فحكى أبو زكريا يحيى بن سعيد السوسي أنّه سمع أبا يوسف البريدي يخاطب أبا عبد الله أخاه فقال أبو عبد الله:
« يا أخي أخاف أن تتعصّب الحجريّة علينا فيقتلونا إن دخلنا الحضرة يوما وفي العاجل لست آمن على أخي أبي الحسين وهو بالحضرة أن يقتل بثأره. » فقال أبو يوسف:
« أمّا أبو الحسين فنحن نكتب إليه بالخبر حتى يأخذ لنفسه ويستظهر، وأمّا الحجريّة ودخولنا الحضرة، بعد أن وسمنا بمصادرة اثنى عشر ألف ألف درهم، فهيهات من ذلك. أبعد تخلّصنا من القاهر ومن الخصيبي الملعون وسلامة أرواحنا نحدّث أنفسنا بدخول الحضرة؟ بلى ستهدم منازلنا وإلى لعنة الله، ما نعود إلى الحضرة فنحتاج إليها وقد أدبرت. ودع يا أبا عبد الله ما اعتدت فإنك لا ترى مثله مع خلوقة الزمان وإدبار الملك وفقر الخلافة. وقد كنّا نتكسّب من السلطان وهو اليوم مثلنا نحن بل نحن مكسب له يريد أن يجتاحنا ويأخذ مالنا ومتى لم نعتصم بهذه العساكر المجتمعة ونخرج ياقوتا منها سقطنا ثم يطول علينا أن نجد من أيّامنا يوما. والله ما أشرت عليك بما نسمع إلّا بعد أن استعددت له ما يعينني عليه وقد واقفتك على هذا سرّا وجهرا وأبو زكريا ممّن لا نحتشمه. » قال أبو زكريا: وإنّما أومأ أبو يوسف بهذا القول إلى مال السوس وجنديسابور فإنّ أبا عبد الله كان أجمّه عنده استظهارا وأناخ في النفقات وأرزاق الأولياء وما كان يعلّل به السلطان على أموال كور الأهواز الباقية.
وكان يجتذب القطعة فالقطعة منها ويجعل ذلك وراءه ولم يكن له نفقة ولا بذخ حينئذ.
وما وهب قطّ لطارق ولا شاعر ولا ولد نعمة شيئا وكان عارفا بورود الأموال وخرجها وجميعها تجرى على يده فإن شذّ منها شيء عنه إلى إسرائيل بن صلح وسهل بن نظير الجهبذين لم يخف عليه مبلغه.
قال: واستخرج أبو عبد الله وأخوه أبو يوسف من كور الأهواز بعد تقليد الراضي إيّاهما لسني اثنتين وثلاث وأربع وعشرين وثلاثمائة وإلى شعبان من سنة خمس - فإن بجكم هزمهم وأخرجهم عنها في هذا الشهر - ثمانية آلاف ألف دينار وجميع ما خرج عنها في جميع وجوه النفقات دون أربعة آلاف ألف دينار حاصلة.
وسمعت يعقوب الصيرفي اليهودي يقول: سمعت أبا عبد الله يقول:
« نمضي إلى البصرة فإن تمّ لنا بها أمر فقد كفينا وإن حزبنا أمر لا نطيقه قصدنا عمان واستجرنا بصاحبها - يعنى يوسف بن وجيه - فإنّه حرّ ودبّرنا أمرنا فإمّا أن عبرنا إلى فارس واستجرنا بعليّ بن بويه فإنّ دولة الديلم قوية والحضرة مدبّرة، وإمّا أن عبرنا إلى التيز ومكران وقصدنا صاحب خراسان. فالطريق إليها جدد. »
عود إلى ذكر أخبار الحضرة وتدبير الوزراء لها
وعدنا إلى ذكر أخبار الحضرة وتدبير الوزراء لها. كان الوزير غير ناهض بالوزارة وما زالت الإضافة تزيد ومن في يده مال من المعاملين يطمع وقطع ابن رائق الحمل من واسط والبصرة والبريديون من الأهواز وعليّ ابن بويه قد تغلّب على فارس وابن الياس على كرمان فتحيّر أبو جعفر الكرخي واعتدت المطالبات عليه وانقطعت الموادّ عنه ونقصت هيبته فاستتر بعد ثلاثة أشهر ونصف من وقت تقلّده، ووجد في خزانته سفاتج لم تفضّ وما يجرى هذا المجرى من العجز وقلّة النفاذ في العمل.
وزارة سليمان بن يحيى
ولمّا استتر الكرخي استحضر الراضي سليمان بن الحسن أبا القاسم فقلّده الوزارة والدواوين. فكان في التحيّر وانقطاع المواد عنه على مثل حال الكرخي فدفعت الضرورة الراضي بالله إلى أن راسل أبا بكر محمّد بن رائق وهو بواسط وأذكره بما ضمن من القيام بالنفقات وإزاحة علّة الجيش والحشم ومسألته عمّا عنده من المقام على ذلك أو الانصراف عنه. فتلقّى أبو بكر محمّد بن رائق الرسول بالجميل ووصله بألف دينار وأجاب عن الكتاب بأنّه مقيم على ما ضمنه.
ذكر استيلاء ابن رائق على الخلافة وسائر الممالك
-
فأنفذ إليه الراضي ماكرد الديلمي من الساجيّة وعرّفه أنّه قلّده الإمارة ورئاسة الجيش وجعله أمير الأمراء وردّ إليه تدبير أعمال الخراج والضياع وأعمال المعاون في جميع النواحي وفوّض إليه تدبير المملكة وأمر بأن يخطب له على جميع المنابر في الممالك وبأن يكنّى، وأنفذ إليه الخلع واللواء مع ماكرد الديلمي وخادم من خدم السلطان وانحدر إليه أصحاب الدواوين كلّهم وجميع قوّاد الساجيّة والحسن بن هارون. فلمّا حصلوا بواسط قبض على الساجيّة وعلى الحسن بن هارون قبل أن يصلوا إليه وحبس الساجيّة ونهبت رحالاتهم وقيل للحجريّة:
« إنّما فعلنا ذلك بالساجيّة لتتوفّر أموالكم. » وورد الخبر بذلك إلى بغداد وكان قد بقي من الساجيّة ببغداد خلق فخرجوا إلى الموصل وإلى الشام. واستوحش الحجريّة ببغداد لما جرى على الساجيّة بواسط فقصدوا دار السلطان وأحدقوا بها وضربوا خيمهم حولها ووجّه ابن رائق بمونس الأفلحى وبارس الحاجب إلى بغداد فضربوا خيمهم في باب الشمّاسيّة وقلّة لؤلؤ الشرطة ببغداد. ثم أصعد محمّد بن رائق من واسط يوم الجمعة لعشر بقين من ذي الحجة ومعه بجكم. فرتّب محمّد بن رائق فوق الوزير وخلع عليه وركب إلى مضربه في الحلبة وحمل إليه من دار السلطان الطعام والشراب والفواكه عدّة أيّام وخدمه في ذلك خدم السلطان.
واجتمع إليه الغلمان الحجريّة وسلّموا عليه وأمرهم بقلع خيمهم من دار السلطان والانصراف إلى منازلهم ففعلوا.
وبطل منذ يومئذ أمر الوزارة فلم يكن الوزير ينظر في شيء من أمر النواحي ولا الدواوين ولا الأعمال ولا كان له غير اسم الوزارة فقط وأن يحضر في أيّام المواكب. وصار ابن رائق وكاتبه ينظران في الأمر كلّه وكذلك كلّ من تقلّد الإمارة بعد ابن رائق إلى هذه الغاية وصارت أموال النواحي تحمل إلى خزائن الأمراء فيأمرون وينهون فيها وينفقون كما يرون ويطلقون لنفقات السلطان ما يريدون وبطلت بيوت الأموال.
وفي هذه السنة ملك ابن الياس كرمان وصفت له بعد حروب جرت له مع جيش خراسان.
إفضاء أمر أحمد بن بويه إلى ملك العراق
وفي هذه السنة جرت الحادثة على أبي الحسين أحمد بن بويه وأصيب بيده ووقع بين القتلى ثم تخلّص وأفضى أمره إلى ملك العراق.
ذكر السبب في ذلك
لمّا تمكّن عليّ بن بويه بفارس وتمكّن أخوه الحسن بن بويه بإصبهان نظر في أمر أخيه الأصغر أبي الحسين أحمد بن بويه فتقرّر الأمر بينهما مكاتبة ومراسلة على أن يتوجّه إلى كرمان فضمّ إليه عليّ بن بويه عسكرا فيه من كبار الديلم ومذكوريها ألف وخمسمائة رجل ونحو خمسمائة رجل من الأتراك ومن يجرى مجراهم.
وكان يكتب لأبي الحسين في ذلك الوقت رجل يعرف بأبي الحسين أحمد بن محمّد الرازي وكان ممتعا بإحدى عينيه ويعرف بكوردفير ولم تكن له صناعة ولكنّه كان واسع الصدر شجاعا. فورد السيرجان واستخرج منها مالا وأنفقه في عسكره وكان إبراهيم بن سمجور الدواتى من قبل صاحب خراسان محاصرا لمحمّد بن الياس بن اليسع الصغدي. فلمّا بلغ ابن سمجور خبر الديلم رجع إلى خراسان ونفّس عن خناق محمّد بن الياس فتخلّص وانتهز الفرصة وخرج عن القلعة التي كان فيها إلى مدينة بم وهي على مفازة تتصل بسجستان. فسار أحمد بن بويه إليه فرحل إلى سجستان من غير حرب فانصرف من هناك وتوجّه إلى جيرفت - وهي قصبة كرمان - واستخلف على بم بعض قوّاده. فلمّا أشرف على جيرفت تلقّاه رسول عليّ بن الزنجي وكان رئيس القفص والبلوص وهو المعروف بعليّ بن كلويه.
وكان هو وأسلافه متغلبين على تلك الأعمال إلّا أنّهم يجاملون كلّ سلطان يرد عليهم ويذعنون له ويحملون إليه مالا معلوما ولا يطؤون بساطه.
فبذل لأحمد بن بويه ذلك المال على الرسم. فأجابه بأنّ الأمر في هذا إلى أخيه عليّ بن بويه وأنّه لا بدّ له من دخول جيرفت. فإذا دخلها كاتبه وراسله في ذلك وأمره أن يبعد عن البلد. فاستجاب ورحل إلى نحو عشرة فراسخ من البلد في موضع وعر صعب المسلك.
وتردّدت المراسلات بينهما إلى أن تقرّر الأمر بينهما على أن ينفذ إليه رهينته ففعل وقاطعه عن البلد على ألف ألف درهم يحملها في كلّ سنة وحمل في الوقت مائة ألف درهم منسوبة إلى الهدية وغير محسوبة من مال المقاطعة، وأقام له الخطبة. ثم حمل شيئا من مال التعجيل وسلك سبيل الوفاء معه. فأشار كوردفير الكاتب على أحمد ابن بويه بأن يسرى إليه ناقضا ما بينهما من العهود فإنّه سيجده غير متحرّز وأصحابه غارّين لسكونهم إلى وقوع الاتفاق وزوال الخلاف فيفوز بأموالهم وذخائرهم ويستولى على ديارهم ويتمّ له ما لا يتمّ لأحد قبله.
ذكر ما كان من عاقبة هذا الغدر والنكث
أصغى أبو الحسين أحمد بن بويه إلى كاتبه ووقع بوفاقه لحداثة سنّة واغتراره فحمل نفسه على مفارقة ما يجب عليه في الدين والمروءة وجمع صناديد عسكره وخلّف سواده وما يجرى مجراه وأسرى للوقت إلى القوم وذلك عند صلاة العصر ليصبّحهم بياتا.
وكان عليّ بن كلويه متيقّظا قد وضع عيونه عليه فسبق إليه الخبر فجمع أصحابه ورتّبهم على مضيق بين جبلين كان الطريق فيه. فلمّا توسّط أبو الحسين في الليل مع أصحابه ثاروا به من جميع الجوانب فقتلوا وأسروا رجال العسكر فلم يفلت منهم إلّا اليسير. ووقعت بأبي الحسين أحمد بن بويه ضربات كثيرة كانت ظاهرة فيه وطاحت يده
-
ليسرى وبعض أصابع يده اليمنى وأثخن بالضرب في رأسه وسائر جسده وسقط بين القتلى. وورد الخبر بذلك إلى جيرفت فهرب كاتبه كوردفير ومن تأخّر من أصحابه. ولمّا أصبح عليّ بن كلويه أمر بتتبّع القتلى والتماس أحمد بن بويه فوجدوه حيّا. إلّا أنّه قد أشفى على التلف. فحمل إلى جيرفت وأقبل عليّ بن كلويه على علاجه وخدمته وبلغ في ذلك كلّ مبلغ واعتذر إليه وأظهر الغمّ بما أصابه. واتّصل الخبر بعليّ بن بويه فاشتدّ غمّه وقبض على كوردفير وأنفذ مكانه أبا العبّاس وخطلخ حاجبه في ألفى رجل ليجمعا ما بقي من سواد معزّ الدولة - أعنى أحمد بن بويه - بالسيرجان ويضمّا من بقي من فلّ العسكر.
وأنفذ عليّ بن كلويه رسله وكتبه إلى عليّ بن بويه بالاعتذار ممّا جرى ويوضّح له الصورة ويبذل من نفسه الطاعة ويذكر أنّه ما فارقها ولا خرج عنها. فأنفذ إليه عليّ بن بويه قاضى شيراز وأبا العبّاس الحنّاط وأبا الفضل العبّاس بن فسانجس وجماعة من الوجوه وأجابه بالجميل وبسط عذره وأمضى ما كان قرّره وردّ رهينته وجدّد له عهدا وعقدا. فحينئذ أطلق عليّ ابن كلويه أبا الحسين أحمد بن بويه وأطلق معه اسفهدوست وسائر من كان أسيرا في يده بعد أن أجمل معاملتهم وخلع عليهم وحمل إليهم آلات وألطافا.
فلمّا وصل أحمد بن بويه إلى السيرجان وجد كاتبه مقبوضا عليه وقد جرى عليه مكاره عظيمة أشرف منها على التلف فاستنقذه ونصره وبرّأه من الذنب وشفع إلى أخيه فيه فشفّعه وأطلقه.
وتأدّى إلى أبي عليّ ابن الياس ما جرى على أبي الحسين وطمع فيه وسار من سجستان حتى نزل البلد المعروف بخناب فتوجّه إليه أبو الحسين واشتدّت الحرب بينهما أيّاما، إلّا انّ عاقبة الأمر كانت لأبي الحسين.
فانهزم ابن الياس وعاد أبو الحسين ظافرا وتتبعت نفسه التشفي من عليّ بن كلويه وطلب الثأر عنده. فتوجّه إليه واستعدّ عليّ بن كلويه واحتشد ثم سار إليه فلمّا صار بين العسكرين نحو من فرسخين نزل وعملوا على مباكرة الحرب فأسرى عليّ بن كلويه في جماعة من أصحابه وهم قوم رجّالة قادرون على العدو والمصابرة فيه فوقع على عسكر أبي الحسين ليلا.
واتفق أن تغيّمت السماء بمطر جود واختلط الناس فلم يتعارفوا إلّا باللعنات. فأثّروا في عسكر أبي الحسين وقتلوا ونهبوا وانصرفوا وبات عسكر أبي الحسين بقية ليلتهم يتحارسون. فلمّا أصبحوا ساروا إلى القوم فأوقعوا بهم وقتلوا منهم عدّة وانهزم عليّ بن كلويه ورجع أبو الحسين وقد نقع بعض غلّته إلّا أنّ في صدره بعد حزازات.
وكتب إلى أخيه عليّ بن بويه بالبشارة والظفر بابن الياس وانهزامه وبعليّ ابن كلويه وهربه. فورد عليه الجواب بأن يقف حيث انتهى ولا يتجاوزه.
وأنفذ إليه المرزبان بن خسره الجيلي أحد قوّاده الكبار ليبادر به إلى حضرته ويمنعه التلوّم والمراجعة وكاتب سائر القوّاد بمثل ذلك. فرجع إلى حضرته كارها لأنّه ما كان بلغ ما في نفسه من عليّ بن كلويه وأصحابه.
فلمّا وصل إلى إصطخر أقام.
ذكر ما اتفق له من الخروج إلى بلدان العراق حتى ملكها
واتفق أنّ أبا عبد الله البريدي وافى فارس في البحر لاجئا إلى عليّ بن بويه وذلك أنّ محمّد بن رائق وبجكم استظهرا عليه في عدّة حروب وانتزعا الأهواز من يده وأشرفا على انتزاع البصرة منه. فخلّف أخاه أبا يوسف وأبا الحسين عليّ بن محمّد بها. فلمّا ورد حضرة عليّ بن بويه مستصرخا به أكرمه وأحسن ضيافته وبذل له أبو عبد الله - إذا ضمّ إليه الرجال - أن يمكّنه من أعمال العراق ويصحّح له أموالا عظيمة من الأهواز ويسلّم إليه ولدين له رهينة.
واستقدم عليّ بن بويه أخاه أبا الحسين من إصطخر فلمّا قرب منه تلقّاه في جميع عسكره وقرّبه ورتّبه فوق ما كان في نفسه تسلية له عن مصيبته ثم أنهضه مع أبي عبد الله البريدي في عسكر قويّ وعدّة تامّة وسار واتّصل خبره بمحمّد بن رائق وبجكم. فأمّا بجكم فإنّه عاد إلى الأهواز وكان مع ابن رائق بعسكر أبي جعفر محاصرين البصرة وأراد أن يمنع الديلم من تورّد الأهواز. وأمّا ابن رائق فعاد إلى واسط والتقى عسكر بجكم وعسكر أبي الحسين بالقرب من رامهرمز وانحاز بجكم إلى عسكر مكرم بعد حروب سنذكرها إن شاء الله في سنة ستّ وعشرين.
ودخلت سنة خمس وعشرين وثلاثمائة
وفيها أشار أبو بكر محمّد بن رائق على الراضي بالله أن ينحدر معه إلى واسط ليقرب من الأهواز ويراسل البريدي فإن انقاد إلى ما يراد منه وإلّا... عليه قصده. فاستجاب الراضي إلى ذلك وانحدر يوم السبت غرّة المحرّم واضطربت الحجريّة وقالوا:
« هذه تعمل علينا ليعمل بنا ما عمل بالساجيّة ونحن نقيم ببغداد. » فلم يلتفت ابن رائق إليهم وانحدر بعضهم وتأخّر أكثرهم ثم انحدر الجميع.
فلمّا صاروا بواسط عرضهم ابن رائق وبدأ بخلفاء الحجّاب وكانوا نحو خمسمائة حاجب فاقتصر منهم على ستين وأسقط الباقين ونقص أزراق من أقرّ منهم وأخذ يعرض الحجريّة ويسقط منهم الدخلاء والبدلاء والنساء والتجّار ومن لجأ إليهم فاضطربوا من ذلك ولم يستجيبوا إليه. ثم استجابوا وعرضهم وأسقط منهم عددا كثيرا ثم اضطربوا وحملوا السلاح فحاربهم ابن رائق يوم الثلاثاء لخمس بقين من المحرّم حربا عظيمة فكانت على الحجريّة فقتل بعضهم وأسر بعضهم وانهزم الباقون إلى بغداد. فركب لؤلؤ صاحب الشرطة ببغداد وأوقع بالمنهزمين واستتروا فنهبت دورهم وأحرق بعضها وقبضت أملاكهم.
فلمّا فرغ ابن رائق من حرب الحجريّة وقهرهم تقدّم بقتل من كان اعتقلهم من الساجيّة فقتلوا سوى صافى الخازن والحسن بن هارون. فلمّا فرغ من الساجيّة والحجريّة عمل الراضي بالله وأبو بكر بن رائق على الشخوص إلى الأهواز ودفع البريدي عنها وأخرجت المضارب إلى باذبين وبلغ البريدي ذلك فقلق قلقا شديدا وأنفذ إلى أبو جعفر ابن شيرزاد وأبو محمّد الحسن بن إسماعيل الإسكافي برسالة من الراضي بالله ومن ابن رائق يعرّفان أنّه قد أخّر الأموال واستبدّ بها وأفسد الجيوش وحسّن لها المروق وأنّه ليس بطالبيّ يسارع على الملك ولا بجنديّ فيبتغى الإمارة ولا من حملة السلاح فيؤهّل لفتح البلاد المنعلقة وأنّه كان كاتبا صغيرا فرفع بعد خمول وعاملا من أوسط العمّال فاصطنع وأهّل لجليل الأعمال فطغى وكفر النعمة وجازى عن الإحسان بالسوء وخلع الطاعة وأنّه إن سلّم الجند وحمل المال أقرّ على العمالة وإلّا قصد وعومل بما يستحقّ.
فوافياه وأخبراه بما تحمّلاه ونصحا له فعقد على نفسه كور الأهواز بثلاثمائة وستين ألف دينار يحمل منها في كلّ شهر من شهور الأهلّة ثلاثين ألف دينار وأن يسلّم الجيش ممّن يؤمر بتسليمه إليه ممّن يؤمّر عليهم ليخرج بهم إلى فارس للحرب إذ كانوا كارهين للعود إلى الحضرة لضيق الأموال بها ولاختلاف كلمة الأولياء فيها ولأنّهم لا يأمنون الأتراك والقرامطة.
وكاتبا ابن رائق بذلك فعرضه على الراضي بالله وشاور فيه الحسين بن عليّ النوبختي فأشار بألّا يقبل منه ذلك وأن يتمّم ما شرع فيه من قصده ما دام قلبه قد نخب وأن يخرج الأهواز من يده ولا يقارّ بها. وأشار أبو بكر ابن مقاتل بقبول ما بذله وإقراره في ولايته. فمال ابن رائق إلى الهوينا وقبل رأى ابن مقاتل وكان الرأي الصحيح مع النوبختي وكتب إلى ابن شيرزاد وابن إسماعيل وأذن لهما في العقد والإشهار ففعلا وانصرفا.
فأمّا المال فما حمل منه دينار واحد. وأمّا الجيش فإنّه أنفذ جعفر بن ورقاء لتسلّمه والنهوض إلى فارس به فوافى جعفر بن ورقاء الأهواز وتلقّاه أبو عبد الله البريدي في الجيش كلّه كوكبة بعد كوكبة حتى ملأ الأرض بهم واسودّت منهم حافّين بأبي عبد الله حوله فورد على جعفر بن ورقاء ما حيّره.
ثم أنفذت الخلع السلطانيّة إلى أبي عبد الله البريدي بالولاية وعمالة الأهواز فلبسها في جامع الأهواز وانصرف إلى داره فمشى العسكر قوّادهم وفرسانهم وصميمهم وعبيدهم ورجالتهم بخفاقهم وراياتهم وأسلحتهم بين يديه. فيئس جعفر بن ورقاء وكان راكبا معه وانخزل وسقطت نفسه. فلمّا بلغ داره احتبسه واحتبس القوّاد معه والناس، وكان يوما عظيما.
ثم أقام جعفر بن ورقاء أيّاما فدسّ عليه البريدي الرجال فشغبوا وطالبوه بمال يفرّق فيهم رزقة تامّة للنهوض. فاستتر واستجار بالبريدى فأخرجه وعاد إلى الحضرة.
وعنى ابن رائق بأبي الحسين البريدي قبل هذه الحال حتى انحدر من بغداد ولحق بأخويه. ولمّا تقرّر أمر البريدي أصعد الراضي بالله وابن رائق إلى بغداد. ودخل أبو عبد الله الحسين بن عليّ كاتب الأمير ابن رائق بغداد.
ذكر حيلة أبي بكر ابن مقاتل على الحسين بن علي النوبختي حتى عزله عن كتابة ابن رائق
وكان أبو بكر محمّد بن مقاتل متمكّنا من ابن رائق التمكّن المشهور منحرفا عن الحسين بن عليّ النوبختي بعد المودّة الوكيدة. وكان هو أوصله إلى ابن رائق وأدخله في كتابته فلهذا ولأنّ الحسين بن عليّ فوقه ومتفرّد بابن رائق - وهو المدبّر للملك والذي بنى لابن رائق تلك الرتبة العظيمة والذي ساق إليه تلك النعمة وجمع له تلك الأموال التي كان مستظهرا بها من ضمان واسط والبصرة - أشار على ابن رائق أن يعتضد بأبي عبد الله البريدي وأن يستكتبه ليتفق الكلمة ويجتمع جيش الأهواز إلى جيشه وقال له:
« أيّها الأمير لك في ذلك جمال عظيم لأنّه اليوم كالنظير لك فإذا تواضع وصار تابعا جاز حكمك عليه وسيقال لك: إنّ البريدي غدر بالسلطان وبياقوت فكيف تثق به؟ فالجواب عن هذا أنّه ليس يجمعكما أرض فتتمّ حيلته عليك كما تمّت على ياقوت وأنت غير قادر عليه إلّا بحرب وقد يجوز أن تظفر به أو يظهر هو. فإذا كنّا قد انتهينا إلى هذه الحال معه فحطّه من الإمارة إلى الكتابة وتصييره تابعا ثم جذب رجاله وجيشه بالخدعة أو إنفاذه مع بجكم ليفتح لنا فارس وإصبهان أولى من دفعه عمّا سأل وإيحاشه فيحتاط لنفسه ويخبّب الرجال وقد حمل إلى الأمير مع هذا ثلاثين ألف دينار هدية هي في منزلي. » وقال له ابن رائق:
-
« ما كنت لأصرف الحسين بن عليّ مع نصحه لي وتبرّكى به ولو فتح لي فارس وإصبهان وساقهما إليّ خصوصا وأهداهما لي دون غيري. » قال: « أيّها الأمير فإن كرهت هذا فضمّنه واسطا والبصرة. » فقال: « هذا لفعلته إن أشار به أبو عبد الله الحسين بن عليّ. » قال: « فتكتمه أيّها الأمير خوضنا في الكتابة ولا تذكرها. » وحضر أبو عبد الله الحسين بن عليّ بعد ذلك وعرض عليه هذا الرأي فضجّ منه وعدّد مساوئ البريدي وغدره وكفره الصنائع منذ ابتداء أمرهم وإلى أن كاشفوا بالعصيان، وأعاد حديث ياقوت. ثم التفت إلى ابن مقاتل فقال:
« ما قضيت حقّ هذا الأمير ولا نصحته. » ثم قال:
« أنا عليل أيّها الأمير، فإن عشت وأنا معك فهيهات أن يتمّ عليك وإن مضى فيّ حكم الله فنشدتك الله أن تأنس بالبريدى أو تسكن إليه بشيء من أصناف حيله. » فدمعت عين ابن رائق وقال:
« بل يحييك الله ويهلكه. » وكان الحسين ابن عليّ عليلا من حمّى وسعال. ثم انصرف الحسين بن عليّ وابن مقاتل مغضب. فقال لابن رائق:
« قد حمل الرجل إليك ثلاثين ألف دينار ولا بدّ من أن تعمل به جميلا.
فاقبل أحمد بن عليّ الكوفي خليفة لنا بحضرتك ونائبا عنه إلى أن ترى رأيك. » فقال: « أمّا هذا فنعم. » وكتب ابن مقاتل إلى البريدي بما جرى وأنفذ أحمد بن عليّ الكوفي ووافى حضرة أبي بكر محمّد بن رائق بمدينة السلام واختلط به نيابة عن أبي عبد الله البريدي وثقل الحسين بن عليّ النوبختي فتأخّر عن الخدمة أيّاما.
وكان له ابن أخ قد صاهره فهو يخلّفه في مجلس ابن رائق ويوقّع عنه. فقال أبو بكر ابن مقاتل للأمير ابن رائق:
« حسن العهد من الإيمان وهو من الأمير أحسن لأنّه عائد بالسلامة عليّ ولكن إضاعة الأمور ليس من الحزم والحسين بن عليّ ميّت فانظر لنفسك فإنّ الأمور قد اختلّت. » فقال: « يا هذا، الساعة والله سألت سنان بن ثابت عنه فقال: قد صلح وخفّ النفث وأنّه أكل الدرّاج. » فقال: « سنان رجل عاقل ولا يحبّ أن يلقاك فيمن تعزّ بما تكره ولا سيّما هو وزير الزمان ولكن صهره وابن أخيه خليفته أحضره وحلّفه أن يصدقك. » قال: « افعل. » وانصرف ابن مقاتل ودعا عليّ بن أحمد بن أخي الحسين بن عليّ وقال له:
« قد مهدّت لك كتبة الأمير وواقفته على تقلّدك إيّاها وهي وزارة الحضرة وعمّك ذاهب فإن سألك فعرّفه أنّه ميّت لا محالة. فإنى أعود إليه وأناجزه فيخلع عليك قبل أن يطمع فيها غيرك. » فاغترّ عليّ بن أحمد وسأله محمّد بن رائق من غد بعد أن أخلى نفسه عن خبر عمّه. فكان جوابه أن بكى وقال:
« أعظم الله أجرك أيّها الأمير في أبي عبد الله عدّه من الأموات. » ثم لطم وجهه. فقال ابن رائق:
« لا حول ولا قوّة إلّا بالله أعزز عليّ به، لو فدى حيّ ميّتا لفديته بملكي كلّه. » واستدعى ابن مقاتل فقال له:
« كان الحقّ معك قد يئسنا من الحسين بن عليّ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، فأيّ شيء نعمل؟ » فقال: « هذا أبو عبد الله أحمد بن عليّ الكوفي نظير الحسين بن عليّ وكانا صنيعتي إسحاق بن إسماعيل النوبختي، هو في نهاية الثقة والعفاف وهو خصيص بأبي عبد الله البريدي وإن أنت استكتبته اجتمعت لك كفاية إلى عفافه واستقصائه وانضاف إلى ذلك كلّه حصول أولئك في جملتهم وانقطاعهم إليك ونعتدّ على أبي عبد الله أنّا قد أجبناه إلى ما سأل من كتابتك واستخلفنا صاحبه أبا عبد الله الكوفي. » فقال: « استخر الله وافعل ولكن عهدة أبي عبد الله الكوفي عليك ألّا يغشّنى ويؤثر البريدي في حال من الأحوال. » فقال: « أنا الضامن عن أبي عبد الله الكوفي كلّ ما شرطه الأمير. » فاستكتبه فدبّر الأمور كلّها كما كان يدبّرها الحسين بن عليّ وأسقط من الكتب التي تكتب عن ابن رائق وكتب: « فلان بن فلان ». وكان الحسين بن عليّ يكتب ذلك على رسم الوزارة فكانت مدّة تدبير الحسين بن عليّ النوبختي لأمور المملكة ثلاثة أشهر وثمانية أيّام.
وكتب أبو بكر ابن رائق إلى أبي عبد الله البريدي يعتدّ عليه بما احتال له حتى زحزح الحسين بن عليّ وساق الأمر إليه واستخلف له أبا عبد الله الكوفي فحمل إليه أبو عبد الله البريدي عشرة آلاف دينار وحمل إلى ابن رائق عشرين ألف دينار بعد الثلاثين الألف الدينار التي قدّمنا ذكرها. واستقلّ الحسين بن عليّ النوبختي وصحّ جسمه وعوفي فكتم ذلك عن ابن رائق وتمكّن البريديون حتى غلبوا على البصرة.
ذكر الخبر عما احتالوا به واتفق أيضا لهم
لمّا مضى شهر من استكتاب ابن رائق أبا عبد الله الكوفي [ حتى ] شرع لأبي يوسف البريدي في ضمان البصرة وواسط فأشار عليّ بن رائق بذلك فقال:
« لا أفعل ولا أثق بهما. » قال له:
« ولم أيّها الأمير؟ أمّا واسط فأنا مدبّرها وليس يرد لهم إليها ولا راجل، وعليّ توفية مالها. وأمّا البصرة فقد قرّرت أمرها على أربعة آلاف ألف درهم على أن يقيم لي بها ضمناء ثقات. »
وأشار أبو بكر بن مقاتل بمثل ذلك فأذن ابن رائق في العقد عليه فقلّد أبو يوسف أبا الحسن ابن أسد أعمال الخراج بالبصرة وكان والى الحرب بها محمّد بن يزداد فخرج أهل البصرة بأجمعهم إلى سوق الأهواز لتهنئة البريدي بالولاية وكان جمعهم عظيما جدا. وكان أبو الحسين ابن عبد السلام الهاشمي وجيه البصرة قد شذّ عن ابن رائق لأنّه قصّر به وحطّ منه بالبصرة، فقصد أبا عبد الله البريدي وأبا يوسف أخاه فطرح نفسه كلّ مطرح عندهما وأشار إليهما بالغلبة على البصرة وإنفاذ العساكر إليها وذكر طاعة الخول وأهل الأنهار له.
فأخذ أبو عبد الله في بناء الشذاءات والزبازب والطيّارات والاستكثار منها حتى اجتمعت له مائة قطعة في نهاية الوثاقة والجودة. فحين وافاه أهل البصرة للتهنئة قرّبهم وأكرمهم ورفع منهم وقال:
« قد اطّلع أبو الحسين بن عبد السلام على نيّتى الجميلة فيكم ومحبتي لصلاحكم وإعداد آلة الماء للجيوش الذين أحصّن بهم بلدكم من القرامطة وكنت مستغنيا عن ضمان البصرة إذ لا فائدة لي فيها وإنّما امتعضت لكم من ظلم ابن رائق ومحمّد بن يزداد خليفته لكم وتحمّلت في مالي أربعة آلاف دينار في كلّ شهر بإزاء ما كان يؤخذ من الشرطة والمآصير والشوك تخفيفا عنكم وقد أزلت جميعها وهذا خطّى برفعها عنكم. » ووقّع بذلك توقيعا وسلّمه إليهم وكثر الدعاء والضجيج بشكره. ثم قال لهم:
« إنّه سيبلغ هذا ابن رائق فينكره ويوحشه مني ويصير سببا للعداوة بيني وبينه. وو الله ما أبالى أن يعاديني أخواى أبو يوسف وأبو الحسين وابني أبو القاسم في صلاحكم. لأنى أعلم أنّ فيكم بنى هاشم وطالبيين وأولاد المهاجرين والأنصار، ومن حرمة الإسلام صيانتكم وأنّى لأقدر أنّ الله عز وجل يغفر لي كلّ ذنب بإزالة الأذيّة عنكم وسيروم ابن رائق ردّ ما قد أزلته عنكم من هذا الحطام الذي كان يأخذه. فأين السواعد القويّة والنفوس الأبيّة التي حاربت عليّ ابن أبي طالب صلوات الله عليه. فمتى رام ابن رائق نقض ما عملت فاضربوا وجهه ووجوه أصحابه بتلك السواعد والسيوف وأنا من وراءكم. » ثم ذكر أهل البصرة بأيّامهم مع عبد الرحمن بن الأشعث ومحمّد وإبراهيم ابنى عبد الله بن حسن وقال:
« لتكن قلوبكم قويّة وآمالكم فسيحة ونفوسكم شديدة في مجاهدة عدوّكم. » ثم وقّع للنفقة على المسجد الجامع بالبصرة بألفي دينار وقال:
« بلغني أنّه خراب. » وعرضت عليه الرقاع بالحاجات فوقّع بحطائط ونظر وصلات وتخفيف في المعاملات بألفي ألف درهم وانصرفوا عنه وقد صاروا سيوفه. وسيّر إقبالا غلامه وحاجبه وكانت له نوبة مع أبي جعفر الجمّال وضمّ إليه ألفى رجل وقال:
« أقيموا بحصن مهدى إلى أن نكاتب إقبالا الحاجب بالمسير بهم إلى البصرة. » واتّصل ذلك بأين يزداد فقامت قيامته.
وفي هذه السنة قلّد محمّد بن رائق أبا الحسين بجكم الشرطة بمدينة السلام وقلّد الحسين عمر بن محمّد قضاء القضاة مع الأعمال التي إليه. وأمر الغلمان الحجريّة المستترين ببغداد فظهروا وصاروا إليه بالسلاح فعرضهم وأمضى من جملتهم نحو ألفى رجل وأثبتهم برزق مستأنف على ما رآه وأسقط الباقين وأخرج من أمضاه وقرر رزقه إلى الجبل. فلمّا صاروا بطريق خراسان أجمع رأيهم على المضيّ إلى الأهواز فمضوا إلى أبي عبد الله البريدي فقبلهم وأضعف أرزاقهم وخاطبهم بالترثّى لهم ممّا جرى عليهم من ابن رائق والتعجب منه ووعدهم الإحسان التامّ. وأظهر للسلطان وابن رائق أنّه لم يكن به طاقة لمّا صاروا إليه أن يدفعهم وأنّه اضطرّ إلى قبولهم وجعلهم حجّة في قطع ما كان ووقف على حمله واحتجّ بأنّهم اجتمعوا مع الجيش ومنعوه من حمل مال البلد وغلب على الأهواز والبصرة.
انقسام الدولة العباسية إلى دويلات
فصارت الدنيا في أيدى المتغلّبين وصاروا ملوك الطوائف وكلّ من حصل في يده بلد ملكه ومنع ماله.
فصارت واسط والبصرة والأهواز في أيدى البريديين وفارس في يد عليّ بن بويه وكرمان في يد أبي عليّ ابن إلياس وإصبهان والريّ والجبل في يد أبي عليّ الحسن بن بويه ويد وشمكير يتنازعونها بينهما والموصل وديار ربيعة وديار بكر في أيدى بنى حمدان ومصر والشام في يد محمّد بن طغج والمغرب وافريقية في يد أبي تميم والأندلس في يد الأموي وخراسان في يد نصر بن أحمد واليمامة والبحرين وهجر في يد أبي طاهر ابن أبي سعيد الجنّابى وطبرستان وجرجان في يد الديلم، ولم يبق في يد السلطان وابن رائق غير السواد والعراق.
ولمّا حصلت ديار مضر خالية قد خربت وضاق مالها عن كفاية السلطان خرج عنها بدر الخرشنى - وكان يتولّى الحرب بها - وعاد إلى الحضرة. فلمّا خلت من صاحب معونة، قصدها عليّ بن حمدان فغلب عليها. وزاد في مرض أبي عبد الله الحسين بن عليّ النوبختي ما رآه من انتقاض كلّ ما كان نظمه وما تمّ عليه من الحيلة، فآل أمره إلى السلّ.
وفي هذه السنة انكشفت الوحشة بين محمّد بن رائق وبين البريديين
-
ذكر السبب في ذلك
اتفق أن وافى أبو طاهر القرمطي الكوفة فدخلها في شهر ربيع الآخر من سنة خمس وعشرين. فخرج ابن رائق من بغداد ونزل في بستان ابن أبي الشوارب بقنطرة الياسريّة وأنفذ أبا بكر ابن مقاتل برسالة إلى أبي طاهر الهجري. وكان أبو طاهر يطالب بأن يحمل إليه السلطان في كلّ سنة مالا وطعاما بنحو مائة وعشرين ألف دينار ليقيم في بلده. وبذل له ابن رائق بأن يجعل ما التمسه رزقا لأصحابه على أن يكسر لهم السلطان جريدة وينفق فيهم ويدخلوا في الطاعة ويستخدموا. وجرت خطوب بينهما ومخاطبات انصرف معها أبو طاهر إلى بلده من حيث لم يتقرّر له أمر مع ابن رائق وبلغ ابن رائق إلى قصر ابن هبيرة ثم عاد منها إلى واسط وكاشف البريدي واستوزر أبا الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات.
ذكر السبب في ذلك
كان ظنّ ابن رائق أنّه إذا استوزر أبا الفتح جذب له الأموال من مصر والشام. فقدم أبو الفتح من الشام ولزم سليمان بن الحسن منزله وكان حمل إليه الخلع قبل وصوله إلى بغداد فوصلت إليه وهو بهيت فلبسها. ثم دخل بغداد وأقرّ أبا القاسم الكلوذانى على ديوان السواد واستخلف بالحضرة أبا بكر عبد الله بن عليّ النفرى وهو زوج أخته وكتب السلطان في استيزاره أبا الفتح كتابا نفذ إلى أصحاب الأطراف.
ولمّا بلغ ابن رائق ما خاطب البريدي به أهل البصرة قلق وتغيّر للكوفى واتّهمه وهمّ بالقبض عليه، فحامى عنه أبو بكر ابن مقاتل، ثم رأى أنّه يغالط ابن البريدي بكتاب إليه. فقال للكوفى أنّه بلغني أنّ صاحبك خاطب أهل البصرة بما أنا معرض عنه فإنّه ربّما وقع التزيّد في مثله ولكن اكتب إليه:
« إنّ الذي أنكرته قبولك الحجريّة. فأمّا إذا تردهم وإمّا أن تطردهم وإن استأذنوك في ناحية يقصدونها فاضمم إليهم من رأيت من قوّادك وأنفذهم إلى الجبل وهذا العسكر الذي أنفذته إلى حصن مهدى، فأنا أعلم أنّه لمّا اتّصل ورود الهجري إلى الكوفة استظهرت بإنفاذه ليعين من فيها عليه إن احتيج إلى ذلك وقد استغنى الآن عنهم وفي مقامهم بالحصن مع الاستغناء عنهم تسليط الظنون السيّئة عليك وإيجاد أعداءك سبيلا إلى التضريب بيني وبينك.
« وبلغني أنّك قد كنت أنفذت أبا جعفر محمّدا غلامك إلى السوس - وكان قد أنفذه على الحقيقة - وأمرته أن يقصد الطيب ويقيم بها إشفاقا من أن يلحقني وهن من القرامطة فإن احتيج إليه لحماية واسط كان قريبا وإني لمّا وافيت كاتبته بالانصراف فعاد إلى الأهواز، وهذا مشكور. فاعمل في أمر إقبال ومن أنفذته إلى حصن مهدى كهذا العمل، ثم أنا لك على الوفاء. »
فكتب الكوفي بهذا كلّه. فكان الجواب:
« إن جيشه القديم متشبّثون بالحجريّة لأنّهم أقاربهم وبين القوم وصل ورحم وبلديّة ولا يمكن إخراجهم جملة واحدة ولكنّه على الأيّام يفرّق شملهم، وإنّ الأخبار تواترت بأنّ القرمطي لمّا انصرف عن الكوفة قصد البصرة واستجار به أهلها فأنفذ هذا العسكر إشفاقا عليها وأنّهم قد حصلوا بها. » وكان البريدي ساعة ورود الخبر عليه بنزول ابن رائق واسط أنفذ إلى من بحصن مهدى بدخول البصرة فدخلوها بعد أن أنفذ من الحجريّة قطعة وافرة لمعاضدتهم على دخولها. وأخرج محمّد بن يزداد تكان الصغدي وتكين - وكانا تركيّين من شحنة البصرة - لحربهم فوقعت بينهم وقعة في نهر الأمير انهزم بها الرائقيّة. ثم زاد محمّد بن يزداد في عدّتهم بالإثبات وبغلمان نفسه. فكانت الوقعة الثانية بكسر أبان وبينها وبين الأبلّة فرسخ.
فانهزم الرائقيّة هزيمة ثانية ودخل إقبال وجيش البريدي البصرة.
وأمّا محمّد بن يزداد صاحب ابن رائق فإنّه فتح باب البصرة وهرب على طريق البرّ إلى الكوفة.
وأمّا تكان وتكين ورجال الماء من الرائقيّة فإنّهم اهتدوا في زبازبهم إلى واسط.
وورد الخبر على ابن رائق بحصول إقبال غلام البريدي وأصحابه بالبصرة وجواب كتاب الكوفي في أيّام متقاربة. فأنفذ رسولا إلى البريدي برسالة قسّمها بين إرغاب وإرهاب ووعد ووعيد فكان من جوابه:
« إنّه لا يمكنه ردّ رجاله من البصرة، لأنّ أهلها قد أنسوا بهم واستوحشوا من قبيح ما عاملهم به ابن يزداد في أيّامه لأنّ القرمطي طامع في البلد وليس يأمن متى كاتبهم بالانصراف أن يدخل القرامطة إلى البصرة ضرورة، لئلّا تعود المعاملة بين أهلها وبين ابن يزداد بعد أن كاشفوه. » وقد كان لعمري أهل البصرة في نهاية الاستيحاش من ابن رائق ومحمّد بن يزداد، فإنّ محمّد بن يزداد سار بهم سيرة سدوم وظلمهم في معاملاتهم ظلما مفرطا وسامهم الخسف وكانوا قد اعتادوا العزّ وقدّروا بالبريدى خيرا ثم رأوا منه ومن أخويه ما ودّوا أنّهم أكلوا الخرشف والخرنوب وصبروا على محمّد بن رائق ومحمّد بن يزداد ومعاملته.
ولمّا عاد الرسول بالجواب كان ابن رائق قد استدعى بدرا الخرشنى وأكرمه وخلع عليه خلعا سلطانيّة وحمله. وترجّح الرأي في تسيير الجيوش إلى الأهواز والبصرة ثم استقرّ الرأي على أن يقلّد بجكم الأهواز بعد حديث لبجكم في ذلك مع ابن مقاتل سنذكره فيما بعد إن شاء الله. وخلع عليه ابن رائق لذلك وسيّره وبدرا الخرشنى إلى الأهواز وضمّ إليه ابن أبي عدنان الراسبي دليلا ومعينا وأنفذ حاجبه فاتكا وعبد العزيز الرائقى وأحمد بن نصر القشوري وبرغوثا وأمرهم أن يقيموا بالجامدة ويحصل جيش البريدي بين حلقتى البطان فبادر بجكم ولم يتوقّف على بدر الخرشنى ونفذ أمامه فوصل إلى السوس وأخرج البريدي محمّدا غلامه المعروف بأبي جعفر الجمّال في عشرة آلاف رجل بأتمّ آلة وأكمل سلاح للحرب.
فوقعت الحرب بظاهر السوس ومع بجكم مائتان وتسعون غلاما من الأتراك فانهزم البريديّة يوم نزول بدر بالطيب.
وقال بجكم:
« إنّما بادرت وحملت على نفسي ما حملت ولاقيت هذه العدّة العظيمة بهذه العدّة اليسيرة لئلّا يشركني بدل في الفتح. » وعاد أبو جعفر الجمّال إلى أبي عبد الله البريدي فصفعه بخفّة وقال:
« انهزمت مع عشرة آلاف من بين يدي ثلاثمائة غلام. » فقال له:
« أنت ظننت أنّك تحارب ياقوتا المدبر وجيشه المدابير. قد والله جاءك من لتّ بجكم والأتراك خلاف ما عهدت من سودان باب عمان والمولّدين. » فقام إليه فلكمه بيده ثم قال له:
« قد أنفذت أبا الخليل الديلمي ومن معي من العجم ومن كان يخلّف بالأهواز في ثلاثة آلاف رجل إلى تستر فانفذ الساعة مع من صحبك إليها حتى تجتمع معهم وتعاود الحرب. » فقال: « افعل وسنعود إليك هذه الكرّة بأخزى من الكرّة الأولى لأنّ هيبة بجكم قد تمكّنت في نفوس أهل العسكر. » ونفذ للوقت في ثلاثة آلاف رجل ووافى بجكم إلى نهر تستر فطرح نفسه وغلمانه أنفسهم في الماء للعبور سباحة وكان الماء قليلا فانهزم القوم بغير حرب وعادوا إلى أبي عبد الله. فخرج في الوقت مع أخويه وجلسوا في طيّار ومعهم حديدي فيه ثلاثمائة ألف دينار كانت في خزائنهم فغرقت بالنهروان وغرق الطيّار وأخرجهم الغوّاصون وأخرج لبجكم بعض المال. فقال أبو عبد الله:
« ما نجونا والله من الغرق بصالح أعمالنا ولكن لصاعقة يريدها الله بهذه الدنيا. » فقال له أبو يوسف:
« ويحك، ما تدع التنادر في هذه الحال. » ثم وافوا البصرة ودخل بجكم الأهواز وكتب إلى ابن رائق بالفتح.
ولمّا وصل أبو عبد الله إلى الأبلّة ومعه أخواه أنفذ إقبالا غلامه إلى مطارا وأقام هو وأخواه في طيّاراتهم وأعدّوا ثلاثة مراكب للهرب منها إلى عمان إن اتفق على إقبال بمطارا من الهزيمة مثل ما تمّ على أبي جعفر بالسوس.
وأخرج أبو عبد الله البريدي أبا الحسن ابن عبد السلام لمعاضدة إقبال، فانهزم الرائقيّة وأسر برغوث وحمل به إلى البريدي فأطلقه، وكتب إلى ابن رائق كتابا يستعطفه فيه وأنفذه إليه مع برغوث ودخل البريون الثلاثة إلى الدور فنزلوها وسكنوا واطمأنّوا ولم يمكن بجكم أن يسير من الأهواز لخلوّ الأهواز من آلة الماء وشغب رجال بدر عليه فانصرف إلى واسط وملك بجكم الأهواز.
ولمّا عرف ابن رائق ما جرى على رجاله في الماء أنفذ أبا العباس أحمد بن خاقان وجوامرد الرائقى إلى المذار على الظهر لمحاربة البريدي وإخراج أصحابه وسيّر بدرا الخرشنى إلى البصرة في الماء في شذاءات مقيّرة بناها بواسط. فانهزم الرائقة من المذار وأسر أبو العبّاس ابن خاقان ورجع جوامرد إلى واسط وأحسن البريدي إلى ابن خاقان واستحلفه ألّا يعود لمحاربته ولا يشايع عليه وأطلقه.
واتّصل خبر هذه الهزيمة بابن رائق فسار بنفسه من واسط إلى البصرة على الظهر وكتب إلى بجكم أن يلحق به إلى عسكر أبي جعفر. فاتفق أن سار بدر الخرشنى في الماء إلى نهر عمر ووافى إلى البصرة وملك شاطئ الكلّا وحصل إقبال غلام البريدي في حدود واسط لمّا عرف خروج ابن رائق عنها وبلغ ابن رائق ذلك فردّ فاتكا حاجبه إلى واسط ليحفظها.
ولمّا ملك بدر الخرشنى الكلّا هرب أبو عبد الله البريدي للوقت إلى جزيرة أوال وخرج من كان بالبصرة من الجند لدفع بدر وانضاف إليهم عالم عظيم من العامّة فاضطرّ بدر إلى الإفراج عن شاطئ الكلّا وحصل بالجزيرة التي بإزاءه واستتر أبو يوسف البريدي وركب أخوه أبو الحسين يحض الجند والعامّة ووافى بجكم إلى ابن رائق وهو في عسكر أبي جعفر يوم ورود بدر لكلّا ولمّا كان وقت العصر عبر ابن رائق وبجكم دجلة البصرة ودخلا نهر دبيس وتبعهما أحمد بن نصر القشوري فرمى بالحجارة وغرق زبزبة واجتمع بدر وابن رائق وبجكم في الجزيرة فشاهدوا أمرا عظيما وخطبا جليلا من العامّة وتكاثرهم عليهم. فقال بجكم لابن رائق:
« ما الذي عملت بهؤلاء القوم حتى قد أحوجتهم إلى ما خرجوا إليه؟ » فقال: « لا والله ما أدري. » وانصرف بجكم وابن رائق إلى عسكر أبي جعفر ولمّا جنّ الليل وجاء المدّ انصرف بدر إليهما.
وبلغ إقبالا خبر بدر في نفوذه في الماء إلى البصرة من الجامدة ومخالفته إيّاه الطريق فكرّ راجعا ووافى في اليوم الثاني وقت العصر إلى شاطئ الكلّا ونفذ إلى شاطئ الأبلّة وحال بين ابن رائق وبجكم وبدر وبين الابلّة وصارت الحرب في دجلة وطالت المنازلة.
ونفذ أبو عبد الله البريدي من جزيرة أوال إلى فارس واستجار بعليّ ابن بويه فأنفذ معه أخاه أبا الحسين أحمد بن بويه لفتح الأهواز.
وورد الخبر بذلك على ابن رائق وأصحابه فتقدّم ابن رائق إلى بجكم بالمبادرة إلى الأهواز لحمايتها فقال بجكم:
« لست أحارب الديلم وأدفعهم عن الأهواز إلّا بعد أن تحصل لي أمارتها حربا وخراجا. وأنت تعلم أنّى ما صبرت لأبي العبّاس الخصيبي لمّا قلّدته الأهواز حتى صرفته أصبر لعليّ بن خلف بن طناب أن يتحكّم في بلد أحارب عنه؟ » وكان عليّ بن خلف بالأهواز من قبل الوزير أبي الفتح فضمن ابن رائق بجكم الأهواز وكورها بمائة وثلاثين ألف دينار محمولة في السنة على أن يوفى رجاله مالهم ويستوفى ما يخصّه وغلمانه، وأقطعه إقطاعا بخمسين ألف دينار. ولمّا كان بعد شهر أو دونه من نفوذ بجكم إلى الأهواز انصرف ابن رائق أيضا من عسكر أبي جعفر ومضى إلى الأهواز وأحرق ما بقي من سواده لاتفاق سيّئ اتّفق عليه.
ذكر اتفاق سيئ اتفق على ابن رائق حتى انهزم إلى الأهواز وأحرق سواده
كان طاهر الجبلي وافى إلى واسط مستأمنا إلى ابن رائق فلم يجده بها وقصده إلى عسكر أبي جعفر فتلقّاه في طريقه كتاب ابنه وجاريته بحصولهما في يد ابن البريدي، لأنّ أبا عبد الله كان بفارس فقبل ابنه وجمع بينه وبين الجارية فعبر بالليل في مائتي رجل. وزعق بابن رائق وبدر الخرشنى ووازره جميع أصحاب البريدي من عسكر الماء. فأمّا بدر فإنّه انهزم إلى واسط. وأمّا ابن رائق فإنّه مضى إلى الأهواز وأكرمه بجكم وخدمه وأشير على بجكم بالقبض عليه فلم يفعل. وأقام أيّاما حتى وافاه من واسط فاتك غلامه ثم سار إليها وخلّف بجكم بالأهواز.
وأمّا حديث بجكم مع ابن رائق الذي وعدنا به فهو ما حكاه ثابت ابن سنان عن والده سنان.
ذكر حكاية عن بجكم تدل على حصافة وبعد غور وكبر همة
قال ثابت: حدّثني والدي أنّ بجكم قال له بعد أن ملك الحضرة وأزال أمر ابن رائق في عرض حديث جرى بينهما:
سبيل الملك إذا حزبه أمر من الأمور أن يكون جميع ما يملك من مال وغيره، أقلّ في عينه من التراب، وأن تحذف جميعه كما حذفت هذه الحصاة فيما يقدر به زوال ما قد أظلّه. فإنّ دولته إذا ثبتت أمكنه أن يستخلف أضعاف ما خرج عن يده وإن هو بخل وشحّت نفسه وتهيّب إخراج ما في يده ذهب ما بخل به وذهبت معه نفسه.
أذكر وقد قلّدنى ابن رائق الأهواز ولم يكن ما فعله من ذلك برأى أبي بكر ابن مقاتل ولا شاوره فيه. فلمّا بلغ ابن مقاتل الخبر شقّ عليه ذلك جدّا وبادر إلى ابن رائق وقال له:
« أيّ شيء عملت، قد عزمت على أن تقلّد بجكم الأهواز؟ » قال ابن رائق:
« نعم. »
قال: « قد أخطأت على نفسك نهاية الخطأ. أنت لا تقوى ببني البريدي وهم كتّاب أصحاب دراريع، ولا يمكنك صرفهم ولا انتزاع المال من أيديهم.
تقلّد رجلا تركيّا صاحب سيف إنّما صحبك قريبا مثل الأهواز ما هو إلّا أن تحصل الأهواز في يده ويرى جلالتها وحسنها وكثرة أموالها وما يحصل عنده من الجيش بها حتى تحدّثه نفسه بالتغلّب عليها. ثم لا يقتصر عليها حتى يطمع في غيرها وتنازعه نفسه إلى أن ينازعك أمرك ويزيلك عن موضعك ويصير هو مكانك ليأمن على ما حصل له ولا يكون له منازع عليه. وأنت الساعة على طمع في أن تنتزع البلد من يد البريدي. فإن قلّدته بجكم فاحسم طمعك عنها وأخرجها من قلبك واصرف همّتك إلى حفظ - غيرها وليته ينحفظ - واحفظ مهجتك فقد عرّضتها للتلف. » ففتأ رأى ابن رائق وصرفه عمّا عزم عليه في أمري ولعمري لقد صدقه ونصحه وأشار بالرأي الصحيح. وبلغني ما جرى بينهما فقامت قيامتي منه ورأيت أنّه يفوتني ما حدّثت نفسي به من الملك فقلقت وشاورت محمّد بن ينال الترجمان فلم يكن عنده رأى. فأخذ يسلّينى ويقول لي:
« أنت في نعمة وراحة ومحلّك من هذا الملك محلّ الأخ. » فقلت له:
« أنت أحمق، امض حتى تعدّ سميريّة في هذه الليلة المقبلة. » وعملت على قصد ابن مقاتل وعلمت أنّه تاجر عامّى صغير النفس وإنّ الدرهم ليعظم في نفوس أمثاله. فلمّا كان الليل ونام الناس حملت معي عشرة آلاف دينار ونزلت إلى السميريّة وأخذت معي محمّد بن ينال وحده ولم آخذ غلاما وصرت إلى بابه فوجدته مغلقا ودققت فخاطبني بوّابه من وراء الباب وأعلمني أنّ الرجل نائم وأنّ الأبواب بيني وبينه مغلقة. فقلت له:
« دقّ الباب وأنبهه، فإني حضرت في مهمّ. » ففعل ودخلت إليه وقد انزعج عن فراشه لحضورى في مثل ذلك الوقت فقال:
« ما الخبر؟ » فقلت: « خير وأمر أردت أن ألقيه إليك على خلوة، فانتظرت نوم الناس وخلوّ الطريق ولم آخذ معي غير الترجمان. ولو لا أنّى أردته ليترجم بيني وبينك لما أحضرته ولا أطلعته على ما أخاطبك به. » قال: فقال:
« قل ما تحبّ. » قلت: « قد علمت ما كان عزم عليه الأمير في بابى من تقليدي الأهواز، وبلغني أنّه توقّف عن ذلك ولست أعرف سبب توقّفه وفي إبطاله ما عزم عليه بطلان جاهي بعد اشتهاره وغضّ مني. ولا يشكّ أحد أنّه لسوء رأي وأنا صنيعتك وصنيعته وغرسكما وإن لم أحظ في أيّامكما فمتى أحظى وأيّ مقدار يكون لي عند الناس. وهذه عشرة آلاف دينار قد حملتها إلى خزائنك، وأنا أعلم أنّه يقبل منك، وأريد أن تشير عليه بإمضاء ما كان عزم عليه. » فلمّا رأى الدنانير تخربق وقال:
« دعني وانصرف في حفظ الله. » فتركت الدنانير بحضرته وانصرفت وأنا واثق بحصول الأهواز لي. فلمّا كان بعد ثلاثة أيّام صار ابن مقاتل إلى ابن رائق فقال له:
« أشرت بذلك الرأي على الهاجس وظاهر النظر. فلمّا تأمّلت الحال وجدت الصواب معك لأنّك إن تركت الأهواز في يد ابن البريدي وأخوته بعد ما حصل لهم من الأموال ازداد كلّ يوم قوّة وطمعا ومدّوا أيديهم إلى غيرها من أعمالك وبلدانك ودبّ فسادهم إلى عسكرك بكثرة ما يبذل ويعطى ولا يبعد بعد ذلك منازعتهم لك على أمرك هذا. وإن خرجت إليهم بنفسك فهي حرب ولا تدرى كيف تكون، فإن كانت عليك لم تشدّ منها حزاما أبدا، وإن وجّهت بغير بجكم استضعف وغلب وكسر ذلك قلوب أصحابك ولأن تصدمهم بمثل بجكم وهم لا يطمعون في مقاومته أصلح. فإن حصل له البلد استأصل شافتهم. ثم أنت مالك أمرك: إن شئت أقررته وإن شئت صرفته قبل أن يتمكّن وقبل أن يجتمع أمره ويحدّث نفسه بشيء تكرهه فاستخر الله وامض أمره. » فقبل رأيه وأمضى أمري وقلّدنى ولم أستقلّ ولاية الأهواز بذلك المال، وباع ابن مقاتل روحه وروح صاحبه ونعمته بعشرة آلاف دينار واستخلفت أنا مكان الدنانير أضعافها وحصل لي ملك ابن رائق.
شرح حال أبي الحسين أحمد بن بويه وأبي عبد الله البريدي في قصدهم الأهواز لمحاربة بجكم وذلك في سنة ستّ وعشرين وثلاثمائة ودخلت سنة ستّ وعشرين وثلاثمائة
قد ذكرنا حال أبي عبد الله البريدي وقصده عليّ بن بويه وأنّه تقدّم إلى أخيه أحمد بن بويه بالمسير إلى الأهواز معه. وخلّف أبو عبد الله البريدي عند عليّ بن بويه ابنيه أبا الحسن محمّدا وأبا جعفر الفيّاض رهينة وسار مع الأمير أبي الحسين أحمد بن بويه إلى الأهواز.
-
وورد الخبر على بجكم بنزول أحمد بن بويه أرجان. فخرج بجكم لحربه فانهزم من بين يديه وكان أوكد الأسباب في هزيمته أنّ المطر اتّصل أيّاما كثيرة فعطّلت القسيّ. ومنع الأتراك أن يرموهم بالنشّاب. فعاد بجكم وأقام بالأهواز وقطع قنطرة أربق وأنفذ محمّد بن ينال الترجمان إلى عسكر مكرم ووقعت النازلة بينه وبين محمّد بن ينال الترجمان ثلاثة عشر يوما.
ثم عبر أحمد بن بويه بخمسة من الخاصّة في سميريّة إلى مشرعة يعرف بمشرعة الحناس فهزموا من كان رتّب فيها وما زال يعبر بقوم بعد قوم حتى حصل ثلاثمائة رجل في الجانب الغربي. ثم ضربوا بالبوق واشتملوا فانهزم الترجمان وأخذ إلى تستر، وبلغ الخبر بجكم فعبر دجلة الأهواز وقبض على الوجوه بها وفيهم ابن أبي علّان وأبو زكريّا السوسي. وحمل الجميع معه والتقى مع الترجمان بالسوس وسار بجميع عسكره إلى واسط.
ولمّا حصل بالطيب كتب إلى ابن رائق بالخبر وأنّه قد حرب هو ورجاله فلم يبق لهم حال وأنّ الرجال سيطاولونه وإن كان عنده مائتا ألف دينار ينفقها فيهم فإنّهم فقراء، فالوجه أن يقيم وإن كانت متعذّرة فالصواب أن يصعد إلى بغداد فإنّه لا يأمن أن يقع شغب ولا يدرى عن أيّ شيء ينكشف.
فرهب ابن رائق هذه الحال وبادر وخرج إلى بغداد بعسكره ودخل بجكم وأصحابه واسطا وأقاموا بها واعتقل الأهوازيين وطالبهم بخمسين ألف دينار.
فقال أبو زكريا يحيى بن سعيد: « أردت أن أسبر ما في نفسه من طلب العراق فراسلته وقلت له:
« أيّها الأمير أنت مطالب بملك ومرشّح نفسك لخدمة الخلافة تعتقل قوما منكوبين قد سلبوا نعمهم وتطالبهم بمال في بلد غربة وتأمر بتعذيبهم حتى جعل في أمسنا طشت فيه جمر على بطن سهل بن نظير الجهبذ. أولا تعلم أنّ هذا إذا سمع به أوحش منك وحاربك وعاداك من لا يعرفك ولا يسمع بخبرك فضلا عمّن تحقّق فعلك هذا؟ أو ما تذكر إنكارك على الأمير ابن رائق بالأمس إيحاشه أهل البصرة وعوامّ بغداد أضعافهم؟ وقد حملت نفسك في أمرنا على مثل ما كان يعمله مرداويج بأهل الجبل. وهذه بغداد ودار الخلافة لا الريّ وإصبهان ولا تحتمل هذه الأخلاق. » فلمّا سمع ذلك انحلّ وبعث فحلّ القيود وأزال المطالبة. ثم شفّع ابن رائق وابن مقاتل والكوفيّ في يحيى بن سعيد السوسي، فأطلقه واختصّه لعقله ولما تبيّنه من نفاقه على كلّ أحد وشفّع يحيى بن سعيد في الباقين وكفّل بهم فأطلقهم. ولمّا عرف عليّ بن بويه حصول طاهر الجيلي بالبصرة وفي نفسه عليه ما كان عامله به بأرجان، كتب إلى أخيه أبي الحسين أن يطالب أبا عبد الله البريدي به ويقبض عليه ففعل ذلك وأنفذ إلى فارس ولمّا انهزم الترجمان عبر أحمد بن بويه إلى غربيّ عسكر مكرم وجلس على شاطئ المسرقان ومعه أبو عبد الله البريدي حتى عقد الجسر الأعلى بها وعبر بباقي رجاله من غد وعاد إليه جواسيسه من سوق الأهواز وعرّفوه أنّه لم يبق بها أحد.
ونزل البريدي دارا على شاطئ نهر المسرقان ووافاه أهل الأهواز بأجمعهم مهنّئين وداعين وكان يحمّ الربع، وفيمن حضره يوحنّا الطبيب وكان متقدّما في صناعته.
فقال له أبو عبد الله البريدي:
« أما ترى يا أبا زكريا حالي؟ » فقال له:
« خلّط - يعنى في المأكول - لترمى بالأخلاط. » فقال له:
« أكثر بما خلّطت يا أبا زكريا، قد أرهجت ما بين فارس والحضرة فإن أقنعك ذلك وإلّا ملت إلى الجانب الآخر وأرهجت إلى خراسان. » ولمّا كان في اليوم الخامس رحل أحمد بن بويه إلى الأهواز وخلّف بعسكر مكرم ثلاثة من القوّاد فأقام أبو عبد الله معه خمسة وثلاثين يوما ثم هرب منه في الماء إلى الباسيان وأقام بها وكاتبه بعتب كثير وتصرّف في ضروب من القول إقامة لحجّة نفسه فيما استعمله ولم يكره المقام عنده لضيق المال فإنّه كان سلّم إلى أبي عليّ العارض ضمانات وخطوطا فصحّ في شهرين بخمسة آلاف ألف درهم وصحّ منها إلى يوم هربه صدر كثير.
ذكر السبب في هرب البريدي
كان طولب بإحضار عسكره من البصرة على أن ينفذهم إلى إصبهان لمضامّة الأمير أبي عليّ الحسن بن بويه على حرب وشمكير فوافى بأربعة آلاف رجل وقال للأمير أبي الحسن أحمد بن بويه:
« إن أقاموا بالأهواز وقعت فتنة عظيمة بينهم وبين الديلم. والرأي أن يخرجوا إلى السوس مع محمّد المعروف بالجمال، حاجبي وأسبّب بمالهم عليها وعلى جنديسابور حتى يقبضوا وينفذوا على طريق البنيان إلى إصبهان. » فأجابه إلى ذلك ثم طالبه أن يحضر رجال الماء إلى حصن مهدى حتى يشاهدهم فإذا عاينهم سيّرهم في الماء إلى واسط وسار أحمد بن بويه بالديلم على طريق السوس إليها فاستوحش البريدي من ذلك استيحاشا شديدا وظنّ أنّه إنّما يريد أن يفرّق بينه وبين عسكره وقال:
« هكذا عملت بياقوت فإني أخذت رجاله ثم أهلكته. فلو لم أتعلّم إلّا من نفسي لكفانى استبصارى والله المستعان. » وكان الديلم أيضا يستخفّون به ويشتمونه إذا ركب ويزعجونه من فراشه وهو محموم وتلقّى منهم ما لم تجر عادته بمثله. وكانت الكرامة متوفّرة عليه من الأمير أبي الحسين ومن أبي عليّ العارض. فأمّا الباقون فكانوا يهينونه إهانة عظيمة.
ولمّا أراد الهرب قدّم كتابه في صبيحة الليلة التي خرج فيها وعرّف أبا جعفر الجمّال غلامه ما عزم عليه وأمره أن يسير إلى الباسيان ومنها إلى نهر تيرى ثم إلى الباذاورد والبصرة وتمّ ذلك على ما نظمه، وحصل جيشه بالبصرة موفورين. واتّصلت المراسلات بينه وبين أحمد بن بويه في الإفراج عن قصبة الأهواز حتى يردّها ويقوم بما عقده للأمير عليّ بن بويه على نفسه من ضمان الأهواز والبصرة وهي ثمانية عشر ألف ألف درهم لسنة خراجية ولإشفاق الأمير أحمد بن بويه من إنكار أخيه عليّ بن بويه هرب البريدي استجاب إلى حكمه.
وانتقل إلى عسكر مكرم وأقام بها في ظاهر داراباذ وكتب إلى البريدي كتابا أنّه قد أخلى الأهواز. فانتقل البريدي من الباسيان إلى بناتاذر وأنفذ إلى سوق الأهواز من يخلفه بها. وكتب إلى الأمير أنّ نفسه لا تسكن إلى أن تقيم في بلد على ثمانية فراسخ منه. لأنّه لا يأمن كبسه ليلا وسامه أن ينتقل إلى السوس فتبعد الدار بينهما. فترسّل في ذلك القاضي أبو القاسم التنوخي وأبو عليّ العارض واستقرّت الحال على أن يحمل البريدي ثلاثين ألف دينار إليه لينهضه. فردّ غلامي هذين الرسولين مع غلام له بأربعة عشر ألف دينار وكتب بأنّه يوفيه تتمة الثلاثين الألف الدينار بالسوس فاجتمع دلّان وكان كاتب جيش الأمير أحمد بن بويه وأبو جعفر الصيمري وكان تابعا لدلّان وأبو الحسن المافرّوخى وكان يتولّى عسكر مكرم للأمير ويجزف ويأخذ المال من حيث لاح له، فقالوا للأمير أبي الحسين:
« قد سلك معك البريدي طرقه مع ياقوت وأخذ يبعدك إلى السوس ويضايقك حتى يفلّ الرجال عنك ثم يأخذ المعابر إلى نفسه - وبين الأهواز وبين عسكر مكرم وتستر وبين السوس دجلة - ويحتال في تحصيلك إن استوى له. » فاقشعرّ الأمير أبو الحسين من ذلك وامتنع أن يخرج من عسكر مكرم وقال:
« هي على سمت الطريق إلى فارس ولست أبعد عن الأمير الكبير هذا البعد حتى يقطع بيني وبينه دجلة أوّلا ثم المسرقان. »
وعرف البريدي ذلك فمنع العارض والتنوخي من الرجوع واستحكمت الوحشة.
واتّصل ذلك ببجكم فأنفذ قائدا من قوّاده يقال له: بالبا، في ألفى رجل من الأكراد والأعراب والحشر والإثبات والمولّدين إلى السوس وجنديسابور للغلبة عليها وكاتبا يعرف بالفيّاضى وأقام البريدي ببناتاذر غالبا على أسافل الأهواز وتغلّب المخلديّة على تستر وبقي الأمير أحمد بن بويه لا يملك من كور الأهواز إلّا عسكر مكرم قصبها دون ما سواها فإنّ أبا محمّد المهلّبي - وكان في هذا الوقت وكيل أبي زكريّا السوسي - قطع المعابر وغلب على الحميديّة والمسكول وقتل عاملا كان هناك بيد الأعراب والرجّالة الذين أثبتهم. فكانت الصورة فيما دهم أحمد بن بويه غليظة جدّا واضطرب رجاله وفارقوه بأجمعهم وعملوا على الرجوع إلى فارس فعاضده اسفهدوست وموسى فياذه حتى تلافوهم وردّوهم وضمنوا لهم أن يرضوهم بعد شهر.
وكتب أحمد ابن بويه إلى أخيه بالصورة فأنفذ قائدا من قوّاده كان ساربان حماله عظيم المحلّ من أهل البأس والنجدة ثقة عنده يعرف ببلّ في ثلاثمائة رجل من الديلم ومعه خمسمائة ألف [ درهم ] ووافى معه كوردفير لأنّ الأمير أبا الحسين استدعاه لأنّه كان وزيره بكرمان فلمّا حصل عنده كوردفير استكتبه للوقت وخلع عليه وأبو عليّ العارض معتقل ببناتاذر في يد البريدي واتّهمه بمطابقة البريدي على جميع ما عمله أوّلا وآخرا وكان الأمير مبغضا له وإنّما ضمّه إليه أخوه الأمير عليّ بن بويه لأنّه كان شاهده وزيرا لما كان الديلمي وكان كبيرا في نفسه وكان بجكم مملوكا له فطلبه منه ما كان فأهداه إليه.
وتقرّر الرأي أن ينفذ بلّ إلى السوس في خمسمائة رجل ومعه أبو جعفر الصيمري عاملا عليها وينفذ موسى فياذه إلى بناتاذر في ثلاثمائة رجل.
فهرب بالبا لمّا سمع خبر بلّ وهرب البريدي إلى البصرة وسار موسى فياذه إلى حصن مهدى فملكها وكانت من أعمال البصرة وصارت الأسافل وراءه ودخل الأمير سوق الأهواز فنزل دار أبي عبد الله البريدي وانتظمت له الأمور وحصل البريدي بالبصرة واستقامت لهم واستقرّ بجكم بواسط ينازع الملك ببغداد وجمع ابن رائق أطرافه وأقام بها.
ولمّا رأى الوزير أبو الفتح اضطراب الأمور بالحضرة وما تؤذن به أحوالها أطمع ابن رائق في أن يحمل إليه الأموال من مصر والشام ويمدّه بها وعرّفه أنّ ذلك لا يتمّ له مع بعده عنها وواقفه على الشخوص وعقد بينه وبينه صهرا بأن زوّج ابنه أبا القاسم بابنة ابن رائق وعقد بين ابن رائق وابن طغج صهرا وخرج مبادرا إلى الشام على طريق الفرات.
وقلّد أبو بكر ابن رائق عليّ بن خلف بن طناب أعمال الخراج والضياع بكور الأهواز وواقفه على النفوذ إلى عمله وأن يبتدئ بأبي الحسين بجكم ويلطف له حتى ينفذ معه لمحاربة الأمير أبي الحسين أحمد بن بويه ودفعه عن الأهواز وأن يواقفه على أن يكون عدّته خمسة آلاف رجل على أن يكون ماله ومال رجاله - إن أقام بواسط ولم ينفذ إلى الأهواز - ثمانمائة ألف دينار في السنة يأخذها من مال واسط وإن نفذ إلى الأهواز وفتحها، ألف ألف وثلاثمائة ألف دينار في السنة يأخذها من مال الأهواز.
ولمّا وصل عليّ بن خلف إلى واسط ولقي بجكم، رأى بجكم أن يستكتبه ورأى عليّ بن خلف أن يكتب له. فخلع عليه وأقام عنده بواسط وأخذ جميع مالها. وسفّر أبو جعفر محمّد بن يحيى بن شيرزاد في الصلح بين ابن رائق وبنى البريدي فتمّ ذلك وأخذ ابن رائق خطّ الراضي بالله للبريديين بالرضا عنهم وقطعت لهم الخلعة على أن يقيموا الدعوة لابن رائق بالبصرة ويجتهدوا في فتح الأهواز وضمنوا حمل ثلاثين ألف دينار وأطلقت ضياعهم وكتب عن الراضي في هذا المعنى كتاب.
وورد الخبر بمسير جيش البريدي إلى واسط. فخرج إليه بجكم وأوقع بناحية الدرمكان به وهزمه فجلس ابن رائق ببغداد في داره للتهنئة بذلك وأقام بجكم بموضعه مدّة ثم بالمدار مدّة ثم عاد إلى واسط.
وكانت نيّة بجكم إذلال البريديين وقطعهم عن ابن رائق ونفسه متعلّقة بالحضرة فأنفذ ثاني يوم الهزيمة عليّ بن يعقوب كاتب الترجمان المتولّى للعرض عليه إلى البريدي يعتذر إليه ممّا جرى ويقول:
« أنت بدأت بمراسلة ابن رائق وتعرّضت لي وهذه كرّتك الثانية فإنّك حملت الديلم إلى الأهواز وأعقبت ذلك بمراسلة ابن رائق وبذلت له مضافرته عليّ وقد عفوت وأنا أعاهدك وأعاهدك على أن أقلّدك واسطا إذا ملكت الحضرة. » وجرى في أثناء ذلك قول في المصاهرة. قال عليّ بن يعقوب:
« فرأيت أبا عبد الله البريدي وقد سجد شكرا لله تعالى لبجكم على ما ابتدأه به ثم استجاب لكلّ ما أراده منه ولما سمته إيّاه. » وأحضر القاضيين أبا القاسم التنوخي وأبا القاسم ابن عبد الواحد وحلف بحضرتهما وأشهد على نفسه في خطّ كتبه بالوفاء بجميع ما عقدته معه وبرّنى بثلاثة آلاف دينار وقال لي:
« سأحمل إليه وألاطفه حتى يعلم أنّى أصلح لخدمته. » وعدت إلى بجكم وخبّرته بما جرى فقال لي:
« يا أبا القاسم كلوتته على رأسه. » فقلت: « أيّها الأمير ما معنى هذا وكيف سألتنى عنها؟ » فقال لي:
« إني كنت رأيتها فعرّفنى. » قلت: « نعم قد رأيتها. » فقال: « يا أبا القاسم هي على رأس شيطان لا على رأس بشر. » فقلت: « أيّها الأمير أنت ما رأيته فكيف قلت هذا؟ » قال: « بلى رأيته يوم وقعتنا بأرجان وقد تعمّم على كلوتته وعزمت على أن أفوّت إليه سهما ففطن لما أردته وإنّما لمح طرفي من بعيد فنزع العمامة. والكلوتة وجعلها على رأس غيره وتنحّى هو وأقامه مقامه. » فقلت: « ذلك المسكين بلا ذنب وأفلت هو لعنه الله فإنّه كاذب في جميع ما قاله وحلف عليه ولكن نقبل ذلك منه لحاجتنا إلى قبوله. » وانصرف بجكم إلى واسط وأخذ في التدبير على ابن رائق.
وفي هذه السنة قطعت يد أبي عليّ ابن مقلة ثم لسانه
ذكر السبب في ذلك
كان ابن رائق لمّا صار إليه تدبير المملكة قبض ضياع أبي عليّ ابن مقلة وابنه. فلمّا صار إلى الحضرة لقيه أبو عليّ ابن مقلة ولقي أبا عبد الله الحسين ابن عليّ النوبختي ثم بعده أبا عبد الله الكوفي وأبا بكر ابن مقاتل فاستحيوا منه وتذلّل للجماعة وسأل ردّ الضيعة المقبوضة عليه فوعده بذلك ومطل مطلا ومتّصلا. فلمّا رأى أبو عليّ المطل متّصلا وللوفاء لا يصحّ، أخذ في السعى على ابن رائق من كلّ جهة. فكتب إلى بجكم يطمعه في الحضرة وفي موضع ابن رائق وكتب بمثل ذلك إلى وشمكير بالريّ وكتب إلى الراضي بالله يشير عليه بالقبض على ابن رائق وأسبابه ويضمن أنّه متى فعل ذلك استخرج له ثلاثة آلاف ألف دينار ويصحّحها وأشار باستدعاء بجكم ونصبه مكان ابن رائق فإنّه أكثر طاعة وكانت مكاتبته للراضى على يد عليّ بن هارون ابن المنجّم النديم فأطمعه الراضي في ذلك فكتب ابن مقلة إلى بجكم يعرّفه أنّ الراضي قد استجاب إلى أمره وأنّ الأمر تامّ ويستحثّه على التعجّل.
فلمّا توثّق ابن مقلة عند نفسه من الراضي واقفه على أن ينحدر إليه سرّا ويقيم عنده إلى أن يتمّ التدبير على ابن رائق.
فركب من داره في سوق العطش في سميريّة وعليه طيلسان وخفّ وصار إلى الأزج بباب البستان وركب السميريّة ليلة الاثنين لليلة تبقى من شهر رمضان وإنّما تعمّد تلك الليلة لأنّ القمر تحت الشعاع وهو يختار للأمور المستورة.
فلمّا وصل إلى دار السلطان لم يوصله الراضي إليه واعتقله في حجرة ووجّه من غد بابن سنجلا إلى ابن رائق وأخبره بما جرى وأنّه احتال على ابن مقلة حتى حصله عنده وما زال المراسلات تتردّد بين الراضي وبين أبي بكر ابن رائق.
فلمّا كان يوم الخميس لأربع عشرة خلت من شوّال أظهر الراضي بالله أمر ابن مقلة وأخرجه وحضر فاتك حاجب ابن رائق وجماعة من القوّاد فقطعت يده اليمنى وردّ إلى محبسه وانصرف فاتك إلى ابن رائق فأخبره بما شاهد من قطع يد ابن مقلة.
قال ثابت: فلمّا كان في آخر هذا اليوم استدعاني الراضي وأمرنى بالدخول إليه وعلاجه. فصرت إليه فوجدته في حجرة مقفلة عليه ففتح الخادم الباب فدخلت فرأيته بحال صعبة فدمعت عينه حين رآني ووجدت ساعده قد ورم ورما عظيما وعلى موضع القطع خرقة غليظة كردوانى كحلية مشدودة بخيط قنب. فحللت الشدّ ونحيت الخرقة فوجدت تحتها على موضع القطع سرجين الدوابّ فنفضته عنه وإذا رأس الساعد أسفل القطع مشدود بخيط قنب قد غاص في ذراعه لشدّة الورم وابتدأ ساعده يسودّ. فعرّفته أنّ سبيل الخيط أن يحلّ ويجعل موضع السرجين كافور ويطلى ذراعه بالصندل وماء الورد والكافور قال:
« فافعل. » فقال الخادم الذي دخل معه:
« حتى استأذن مولانا. » ومضى يستأذن ثم خرج ومعه مخزنة كافور وقال لي:
« قد أذن مولانا أن تعمل ما ترى وأن ترفق به وتقدّم العناية به وتلزمه إلى أن يهب الله عافيته. » فحللت الخيط وفرّغت المخزنة في موضع القطع وطليت ساعده فعاش واستراح وسكن الضربان ولم أفارقه حتى اغتدى بشيء يسير من فروّج ثم حلف أنّه ليس يسوغ له شيء آخر وشرب ماء باردا فرجعت إليه نفسه وانصرفت.
ثم تردّدت إليه أيّاما كثيرة إلى أن عوفي. وكنت إذا دخلت إليه يسألنى عن خبر ابنه أبي الحسين فأعرّفه استتاره وسلامته فتطيب نفسه ثم ينوح ويبكى على يده ويقول:
« قد خدمت بها الخلافة ثلاث دفعات لثلاثة من الخلفاء وكتبت بها القرآن دفعتين تقطع كما تقطع أيدى اللصوص أتذكر وأنت تقول لي:
أنت في آخر نكبة وإنّ الفرج قريب؟ » فقلت: « بلى والآن ينبغي أن تتوقّع الفرج فإنّه قد عمل بك ما لم يعمل بنظير لك وهذا انتهاء المكروه وما بعد الانتهاء إلّا الانحطاط. » فقال: « لا تفعل، فإنّ المحنة قد يتشبّث بي كما تشبّثت حمّى الدّقّ بالأعضاء فلا تفارقني حتى تؤدّينى إلى الموت. » ثم تمثّل بهذا البيت:
« إذا ما مات بعضك فابك بعضا ** فبعض الشيء من بعض قريب»
فكان الأمر على ما قال.
ومن عجائبه أنّه كان يراسل الراضي من الحبس بعد قطع يده ويطمعه في المال ويشير بأن يستوزره ويقول:
« إنّ قطع يده ليس ممّا يمنع من استيزاره لأنّه يمكنه أن يحتال ويكتب. » وكانت تخرج له رقاع بعد قطع يده وقبل التضييق عليه. فيقال: إنّه كان يشدّ القلم على ساعده الأيمن ويكتب به.
ولمّا قرب بجكم من بغداد نقل من ذلك الموضع إلى موضع أغمض منه.
فلم يوقف له على خبر ومنعت من الدخول إليه.
ثم قطع لسانه وبقي مدّة طويلة في الحبس. ثم لحقه ذرب ولم يكن له من يعالجه ولا من يخدمه حتى بلغني أنّه كان يستسقى الماء لنفسه من البئر بيده اليسرى وفمه. ولحقه شقاء شديد إلى أن مات ودفن في دار السلطان ثم سأل بعد مدّة أهله فنبش وسلّم إليهم.
وفي هذه السنة دخل بجكم العراق أعنى بغداد ولقي الخليفة وقلّده أمرة الأمراء مكان محمّد ابن رائق
-
ابتدأ بجكم بالمسير من واسط إلى الحضرة مراغما لابن رائق فأزال اسمه ومحى أعلامه وتراسه وترك الانتساب إليه وذاك أنّه كان يكتب عليها:
« بجكم الرائقى. » وأخذ ابن رائق يستعدّ للقائه وقتاله وعمل على أن يتحصّن في دار السلطان. ثم رأى أن يبرز إلى ديالى وفتح من النهروان إليه بثقا ليكثر ماؤه فلا يخيض وقطع الجسر عليه ليصير خندقا.
وطالب ابن رائق الراضي أن يكتب إلى بجكم كتابا يأمره فيه بالرجوع إلى واسط. فكتب وسلّم إلى ابن رائق فأنفذه مع ابن سرخاب إليه أحد خلفاء الحجّاب. فقرأه ولم يلتفت إليه. وسار إلى بغداد ووافى بجكم وجيشه إلى نهر ديالى وعبر بعض أصحابه سباحة. فانهزم ابن رائق وصار إلى عكبرا وتقطع أصحابه واستتر أبو عبد الله أحمد بن عليّ الكوفي وأبو بكر بن مقاتل ودخل بجكم يوم الاثنين لاثنى عشرة ليلة خلت من ذي القعدة.
ووصل إلى الراضي بالله فأكرمه ورفع منه وخلع عليه وسار بالخلع إلى مضربه بديالى فأقام فيه يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء وأنفذ سرّية في طلب ابن رائق وكاتب الجيش الذي معه عن الراضي بالتخلية عنه والوصول إلى حضرة السلطان فانفضّ الجيش عنه ورجع ابن رائق إلى بغداد سرّا واستتر بها.
فلمّا كان يوم الخميس للنصف من ذي القعدة خلع الراضي على بجكم خلعة ثانية وانصرف إلى دار مونس بسوق الثلاثاء وهي التي كان ينزلها ابن رائق. فلمّا كان يوم الخميس لثمان بقين من ذي القعدة خلع الراضي على بجكم خلعة ثلاثة وعقد له لواء وجعله أمير الأمراء فكان مدّة إمارة ابن رائق سنة واحدة وعشرة أشهر وكسر.
ولمّا كان يوم الجمعة لسبع بقين من ذي القعدة أنفذ الراضي إلى بجكم خلع منادمة وكنّاه وأنفذ إليه مع الخلع شرابا وطيبا وتحيّات وتمّت له الرئاسة.
تمّت المجلّدة الخامسة من كتاب تجارب الأمم ويتلوها في المجلّدة السادسة حكاية عن بجكم تدلّ على دهاء ونكر والحمد لله وصلّى الله على محمّد النبي وآله الطيبين الطاهرين أجمعين. فرغ من انتساخه محمّد بن عليّ أبو طاهر البلخي في المحرّم سنة ستّ وخمسمائة.
-
نهاية المجلد الخامس ارجو ان ينال اعجابكم اخوكم عاشق الوطنية