لضاعت أمور منكم لا أرى لها ** كفاةً وما لا يحفظ الله ضائع
فسموا لنا من طحطح الناس عنكم ** ومن ذا الذي تحنى عليه الأصابع!
ومازال منا قد علمتم عليكم ** على الدهر إفضال يرى ومنافع
ومازال منكم أهل غدرٍ وجفوةٍ ** وبالله مغتر وللرحم قاطع
وإن نحن غبنا عنكم وشهدتم ** وقائع منكم ثم فيها مقانع
وإنا لنرعاكم وترعون شأنكم ** كذاك الأمور؛ خافضات روافع
وهل تعلون أقدام قوم صدورهم ** وهل تعلون فوق السنام الأكارع!
ودب رجال للرياسة منكم ** كما درجت تحت الغدير الضفادع؟
وذكر عن يحيى بن الحسن بن عبد الخالق، قال: كان أرزاق الكتاب والعمال أيام أبي جعفر ثلاثمائة درهم؛ فلما كانت كذلك لم تزل على حالها إلى أيام المأمون، فكان أول من سن زيادة الأرزاق الفضل بن سهل، فأما في أيام بني أمية وبني العباس فلم تزل الأرزاق من الثلثمائة إلى ما دونها، كان الحجاج يجري على يزيد بن أبي مسلم ثلثمائة درهم في الشهر.
وذكر إبراهيم بن موسى بن عيسى بن موسى، أن ولاة البريد في الآفاق كلها كانوا يكتبون إلى المنصور أيام خلافته في كل يوم بسعر القمح والحبوب والأدم، وبسعر كل مأكول، وبكل ما يقضي به القاضي في نواحيهم، وبما يعمل به الوالي وبما يرد بيت المال من المال، وكل حدث، وكانوا إذا صلوا المغرب يكتبون إليه بما كان في كل ليلة إذا صلوا الغداة؛ فإذا وردت كتبهم نظر فيها، فإذا رأى الأسعار على حالها أمسك، وإن تغير شيء منها عن حاله كتب إلى الوالي والعامل هناك، وسأل عن العلة التي نقلت ذلك عن سعره؛ فإذا ورد الجواب بالعلة تلطف لذلك برفقه حتى يعود سعره ذلك إلى حاله؛ وإن شك في شيء مما قضى به القاضي كتب إليه بذلك؛ وسأل من بحضرته عن عمله؛ فإن أنكر شيئًا عمل به كتب إليه يوبخه ويلومه.
وذكر إسحاق الموصلي أن الصباح بن خاقان التميمي، قال: حدثني رجل من أهلي، عن أبيه، قال: ذكر الوليد عند المنصور أيام نزوله ببغداد وفروغه من المدينة، وفراغه من محمد وإبراهيم ابني عبد الله، فقالوا: لعن الله الملحد الكافر - قال: وفي المجلس أبو بكر الهذلي وابن عياش المنتوف والشرقي بن القطامي، وكل هؤلاء من الصحابة - فقال أبو بكر الهذلي: حدثني ابن عم للفرزدق، عن الفرزدق، قال: حضرت الوليد بن يزيد وعنده ندماؤه وقد اصطبح، فقال لابن عائشة: تغن بشعر ابن الزبعري:
ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا ** جزع الخزرج من وقع الأسل
وقتلنا الضعف من ساداتهم ** وعدلنا ميل بدرٍ فاعتدل
فقال ابن عائشة: لا أغني هذا يا أمير المؤمنين؛ فقال: غنه وإلا جدعت لهواتك، قال: فغناه، فقال: أحسنت والله! إنه لعلي دين ابن الزبعري يوم قال هذا الشعر. قال: فلعن المنصور ولعنه جلساؤه؛ وقال: الحمد لله على نعمته وتوحيده.
وذكر عن أبي بكر الهذلي، قال: كتب صاحب أرمينية إلى المنصور: إن الجند قد شغبوا عليه، وكسروا أقفال بيت المال، وأخذوا ما فيه، فوقع في كتابه: اعتزل عملنا مذمومًا، فلو عقلت لم يشغبوا، ولو قويت لم ينتهبوا.
وقال إسحاق الموصلي، عن أبيه: خرج بعض أهل العبث على أبي جعفر بفلسطين، فكتب إلى العامل هناك:
دمه في دمك إلا توجهه إلي؛ فجد في طلبه، فظفر به فأشخص، فأمر بإدخاله عليه، فلما مثل بين يديه قال له أبو جعفر: أنت المتوثب على عمالي! لأنثرن من لحمك أكثر مما يبقى منه على عظمك، فقال له - وقد كان شيخًا كبير السن - بصوت ضعيف ضئيل غير مستعلٍ:
أتروض عرسك بعد ما هرمت ** ومن العناء رياضة الهرم
قال: فلم تتبين للمنصور مقالته، فقال يا ربيع، ما يقول؟ فقال: يقول:
العبد عبدكم والمال مالكم ** فهل عذابك عني اليوم منصرف!
قال: يا ربيع، قد عفوت عنه؛ فخل سبيله، واحتفظ به، وأحسن ولايته. قال: ورفع رجل إلى المنصور يشكو عامله أنه أخذ حدًا من ضيعته، فأضافه إلى ماله، فوقع إلى عامله في رقعة المتظلم: إن آثرت العدل صحبتك السلامة، فأنصف هذا المتظلم من هذه الظلامة.
قال: ورفع رجل من العامة إليه رقعة في بناء مسجد في محلته، فوقع في رقعته: من أشراط الساعة كثرة المساجد فزد في خطاك تزدد من الثواب.
قال: وتظلم رجل من أهل السواد من بعض العمال في رقعة رفعها إلى المنصور، فوقع فيها: إن كنت صادقًا فجئ به ملببًا فقد أذنا لك في ذلك.
وذكر عمر بن شبة أن أبا الهذيل العلاف حدثه، أن أبا جعفر قال: بلغني أن السيد بن محمد مات بالكرخ - أو قال: بواسط - ولم يدفنوه، لأن حق ذلك عندي لأحرقنها. وقيل: إن الصحيح أنه مات في زمن المهدي بكرخ بغداد، وأنهم تحاموا أن يدفنوه، وأنه بعث بالربيع حتى ولي أمره، وأمره إن كانوا امتنعوا أن يحرق عليهم منازلهم، فدفع ربيع عنهم.
وقال المدائني: لما فرغ المنصور من محمد وإبراهيم وعبد الله بن علي وعبد الجبار بن عبد الرحمن، وصار ببغداد واستقامت له الأمور، كان يتمثل هذا البيت:
تبيت من البلوى على حد مرهفٍ ** مرارًا ويكفي الله ما أنت خائف
قال: وأنشدني عبد الله بن الربيع، قال: أنشدني المنصور بعد قتل هؤلاء:
ورب أمور لا تضيرك ضيرةً ** وللقلب من مخشاتهن وجيب
وقال الهيثم بن عدي: لما بلغ المنصور تفرق ولد عبد الله بن حسن في البلاد هربًا من عقابه، تمثل:
إن قناتي لنبع لا يؤيسها ** غمز الثقاف ولا دهن ولا نار
متى أجر خائفًا تأمن مسارحه ** وإن أخف آمنًا تقلق به الدار
سيروا إلي وغضوا بعض أعينكم ** إني لكل امرئ من جاره جار
وذكر علي بن محمد عن واضح مولى أبي جعفر، قال: أمرني أبو جعفر أن أشتري له ثوبين لينين، فاشترينهما له بعشرين ومائة درهم، فأتيته بهما، فقال: بكم؟ فقلت: بثمانين درهمًا، قال: صالحان، استحطه؛ فإن المتاع إذا أدخل علينا ثم رد على صاحبه كسره ذلك. فأخذت الثوبين من صاحبهما، فلما كان من الغد حملتهما إليه معي، فقال: ما صنعت؟ قلت: رددتهما عليه فحطني عشرين درهمًا، قال: أحسنت؛ اقطع أحدهما قميصًا، واجعل الآخر رداء لي. ففعلت، فلبس القميص خمسة عشرة يومًا لم يلبس غيره. وذكر مولى لعبد الصمد بن علي، قال: سمعت عبد الصمد يقول: إن المنصور كان يأمر أهل بيته بحسن الهيئة وإظهار النعمة وبلزوم الوشي والطيب؛ فإن رأى أحدهم قد أخل بذلك أو أقل منه، قال: يا فلان، ما أرى وبيص الغالية في لحيتك؛ وإني لأراها تلمع في لحية فلان؛ فيشحذهم بذلك على الإكثار من الطيب ليتزين بهيئتهم وطيب أرواحهم عند الرعية، ويزينهم بذلك عندهم؛ وإن رأى على أحدهم وشيًا طاهرًا عضه بلسانه.
وذكر عن أحمد بن خالد، قال: كان المنصور يسأل مالك بن أدهم كثيرًا عن حديث عجلان بن سهيل، أخي حوثرة بن سهيل، قال: كنا جلوسًا مع عجلان، إذ مر بنا هشام بن عبد الملك، فقال رجل من القوم: قد مر الأحول، قال: من تعني؟ قال: هشامًا، قال: تسمي أمير المؤمنين بالنبز! والله لولا رحمك لضربت عنقك، فقال المنصور: هذا والله الذي ينفع مع مثله المحيا والممات.
وقال أحمد بن خالد: قال إبراهيم بن عيسى: كان للمنصور خادم أصفر إلى الأدمة، ماهر لا بأس به، فقال المنصور يومًا: ما جنسك؟ قال: عربي يا أمير المؤمنين، قال: ومن أي العرب أنت؟ قال: من خولان، سبيت من اليمن، فأخذني عدو لنا، فجبني فاسترققت، فصرت إلى بعض بني أمية، ثم صرت إليك. قال: أما إنك نعم الغلام؛ ولكن لا يدخل علي قصري عربي يخدم حرمي؛ اخرج عافاك الله؛ فاذهب حيث شئت!
وذكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن داود بن معاوية بن بكر - وكان من الصحابة - أن المنصور ضم رجلًا من أهل الكوفة، يقال له الفضيل بن عمران، إلى ابنه جعفر، وجعله كاتبه، وولاه أمره، فكان منه بمنزلة أبي عبيد الله من المهدي، وكان أبو جعفر أراد أن يبايع لجعفر بعد المهدي، فنصبت أم عبيد الله حاضنة جعفر للفضيل بن عمران، فسعت به إلى المنصور، وأومأت إلى أنه يعبث بجعفر. قال: فبعث المنصور الريان مولاه وهارون بن غزوان مولى عثمان بن نهيك إلى الفضيل - وهو مع جعفر بحديثه الموصل - وقال: إذا رأيتما فضيلًا فاقتلاه حيث لقيتماه، وكتب لهما كتابًا منشورًا، وكتب إلى جعفر يعلمه ما أمرهما به، وقال: لا تدفعا الكتاب إلى جعفر حتى تفرغا من قتله. قال: فخرجا حتى قدما على جعفر، وقعدا على بابه ينتظران الإذن؛ فخرج عليهما فضيل، فأخذاه وأخرجا كتاب المنصور، فلم يعرض لهما أحد؛ فضربا عنقه مكانه، ولم يعلم جعفر حتى فرغا منه - وكان الفضيل رجلًا عفيفًا دينًا - فقيل للمنصور: إن الفضيل كان أبرأ الناس مما رمي به، وقد عجلت عليه. فوجه رسولًا، وجعل له عشرة آلاف درهم إن أدركه قبل أن يقتل، فقدم الرسول قبل أن يجف دمه.
فذكر معاوية بن بكر عن سويد مولى جعفر، أن جعفرًا أرسل إليه، فقال: ويلك! ما يقول أمير المؤمنين في قتل رجل عفيف دين مسلم بلا جرم ولا جناية! قال سويد: فقلت: هو أمير المؤمنين يفعل ما يشاء؛ وهو أعلم بما يصنع؛ فقال: يا ماص بظر أمه، أكلمك بكلام الخاصة وتكلمني بكلام العامة! خذوا برجله فألقوه في دجلة. قال فأخذت، فقلت: أكلمك، فقال: دعوه، فقلت: أبوك إنما يسأل عن فضيل، ومتى يسأل عنه، وقد قتل عمه عبد الله بن عبد الله بن علي، وقد قتل عبد الله بن الحسن وغيره من أولاد رسول الله
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png ظلمًا، وقتل أهل الدنيا ممن لا يحصى ولا يعد! هو قبل أن يسأل عن فضيل جرذانة تجب خصى فرعون قال: فضحك، وقال: دعوه إلى لعنة الله.
وقال قعنب بن محرز: أخبرنا محمد بن عائد مولى عثمان بن عفان أن حفصًا الأموي الشاعر، كان يقال له حفص بن أبي جمعة، مولى عباد بن زياد، وكان المنصور صيره مؤدبًا للمهدي في مجالسه، وكان مداحًا لبني أمية في أيام بني أمية وأيام المنصور، فلم ينكر عليه ذلك المنصور، ولم يزل مع المهدي أيام ولايته العهد؛ ومات قبل أن يلي المهدي الخلافة. قال: وكان مما مدح به بني أمية قوله:
أين روقا عبد شمسٍ أين هم ** أين أهل الباع منهم والحسب!
لم تكن أيد لهم عندكم ** ما فعلتم آل عبد المطلب!
أيها السائل عنهم أولو ** جثث تلمع من فوق الخشب
إن تجذوا الأصل منهم سفهًا ** يا لقوم للزمان المنقلب!
إن فاحلبوا ما شئتم في صحنكم ** فستسقون صرى ذاك الحلب
وقيل: إن حفصًا الأموي دخل على المنصور، فكلمه فاستخبره، فقال له: من أنت فقال: مولاك يا أمير المؤمنين، قال: مولى لي مثلك لا أعرفه! قال: مولى خادم لك عبد مناف يا أمير المؤمنين؛ فاستحسن ذلك منه، وعلم أنه مولى لبني أمية، فضمه إلى المهدي، وقال له: احتفظ به.
ومما رثي به قول سلم الخاسر:
عجبًا للذي نعى الناعيان ** كيف فاهت بموته الشفتان!
ملك إن غدا على الدهر يومًا ** أصبح الدهر ساقطًا للجران
ليت كفًا حثت عليه ترابًا ** لم تعد في يمينها بنان
حين دانت له البلاد على العس ** ف وأغضى من خوفه الثقلان
أين رب الزوراء قد قلدته ال ** ملك، عشرون حجة واثنتان
إنما المرء كالزناد إذا ما ** أخذته قوادح النيران
ليس يثني هواه زجر ولا يق ** دح في حبله ذوو الأذهان
قلدته أعنة الملك حتى ** قاد أعداءه بغير عنان
يكسر الطرف دونه وترى الأي ** دي من خوفه على الأذقان
ضم أطراف ملكه ثم أضحى ** خلف أقصاهم ودون الداني
هاشمي التشمير لا يحمل الثق ** ل على غارب الشرود الهدان
ذو أناة ينسى لها الخائف الخو ** ف وعزمٍ يلوي بكل جنان
وذهبت دونه النفوس حذارًا ** غير أن الأرواح في الأبدان
ذكر أسماء ولده ونسائه
فمن ولده المهدي - واسمه محمد - وجعفر الأكبر، وأمهما أروى بنت المنصور أخت يزيد بن المنصور الحمري؛ وكانت نكنى أم موسى؛ وهلك جعفر هذا قبل المنصور.
وسليمان وعيسى ويعقوب؛ وأمهم فاطمة بنت محمد، من ولد طلحة بن عبيد الله.
وجعفر الأصغر، أمه أم ولد كردية، كان المنصور اشتراها فتسراها، وكان يقال لابنها: ابن الكردية.
وصالح المسكين، أمه أم ولد رومية، يقال لها قالي الفراشة.
والقاسم، مات قبل المنصور، وهو ابن عشر سنين، وأمه أم ولد تعرف بأم القاسم.
والعالية، أمها امرأة من بني أمية، زوجها المنصور من إسحاق بن سليمان ابن علي بن عبد الله بن العباس. وذكر إسحاق بن سليمان أنه قال: قال لي أبي: زوجتك يا بني أشرف الناس؛ العالية بنت أمير المؤمنين.
قال: فقلت: يا أباه، من أكفاؤنا؟ قال: أعداؤنا من بني أمية.