قال: وكان في الأسارى أبو وداعة بن ضبيرة السهمي، فقال رسول الله
ص: إن له ابنًا تاجرًا كيسًا ذا مال؛ وكأنكم به قد جاءكم في فداء أبيه! قال: فلما قالت قريش: لا تعجلوا في فداء أسرائكم لا يتأرب عليكم محمد وأصحابه، قال المطلب بن أبي وداعة - وهو الذي كان رسول الله
ص عنى -: صدقتم، لا تعجلوا بفداء أسرائكم.
ثم انسل من الليل، فقدم المدينة، فأخذ أباه بأربعة آلاف درهم، ثم انطلق به، ثم بعثت قريش في فداء الأسارى، فقدم مكرز بن حفص ابن الأخيف في فداء سهيل بن عمرو، وكان الذي أسره مالك بن الدخشم، أخو بنى سالم بن عوف، وكان سهيل بن عمرو أعلم من شفته السفلى.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: فحدثني محمد بن عمرو بن عطاء بن عياش بن علقمة، أخو بنى عامر بن لؤي، أن عمر بن الخطاب قال لرسول الله
ص: يا رسول الله انتزع ثنيتي سهيل بن عمرو. السفليين يدلع لسانه، فلا يقوم عليك خطيبًا في موطنٍ أبدًا، فقال رسول الله
ص: لا أمثل به فيمثل الله بي؛ وإن كنت نبيًا.
قال: وقد بلغني أن رسول الله
ص قال لعمر في هذا الحديث: إنه عسى أن يقوم مقامًا لا تذمه؛ فلما قاولهم فيه مكرز، وانتهى إلى رضاهم، قالوا: هات الذي لنا. قال: اجعلوا رجلي مكان رجله، وخلوا سبيله حتى يبعث إليكم بفدائه. قال: فخلوا سبيل سهيل، وحبسوا مكرزًا مكانه عندهم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، أن رسول الله
ص قال للعباس بن عبد المطلب حين انتهى به إلى المدينة: يا عباس، افد نفسك وابني أخيك عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث، وحليفك عتبة بن عمرو بن جحدم، أخا بنى الحارث بن فهر؛ فإنك ذو مال.
فقال: يا رسول الله، إني كنت مسلمًا؛ ولكن القوم استكرهوني، فقال: الله أعلم بإسلامك؛ إن يكن ما تذكر حقًا فالله يجزيك به، فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا، فافد نفسك - وكان رسول الله
ص قد أخذ منه عشرين أوقية من ذهب - فقال العباس: يا رسول الله، احسبها لي في فدائي، قال: لا؛ ذاك شيء أعطاناه الله عز وجل منك، قال: فإنه ليس لي مال. قال: فأين المال الذي وضعته بمكة حيث خرجت من عند أم الفضل بنت الحارث، ليس معكما أحد. ثم قلت لها: إن أصبت في سفري هذا فللفضل كذا وكذا، ولعبد الله كذا وكذا، ولقثم كذا وكذا، ولعبيد الله كذا وكذا!. قال: والذي بعثك بالحق ما علم هذا أحد غيري وغيرها؛ وإني لأعلم أنك رسول الله، ففدى العباس نفسه وابنى أخيه وحليفه.
حدثنا ابن حميد؛ قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد، قال: وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، قال: كان عمرو بن أبي سفيان بن حرب - وكان لابنه عقبة بن أبي معيط - أسيرًا في يدي رسول الله
ص من أسارى بدر، فقيل لأبي سفيان: افد عمرًا، قال: أيجمع على دمي ومالي! قتلوا حنظلة وأفدي عمرًا! دعوه في أيديهم يمسكوه ما بدا لهم. قال: فبينا هو كذلك محبوسٌ عند رسول الله
ص، خرج سعد بن النعمان بن أكال، أخو بنى عمرو بن عوف، ثم أحد بنى معاوية معتمرًا، ومعه مرية له؛ وكان شيخًا كبيرًا مسلمًا في غنم له بالنقيع؛ فخرج من هنالك معتمرًا؛ ولا يخشى الذي صنع به؛ لم يظن أنه يحبس بمكة؛ إنما جاء معتمرًا؛ وقد عهد قريشًا لا تعترض لأحد حاجًا أو معتمرًا إلا بخير؛ فعدا عليه أبو سفيان بن حرب، فحبسه بمكة بابنه عمرو بن أبي سفيان، ثم قال أبو سفيان:
أرهط ابن أكالٍ أجيبوا دعاءه ** تعاقدتم لا تسلموا السيد الكهلا
فإن بني عمرو لئامٌ أذلةٌ ** لئن لم يفكوا عن أسيرهم الكبلا
قال: فمشى بنو عمرو بن عوف إلى رسول الله
ص؛ فأخبره خبره، وسألوه أن يعطيهم عمرو بن أبي سفيان فيفكوا شيخهم؛ ففعل رسول الله
ص، فبعثوا به إلى أبي سفيان، فخلى سبيل سعد.
قال: وكان في الأسارى أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس ختن رسول الله
ص، زوج ابنته زينب، وكان أبو العاص من رجال مكة المعدودين مالا وأمانة وتجارةً، وكان لهالة بنت خويلد وكانت خديجة خالته، فسألت خديجة رسول الله
ص أن يزوجه؛ وكان رسول الله
ص لا يخالفها؛ وذلك قبل أن ينزل عليه، فزوجه؛ فكانت تعده بمنزلة ولدها؛ فلما أكرم الله عز وجل رسوله بنبوته آمنت به خديجة وبناته، فصدقنه وشهدن أن ما جاء به هو الحق؛ ودن بدينه؛ وثبت أبو العاص على شركه.
وكان رسول الله
ص قد زوج عتبة بن أبي لهب إحدى ابنتيه رقية أو أم كلثوم؛ فلما بادى قريشًا بأمر الله عز وجل وباعدوه، قالوا: إنكم قد فرغتم محمدًا من همه؛ فردوا عليه بناته، فاشغلوه بهن، فمشوا إلى أبي العاص بن الربيع، فقالوا: فارق صاحبتك؛ ونحن نزوجك أي امرأة شئت من قريش، قال: لا ها الله إذًا؛ لا أفارق صاحبتي وما أحب أن لي بامرأتي امرأة من قريش؛ وكان رسول الله
ص يثنى عليه في صهره خيرًا - فيما بلغني.
قال: ثم مشوا إلى الفاسق ابن الفاسق، عتبة بن أبي لهب، فقالوا له: طلق ابنه محمد ونحن نزوجك أي امراة من قريش شئت؛ فقال: إن زوجتموني ابنة أبان بن سعيد بن العاص، أو ابنة سعيد بن العاص فارقتها. فزوجوه ابنة سعيد بن العاص وفارقها، ولم يكن عدو الله دخل بها، فأخرجها الله من يده كرامة لها، وهوانًا له؛ فخلف عليها عثمان بن عفان بعده؛ وكان رسول الله
ص لا يحل بمكة ولا يحرم مغلوبًا على أمره، وكان الإسلام قد فرق بين زينب بنت رسول الله
ص حين أسلمت وبين أبي العاص بن الربيع؛ إلا أن رسول الله
ص كان لا يقدر على أن يفرق بينهما؛ فأقامت معه على إسلامهم وهو على شركه؛ حتى هاجر رسول الله
ص، فلما سارت قريش إلى بدر سار فيهم أبو العاص بن الربيع؛ فأصيب في الأسارى يوم بدر، وكان بالمدينة عند رسول الله
ص.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: فحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عباد، عن عائشة زوج النبي
ص، قالت: لما بعث أهل مكة في فداء أسرائهم، بعث زينب بنت رسول الله
ص في فداء أبي العاص ابن الربيع بمال، وبعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بنى عليها.
قالت: فلما رآها رسول الله
ص رق لها رقةً شديدةً، وقال: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها فافعلوا! فقالوا: نعم يا رسول الله، فأطلقوه وردوا عليها الذي لها.
وكان رسول الله
ص قد أخذ عليه - أو وعد رسول الله
ص - أن يخلى سبيل زينب إليه، أو كان فيما شرط عليه في إطلاقه؛ ولم يظهر ذلك منه ولا من رسول الله
ص، فيعلم ما هو! إلا أنه لما خرج أبو العاص إلى مكة وخلى سبيله، بعث رسول الله
ص زيد بن حارثه ورجلا من الأنصار مكانه، فقال: كونا ببطن يأجج؛ حتى تمر بكما زينب فتصحباها، حتى تأتياني بها، فخرجا مكانهما؛ وذلك بعد بدر بشهر أو شيعة. فلما قدم أبو العاص مكة أمرها باللحوق بأبيها؛ فخرجت تجهز.
فحدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، قال: حدثت عن زينب أنها قالت: بينا أنا أتجهز بمكة للحوق بأبي، لقيتني هند بنت عتبة، فقالت: أي ابنة محمد؛ ألم يبلغني أنك تريدين اللحوق بأبيك! قالت: فقلت: ما أردت ذلك، قالت: أي ابنة عمي، لا تفعلي؛ إن كانت لك حاجة بمتاع مما يرفق بك في سفرك، أو بمال تبلغين به إلى أبيك، فإن عندي حاجتك فلا تضطني منى؛ فإنه لا يدخل بين النساء ما يدخل بين الرجال. قالت: ووالله ما أراها قالت ذلك إلا لتفعل. قالت: ولكني خفتها، فأنكرت أن اكون أريد ذلك، وتجهزت.
فلما فرغت ابنة رسول الله
ص من جهازها قدم لها حموها كنانة بن الربيع أخو زوجها بعيرًا فركبته، وأخذ قوسه وكنانته، ثم خرج بها نهارًا يقود بها، وهي في هودج لها. وتحدث بذلك رجال قريش، فخرجوا في طلبها حتى أدركوها بذي طوى، فكان أول من سبق إليها هبار بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى ونافع بن عبد القيس، والفهري. فروعها هبار بالرمح وهي في هودجها - وكانت المرأة حاملًا؛ فيما يزعمون - فلما رجعت طرحت ذا بطنها، وبرك حموها، ونثر كنانته ثم قال: والله لا يدنوا مني رجلٌ إلا وضعت فيه سهمًا، فتكركر الناس عنه؛ وأتاه أبو سفيان في جلة قريش، فقال: أيها الرجل، كف عنا نبلك حتى نكلمك، فكف. فأقبل أبو سفيان حتى وقف عليه، فقال: إنك لم تصب، خرجت بالمرأة على رءوس الرجال علانية، وقد عرفت مصيبتنا ونكبتنا وما دخل علينا من محمد، فيظن الناس إذا خرج بابنته علانيةً من بين أظهرنا أن ذلك عن ذل أصابنا عن مصيبتنا، ونكبتنا التي كانت، وأن ذلك منا ضعفٌ ووهنٌ؛ لعمري ما لنا حاجة في حبسها عن أبيها، وما لنا في ذلك من ثؤرة؛ ولكن أرجع المرأة، فإذا هدأ الصوت، وتحدث الناس أنا قد رددناها؛ فسلها سرًا فألحقها بأبيها. ففعل حتى إذا هدأ الصوت خرج بها ليلا؛ حتى أسلمها إلى زيد بن حارثة وصاحبه، فقدما بها على رسول الله
ص.
قال: فأقام أبو العاص بمكة، وأقامت زينب عند رسول الله
ص بالمدينة، قد فرق بينهما الإسلام، حتى إذا كان قبيل الفتح خرج تاجرًا إلى الشأم - وكان رجلا مأمونا بمال له، وأموال رجال من قريش أبضعوها معه - فلما فرغ من تجارته - وأقبل قافلًا؛ لقيته سرية لرسول الله
ص، فأصابوا ما معه، وأعجزهم هربًا، فلما قدمت السرية بما أصابوا من ماله، أقبل أبو العاص تحت الليل؛ حتى دخل على زينب بنت رسول الله
ص، فاستجار بها، فأجارته في طلب ماله، فلما خرج رسول الله
ص إلى الصبح - فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: كما حدثني يزيد بن رومان - فكبر وكبر الناس معه، صرخت زينب من صفة النساء: أيها الناس، إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع. فلما سلم رسول الله
ص من الصلاة، أقبل على الناس، فقال: أيها الناس، هل سمعتم ما سمعت! قالوا: نعم، قال: أما والذي نفس محمد بيده، ما علمت بشيء كان حتى سمعت منه ما سمعتم؛ إنه يجير على المسلمين أدناهم. ثم انصرف رسول الله
ص، فدخل على ابنته، فقال: أي بنية أكرمى مثواه ولا يخلص إليك، فإنك لا تحلين له.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: وحدثني عبد الله بن أبي بكر، أن رسول الله
ص بعث إلى السرية الذين أصابوا مال أبي العاص، فقال لهم: إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم، وقد أصبتم له مالًا، فإن تحسنوا تردوا عليه الذي له؛ فإنا نحب ذلك؛ وإن أبيتم فهو فئ الله الذي افاءه عليكم؛ فأنتم أحق به. قالوا: يا رسول الله، بل نرده عليه! قل: فردوا عليه ماله حتى إن الرجل ليأتي بالحبل، ويأتي الرجل بالشنة والإداوة؛ حتى إن أحدهم ليأتي بالشظاظ؛ حتى ردوا عليه ماله بأسره؛ لا يفقد منه شيئًا.