وذكر أن رسل المعتز لما صاروا بالشماسية، قال ابن سجادة: أنا أخاف من أهل بغداد؛ فإما أن يحمل المستعين إلى الشماسية أو ألى دار محمد بن عبد الله ليبايع المعتز، ويخلع نفسه ويؤخذ منه القضيب والبردة.
وفي شهر ربيع الأول من هذه السنة كان ظهور المعروف بالكوكبي بقزوين وزنجان وغلبته عليها وطرده عنها آل طاهر؛ واسم الكوكبي الحسين بن أحمد ابن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الأرقط بن محمد بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه.
وفيها قطعت بنو عقيل طريق جدة، فحاربهم جعفر بشاشات، فقتل من أهل مكة نحو من ثلثمائة رجل، وبعض بني عقيل القائل:
عليك ثوبان وأمي عارية ** فألق لي ثوبك يا بن الزانية
فلما فعل بنو عقيل ما فعلوا غلت بمكة الأسعار، وأغارت الأعراب على القرى.
ذكر خبر خروج إسماعيل بن يوسف بمكة
وفيها ظهر إسماعيل بن يوسف بن إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن ابن علي بن أبي طالب بمكة، فهرب جعفر بن الفضل بن عيسى بن موسى العامل على مكة، فانتهب إسماعيل بن يوسف منزل جعفر ومنزل أصحاب السلطان، وقتل الجند وجماعة من أهل مكة، وأخذ ما كان حمل لإصلاح العين من المال وما كان في الكعبة من الذهب، وما في خزائنها من الذهب والفضة والطيب وكسوة الكعبة، وأخذ من الناس نحوًا من مائتي ألف دينار، وأنهب مكة، وأحرق بعضها في شهر ربيع الأول منها، ثم أخرج منها بعد خمسين يومًا، ثم صار إلى المدينة، فتوارى علي بن الحسين بن إسماعيل العامل عليها، ثم رجع إسماعيل إلى مكة في رجب، فحصرهم حتى تماوت أهلها جوعًا وعطشًا؛ وبلغ الخبز ثلاث أواق بدرهم، واللحم رطل بأربعة دراهم، وشربة ماء ثلاثة دراهم؛ ولقى أهل مكة منه كل بلاء ثم رحل بعد مقام سبعة وخمسين يومًا إلى جدة، فحبس عن الناس الطعام، وأخذ أموال التجار وأصحاب المراكب، فحمل إلى مكة الحنظة والذرة من اليمن، ثم وافت المراكب من القلزم، ثم وافى إسماعيل بن يوسف الموقف؛ وذلك يوم عرفة، وبه محمد بن أحمد بن عيسى بن المنصور الملقب كعب البقر، وعيسى بن محمد المخزومي صاحب جيش مكة - وكان المعتز وجهها إليها - فقاتلهم، فقتل نحو من ألف ومائة من الحاج، وسلب الناس، وهربوا إلى مكة، ولم يقفوا بعرفة ليلًا ولا نهارًا، ووقف إسماعيل وأصحابه، ثم رجع إلى جدة فأفنى أموالها.
ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر خبر خلع المستعين وبيعة المعتز
فمن ذلك ما كان من خلع المستعين أحمد بن محمد بن المعتصم نفسه الخلافة، وبيعة للمعتز محمد بن جعفر المتوكل بن محمد المعتصم، والدعاء للمعتز على منبري بغداد ومسجدي جانبيها الشرقي منها والغربي، يوم الجمعة لأربع خلون من المحرم من هذه السنة، وأخذ البيعة له بها على كل من كان يومئذ بها من الجند.
وذكر أن ابن طاهر دخل على المستعين ومعه سعيد بن حميد حين كتب له بشروط الأمان، فقال له: يا أمير المؤمنين؛ قد كتب سعيد كتب الشروط وأكد غاية التأكيد، فنقرؤه عليك فتسمعه؟ فقال له المستعين: لا عليك! ألا تركها يا أبا العباس، فما القوم بأعلم بالله منك؛ قد أكدت على نفسك قبلهم فكان ما قد علمت؛ فما رد عليه محمد شيئًا.
ولما بايع المستعين المعتز، وأخذ عليه البيعة ببغداد، وأشهد عليه الشهود من بني هاشم والقضاة والفقهاء والقواد نقل من الموضع الذي كان به من الرصافة إلى قصر الحسن بن سهل بالمحرم هو وعياله وولده وجواريه، فأنزلوهم فيه جميعًا، ووكل بهم سعيد بن رجاء الحضاري في أصحابه وأخذ المستعين البردة والقضيب والخاتم، ووجّ مع عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، وكتب معه: أما بعد: فالحمد لله متممّ النعم برحمته، والهادي إلى شكره بفضله وصلّى الله على محمد عبده ورسوله؛ الذي جمع له ما قرّق من الفضل في الرسل قبله، وجعل تراثه راجعًا إلى من خصّه بخلافته، وسلّم تسليمًا. كتابي إلى أمير المؤمنين وقد تممّ الله له أمره، وتسلّمت تراث رسول الله
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png ممن كان عنده، وأنفذته إلى أمير المؤمنين مع عبيد الله بن عبد الله مولى أمير المؤمنين وعبده.
ومنع المستعين الخروج إلى مكة، واختار أن ينزل البصرة. فذكر عن سعيد ابن حميد أن محمد بن موسى بن شاكر قال: البصرة وبيّة، فكيف اخترت أن تنزلها! فقال المستعين: هي أوبى، أو ترك الخلافة! وذكر أنّ قرب جارية قبيحة جاءت برسالة إلى المستعين من المعتزّ يسأله أن ينزل عن ثلاث جوارٍ كان المستعين تزوجهّن من جواري المتوكل، فنزل عنهنّ، وجعل أمرهنّ إليهنّ؛ وكان احتبس عنده من الجوهر خاتمين يقال لأحدهما البرج وللآخر الجبل، فوجّه إليه محمد بن عبد الله بقرب خاصيّة المعتزّ وجماعة، فدفعهما إليهم، وانصرفوا بذلك إلى محمد بن عبد الله، فوجّه به إلى المعتزّ.
ولست خلون من المحرّم دخل - فيما قيل - بغداد أكثر من مائتي سفينة، فيها من صنوف التجارات وغنم كثير، وأشخص المستعين مع محمد بن مظفّر ابن سيسل وابن أبي حفصة إلى واسط في نحو من أربعمائة فرسان ورجّالة. وقدم بعد ذلك على ابن طاهر عيسى بن فرّخانشاه وقرب، فأخبراه أن ياقوتة من جوهر الخلافة قد حبسها أحمد بن محمد عنده؛ فوجّه ابن طاهر الحسين ابن إسماعيل فأخرجها، فإذا ياقوتة بهيّة، أربع أصابع طولًا في عرض مثل ذلك، وإذا هو قد كتب عليها اسمه، فدفعت إلى قرب، فبعثت بها إلى المعتزّ.
واستوزر المعتزّ أحمد بن إسرائيل، وخلع عليه، ووضع تاجًا على رأسه، وشخص أبو أحمد إلى سامرّا يوم السبت لاثنتي عشرة خلت من المحرّم منها، وشيّعه محمد بن عبد الله والحسن بن مخلد، فخلع على محمد بن عبد الله خمس خلع وسيفًا، ورجع من الروذباز.
وقال بعض الشعراء في خلع المستعين:
خلع الخلافة أحمد بن محمدٍ ** وسيقتل التالي له أو يخلع
ويزول ملك بني أبيه ولا يرى ** أحدٌ تملك منهم يستمتع
إيهًا بني العباس إنّ سبيلكم ** في قتل أعبدكم طريقٌ مهيع
رقعتم دنياكم فتمزّقت ** بكم الحياة تمزّقا لا يرقع
وقال بعض البغداديين:
إني أراك من الفراق جزوعًا ** أضحى الإمام مسيرًا مخلوعا
كانت به الآفاق تضحك بهجةً ** وهو الربيع لمن أراد ربيعا
لا تنكري حدث الزمان وريبه إن الزمان يفرق المجموعا
لبس الخلافة واستجد محبةً ** يقضي أمور المسلمين جمعيا
فجنت عليه يد الزمان بصرفه ** حربًا وكان عن الحروب شسوعا
وتجانف الأتراك عنه تمردًا ** أضحى وكان ولا يراع مروعا
فنز بهم فنزوا به وتعاورت ** أيدي الكماة من الرءوس نجيعا
فأزاله المقدار عن رتب العلا ** فثوى بواسط لا يحس رجوعا
غدروا به، مكروا به، خانوا به ** لزم الفراش، وحالف التضجيعا
وتكنفوا بغداد من أقطارها ** قد ذللوا ما كان قبل منيعا
ولو أنه سعر الحروب بنفسه ** متلببًا للقائهن دروعا
حتى يصادم بالكماة كماته ** فيكون من قصد الحروب صريعا
لغدا على ريب الزمان محرمًا ** ولكان إذ غدر اللئام منيعا
لكن عصى رأى الشفيق وعذله ** وغدا لأمر الناكثين مطيعا
والملك ليس بمالك سلطانه ** من كان للرأي السديد مضيعا
ما زال يخدع نفسه عن نفسه ** حتى غدا عن ملكه مخدوعا
باع ابن طاهر دينه عن بيعةٍ ** أمسى بها ملك الإمام منيعا
خلع الخلافة والرعية فاغتدى ** من دين رب محمد مخلوعا
فليجرعن بذاك كأسًا مرةً ** وليلفين لتابعيه تبيعا
وقال محمد بن مروان بن أبي الجنوب بن مروان حين خلع المستعين، وصار إلى واسط:
إن الأمور إلى المعتز قد رجعت ** والمستعان إلى حالاته رجعا
وكان يعلم أن الملك ليس له ** وأنه لك لكن نفسه خدعا
ومالك الملك مؤتيه ونازعه ** آتاك ملكًا ومنه الملك قد نزعا
إن الخلافة كانت لا تلائمه ** كانت كذات حليل زوجت متعا
ما كان أقبح عند الناس بيعته ** وكان أحسن قول الناس قد خلعا
ليت السفين إلى قافٍ دفعن به ** نفسي الفداء لملاحٍ به دفعا
كم ساس قبلك أمر الناس من ملك ** لو كان حمل ما حملته ظلعا
أمسى بك الناس بعد الضيق في سعة ** والله يجعل بعد الضيق متسعا
والله يدفع عنك السوء من ملك ** فإنه بك عنا السوء قد دفعا
ما ضاع مدحي ولا ضاع اصطناعك لي ** وقد وجدت بحمد الله مصطنعًا
فاردد علي بنجدٍ ضيعة قبضت ** فإن مثلك مثلي يقطع الضيعا
فإن رددت إمام العدل غلتها ** فالله آنف حسادي به جدعا
وقال يمدح المعتز بعد خلع المستعين:
قد عادت الدنيا إلى حالها ** وسرنا الله بإقبالها
دنيا بك الله كفى أهلها ** ما كان من شدة أهوالها
وكان قد ملكها جاهل ** لا تصلح الدنيا لجهالها
قد كانت الدنيا به قفلت ** فكنت مفتاحًا لأقفالها
إن التي فزت بها دونه ** عادت إلى أحسن أحوالها
خلافةٌ كنت حقيقيًا بها ** فضلك الله بسربالها
فرده الله إلى حاله ** وردها الله إلى حالها
ولم تكن أول عاريةٍ ** ردت على رغم إلى آلها
والله لو كان على قريةٍ ** ما كان يجزى بعض أعمالها
أدخل في الملك يدًا رعدةً ** أخرجها من بعد إدخالها
بدلنا الله به سيدًا ** أسكن دنيا بعد زلزالها
بدلت الأمة هذا بذا ** كأنها في وقت دجالها
وقام بالملك وأثقاله ** وقام بالحرب وأثقالها
أبطل ما كان العدا أملوا ** رميك بالخيل وأبطالها
تعمل خيلًا طالما نجحت ** ما عملت خيلٌ كأعمالها
وقال الوليد بن عبيد البحتري في خلع المستعين ومدح المعتز:
ألا هل أتاها أن مظلمة الدجى ** تجلت وأن العيش سهل جانبه
وأنا رددنا المستعار مذممًا ** على أهله واستأنف الحق صاحبه
عجبت لهذا الدهر أعيت صروفه ** وما الدهر إلا صرفه وعجائبه
متى أمل الدياك أن يصطفى له ** عرى التاج أو يثنى عليه عصائبه
وكيف ادعى حقّ الخلافة غاصبٌ ** حوى دونه إرث النبي أقاربه
بكى المنبر الشرقي إذ خار فوقه ** على الناس ثور قد تدلت غباغبه
ثقيل على جنب الثريد مراقبٌ ** لشخص الخوان يبتدي فيواثبه