-
ما يحفظ من كلام الأحنف في الاعتزال وحض الناس عليه
إنّه لما رجع من عند عليّ لقيه هلال بن وكيع، وهو سيّد رهطه، فقال: « ما رأيك؟ » قال: « مكاتفة أمّ المؤمنين. أفتدعنا؟ وتعزل عنّا؟ وأنت سيّدنا؟ » قال: « إنّما أكون سيدكم غدا إذا قتلت وبقيت. » فقال هلال: « سبحان الله، تقول هذا وأنت شيخنا؟ » فقال: « أنا الشيخ المعصيّ وأنت الشابّ المطاع. » ولما ابتدأ القتال قال عليّ لأصحابه ابتداء القتال: « أيكم يعرض عليهم هذا المصحف ويدعوهم إلى ما فيه، فإن قطعت يده أخذه بيده الأخرى، فإن قطعت أخذه بأسنانه؟ » فقال فتى شابّ: « أنا. » فطاف على أصحابه يعرض ذلك عليهم، فلم يقبله إلّا ذاك الفتى.
فقال له عليّ: « اعرض عليهم هذا وقل: هو بيننا وبينكم من أوّله إلى آخره، فالله الله في دمائنا ودمائكم. » فحمل القوم على الفتى وبيده المصحف، فقطعت يداه، فأخذه بأسنانه حتى قتل. فقال عليّ لأصحابه: « قد طاب لكم الضراب. » فقاتلوهم، فالتحمت الحرب، واشتدّ القتال إلى العصر. ثم انهزم أصحاب الجمل وعائشة يومئذ في هودجها على الجمل الذي يقال له: « عسكر ». وانهزم الزبير نحو وادي السباع، وتشاغل الناس عنه، واتبعه قوم. فلما رأى الفرسان تتبعه، كرّ عليهم. فلما عرفوه رجعوا عنه، وتركوه. وكان عليّ وصّاهم ألّا يتبعوا مدبرا، ولا يجهزوا على جريح.
وأصاب طلحة سهم، فشكّ ركبته بصفحة الفرس، فامتلأ موزجه دما وضعف.
فانتهى إلى القعقاع في نفر وهو يقول: « إليّ عباد الله! الصبر الصبر. »
فقال له: « يا با محمد! إنك لجريح، وإنك عما تريد لعليل، فادخل الأبيات. » فقال: « يا غلام! أدخلنى، وأبغنى مكانا. » فأدخل ومعه غلام ورجلان. واقتتل الناس بعده، وأقبل الناس في هزيمتهم.
فلما انتهوا إلى الجمل، عادوا قلبا كما كانوا حيث التقوا، وعادوا في أمر جديد، ووقفت الميمنة والميسرة.
وقالت عائشة لكعب بن سور وهو آخذ خطام الجمل: « يا كعب: خلّ عن البعير، وتقدّم بكتاب الله، فادعهم إليه. » ودفعت إليهم مصحفا. فاستقبلهم بالمصحف.
وكانت السبائية أمام الناس يخافون أن يجرى الصلح. فاستقبلهم كعب بالمصحف، وعليّ يزعهم، ويأبون إلّا إقداما، فرشقوا كعبا رشقا واحدا، فقتلوه، ورموا الهودج. فجعلت عائشة تنادي: « البقية، البقية يا نبي الله! » فيأبون إلّا إقداما.
أول ما أحدثته عائشة
فكان أول ما أحدثته عائشة حين رأت الناس يأبون إلّا قتالها أن قالت: « أيها الناس! العنوا قتلة عثمان وأشياعهم. » وأقبلت تدعو، وضجّ أهل البصرة بالدعاء. وسمع عليّ الدعاء، فقال: « ما هذه الضجّة؟ » قالوا: « عائشة تدعو ويدعون معها على قتلة عثمان. » فأقبل عليّ يدعو ويقول: « اللهمّ العن قتلة عثمان وأشياعهم. »
وذمرت عائشة الناس لما رأت أنّ الناس لا يريدون غيرها ولا يكفّون.
فازدلفت مضر البصرة، فقصفت مضر الكوفة حتى زوحم عليّ. فكانت الحرب صبيحة هذا اليوم مع طلحة والزبير، فلما انهزم الزبير، وأصيب طلحة، وذلك بعد الظهر، صارت الحرب مع عائشة.
قال محمد بن الحنفية: دفع أبي إليّ اللواء، وقال: « احمل! » فحملت حتى لم أر موضعا لحملة - وقد كان زوحم عليّ.
فنخس عليّ قفا محمد، وقال: « تقدّم! » وقال: فلم أجد متقدما إلّا على سنان فقلت: « لا أجد متقدّما. » فتناول الرمح من يدي متناول لا أدري من هو. فنظرت، فإذا أبي بين يديّ. و [ اقتتلت ] المجنّبتان حين تزاحفتا قتالا يشبه ما فيه القلبان، وارتجز الفرسان، وكثر القتلى وتنادى الكماة في عسكر عليّ وعسكر عائشة، لما رأوا الصبر الشديد: « يا أيها الناس! طرّفوا إذا فرغ الصبر ونزع النصر. » فجعلوا يتوخّون الأطراف: الأيدى والأرجل، فما رأيت وقعة قطّ قبلها ولا بعدها، ولا سمع بها، أكثر يدا مقطوعة ورجلا مقطوعة منها، لا يدرى صاحبها.
فكان الرجل من هؤلاء وهؤلاء إذا أصيب بشيء من أطرافه استقتل [ إلى أن يقتل ].
ونادت عائشة من هودجها بصوت عال فيه كسرة: « إيه، لله أنتم. جالدوا جلادا يتفادى منه، بخّ بخّ، سيوف أبطحية، وسيوف قرشية. » ونادت بنو ضبّة: « ويها جمرة الجمرات. » وأحدقوا بجملها حتى أسرع فيهم القتل ورقّوا. وكانت عائشة تقول: « ما زال رأس الجمل معتدلا حتى قتلت بنو ضبّة حولي. » وضربوا ضربا ليس بالتقدير، حتى إذا كثر القتلى وظهر في العسكر التطريف كره بعضهم بعضا، وارتدّت المجنّبتان، فصارتا في القلب. ثم تلاقوا جميعا بقلبيهم. فأخذ ابن يثربى برأس الجمل، وارتجز وادّعى قتل علباء بن الهيثم، وزيد بن صوحان، وهند بن عمرو، فقال:
أنا لمن ينكرنى ابن يثربى ** قاتل علباء وهند الجمل
وزيد صوحان على دين عليّ
فناداه عمار: « لقد لذت بحريز وما إليك من سبيل، فإن كنت صادقا فاخرج من هذه الكتيبة إليّ. » فترك الزمام، وبرز حتى كان بين صفّ عائشة وصفّ عليّ، وأقبل إليه عمار، وهو يومئذ ابن تسعين سنة وقد شدّ وسطه بحبل، وعليه فرو. فضربه ابن يثربى فنحا له درقته، فنشب السيف فيها، وأسفّ عمار لرجليه، فضربه فقطعما، فوقع على استه، وحماه أصحابه فارتثّ بعد، فأتى به عليّ بن أبي طالب. فقال: « استبقني يا أمير المؤمنين. » فقال: « بعد ثلاثة تضرب وجوههم بسيفك؟ » وأمر به، فضربت عنقه.
وتتابع الناس على زمام الجمل حتى قتل أربعون رجلا يرتجزون ويأخذون الخطام فيقتلون. فحدّث عبد الله بن الزبير قال: أمسيت يوم الجمل وبي سبع وثلاثون جراحة من طعنة وضربة، وما رأيت مثل يوم الجمل قطّ، ما ينهزم منّا أحد وما يأخذ بخطام الجمل أحد إلّا قتل.
فأخذت بالخطام، فقالت عائشة: « من أنت؟ » قلت: « ابن الزبير. » قالت: « وثكل أسماء. » ومرّ بي الأشتر، فعرفته، وعانقته، وسقطنا جميعا، وناديت: « اقتلوني ومالكا. » فجاء ناس منّا، فقاتلوا عنّا حتى تحاجزنا، وضاع مني الخطام. فسمعت عليّا وهو ينادى: « اعقروا الجمل، فإنّه إن عقر تفرّقوا. » فضربه رجل، فسقط، فما سمعت قطّ أشدّ من عجيج الجمل.
وفي رواية أبي بكر بن عيّاش عن علقمة أنه قال: قلت للأشتر: « قد كنت كارها لقتل عثمان، فما أخرجك بالبصرة؟ » قال: « إنّ هؤلاء بايعوه، ثم نكثوا، وكان ابن الزبير هو الذي هزّ عائشة على الخروج، فكنت أدعو الله أن يلقّينيه، فلقيني كفّة لكفّة. فما رضيت لشدّة ساعدي أن قمت في الركاب، فضربته ضربة على رأسه فصرعته. » قلت: « فهو القائل: اقتلوني ومالكا؟ » قال: « لا. ما تركته وفي نفسي منه شيء. ذاك عبد الرحمن بن عتّاب بن أسيد، لقيني، فاختلفنا ضربتين، فصرعنى وصرعته، فجعل يقول: نحن مصطرعون، اقتلوني ومالكا، والناس لا يعلمون من مالك، فلو يعلمون لقتلوني. » ثم قال أبو بكر بن عيّاش: « هذا كأنك شاهده. » وتحدّث عوف بن أبي رجاء قال: رأيت رجلا قد اصطلمت أذنه فقلت: « أخلقة، أم شيء أصابك؟ » قال: « أحدّثك: بينا أنا امشى بين القتلى يوم الجمل، فإذا رجل يفحص برجله، وهو يقول:
لقد أوردتنا حومة الموت أمّنا ** ولم ننصرف إلّا ونحن رواء
قال: قلت: « يا عبد الله قل: لا إله إلّا الله. » قال: « أدن مني، ولقّنّى، فإنّ في أذنى وقرا. » قال: فدنوت منه، فقال لي: « ممن أنت؟ » قلت: « رجل من أهل الكوفة. » قال:
فوثب عليّ، واصطلم أذنى كما ترى وقال: « إذا رجعت إلى أمّك، فأخبرها أن عمير بن الأهلب الضبي فعل بك هذا. » وتمام أبيات عمير بن الأهلب:
أطعنا بنى تيم بن مرّة شقوة ** وهل تيم إلّا أعبد وإماء
لقد كان عن نصر ابن ضبّة أمّه ** وشيعتها مندوحة وغناء
وروي عن الصعب بن عطيّة قال: كان منّا رجل يدعى الحارث، قال يومئذ: « يا آل مضر، علام نقتل بعضنا بعضا؟ » فنادوا: « لا ندري، إلّا أنّا إلى قضاء. » وما يكفّون.
وقال القعقاع بعد ذلك: ما رأيت شيئا أشبه بشيء من قتال القلب يوم الجمل بقتال صفّين. لقد رأيتنا ندافعهم بأسنّتنا، ونتكئ على أزجّتنا، وهم مثل ذلك، حتى لو أنّ الرجال مشت عليها لاستقلّت بهم.
وقال عبد الله بن سنان الكاهلي: لما كان يوم الجمل ترامينا بالنبل حتى [ فنيت ] وتطاعنّا بالرماح حتى تشبّكت في صدورنا وصدورهم، حتى لو سيّرت عليها الخيل لسارت. ثم قال عليّ: « السيوف يا أبناء المهاجرين. » قال الشيخ: فما دخلت دار الوليد بالبصرة وسمعت صوت القصّارين يضربون إلّا ذكرت ذلك اليوم، وما شبّهت هودج عائشة إلّا بالقنفذ.
-
حمل الهودج من بين القتلى
ثم أمر عليّ http://upload.wikimedia.org/wikipedi...8%A7%D9%85.png، بحمل الهودج من بين القتلى. وقد كان القعقاع وزفر بن الحارث أنزلاه عن ظهر البعير، فوضعاه إلى جنب البعير. فأقبل محمد بن أبي بكر ومعه عمّار حتى احتملاه، وأدخل محمد يده. فقالت: « من أنت، ويلك؟ » قال: « أنا أخوك محمد. » قالت: « بل مذمّم! » قال: « يا أخيّة! هل أصابك شيء؟ » قالت: « ما أنت من ذاك؟ » قال: « فمن إذا الضّلّال؟ » قالت: « بل الهداة. » وانتهى إليها عليّ فقال: « كيف أنت أمّه؟ » قالت: « بخير. » قال: « يغفر الله لك. » قالت: « ولك. » وأما الزبير فإنه تبعه ابن جرموز فقتله. وأما الأحنف فقصد عليّا ومعه ابن جرموز.
فقال عليّ للأحنف: « تربّصت. » فقال: « ما كنت أرانى إلّا قد أحسنت، وبأمرك كان أمير المؤمنين، فارفق، فإنّ طريقك الذي سلكت بعيد، وأنت غدا أحوج منك أمس، فاعرف إحسانى، واستصف مودّتى، ولا تقولنّ مثل هذا. فإني لم أزل لك ناصحا. » وحملت عائشة إلى دار عبد الله بن خلف الخزاعي. وكان عبد الله هذا قتل يوم الجمعة مع عائشة، وقتل عثمان أخوه مع عليّ. وأما الجرحى فإنهم انسلّوا في جوف الليل، ودخلوا البصرة من كان يطيق الانبعاث.
وسألت عائشة عن عدة ممن كانوا معها وممن كانوا عليها. فكلّما نعى واحد منهم قالت: « رحمه الله. » فأما عليّ فصلّى على قتلى هؤلاء، وجمع الأسلاب إلى المسجد بالبصرة، ونادى: « من عرف شيئا فليأخذه، إلّا سلاحا كان في الخزائن عليها سمة السلطان. » وصلّى عليّ في المسجد، ثم دخل البصرة، فأتاه الناس. ثم راح إلى عائشة على بغلته، وهي في دار عبد الله بن خلف، وهي أعظم دار بالبصرة. فوجدوا النساء يبكين على عبد الله وعثمان ابني خلف، وصفيّة بنت الحارث مختمرة تبكى، فلمّا رأته قالت: « يا عليّ، يا قاتل الأحبّة، يا مفرّق الجمع، أيتم الله منك بنيك كما أيتمت ولد عبد الله. » فلم يردّ عليها شيئا، ولم يزل على حاله، حتى دخل على عائشة. فسلّم عليها، وقعد عندها. ثم قال: « جبهتنا صفيّة. أما إني لم أرها منذ كانت جارية حتى اليوم. » فلما خرج عليّ أقبلت عليه، فأعادت عليه الكلام. فكفّ بغلته ثم قال: « لهممت - وأشار إلى باب من أبواب الدار - أن أفتح هذا الباب وأقتل من فيه، ثم هذا، وأقتل من فيه. » وكان ناس من الجرحى لجأوا إلى عائشة. فأخبر عليّ بمكانهم فتغافل عنهم.
فسكتت صفيّة، وخرج عليّ.
فقال له رجل من الأزد: « ما تفلتنا هذه المرأة. » فغضب وقال: « مه! لا تهتكنّ سترا، ولا تدخلنّ دارا، ولا تهيجنّ امرأة بأذى وإن شتمن أعراضكم، وسفّهن أمراءكم وصلحاءكم، فإنهنّ ضعاف. ولقد كنّا نؤمر بالكفّ عنهنّ وهنّ مشركات، وإنّ الرجل ليكافئ المرأة ويتناولها بالضرب، فيعيّر به عقبه من بعده. فلا يبلغنّى عن أحد عرض لامرأة، فأنكّل به شرار الناس. » ومضى عليّ، فلحق به رجل فقال: « يا أمير المؤمنين، قام رجلان ممن لقيت على الباب فتناولا من هو أمضّ لك شتيمة من صفيّة. » قال: « ويحك، لعلّها عائشة! » قال: « نعم. » فبعث القعقاع بن عمرو إلى الباب. فأقبل بمن كان عليه. فأحالوا على رجلين.
فقال: « أضرب أعناقهما.. » ثم قال: « بل أنهكهما عقوبة.. » ثم قال: « لا، بل أضربهما مائة أخرجهما من ثيابهما. » ثم بايع أهل البصرة حتى الجرحى والمستأمنة. فلما فرغ من بيعتهم نظر في بيت المال، فإذا فيه ستمائة ألف. فقسمها على من شهد معه. فأصاب كلّ رجل منهم خمسمائة.
فقال لهم: « لكم إن أظفركم الله بالشام، مثلها إلى أعطياتكم. » فخاض في ذلك السبائية وطعنوا على عليّ من وراء وراء.
سيرة علي في من قاتل يوم الجمل
وكان من سيرة عليّ ألّا يقتل مدبرا، ولا يذفّف على جريح، ولا يكشف سترا، ولا يأخذ مالا.
فقال قوم يومئذ: « ما يحلّ لنا دماءهم، ويحرّم علينا أموالهم؟ » فقال عليّ: « القوم أمثالكم. من صفح عنّا فهو منّا ونحن منه، ومن لجّ حتى يصاب فقتاله مني على الصدر والنحر، وإنّ لكم في خمسه لغنى. » فيومئذ تكلّمت الخوارج.
وكتب كتاب البشارة إلى عامله بالمدينة. وكان زياد بن أبي سفيان ممّن اعتزل. فلمّا انجلت الحرب، ذكره عليّ، واستبطأه. فقال ابن أخيه عبد الرحمن بن أبي بكرة، وكان ورد مستأمنا: « هو مستأمن يا أمير المؤمنين. » فقال: « امش أمامى، فاهدني إليه. » ففعل. فلمّا دخل عليه قال: « تقاعدت وتربّصت. » فاعتذر زياد. فقبل عذره، واستشاره في من يولّيه البصرة، وأراده عليها. فقال: « يا أمير المؤمنين، رجل من أهل بيتك يسكن إليه الناس، فإنّه أجدر أن يطمئنّوا إليه، وسأكفيه وأشير عليه. » فافترقا على ابن عبّاس، وولّى زيادا الخراج وبيت المال.
السبائية ترتحل بغير إذن علي
وأعجلت السبائية عليّا عن المقام، وارتحلوا بغير إذنه. فارتحل على آثارهم ليقطع عنهم أمرا إن كانوا أرادوه. وقد كان له مقام لولاهم.
وكان عدّة القتلى يوم الجمل عشرة آلاف من الفريقين.
وتحدّث الناس: إنّ أهل المدينة علموا بيوم الجمل يوم الخميس قبل أن تغرب الشمس، وفيه كان القتال، وذلك من نسر مرّ بماء حول المدينة معه شيء متعلّق، فتأمّله الناس، فوقع، فإذا كفّ فيها خاتم نقشه: « عبد الرحمن بن عتّاب ». ثم جعل من بين مكة والمدينة ممن قرب من البصرة أو بعد، قد علموا بالوقعة مما تنقل إليهم النسور من الأيدى والأقدام.
تجهيز علي عائشة
وجهّز عليّ عائشة لغرّة رجب سنة ستّ وثلاثين بكلّ شيء ينبغي لها، وأخرج معها كلّ من نجا ممن خرج معها إلّا من أحبّ المقام. واختار من نساء البصرة المعروفات أربعين امرأة، وأمر أخاها محمدا بالخروج معها، وخرج في تشييعها أميالا، وسرّح بنيه معها يوما.
ما جرى بين معاوية وقيس
وكان عليّ بن أبي طالب ولّى قيس بن سعد بن عبادة مصر لما قتل عثمان، فسار إليها، وبايع أهلها لعليّ بن أبي طالب، ودارى الناس. فاستجاب له أهل مصر إلّا أهل قرية يقال لها: « خرنبا »، فإنّ أهلها أعظموا قتل عثمان، وكانوا نحو عشرة آلاف رجل من الوجوه الفرسان فكره قيس أن يهيّجهم، فراسلهم قيس وراسلوه يقولون: « إنّا لا نقاتلك، فابعث عمّالك، فالأرض أرضك، ولكن دعنا على حالنا حتى ننظر إلى ما يصير أمر الناس. » فأمسك عنهم، وأرسل إليهم عمّاله، فجباهم، ثم توثّب عليه قوم بمصر، فداراهم. وكان قيس ذا حزم ورأى. فجبى الخراج لا ينازعه أحد.
وخرج أمير المؤمنين إلى أهل الجمل وهو على مصر، ورجع إلى أرض الكوفة من البصرة وهو بمكانه. فكان أثقل خلق الله على معاوية لقربه من الشام مخافة أن يقبل إليه عليّ في أهل العراق ويقبل إليه قيس في أهل مصر فيقع معاوية بينهما.
فكتب إليه معاوية وعليّ بن أبي طالب بالكوفة يومئذ، يعظّم عليه قتل عثمان، ويذكر له أنّ صاحبه أغرى به الناس، وحملهم على قتله، ويحمل قيسا على متابعته، ويضمن له سلطان العراقين إذا ظهر، ما بقي، ويشترط له سلطان الحجاز يولّيه من شاء من أهله، ويقول له بعد ذلك: « وسلني غير هذا مما تحبّ، فإنّك لا تسألنى شيئا إلّا أجبتك إليه. » فأجابه قيس بالاعتذار من قتل عثمان، وأنّه لم يشهده ولا صاحبه أمير المؤمنين، ولا رضيه، واستمهله مما عرض عليه من متابعته، وقال: « لي فيه نظر ورأى. » فلما نظر في كتابه معاوية وقرأه لم يره إلّا مباعدا، ولم يأمن أن يكون مكايدا، فكتب كتابا آخر يقول له: « لم أرك تدنو فأعدّك سلما، ولم أرك تباعد فأعدّك حربا، وليس مثلي من يصانع بالخداع ومعي أعنّة الخيل، وعدد الرجال. » فلما قرأ قيس كتابه ورأى أنه لا يقبل منه المدافعة، أظهر له ذات نفسه
وكتب إليه: « العجب من اغترارك بي وطمعك في واستسقاطك رأيي، تسومني الخروج من طاعة أولى الناس بالإمارة، وأقولهم بالحقّ، وأقربهم إلى الرسول، وأهداهم سبيلا، وتأمرنى بالدخول في طاعتك، طاعة أبعد الناس من هذا الأمر، وأقولهم بالزور، وأضلّهم سبيلا، وأبعدهم من الله ورسوله وسبيله، ولد ضالّين مضلّين، طاغوت من طواغيت إبليس، فأما قولك: إني مالئ عليك خيلا ورجلا، فوالله إن لم أشغلك بنفسك حتى تكون نفسك أهمّ إليك، إنّك لذو جدّ والسلام. » فلما أتى معاوية كتاب قيس بن سعد هذا. يئس منه، وثقل عليه مكانه، وأخذ في طريق الحيلة عليه، والمكيدة له.
-
ذكر مكيدة معاوية لقيس وما تم له عليه
فأخذ معاوية يكيد قيسا من قبل عليّ، فيظهر مرة كتابا يفتعله من قيس إليه بأنه: منكر لقتل عثمان، تائب إلى الله منه، وأنّ هواه وميله معه، في أشياء تشبه هذا الكلام، ومرة يظهر رسولا يزعم: أنّه من قبله ويلقّنه وما يقوّى به قلوب شيعته من أهل الشام، ومرة يقول لثقاته: لا تسبّوا قيس بن سعد، فإنّه لنا شيعة تأتينا نصيحته سرّا، ألا ترون ما يفعل بإخوانكم من أهل حزبنا يجرى عليهم أرزاقهم. ويؤمن سربهم ويحسن إلى كل راكب قدم عليه منكم؟
فسمع جواسيس أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وعيونه ذلك، فكتبوا إليه به.
ولم يزل معاوية بأمثال هذا المكائد حتى اتهم عليّ قيسا، وجمع ثقاته، وقال لهم ما كتب إليه من أمر قيس، فقالوا: « يا أمير المؤمنين ما يريبك إلى ما لا يريبك. اعزل قيسا، وابعث بثقتك مكانه. » فقال عليّ: « إني والله ما أصدّق هذا على قيس. » فقال عبد الله بن جعفر: « اعزله يا أمير المؤمنين، فوالله، لئن كان هذا حقّا لا يعتزل لك. » فبينا هم كذلك إذ جاء كتاب من قيس بن سعد يخبره: « إنّ رجالا قد سألونى أن أكفّ عنهم وأدعهم حتى يستقيم أمر الناس فنرى ويروا، فرأيت أن أكفّ عنهم، وألّا أتعجّل حربهم، فلعلّ الله يعطف بقلوبهم » فقال عبد الله بن جعفر: « يا أمير المؤمنين، ما أخوفنى أن يكون هذا ممالأة منه لهم. فمره بقتالهم. » فكتب إليه عليّ: « أما بعد، فسر إلى القوم الذين ذكرت، فإن دخلوا في ما دخل فيه المسلمون، وإلّا فناجزهم، والسلام. » فلما أتى قيس بن سعد الكتاب، لم يتمالك أن كتب: « أما بعد، يا أمير المؤمنين، فقد عجبت لأمرك بقتال قوم كافّين عنك مفرّغيك لقتال عدوّك، وإنك متى حاربتهم ساعدوا عليك عدوّك. فأطعنى يا أمير المؤمنين، واكفف عنهم، فإنّ الرأي تركهم. » فلما أتى عليّا كتاب قيس قرأه على أصحابه. فقال عبد الله بن جعفر: « ابعث محمد بن أبي بكر على مصر يكفك، فقد بلغني عن قيس هنات وأقوال. » يعنى ما كان يشيعه معاوية عنه.
فكتب عليّ عهد محمد بن أبي بكر على مصر. فلما قدم محمد مصر، خرج قيس، فلحق بالمدينة. فأخافه مروان والأسود بن البختري حتى إذا خاف أن يقتل، ركب راحلته وطمر إلى عليّ. وبلغ ذلك معاوية، فكتب إلى مروان والأسود يتغيّظ عليهما ويقول: « أمددتما عليّا بقيس بن سعد ورأيه ومكانته، والله لو أنكما أمددتماه بمائة ألف مقاتل ما كان ذلك بأغيظ لي من إخراجكما قيس بن سعد إلى عليّ. » ولما قدم قيس على عليّ وباثّه، ثم جاءهم قتل محمد بن أبي بكر، عرف أنّ قيس بن سعد كان يدارى أمورا عظاما من المكاره، وأنّ من كان يحمله على عزل قيس لم يكن ينصح له. فأطاع عليّ قيس بن سعد بعد ذلك في الأمر كلّه.
ابتداء وقعة صفين قميص عثمان وأصابع نائلة
وكان أهل الشام قدم عليهم النعمان بن بشير بقميص عثمان الذي قتل فيه مخضّبا بدمه، وبأصابع زوجته « نائلة »، مقطوعة البراجم: إصبعان منها مع شيء من الكفّ، وإصبعان مقطوعتان من أصولهما، ونصف الإبهام. فكان معاوية يضع القميص على المنبر، ويعلّق منه الأصابع، ويشنّع به، ويكاتب الأجناد. فثاب إليه الناس وبكوا سنة والقميص بتلك الحال. وآلى رجال من أهل الشام ألّا يأتوا النساء، ولا يمسّهم الماء للغسل إلّا من الاحتلام، ولا يناموا على الفرش، حتى يقتلوا قتلة عثمان، ومن عرض دونهم بشيء، أو تفنى أرواحهم.
خروج علي بن أبي طالب إلى صفين
وبلغ عليّا خبر معاوية وما يصنعه، فبعث إليه برسل، وخرج من الكوفة، فعسكر بالنخيلة، وقدم عليه عبد الله بن عباس، بمن نهض معه من البصرة، وتهيّأ منها إلى صفّين، واستشار الناس. فأشار عليه قوم أن يبعث الجنود ويقيم، وأشار آخرون بالمسير، فأبى إلّا المباشرة. فجهّز الناس.
وبلغ الخبر معاوية، فدعا عمرو بن العاص واستشاره.
فقال: « إذا بلغك أنه يسير فسر بنفسك ولا تغب عنه برأيك ومكيدتك. » قال معاوية: « فجهّز الناس. » فخرج عمرو إلى الناس، وحضّضهم وضعّف عليّا وأصحابه وقال: « إنّ أهل العراق قد فرّقوا جمعهم، وأوهنوا شوكتهم وقطعوا حدّهم. ثم إنّ أهل البصرة مخالفون لعليّ وقد قتلهم، ووترهم، وتفانت صناديدهم يوم الجمل، وإنما سار عليّ في شرذمة قليلة، منهم من قتل خليفتكم، فالله في حقّكم أن تضيّعوه، وفي دمكم أن تبطلوه. » وبعث عليّ بن أبي طالب زياد بن النضر طليعة في ثمانية آلاف و [ بعث معه ] شريح بن هانئ، ووجّه من المدائن معقل بن قيس في ثلاثة آلاف، وأمره أن يأخذ على الموصل حتى يوافيه، وسار بنفسه حتى انتهى إلى الرقّة، وقال لأهلها: « اجسروا لي جسرا حتى أعبر من هذا المكان إلى الشام. » فأبوا. وكانوا ضمّوا إليهم السفن. فنهض عليّ من عندهم ليعبر من جسر منبج، وخلّف عليهم الأشتر، ورحل ليمضى بالناس ويعبر بهم.
فنادى الأشتر: « يا أهل هذا الحصن، إليّ، إني أقسم بالله، لئن مضى أمير المؤمنين ولم تجسروا له عند مدينتكم جسرا حتى يعبر، لأجرّدنّ فيكم السيف، ثم لأقتلنّ الرجال، وأخر بنّ الديار، ولأنهبنّ الأموال. » فلقى بعضهم بعضا، فقالوا: « هو الأشتر، ويفي بما حلف عليه، ويأتى بما هو شرّ منه. » فنادوه: « نعم، إنّا ناصبون لكم جسرا، فأقبلوا. » فجاء عليّ، فنصبوا له الجسر، فعبر عليّ بالأثقال والرجال. ثم أمر عليّ الأشتر، فوقف في ثلاثة آلاف فارس حتى لم يبق من الناس أحد إلّا عبر، ثم عبر آخر الناس رجلا.
فأما زياد بن النضر وشريح بن هانئ، فسارا أمام عليّ - كما ذكرنا - من الكوفة، آخذين على شاطئ الفرات من قبل البرّ مما يلي الكوفة، حتى بلغا عانات، فبلغهما [ أخذ عليّ ] على طريق الجزيرة، وإنّ معاوية قد أقبل من دمشق في جنود أهل الشام، فقالا: « والله ما هذا لنا برأى: أن نسير وبيننا وبين المسلمين وأمير المؤمنين هذا البحر، ومالنا خير في أن نلقى جنود الشام بقلّة من معنا منقطعين من المدد.
فذهبوا ليعبروا من عانات، فمنعهم أهل عانات، وحبسوا عنهم السفن. فأقبلوا راجعين حتى عبروا من هيت، ثم لحقوا عليّا، فقال http://upload.wikimedia.org/wikipedi...8%A7%D9%85.png: مقدّمتى تأتينى من ورائي! » فتقدّم إليه زياد وشريح، وأخبراه بما رأيا. فقال: « سدّدتما. »
ثم مضى. فلما عبر الفرات قدّمهما أمامه. وأرسل معاوية أبا الأعور السّلمى في جند عظيم من أهل الشام، فأرسلا إلى عليّ: « إنّا قد لقينا أبا الأعور السّلمى في جمع من أهل الشام ودعوناهم، فلم يجبنا منهم أحد، فمرنا بأمرك. » وكان عليّ أمرهما ألّا يبدءا بقتال حتى يدعوا إلى الحقّ، ويكون مبدأ القتال من غيرهما. فأرسل عليّ http://upload.wikimedia.org/wikipedi...8%A7%D9%85.png الأشتر، فقال: « يا مال، إنّ زيادا وشريحا أرسلا إليّ أنهما لقيا أبا الأعور السلمى في جمع من أهل الشام، وأخبرني الرسول أنهم متواقفون، فالنجا إلى أصحابك النجا، فإذا قدمت عليهم فأنت عليهم، وإياك أن تبدأهم، ولا يجر منّك شنآنهم على قتالهم قبل دعائهم مرة بعد مرة، ولا تدن منهم دنوّ من يريد أن ينشب الحرب، ولا تباعد منهم بعد من يهاب الناس، حتى أقدم عليك، فإني حثيث السير في أثرك إن شاء الله. » وكتب إلى زياد وشريح بالسمع له والطاعة. فخرج الأشتر، والتقى مع القوم، وكفّ عن القتال إلى أن حمل أبو الأعور، فثبتوا له. ثم انصرف أهل الشام في تلك الليلة لما أدركهم المساء، وأقبل من الغد، وجاء الأشتر من المكان الذي كان فيه، ولم يزل يزحف حتى وقف في المكان الذي كان فيه بالأمس أبو الأعور.
فقال الأشتر لسنان بن مالك: « انطلق إلى أبي الأعور، فادعه إلى المبارزة. » فقال: « إلى مبارزتي، أو إلى مبارزتك؟ » فقال الأشتر: « لو أمرتك بمبارزته فعلت؟ » قال: « نعم، والله لو أمرتنى أن أعترض صفّهم بسيفي، ما رجعت حتى أضرب فيهم بسيفي. » فقال له الأشتر: « يا ابن أخي، أطال الله بقاءك، قد - والله - ازددت فيك رغبة. لا، ما أمرتك بمبارزته، وإنما أمرتك أن تدعوه إلى مبارزتي. إنّه لا يبرز إلّا لذوي الأسنان والكفاءة والشرف، وأنت - ولربّك الحمد - من أهل الشرف والكفاءة، غير أنك في حدث السنّ. وليس [ هو ] بمبارز الأحداث، ولكن ادعه إلى مبارزتي. » فأتاه ونادى: « آمنونى، فإني رسول. » فأومن حتى جاء إلى أبي الأعور.
قال: فدنوت منه وقلت « إنّ الأشتر يدعوك إلى المبارزة. » قال: فسكت عني طويلا ثم قال: « إنّ خفّة الأشتر، وسوء رأيه حمله على إجلاء عمّال عثمان بن عفّان من العراق، ومن خفّة الأشتر أن سار إلى بن عفّان في داره حتى قتله في من قتله، فأصبح متبعا بدمه. ألا، لا حاجة لي في مبارزته. » قال: قلت له: « إنّك قد تكلّمت، فاسمع مني أجبك. » قال: « لا حاجة لي في الاستماع منك ولا في جوابك، اذهب عني. » وصاح بن أصحابه، فانصرفت عنه، ولو سمع إليّ لأجبته بحجّة صاحبي.
فرجعت إلى الأشتر، فأخبرته أنه قد أبي المبارزة. فقال: « لنفسه نظر. »
-
لقتال على الماء
وأقمنا متحاجزين يوما ونتحارس ليلتنا. فلما أصبحنا نظرنا فإذا القوم قد انصرفوا من تحت ليلتهم، ويصبّحنا عليّ غدوة. فقدّم الأشتر في من كان معه في تلك المقدمة. وجاء عليّ في أثره حتى لحق بالأشتر وانتهى إلى معاوية.
قال: فلمّا انتهينا إلى معاوية وجدناه قد عسكر في موضع سهل أفيح، قد اختاره قبل قدومنا، إلى جانب شريعة الفرات، ليس في ذلك الصقع كلّه شريعة غيرها، وجعلها في حيّزه، وبعث عليها بأبي الأعور يمنعها ويحميها.
قال: فارتفعنا على الفرات رجاء أن نجد شريعة غيرها نستغني بها عن شريعتهم، فلم نجدها.
قال: فأتينا عليّا، فأخبرناه بعطش الناس، وقال له الأشتر: « إنّ القوم قد سبقوك إلى الشريعة وإلى سهولة المنزل، فإن رأيت سرنا حتى نجوزهم إلى القرية التي خرجوا منها، فننزل في منزلهم، فإنهم يشخصون في إثرنا، فإذا لحقونا نزلنا فكنّا [ نحن ] وهم على السواء. » فكره ذلك عليّ وقال: « ليس كل الناس يقوى على المسير. » ونزل بهم، فقال عليّ: « قاتلوهم على الماء. » وبعث إلى معاوية برسول يقول: « إنّا سرنا إليك، ومن رأينا الكفّ، إلى أن تنظر لنفسك، وننظر، وامتنعنا من قتالك، فبدأتنا، وهذا الماء تمنعنا منه، فخلّ بين الناس وبين الشريعة حتى ننظر، وإن كان الأعجب إليك أن نترك ما جئنا له، ونترك الناس يقتتلون على الماء، حتى يكون الغالب هو الشارب. » فقال معاوية لأصحابه: « ما ترون؟ » فأما أكثر الناس قال: « ولا نعمى عين، نمنعهم الماء كما منعوه عثمان، فإن رجعوا كان ذلك فلّا لهم. »
فقال عمرو: « خلّ بينهم وبين الماء، فإنّ القوم لن يعطشوا [ وأنت ريّان ] ولكن بغير الماء، فانظر في ما بينك وبينهم. » فارتفع الصياح من كل جانب: « امنعوهم الماء، منعهم الله يوم القيامة. » وكان الرسول صعصعة بن صوحان، فقال صعصعة: « إنما يمنعه الله يوم القيامة الكفرة، والفسقة شربة الخمر: ضربكم من الناس. » فتوثبوا إليه يشتمونه ويتهدّدونه.
فقال معاوية: « كفّوا عن الرجل فإنه رسول. » قال صعصعة: « فخرجت من عنده ومن رأيه منع الماء. فما انتهيت إلى عليّ حتى رأيت الخيل تسرّب إلى أبي الأعور ليكفّنا عن الماء. فأبرز [ نا ] عليّ إليهم وقال: « قاتلوهم على الماء. » فارتمينا، ثم اطّعنّا، ثم تجالدنا بالسيوف، إلى أن انهزموا، وصار الماء في أيدينا.
قال: فقلنا: « لا والله، لا نسقيهموه بعد أن غلبنا عليه بالسيف. » فأرسل إلينا عليّ أن: « خذوا من الماء حاجتكم، وارجعوا إلى عسكركم، وخلّوا عنهم، فإنّ الله قد نصركم عليهم ببغيهم وظلمهم. » ثم أقبل عليّ يأمر ذا الشرف من الناس، فيخرج ومعه جماعة، ويخرج معاوية إليه مثله، فيقتتلان في خيلهما، ثم ينصرفان، وأخذوا يكرهون أن يلقوا بجميع [ أهل ] العراق أهل الشام لما يتخوّفون أن يكون في ذلك من الاستيصال والهلاك، إلى أن [ تقضّى شهر ذى ] الحجة.
فلما دخل المحرّم توادع عليّ ومعاوية إلى انقضائه طمعا في الصلح، وتردّدت الرسل، وطال الكلام بينهما، فما استقام بينهما الصلح. وانقضى المحرّم فأمر عليّ مرثد بن الحارث الجشميّ، فنادى أهل الشام عند غروب الشمس: « ألا، إنّ أمير المؤمنين يقول لكم: إني استدمتكم لتراجعوا الحقّ وتنيبوا إليه، واحتججت عليكم بكتاب الله، ودعوتكم إليه، فلم تناهوا عن طغيان، ولم تجيبوا إلى حقّ، وإني قد نبذت إليكم على سواء، إنّ الله لا يحبّ الخائنين. » ففزع أهل الشام إلى أمرائهم، وخرج معاوية وعمرو في الناس يكتّبان الكتائب، ويعبّئان الناس، وأوقدوا النيران، وبات عليّ ليلته كلّها يعبّئ الناس، ويكتّب الكتائب، ويدور في الناس، ويحرّضهم.
من وصايا علي لأصحابه يوم صفين
وكان في ما يوصّيهم:
« إذا قاتلتموهم وهزمتموهم، فلا تقتلوا مدبرا، ولا تجهزوا على جريح، ولا تكشفوا عورة، ولا تمثلوا بقتيل، فإذا وصلتم إلى رجال القوم فلا تهتكوا سترا، ولا تدخلوا دارا إلّا بإذن، ولا تأخذوا شيئا من أموالهم إلّا ما وجدتم في عسكرهم، ولا تهيجوا امرأة بأذى وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم وصلحاءكم، فإنهنّ ضعيفات القوى ».
كان هذا كلامه في يوم الجمل، وصفّين، ويوم النهروان، وكان يحرّض فيقول:
« عباد الله، غضّوا الأبصار، واخفضوا الأصوات، وأقلّوا الكلام، ووطّنوا أنفسكم على المنازلة والمبارزة، والمبالطة، والمعانقة، واثبتوا، واذكروا الله كثيرا، لعلّكم تفلحون، ولا تنازعوا فتفشلوا، وتذهب ريحكم، واصبروا إنّ الله مع الصابرين، اللهمّ ألهمهم الصبر، وأنزل عليهم النصر، وأعظم لهم الأجر. »
اقتتلوا ولكل فئة أحد عشر صفا
ولما أصبح عليّ في ميمنته وميسرته، ومعاوية في مثل ذلك، وبايع رجال من أهل الشام على الموت، فعقلوا أنفسهم بالعمائم. فكان المعقّلون خمسة صفوف، وكانوا يخرجون ويصفون أحد عشر صفا، ويخرج أهل العراق أحد عشر صفا. فخرجوا أول يوم من صفر، واقتتلوا، وعلى من خرج يومئذ من الكوفة الأشتر، وعلى أهل الشام حبيب بن مسلمة، وذلك يوم الأربعاء، فاقتتلوا عامة نهارهم. ثم تراجعوا وقد انتصف بعضهم من بعض. فلما كان اليوم الثاني، خرج هاشم بن المرقال. وخرج إليه أبو الأعور السلمى في خيلهما ورجالهما، فاقتتلوا عامة نهارهم، وصبر بعضهم لبعض. وخرج اليوم الثالث عمار بن ياسر. وخرج إليه عمرو بن العاص في خيلهما ورجلهما فاقتتلوا كأشدّ ما يكون القتال، وكان مع عمار زياد بن النضر على الخيل، فأمره عمار أن يحمل، فحمل في خيله وصبر له الناس، وشدّ عمار في الرجال، فأزال ابن العاص عن موقفه، ثم انصرف كلّ واحد عن صاحبه وتراجع الناس.
وخرج اليوم الرابع محمد بن عليّ، وهو ابن الحنفية، فخرج إليه عبيد الله بن عمر في جمعين عظيمين، فاقتتلوا كأشدّ القتال. فأرسل عبيد الله إلى ابن الحنفية، أن: « اخرج إليّ! » فقال: « نعم! » وخرج يمشى. وبصر به عليّ، فقال: « من هذان المتبارزان؟ » فقيل له: « ابنك وعبيد الله بن عمر. » فحرّك دابّته، ثم نادى محمدا، فوقف له. فقال: « أمسك دابتي! » فأمسكها. ثم مشى إليه عليّ وقال: « أبرز [ لك ]، فهلمّ إليّ! » فقال: « ليست لي في مبارزتك حاجة. » قال: « بلى، هلمّ! » قال: « لا. » فرجع ابن عمر، وأخذ محمد بن الحنفية يعاتب أباه في منعه، ثم خروجه بنفسه، إلى من ليس [ كفؤا له ] هو ولا أبوه. فجرى بينهما كلام مذكور. ثم تحاجز الناس.
فلما كان اليوم الخامس خرج عبد الله بن العباس، وخرج إليه الوليد بن عقبة، فاقتتلوا قتالا شديدا، ودنا ابن العباس من الوليد بن عقبة والوليد يشتم بنى عبد المطلب. فأرسل إليه ابن عباس أن: ابرز لي! فأبى. وقاتل ابن عباس قتالا شديدا، وغشى الناس بنفسه.
وخرج اليوم السادس قيس بن سعد الأنصاري، فخرج إليه ابن ذي الكلاع الحميري، فاقتتلا قتالا شديدا، ثم انصرفا، ذلك بعد قتل كثير في الفريقين.
وخرج الأشتر في اليوم السابع، وعاد إليه حبيب بن مسلمة، وذلك يوم الثلاثاء، فاقتتلا كأشدّ ما يكون من قتال، ثم انصرفا عند الظهر وكلّ غير غالب.
ثم إنّ عليّا قال: « حتى متى لا نناهض هؤلاء القوم بأجمعنا؟ » فقام في الناس عشية الثلاثاء ليلة الأربعاء بعد العصر، فخطبهم فقال:
« الحمد لله الذي لا يبرم ما نقض، ولا ينقض ما أبرم، ولو شاء ما اختلف اثنان من خلقه، ولا تنازعت الأمة في شيء من أمره ولا جحد المفضول ذا الفضل فضله، وقد ساقتنا وهؤلاء القوم الأقدار، فلفّت بيننا في هذا المكان، فلو شاء عجّل النعمة، وكان منه التغيير حتى يكذّب الظالم ويعلم الحقّ أين مصيره، ولكنّه جعل الدنيا دار الأعمال، وجعل الآخرة هي دار القرار، ليجزي الذين أساءوا بما عملوا، ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى. ألا، إنّكم لاقوا القوم غدا، فاطلبوا وجه الله بأعمالكم، وأطيلوا الليلة القيام، وأكثروا تلاوة القرآن، وسلوا الله الصبر والنصر، والقوهم بالجدّ والحزم، وكونوا صادقين. »
فوثب الناس إلى سيوفهم ورماحهم ونبالهم يصلحونها. ومرّ بهم كعب بن جعيل التغلبي وهو يقول:
أصبحت الأمّة في أمر عجب ** والملك مجموع غدا لمن غلب
فقلت قولا صادقا غير كذب ** إنّ غدا يهلك أعلام العرب
ولما كان من الليل، خرج عليّ يعبّئ الناس ليلته كلّها حتى إذا أصبح زحف الناس، وخرج إليه معاوية في أهل الشام. فجعل عليّ يقول: « من هذه القبيلة »، و« من هذه الكتيبة؟ » فتنسب له، حتى إذا عرفهم ورأى مراكزهم، قال للأزد: « أكفونى الأزد. » وقال لخثعم: « أكفونى خثعم. » وأمر كلّ قبيلة أن تكفيه أختها، وإذا لم يجد لقبيلة منهم أختها سمّى لها قبيلة أخرى. ثم تناهض الناس يوم الأربعاء، فاقتتلوا نهارهم كلّه، وانصرفوا عند المساء وكلّ غير غالب.
حتى إذا كان يوم الخميس، وهو التاسع، صلّى عليّ بغلس، فيقال: إنه لم يغلّس أشدّ من تغليسه يومئذ. ثم خرج بالناس. وكان عليّ http://upload.wikimedia.org/wikipedi...8%A7%D9%85.png يبدأ القوم بالمسير إليهم. فإذا رأوه وقد زحف استقبلوه بوجوههم.
فلما صلّى عليّ، دعا دعاء كثيرا، وقال في آخر دعائه: « اللهمّ إن أظهرتنا على عدوّنا فجنّبنا البغي، وسدّدنا للحقّ، وإن أظهرتهم علينا فارزقني الشهادة، واعصم بقيّة أصحابي من الفتنة. » ثم خرج وعلى ميمنته عبد الله بن بديل، وعلى ميسرته عبد الله بن العباس وقرّاء أهل العراق مع ثلاثة نفر: مع عمار بن ياسر، ومع قيس بن سعد، ومع عبد الله بن بديل، والناس على راياتهم وعليّ في القلب في أهل المدينة بين أهل الكوفة وأهل البصرة وأكثر من معه من أهل المدينة، الأنصار. ثم زحف إليهم بالجمع.
ورفع معاوية قبّة عظيمة وقد ألقى عليها الكرابيس، وبايعه عظم أهل الشام على الموت، وبعث إلى خيل أهل دمشق، فأحاطت بقبّته، وزحف عبد الله بن بديل في الميمنة نحو حبيب بن مسلمة، فلم يزل يحوزه ويكشف خيله من الميسرة حتى اضطرّهم إلى قبّة معاوية عند الظهر، وحضّ عبد الله بن بديل أصحابه، وحرّضهم، وذكّرهم بالله، وأثنى عليه، وعضّ من معاوية وسبّه، وقاتل قتالا شديدا، وحضّ عليّ أصحابه.
خطبة في حض على حرب ووصايا فيها
فقال: « إنّ الله قد دلّكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم، وأخبركم أنه يحبّ الذين يقاتلون في سبيله صفّا كأنّهم بنيان مرصوص فسوّوا صفوفكم، وقدّموا الدارع، وأخّروا الحاسر، وعضّوا على الأضراس، فإنه أنبى للسيوف عن الهام، والتووا في أطراف الرماح، فإنّه أمور للأسنّة، وغضّوا الأبصار، فإنّه أربط للجأش، وأميتوا الأصوات، فإنّه أطرد للفشل، وأولى بالوقار. راياتكم، فلا تميلوها، ولا تجعلوها إلّا بأيدي شجعانكم. أجزأ امرؤ [ وقذ ] قرنة وآسى أخاه بنفسه، ولم يكل قرنه إلى أخيه، فيكسب به لائمة ودناءة، وكيف لا، وهذا يقاتل اثنين وهذا ممسك يده قائما ينظر إليه؟ من يفعل ذلك، يمقته الله. قال الله لقوم: لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل، وإذا لا تمتّعون إلّا قليلا، استعينوا بالصدق والصبر، فإنّ الله ينزل بعد الصبر النصر ».