-
خطبة يزيد بن قيس الأرحبى
وخطب يزيد بن قيس الأرحبي، فقال بعد حمد الله:
« إنّ هؤلاء القوم، والله، لا يقاتلوننا على إقامة دين رأونا ضيّعناه، وإحياء حقّ رأونا أمتناه، ولن يقاتلونا إلّا على هذه الدنيا ليكونوا جبابرة فيها ملوكا. فلو ظهروا عليكم - ولا أراهم الله ذلك - لزموكم بمثل سعيد، والوليد، وعبد الله بن عامر السفيه الضالّ، يجيز أحدهم في مجلسه بمثل ديته ودية أبيه وجدّه، ثم يقول: « هذا لي، ولا إثم عليّ »! كأنّما أعطى تراثه عن أبيه وأمّه! وإنما هو مال الله أفاءه الله علينا. فقاتلوا - عباد الله - القوم الظالمين الحاكمين بغير ما أنزل الله، ولا تأخذكم في جهادهم لومة لائم، فإنّهم من عرفتم وخبرتم. والله ما ازدادوا إلى يومهم هذا إلّا شرّا. »
ابن بديل ينتهى إلى قبة معاوية
وقاتلهم عبد الله بن بديل في الميمنة حتى انتهى إلى قبّة معاوية. ثم إنّ الذين تبايعوا على الموت، أقبلوا إلى معاوية، فأمرهم أن يصمدوا لابن بديل.
وبعث حبيب بن مسلمة في ميسرته، فحمل بهم وبمن كان معه على ميمنة الناس، فهزمهم، وانكشف أهل العراق من قبل الميمنة حتى لم يبق منهم إلّا ابن بديل في مائتين إلى الثلاثمائة من القرّاء قد أسند بعضهم على بعض ظهره، وانجفل الناس.
فأمر عليّ سهل بن حنيف، فاستقدم في من كان معه من أهل المدينة، فاستقبلتهم جموع لأهل الشام عظيمة، فاحتملتهم حتى ألحقتهم بالميمنة إلى موقف عليّ في القلب، فمرّ عليّ ومعه بنوه نحو الميسرة.
قال: فوالله، إني لأرى النبل يمرّ بين عاتقه ومنكبه، وما من بنيه واحد إلّا يقيه بنفسه، فيتقدّم فيحول بين اهل الشام وبينه، فيأخذه بيده إذا فعل ذلك فيلقيه بين يديه أو من ورائه. فبصر به أحمر مولى أبي سفيان أو عثمان، فعرفه.
فقال عليّ: « وربّ الكعبة، قتلني الله إن لم أقتلك أو تقتلني. »
كلام بين علي والحسن أثناء القتال
فأقبل نحوه، وخرج إليه كيسان مولى عليّ، فاختلفا ضربتين، فقتله مولى بنى أمية، وينتهزه عليّ، فتقع يده في جيب درعه، فجبذه، ثم حمله على عاتقه. فكأني أنظر إلى رجليه تختلفان على عنق عليّ، ثم ضرب به الأرض، فكسر منكبه وعضده، وشدّ ابنا عليّ: الحسين ومحمد عليه، فضرباه بأسيافهما، حتى إذا قتلاه، أقبلا إلى أبيهما والحسن قائم معه.
قال له: « يا بنيّ، ما منعك أن تفعل كما يفعل أخواك؟ » فقال: « كفيانى يا أمير المؤمنين! » ثم إن أهل الشام دنوا منه، فوالله ما يزيده قربهم منه سرعة في مشيه.
فقال له الحسن: « ما ضرّك لو سعيت حتى تنتهي إلى هؤلاء الذين قد صبروا لعدوّك من أصحابك؟ » فقال: « يا بنيّ، إنّ لأبيك يوما لا يعدوه، ولا يبطئ به السعى، ولا يعجل به اليه المشي، وإنّ أباك لا يبالى: وقع على الموت، أو وقع عليه الموت. »
مالك يحض المنهزمين على الصمود
ولما أقبل عليّ نحو الميسرة، مرّ به الأشتر يركض نحو الفزع قبل الميمنة. فقال له عليّ: « يا مال! » قال: « لبيك يا أمير المؤمنين! » قال: « ائت هؤلاء، فقل لهم: أين فراركم من الموت الذي لا تعجزونه، إلى الحياة التي لا تبقى لكم؟ » فمضى، واستقبل الناس منهزمين، فقال لهم هذه الكلمات التي أمره عليّ بها.
ثم قال: « إليّ، أيها الناس إليّ! أنا مالك بن الحارث.. » ثم ظنّ أنه بالأشتر أعرف في الناس، فقال: « أنا الأشتر، إليّ، إليّ! » فأقبلت طائفة إليه وذهبت عنه طائفة، فقال: « عضضتم بهَنِ آبائكم، ما أقبح ما قاتلتم منذ اليوم! يا أيها الناس، أخلصوا إلى مذحجا. » فأقبلت مذحج، فقال: « عضضتم بصمّ الجندل، ما أرضيتم ربكم، ولا نصحتم له في عدوكم، وكيف ذلك وأنتم أبناء الحرب، وأصحاب الغارات وفتيان الصباح، وفرسان الطراد، وحتوف الأقران، ومذحج الطعان الذين لم يكونوا يسبقون بثأرهم، ولا تطلّ دماؤهم، ولم تعرفوا في موطن بخسف، فأنتم حدّ أهل مصركم، وما تفعلوا في هذا اليوم فإنّه مأثور بعد اليوم، فاتقوا مأثور الحديث، واصدقوا عدوكم اللقاء، فإنّ الله مع الصادقين. فو الذي نفس مالك بيده، ما من هؤلاء - وأشار بيده إلى أهل الشام - [ رجل ] على مثل جناح بعوضة من محمد http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png إنكم ما أحسنتم القراع، فاجلوا سواد وجهى يرجع في وجهى دمى. عليكم بهذا السواد الأعظم، فإنّ الله لو قد فضّه تبعه من بجانبيه كما تبع مؤخّر السيل مقدّمه. » قالوا: « خذ بنا حيث أحببت. » فصمد نحو عظمهم مما يلي الميمنة، وأخذ يزحف إليهم ويردّهم، ويستقبله شباب من همدان، وكانت همدان يومئذ ثمانمائة مقاتل. فانهزموا آخر الناس، وكانوا صبروا في الميمنة، حتى أصيب منهم مائة وثمانون رجلا، وقتل منهم أحد عشر رئيسا يتتابعون على الراية. فمرّوا بالأشتر وهم يقولون: « ليت لنا عدّتنا من العرب يحالفوننا على الموت، ثم نستقدم نحن وهم، فلا ننصرف حتى نقتل أو نظهر. » فقال لهم الأشتر: « إليّ، أنا أخالفكم وأعاقدكم على أن لا نرجع أبدا حتى نظفر أو نهلك. » فأتوه، فوقفوا معه، وزحف الأشتر، وثاب إليه الناس، وأخذ لا يصمد لكتيبة إلّا كشفها، وبيده صفيحة يمانية إذا طأطأها خلت فيها ماء منصبّا، وإذا رفعها كاد يغشى البصر شعاعها، وجعل يضرب بسيفه ويقول: « الغمرات ثم ينجلينا. » فبصر به الحارث بن جهمان والأشتر مقنّع في الحديد، فلم يعرفه. فدنا منه وقال: « جزاك الله خيرا منذ اليوم عن أمير المؤمنين وجماعة المسلمين. » فعرفه الأشتر فقال: « يا ابن جهمان، إنّ مثلك لا يتخلّف عن مثل مواطنى هذا [ الذي أنا فيه ]. » فعرفه ابن جهمان لما تكلّم، وكان من أعظم الرجال وأطولهم، فقال له: « جعلت فداك، لا والله، ما علمت بمكانك إلّا الساعة ولا أفارقك حتى الموت. » ورآه منقذ وحمير ابنا قيس الناعطيّان. فقال منقذ لحمير: « ما في العرب مثل هذا إن كان قتاله عن نيّة. » فقال له حمير: « وهل النيّة إلّا ما تراه يصنع. » قال: « إني أخاف أن يكون يحاول ملكا. » وحمل الأشتر في بعض حملاته، فكشف أهل الشام حتى ألحقهم بصفوف معاوية، وذلك بين صلاة العصر والمغرب، وانتهى إلى عبد الله بن بديل، وهو في عصبة من القرّاء بين المائتين إلى الثلاثمائة، وقد لصقوا بالأرض كأنهم جثى، فكشف عنهم أهل الشام، فأبصروا إخوانهم قد دنوا منهم. فقالوا: « ما فعل أمير المؤمنين؟ » قالوا: « حيّ صالح يقاتل في الميسرة، ويقاتل الناس أمامه. » فقالوا: « والحمد لله، قد كنّا ظننّا أن قد هلك وهلكتم. »
-
بن بديل يعصى مالكا ويقتل وقال عبد الله بن بديل لأصحابه: « استقدموا بنا، رحمكم الله! » فأرسل إليه الأشتر أن: « لا تفعل، أثبت للناس، وقاتل، فإنّه خير لهم، وأبقى لك ولأصحابك. » فعصاه ومضى كما هو نحو معاوية، وحوله كأمثال جبال الحديد، وفي يده سيفان، وقد خرج. فهو أمام أصحابه. فأخذ كلما دنا منه رجل قتله، حتى قتل تسعة، ودنا من معاوية، فنهض إليه الناس من كلّ جانب، وأحيط به حتى قتل ناس من أصحابه، ورجعت طائفة قد خرجوا منهزمين.
فبعث الأشتر ابن جهمان، فحمل على أهل الشام الذين يتّبعون من كان نجا من أصحاب ابن بديل، حتى نفّسوا عنهم، وانتهوا إلى الأشتر. فقال لهم: « ألم يكن رأيي خيرا لكم من رأيكم لأنفسكم؟ ألم آمركم أن تثبتوا مع الناس؟ » وكان معاوية لما رأى عبد الله بن بديل يضرب قدما، قال: « أترونه كبش القوم! » فلما قتل أرسل إليه لينظر: من هو؟ فلم يعرفه أحد. فأقبل إليه حتى وقف عليه، فقال: « بلى، هذا عبد الله بن بديل، هذا والله كما قال »:
أخو الحرب إن عضّت به الحرب عضّها ** وإن شمّرت يوما له الحرب شمّرا
ثم إنّ الأشتر حمل حملة أزال أهل الشام عن موقفهم، حتى ألحقهم بالصفوف الخمسة المعقّلة بالعمائم حول معاوية، ثم شدّ عليهم شدّة أخرى، فصرع الصفوف الأربعة المعقّلين، حتى انتهوا إلى الخامس حول معاوية. فدعا معاوية بفرسه، فركبه.
وكان يقول: « أردت أن أنهزم فذكرت قول ابن الإطنابة:
أبت لي عفّتى، وأبي بلائي ** وأخذى الحمد بالثمن الربيح
وإجشامي على المكروه نفسي ** وإقدامى على البطل المشيح
وقولي كلّما جشأت وجاشت ** مكانك، تحمدي، أو تستريحي
فمنعني من الفرار. » وإنّ عليّا لما رأى ميمنته قد عادت إلى مواقفها ومصافّها، وكشفت من بإزائها، أقبل حتى انتهى إليهم، فقال: « إني قد رأيت جولتكم، وانحيازكم عن صفوفكم، تحوزكم الجفاة الطغام، وأعراب الشام، وأنتم لهاميم العرب، والسنام الأعظم، وعمّار الليل بتلاوة القرآن، وأهل دعوة الحق إذ ضلّ الخاطئون. فلو لا إقبالكم بعد إدباركم، وكرّكم بعد انحيازكم، وجب عليكم ما وجب على المولّى يوم الزحف دبره، وكنتم من الهالكين، ولكن هوّن وجدي، وشفى بعض أحاح نفسي أنّى رأيتكم بأخرة حزتموهم، كما حازوكم، وأزلتموهم عن مصافّهم كما أزالوكم، تحسّونهم بالسيوف، يركب أولاهم أخراهم، كالإبل المطرودة إليهم. فالآن، فاصبروا، نزلت عليكم السكينة وثبّتكم الله باليقين وإنّ الفارّ لا يزيد في عمره ولا يرضى ربّه، فموت المرء محقّا قبل موجدة الله، والذلّ اللازم، والعار الباقي، واغتصاب الفيء من يده، وفساد العيش، خير من الرضا بالتأنيس لهذه الخصال، والإقرار عليها. » فصبر القوم، وقتل الفرسان من الجانبين. فقتل ذو الكلاع وعبيد الله بن عمر، وتنادت ربيعة - حيث انتهى إليها عليّ - بينها: « إن أصيب عليّ فيكم، وقد لجأ إليكم، افتضحتم آخر الدهر، وتشاءم بكم المسلمون. » وقال لهم شقيق بن ثور: « يا معشر ربيعة، لا عذر لكم في العرب إن وصل إلى عليّ فيكم ومنكم رجل حيّ. » فقاتل القوم قتالا شديدا حين جاءهم عليّ، لم يكونوا قاتلوا مثلها. ففي ذلك قال عليّ http://upload.wikimedia.org/wikipedi...8%A7%D9%85.png:
لمن راية سوداء يخفق ظلّها ** إذا قيل: قدّمها حضين، تقدّما
يقدّمها في الموت حتى يردّها ** حياض المنايا تقطر الموت والدّما
أذقنا ابن هند ضربنا وطعاننا ** بأرماحنا حتى تولّى وأحجما
جز الله قوما قاتلوا في لقائهم ** لدى الموت، قوما ما أعفّ وأكرما
متل عمار بن ياسر
قال: وسمعت عمارا يقول: « والله، إني لأرى قوما يضربونكم ضربا يرتاب منه المبطلون، وأيم الله، لو ضربونا حتى يبلّغونا سعفات هجر، لعلمنا أنّا على الحقّ، وأنّهم على الباطل. » ثم حمل حتى وصل إلى عمرو بن العاص، فقال له: « لقد قاتلت هذه الراية ثلاثا مع رسول الله http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png وهذه الرابعة، ما هي بأبّر ولا أتقى. » قال: ورأيت عمارا جاء إلى هاشم بن عتبة، وهو صاحب راية عليّ، فقال: « يا هاشم، الجنة تحت ظلال السيوف، اليوم، ألقى الأحبة، محمدا وحزبه. » فحملا، ولم يرجعا.
-
ولما قتل عمار، قال عليّ لربيعة وهمدان: « أنتم درعي ورمحي. » فانتدب له نحو من اثنى عشر ألفا، وتقدّمهم عليّ على بغلته، فحمل وحملوا معه، حملة رجل واحد، فلم يبق لأهل الشام صفّ إلّا انتقض، وقتلوا كلّ من انتهى إليه، حتى بلغوا معاوية.
علي يبارز معاوية
ثم نادى عليّ معاوية: « يا معاوية، لم تقتل الناس بيننا؟ هلمّ أحاكمك إلى الله، فأيّنا قتل صاحبه استقامت له الأمور. » فقال له عمرو: « أنصفك الرجل. » فقال معاوية: « ما أنصفت، وإنّك لتعلم أنه لم يبارزه أحد قطّ إلّا قتله. » فقال عمرو: « ما يجمل بك إلّا مبارزته. » قال معاوية: « طمعت فيها بعدي. »
ما دبره علي لإزالة كتيبة
ومرّ عليّ بكتيبة فرءاهم لا يزولون. فحرّض عليهم وقال: « إنّ هؤلاء لا يزولون إلّا بضرب دراك يفلق الهام، ويطيح العظام، وتسقط منه المعاصم والأكفّ، وحتى تصدع جباههم بعمد الحديد، وتنتثر حواجبهم على الصدور. أين أهل الصبر وطلّاب الأجر؟ » فثابت إليه عصابة. فدعا ابنه محمدا، فقال: « امش نحو أهل هذه الراية مشيا رويدا على هينتك، حتى إذا أشرعت في صدورهم الرماح، فأمسك حتى يأتيك أمري. » ففعل، وأعدّ عليّ مثلهم. فلما دنا منهم محمد، فأشرع الرماح في صدورهم، أمر عليّ الذين أعدّهم، فشدّوا عليهم، فنهض محمد بمن معهم في وجوههم، فزالوا عن مواقفهم، وأصابوا منهم. ثم اقتتلوا بعد المغرب قتالا شديدا. فما صلّى أكثر الناس إلّا إيماء.
العالي من جعل المعركة خلف ظهره
وقتل عبد الله بن كعب المراديّ. فمرّ به الأسود بن قيس المراديّ، فقال: « يا أسود! » فقال: « لبيك. » وعرفه، وكان بآخر رمق. فقال: « عزّ عليّ بمصرعك. أما والله، لو شهدتك لآسيتك، ولدافعت عنك. » ثم نزل إليه وقال: « أما والله، إن كان جارك، ليأمن بوائقك. ولقد كنت من الذاكرين الله كثيرا، أوصنى - رحمك الله. » فقال: « أوصيك بتقوى الله، وأن تناصح أمير المؤمنين، وتقاتل معه المحلّين حتى يظهر أو تلحق بالله. وأبلغه عنى السلام، وقل له: قاتل على المعركة حتى تجعلها خلف ظهرك، فإنّه من أصبح غدا والمعركة خلف ظهره، كان العالي. » ثم لم يلبث أن مات.
فأقبل الأسود إلى عليّ، فأخبره، فقال: « رحمه الله، جاهد فينا عدوّنا في الحياة، ونصح لنا في الوفاة. » واقتتل الناس تلك الليلة كلها حتى الصباح - وهي ليلة الهرير - حتى تقصّفت الرماح، ونفد النبل، وصار الناس إلى السيوف، وأخذ عليّ يسير في ما بين الميمنة والميسرة، ويأمر كلّ كتيبة من القرّاء أن تقدم على التي تليها، ولم يزل يفعل ذلك ويقوم بهم، حتى إذا أصبح كانت المعركة كلها خلف ظهره، والأشتر في ميمنة الناس، وابن عباس في الميسرة، وعليّ في القلب، والناس يقتتلون من كلّ جانب، وذلك يوم الجمعة.
الظفر يلوح للأشتر ومعاوية يلتمس حيلة
وكان عليّ يراسل الأشتر ويرفده، وكان الأشتر تولّى القتال عشيّة الخميس وليلة الجمعة كلّها ويوم الجمعة إلى ارتفاع النهار، وقد كلّ الناس، وأخذ يقول لأصحابه: « ازحفوا قيد هذا الرمح. » وزحف بهم نحو أهل الشام. فإذا فعلوا، قال: « ازحفوا قاب هذا القوس. » فإذا فعلوا، سألهم مثل ذلك، حتى ملّ الناس الإقدام.
فلما رأى الأشتر ذلك، قال: « أعيذكم بالله أن ترضعوا الغنم سائر اليوم. » ثم دعا بفرسه، وترك رايته مع حيّان بن هوذة، وخرج يسير في الكتائب ويقول: « من يشرى نفسه لله ويقاتل مع الأشتر، حتى يظهر، أو يلحق بالله؟ » فلا يزال رجل من الناس قد خرج إليه وحيّان بن هوذة واقف بالراية، فلما اجتمع إليه ناس كثير، أقبل حتى رجع إلى المكان الذي كان فيه من الميمنة.
ثم قال لأصحابه: « شدّة - فدى لكم عمّى وخالي - ترضون بها الربّ، وتعزّون بها الدين، إذا شددت، فشدّوا. »
ثم نزل فضرب وجه دابته وقال لصاحب رايته: « أقدم بها. » ثم شدّ على القوم شدّة، وشدّ معه أصحابه. فضرب أهل الشام حتى انتهى إلى عسكرهم. ثم قاتلوه عند العسكر قتالا شديدا، فقتل صاحب رايته، ولاح له الظفر بما اضطرب من صفوف معاوية. ونظر عليّ، فرأى الظفر من قبله، فأخذ يمدّه بالرجال.
فالتفت معاوية إلى عمرو بن العاص، فقال: « أما ترى أهل العراق قد استعلوا؟ » فقال عمرو: « هذا الهلاك. فهلمّ حيلة. » قال: « قل، ما عندك. »
ذكر مكيدة عمرو بن العاص
قال: « قد رأيت أمرا إن قبلته لا يزيدنا إلّا اجتماعا، ولا يزيدهم إلّا فرقة. » قال: « نعم. » قال: « نرفع المصاحف على الرماح، ثم نقول: ما فيها حكم بيننا وبينكم. فإن أبي بعضهم إلّا القتال، وجدت فيهم من يقول: لا نقاتل حتى ننظر ما يحكم القرآن.
فتقع بينهم الفرقة، فإن قالوا بأجمعهم: نقبل حكم القرآن، رفعنا هذه الحرب، ودافعناها إلى أجل وحين. » فرفعوا المصاحف بالرماح، وقالوا: « عباد الله! هذا كتاب الله بيننا وبينكم، من لثغور الشام بعد أهل الشام، من لثغور العراق بعد أهل العراق؟ »
فلما رأى الناس المصاحف، وسمعوا هذا الكلام، رقّت قلوبهم، وقد كان مسّهم النصب والملال. فقالوا: « نجيب إلى كتاب الله. » فلما رأى عليّ الفتور في أصحابه بعد الجدّ، صاح بهم: « عباد الله، امضوا على حقّكم، وصدقكم، وقتال عدوّكم. فإنّه معاوية، وعمرو بن العاص، وابن أبي سرح، والضحّاك بن قيس، ليسوا بأصحاب دين وقرآن. أنا أعرف بهم منكم، وصحبتهم أطفالا ورجالا. ويحكم! والله، إنهم ما رفعوا المصاحف. إنهم لا يعرفونها، ولا يعلمون ما فيها، وما رفعوها إلّا خديعة ومكيدة حين علوتموهم. » فقالوا: « ما يسعنا أن ندعى إلى كتاب الله، فنأبى أن نقبله. » فقال لهم عليّ: « ويحكم! فإني إنما أقاتلهم ليدينوا بحكم الله، ويعملوا بالقرآن، فإنّهم قد عصوا الله في ما أمرهم، ونبذوا كتابه، ونسوا عهده. »
القراء يهددون عليا ويطالبون ترك القتال
فقال له مسعر بن فدكي، وزيد بن حصن الطائي، ثم السّنبسيّ في عصابة معهما من القرّاء الذين صاروا خوارج بعد ذلك: « يا عليّ، أجب إلى كتاب الله إذا دعيت إليه، وإلّا دفعناك برمّتك إلى القوم، أو نفعل بك ما فعلنا بابن عفّان. والله، لتفعلنّها، أو لنفعلنّها بك. » قال: « فاحفظوا عني مقالي، فإني آمركم بالقتال، وإن تعصوني، فافعلوا ما بدا لكم. » قالوا له: « فابعث إلى الأشتر! إمّا لا، فليأتك. » فأمسك عليّ. فنزل قوم فأحدقوا به.
فبعث إلى الأشتر يزيد بن هانئ السبيعي: أن ائتني. فذهب، فأبلغه.
فقال: « ائته، فقل له: ليس هذه، الساعة، التي ينبغي أن تزيلني فيها عن موقفي.
إني قد رجوت أن يفتح الله لي، فلا تعجلني. » قال: فرجع يزيد بن هانئ إلى عليّ، فأخبره. فما هو إلّا أن انتهى إلينا، فارتفع الرهج، وعلت الأصوات من قبل الأشتر.
فقال له القوم: « والله ما نراك إلّا أمرته أن يقاتل. » فقال عليّ: « من أين ينبغي أن تروا ذلك؟ رأيتمونى ساررته؟ أليس إنّما كلّمته على رؤوسكم علانية وأنتم تسمعون؟ » قالوا: « فابعث إليه بعزيمتك فليأتك، وإلّا - والله - اعتزلناك. » قال: « ويحك يا يزيد! عد إليه فقل له: أقبل إلينا، فإنّ الفتنة قد وقعت. » فأتاه، فقال له ذلك. فقال الأشتر: « ألرفع المصاحف؟ » قال: « نعم، أما الله، لقد ظننت حين رفعت، أنها ستوقع اختلافا وفرقة. إنّها مشورة ابن العاهرة. ألا ترى أنّ الفتح قد وقع؟ ألا ترى إلى ما صنع الله لنا؟ أينبغى أن أدع هؤلاء وأنصرف عنهم؟ » قال يزيد بن هانئ: « أتحبّ أنك قد ظهرت هاهنا وأمير المؤمنين يقتل بمكانه، أو يسلّم إلى عدوّه؟ » فقال: « لا والله، سبحان الله! » قال: « فإنّهم قد قالوا: لترسلنّ إلى الأشتر، فليأتك، أو لنقتلنّك كما قتلنا ابن عفّان. »
-
مالك يضع القتال ويقبل بعد أن رأى النصر
فأقبل معي الأشتر حتى انتهى إليهم، فقال: « يا أهل العراق، يا أهل الذلّ والوهن! أحين علوتم القوم ظفرا، وظنّوا أنّكم لهم قاهرون، رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها؟ وقد - والله - تركوا ما أمر الله به فيها، وسنّه من أنزلت عليه، فلا تجيبوهم، يا قوم، أمهلونى عدو الفرس، فإني قد رأيت النصر. » قالوا: « إذا ندخل معك في خطيئتك. » قال: « فحدّثونى عنكم، وقد قتل أماثلكم، وبقي أراذلكم، متى كنتم محقّين؟: أحين كنتم تقاتلون وخياركم يقتلون؟ فأنتم الآن إذا أمسكتم عن القتال مبطلون، أم الآن أنتم محقّون؟ فقتلاكم الذين لا تنكرون فضلهم وكانوا خيرا منكم، في النار إذا! » قالوا: « دعنا منك يا أشتر، قاتلناهم في الله، وندع قتالهم لله. إنّا لسنا مطيعيك ولا صاحبك، فاجتنبنا. » فقال: « خدعتم والله، وانخدعتم، ودعيتم إلى وضع الحرب بعد أن غلبتم، فأجبتم. يا أصحاب الجباه السود، كنّا نظنّ صلاتكم زهادة في الدنيا، وشوقا إلى لقاء الله! فلا أرى فراركم إلّا إلى الدنيا من الموت. ألا قبحا لكم. يا أشباه النيب الجلّالة! ما أنتم برائين بعدها عزّا أبدا. فابعدوا كما بعد القوم الظالمون. » فسبّوه، وسبّهم، وضربوا وجه دابته بسياطهم، وأقبل يضرب وجوه دوابهم بسوطه، وصاح بهم عليّ، فكفّوا.
قبول الناس التحكيم واستعلام معاوية
وتنادى الناس: « قد قبلنا أن نجعل القرآن بيننا وبين هؤلاء القوم حكما. » فجاء الأشعث بن قيس إلى عليّ وقال: « ما أرى الناس إلّا قد رضوا، وسرّهم أن تجيبوا القوم إلى ما دعوهم إليه من حكم القرآن. فإن شئت أتيت معاوية فاستعلمته ما يريد، فنظرت فيه. » قال: « ائته إن شئت، فسله. » فأتاه وقال: « يا معاوية، لأيّ شيء رفعتم المصاحف؟ » قال: « لنرجع نحن وأنتم إلى ما أمر الله فيها، تبعثون منكم رجلا ترضون به، ونبعث منّا رجلا نرضى به، نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله لا يعدوانه، ثم نتبع جميعا ما اتفقا عليه. » فقال له الأشعث: « هذا الحقّ. » ثم انصرف إلى عليّ بما قال معاوية.
فقال الناس: « قد رضينا وقبلنا. »
قال أهل الشام: « فإنّا قد اخترنا عمرو بن العاص. » وقال الأشعث وأولئك القوم الذين صاروا خوارج بعد: « فإنّا قد رضينا بأبي موسى الأشعري. »
علي لا يرضى بأبي موسى والناس يأبون إلا إياه
قال عليّ: « فإنكم قد عصيتموني في أول الأمر، فلا تعصوني الآن. إني لا أرى أن أولّى أبا موسى. » قال الأشعث وزيد بن حصن الطائي ومسعر بن فدكي: « لا نرضى إلّا به، فإنّه قد كان يحذّرنا ما وقعنا فيه. » قال عليّ: « فإنه ليس لي بثقة، قد فارقني، وخذّل الناس عني، ثم هرب مني حتى آمنته بعد أشهر، ولكن هذا ابن عباس، أولّيه ذلك. » قالوا: « والله ما نبالى: أنت كنت، أم ابن عباس. ما نريد إلّا رجلا هو منك ومن معاوية سواء. » قال عليّ: « فإني أجعله الأشتر. » فقال الأشعث: « وهل سعّر الأرض غير الأشتر، وهل نحن إلّا في حكم الأشتر؟ » قال عليّ: « وما حكمه؟ » قال: « أن يضرب بعضنا بعضا بالسيوف حتى يكون ما أردت. » قال: « فقد أبيتم إلّا أبا موسى. » قالوا: « نعم. »
قال: « فاصنعوا ما بدا لكم. » فبعثوا إليه وقد اعتزل القتال وهو يعرّض. وأقبل الأشتر حتى جاء إلى عليّ فقال له: « ألزّنى بعمرو بن العاص، فوالله الذي لا إله إلّا هو، لئن ملأت عيني منه لأقتلنّه. » وجاء الأحنف بن قيس، فقال: « يا أمير المؤمنين، إنّك رميت بحجر الأرض، وبمن حارب الله ورسوله أنف الإسلام، وهذا الرجل - يعنى أبا موسى - قد عجمته وحلبت أشطره، فوجدته كليل الشفرة، قريب القعر، وإنه لا يصلح لهؤلاء القوم إلّا رجل يدنو منهم، حتى يصير في أكفّهم، ويبعد، حتى يصير بمنزلة النجم منهم، فإن أبيت أن تجعلني حكما، فاجعلني ثانيا، أو ثالثا، فإنّه لن يعتقد عقدة إلّا حللتها، ولن يحلّ عقدة إلّا عقدت لك أخرى أحكم منها. » فأبى الناس إلّا أبا موسى.
فقال الأحنف: « فإن أبيتم إلّا أبا موسى فادفئوا ظهره بالرجال. » ثم كتبوا: « هذا ما تقاضى عليه أمير المؤمنين. » فقال عمرو: « اكتبوا اسمه واسم أبيه. هو أميركم، فأما أميرنا، فلا. »
ذكر رأي للأحنف
فقال الأحنف: « لا تمح اسم أمارة أمير المؤمنين، فإني أتخوّف إن محوتها، لا ترجع إليك، وإن قتل الناس بعضهم بعضا. » فأبى عليّ مليّا من النهار.
ثم إنّ أشعث بن قيس قال: « امح هذا الاسم، نزحه الله. » فمحى، فقال عليّ: « الله أكبر، سنّة بسنّة، ومثل بمثل، والله، إني لكاتب رسول الله يوم الحديبيّة، إذ قالوا: لا نشهد لك أنك رسول الله، فامح هذا، واكتب اسمك واسم أبيك. فكتبه. » فقال عمرو بن العاص: « نشبّه بالكفار ونحن مؤمنون. » فقال له عليّ: « يا ابن النابغة، ومتى لم تكن للفاسقين وليّا، وللمسلمين عدوّا، وهل تشبه إلّا أمّا دفعت بك؟ » فقام وقال: « لا يجمع بيني وبينك مجلس أبدا بعد هذا اليوم. » فقال عليّ: « وإني لأرجو أن يطهّر الله مجلسي منك ومن أشباهك. » فقال الأحنف: « أيها الرجل، إنّه ما لك ما كان لرسول الله، وإنّا - والله - ما حابيناك ببيعتنا، ولو علمنا أحدا من الناس أحقّ بهذا الأمر منك لبايعناه، ثم قاتلناك، وإني أقسم بالله، لئن محوت هذا الاسم عنك، والذي بايعك الناس عليه وقاتلتهم، لا يعود إليك أبدا. » قال الحسن البصريّ: وكان والله كما قال، وقلّ ما وزن رأيه برأي رجل إلّا رجح به.
مالك يأبى أن يخط اسمه في صحيفة التحكيم
وكتب الكتاب، وشهد فيه نفر من أصحاب عليّ ونفر من أصحاب معاوية.
ودعى له الأشتر، فقال: « لا صحبتني يميني، ولا نفعتني شمالي إن خطّ لي في هذه الصحيفة اسم على صلح، ولا موادعة. أو لست على بيّنة من أمري، ومن ضلال عدوّى؟ أولستم قد رأيتم الظفر، لو لم تجمعوا على الجور؟ » فقال له الأشعث بن قيس: « إنك والله ما رأيت ظفرا، ولا جورا. هلمّ بك إلينا، فإنّه لا رغبة لك عنّا. » فقال: « بلى والله، الرغبة لي عنك في الدنيا للدنيا، وفي الآخرة للآخرة. ولقد سفك الله بيدي دماء رجال ما أنت عندي خير منهم، ولا أحرم دما. » قال عمارة: فنظرت إلى ذلك الرجل، وكأنما قصع على أنفه الحمم - يعنى الأشعث.
ثم خرج الأشعث بالكتاب يقرأه على الناس ويعرضه عليهم، حتى مرّ به عروة بن أذيّه - وهو أخو بلال - فقرأه عليهم.
فقال عروة: « تحكمون في أمر الله الرجال؟ لا حكم إلّا لله. » وشدّ بسيفه، فضرب عجز دابته ضربة خفيفة، واندفعت الدابة. فصاح به أصحابه: أن املك يديك. فرجع، وغضب للأشعث أصحابه وقومه. فمشى إليه الأحنف بن قيس، ومسعود بن فدكي، وخلق من بنى تميم، فتنصّلوا إليه واعتذروا. فقبل، وصفح.
ذكر خديعة أجازها معاوية على نفسه وتمت له
وكان أسر معاوية في أسارى كثيرين، رجلا من أود، يقال له: عمرو بن أوس، قاتل مع عليّ، فهمّ بقتل الجميع.
فقال له عمرو بن أوس: « إنّك خالي، فلا تقتلني. » وقامت بنو أود، فقالوا: « هب لنا أخانا. » فقال: « دعوه. لعمري، لئن كان صادقا، ليستغنينّ عن شفاعتكم، ولئن كان كاذبا لتأتينّ شفاعتكم من ورائه. » فقال له: « من أين صرت خالك، وما كان بيننا وبين أود مصاهرة؟ » قال: « فإن أخبرتك، فهو أمانى عندك؟ » قال: « نعم. » قال: « ألست تعلم أنّ أمّ حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png أمّ المؤمنين؟ » قال: « بلى. » قال: « فإني ابنها، وأنت أخوها، فأنت خالي. » قال معاوية: « ماله لله أبوه، أما كان في هؤلاء، من يفطن لها غيره؟ » ثم قال للأوديّين: « استغنى عن شفاعتكم، فخلّوا سبيله ».
وتمّت لمعاوية، وخوطب: « خال المؤمنين. » وكان عمرو بن العاص أسر أيضا أسارى كثيرة، فراسله معاوية: « خلّ سبيل أسرائك، فلولا الأوديّ لوقعنا في قبيح من الأمور. » فما شعر الناس إلّا بأسرائهم قد خلّى سبيلهم.
-
ما قاله علي لأصحابه
فأما عليّ بن أبي طالب فإنّه قال لأصحابه: « لقد فعلتم فعلة ضعضعت قوة، وأسقطت منّة، وأورثت وهنا وذلّة. ولما كنتم الأعلين، وخاب عدوكم، ورأى الاجتياح، واستحرّ بهم القتل، ووجدوا ألم الجراح، رفعوا المصاحف، ودعوكم إلى ما فيها ليفتؤوكم عنها، ويقطعوا الحرب في ما بينكم وبينهم، ويتربّصوا ريب المنون، خديعة، ومكيدة، فأعطيتموهم ما سألوكموه، وأبيتم إلّا أن تدهنوا وتجوروا. وأيم الله، ما أظنّكم بعدها توافقون رشدا، ولا تصيبون باب حزم. »
ذكر حيلة للمغيرة بن شعبة ليعلم أيجتمع الحكمان أم يفترقان
كان الحكمان - وهما أبو موسى وعمرو بن العاص، اتفقا على أن يجتمعا بأذرح ويحضر وجوه أصحاب عليّ، ووجوه أصحاب معاوية، ويحضر عليّ ومعاوية في أربعمائة، ومدّة الأجل إلى أن يفصلا الحكم، ويرفعا ما رفع القرآن، وأن يختارا لأمّة محمد http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png في ثمانية أشهر، أوّلها النصف من صفر، وآخرها انقضاء شهر رمضان.
فلما اجتمع الحكمان، وافاهم المغيرة بن شعبة في من حضر، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، في رجال كثير ووافى معاوية في العدّة المذكورة، وأبي عليّ أن يوافى.
فقال المغيرة بن شعبة لرجال من ذوي الرأي من قريش: « هل ترون أحدا من الناس برأى يبتدعه، يستطيع أن يعلم: أيجتمع الحكمان، أم يفترقان؟ » قالوا: « لا نرى أحدا يعلم ذلك. » قال: « فوالله، إني لأظنّ، [ أنّى ] سأعلمه منهما، [ حين ] أخلو بهما، وأراجعهما. » فدخل على عمرو بن العاص، وبدأ فقال: « يا أبا عبد الله، أخبرني عما أسألك عنه: كيف ترانا معشر المعتزلة؟ فإنّا قد شككنا في الأمر الذي تبيّن لكم من هذا القتال، ورأينا أن نستأنى ونثبّت، حتى تجتمع الأمة. » قال: « أراكم معشر المعتزلة خلف الأبرار، وأمام الفجار في سخط الله. » فانصرف المغيرة، ولم يسأله عن غير ذلك. حتى دخل على أبي موسى، فقال له مثل ما قال لعمرو.
فقال أبو موسى: « أراكم أثبت الناس رأيا، فيكم بقية المسلمين. » فانصرف المغيرة، ولم يسأله عن غير ذلك. فلقى الذين قال لهم ما قال، من ذوي الرأي من قريش، فقال: « لا يجتمع هذان أبدا على أمر واحد. » فلما اجتمع الحكمان وتكلّما قال عمرو بن العاص: « يا با موسى، أرأيت أول ما تقضى به من الحقّ أن تقضى لأهل الوفاء بوفائهم، وعلى أهل الغدر بغدرهم. » قال أبو موسى: « وما ذاك؟ » قال عمرو: « ألست تعلم أنّ معاوية وفي، وقدم للموعد الذي واعدناه؟ » قال: « نعم. » قال: « أكتبها. » فكتبها أبو موسى.
ذكر الخديعة التي خدع بها عمرو أبا موسى
قال عمرو: « يا أبا موسى، أنت على أن تسمّي رجلا يلي أمر هذه الأمة، فسمّ لي، فإني أقدر أن أتابعك، منك، على أن تتابعني. » قال أبو موسى: « أسمّى لك عبد الله بن عمر. » وكان ابن عمر في من اعتزله. فقال عمرو: « فأنا أسمّي لك معاوية بن أبي سفيان. »
رواية أخرى في ذلك
وفي رواية أخرى: أنّ عمرا قال لأبي موسى: « ألست تعلم أنّ عثمان قتل مظلوما؟ » قال: « أشهد. » قال: « ألست تعلم أنّ معاوية وليّ دم عثمان؟ » فقال: « بلى. » قال: « فإنّ الله قال: ومن قتل مظلوما، فقد جعلنا لوليّه سلطانا. » فما يمنعك من معاوية وليّ دم عثمان، وهو من عرفت بيته في قريش، وهو الحسن السياسة، الصحيح التدبير، وهو أخو أمّ حبيبة، أمّ المؤمنين، وهو أحد الصحابة وكاتب الوحى. » فقال له أبو موسى: « أما ذكرت من شرفه وبيته، فإنّ هذا الأمر ليس بالشرف يولّاه أهله، ولو كان بالشرف، كان لآل أبرهة بن الصباح، إنما هو لأجل الدين والفضل. » قال: « فاخلع صاحبك، حتى أخلع صاحبي، ثم نتّفق. » فاجتمعا على ذلك، وخرجا إلى الناس، وقالا: قد اتّفقنا.
فقال أبو موسى لعمرو: « تقدّم، فاخلع صاحبك بحضرة الناس. » فقال عمرو: « سبحان الله! أتقدّم عليك وأنت في موضعك وسنّك وفضلك؟ تقدّم أنت. » فقدّمه، فقال أبو موسى: « إنّا - والله، أيها الناس - قد اجتهدنا رأينا، ولم نأل الإسلام وأهله خيرا، ولم نر أصلح لهذه الأمة من خلع هذين الرجلين، وقد خلعت عليّا ومعاوية كخلع خاتمي هذا. » فقام عمرو، فقال: « لكني خلعت صاحبه عليّا كما خلع، وأثبتّ معاوية. » فلم يبرحا حتى استبّا.
ذكر من خالف علي بن أبي طالب في رأيه وأشار بالحرب عليه وما كان من جوابه واعتذاره
لما انصرف عليّ بن أبي طالب من صفّين، كثر خوض الناس، وخالفه القوم الذين صاروا خوارج، وكانوا طول طريقهم يتدافعون، ويتضاربون بالسياط. فلما صاروا إلى النّخيلة ورأوا سور الكوفة لقيه عبد الله بن وديعة الأنصاري، ودنا منه، وسلّم عليه، وسايره، فقال له: « ما سمعت الناس يقولون في أمرنا؟ »
قال: « منهم المعجب به، ومنهم الكاره له، كما قال الله عز وجل: ولا يزالون مختلفين، إلّا من رحم ربّك. » فقال له: « فما قول ذي الرأي فيه. » فقال: « أما قول ذي الرأي فيه، فيقولون: إنّ عليّا كان له جمع عظيم ففرّقه، وكان له حصن حصين فهدمه. فحتى متى يبنى ما هدم، وحتى متى يجمع ما فرّق. فلو كان مضى بمن أطاعه إذ عصاه من عصاه، فقاتل حتى يظهر، أو يهلك، كان ذلك الحزم. » فقال عليّ: « أنا هدمت أم هدموا، أنا فرّقت أم فرّقوا؟ أما قولهم: إنّه لو كان مضى بمن أطاعه إذا عصاه من عصاه، فقاتل حتى يظهر، أو يهلك كان ذلك الحزم، فوالله ما غبي ذلك عليّ، وإني كنت سخيّا بنفسي عن الدنيا طيّب النفس بالموت. ولقد هممت بالإقدام على القوم، فنظرت إلى هذين قد ابتدرانى - يعنى الحسن والحسين - ونظرت إلى هذين قد استقدماني - يعنى محمد بن عليّ وعبد الله بن جعفر - فعلمت أنه إن هلكا انقطع نسل محمد، فكرهت ذلك، وأشفقت على هذين أن يهلكا. وأيم الله، لئن لقيتهم بعد يومي هذا لألقينّهم وليس معي أحد منهم. »
بكاء النساء على القتلى وما قاله علي لابن شرحبيل
ثم مضى غير بعيد، فمرّ بالشباميّين، فسمع رجّة شديدة وبكاءا كثيرا، فوقف، فخرج إليه حرب بن شرحبيل الشبامي، فقال له عليّ: « أيغلبكم نساؤكم؟ ألا تنهنهونهنّ عن هذا الرنين؟ » فقال: « يا أمير المؤمنين، لو كانت دارا أو دارين، قدرنا على ذلك، ولكنّه قتل من هذا الحيّ مائة وثمانون قتيلا، ليس دار إلّا فيها بكاء. فأما نحن معاشر الرجال، فإنّا لا نبكي، ولكننا نفرح، أمّا نفرح بالشهادة. » فقال: « رحم الله قتلاكم وموتاكم ».
فأقبل يمشى معه وعليّ راكب. فوقف وقال له: « إرجع، فإنّ مشى مثلك معي فتنة للوالي، ومذلّة للمؤمن. »
مروره بالناعطيين وما قاله فيهم
ثم مضى، حتى مرّ بالناعطيّين، فسمع رجلا منهم يقال له: عبد الرحمن بن مزيد، يقول لآخر: « والله ما صنع عليّ شيئا: ذهب، ثم انصرف في غير شيء. » فلما نظروا إلى عليّ أبلسوا، فقال: « وجوه ما رأوا الشام. » ثم أقبل على أصحابه، فقال: « قوم فارقناهم آنفا، خير من هؤلاء. » ثم أنشد:
أخوك الذي إن أجرضتك ملمّة ** من الدهر، لم يبرح لبثّك واجما
وليس أخوك بالذي إن تشعّبت ** عليك أمور ظلّ يلحاك دائما
ثم مضى، فلم يزل يذكر الله، حتى دخل القصر.
تشاتم القوم واضطرابهم بالسياط
ثم إنّ القوم الذين كانوا معه يتشاتمون طول طريقهم، ويضطربون بالسياط، ويقول بعضهم لبعض: « أدهنتم في أمر الله، وحكّمتم. » ويقول قوم: « فرّقتم جماعتنا، وفارقتم إمامنا. »
مفارقة الخوارج عليا نزولهم بحرورى وعدم دخولهم الكوفة مع علي
لم يدخلوا معه الكوفة حتى أتوا حروري، فنزل بها منهم اثنا عشر ألفا.
فنادى مناديهم: « إنّ أمير القتال شبث بن ربعي، وأمير الصلاة عبد الله بن الكوّاء، والأمر شورى بعد الفتح، والبيعة لله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. »
ما دار بين شيعة علي والخوارج عند دخوله الكوفة
ولما دخل عليّ الكوفة، وفارقته الخوارج، وثبت إليه شيعته وقالوا: « في أعناقنا لك بيعة ثانية. نحن أولياء من واليت، وأعداء من عاديت. » فقال بقيّة الخوارج: « استبقتم أنتم وأهل الشام في الكفر، كفرسي رهان، بايع أهل الشام معاوية على ما أحبّوا وكرهوا، وبايعتم عليّا [ على ] أنكم أولياء من والى، وأعداء من عادى. » فقال لهم زياد بن النضر: « والله يا قوم، ما بسط عليّ يده فبايعناه قطّ، إلّا على كتاب الله وسنّة نبيه، ولكنّكم لما خالفتموه جاءته شيعته، فقالوا: نحن أولياء من واليت، وأعداء من عاديت. ونحن كذلك، وهو هاد، ومن خالفه ضالّ. »
-
ذكر احتجاج الخوارج مع علي http://upload.wikimedia.org/wikipedi...8%A7%D9%85.png
أتى عليّ بن أبي طالب رجلان من الخوارج: زرعة بن البرج الطائي وحرقوص بن زهير السعدي، فدخلا عليه، فقالا له: « لا حكم إلّا لله. » فقال عليّ: « لا حكم إلّا لله. » فقال حرقوص: « فتب من خطيئتك، وارجع عن قضيّتك، واخرج بنا إلى عدوّنا نقاتلهم، حتى نلقى ربنا. » فقال عليّ: « قد أردتكم على ذلك فعصيتموني. وقد كتبنا بيننا وبين القوم كتابا وشروطا، وأعطينا عليها عهودنا ومواثيقنا، وقد قال الله تعالى: وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتهم، ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها، وقد جعلتم الله عليكم كفيلا، إنّ الله يعلم ما تفعلون » فقال له حرقوص: « ذلك ذنب ينبغي أن تتوب منه. » فقال عليّ: « ما هو ذنب، ولكنّه عجز من الرأي، وضعف في العقل، وقد تقدّمت فنهيتكم عنه. » فقال له زرعة: « أما والله، يا عليّ، لئن لم تدع تحكيم الرجال في كتاب الله، لأقاتلنّك. » فقال عليّ: « يوسى لك، ما أشقاك كأنّى بك قتيلا تسفى عليك الريح. » قال: « وددت أن قد كان ذاك. » فخرجا من عنده يحكّمان.
صياح أثناء خطبته
ثم إنّ عليّا خطب ذات يوم. فإنّه لفي خطبته، إذ صاح صائح من جانب المسجد: « يا عليّ، لا حكم إلّا لله. »
فقال عليّ: « الله أكبر، كلمة حقّ يراد بها باطل. إن سكتوا غممناهم، وإن تكلّموا حججناهم، وإن خرجوا علينا قاتلناهم. » فوثب يزيد بن عاصم المحاربي، فقال: « الحمد لله، اللهمّ إنّا نعوذ بك من إعطاء الدنيّة في ديننا. يا عليّ، أبالقتل تخوّفنا؟ أما والله، إني لأرجو أن نضربكم بها عما قليل، غير مصفّحات، ثم لنعلم أيّنا أولى بها صليّا. » فقال عليّ: « أما إنّ لكم عندنا ثلاثا ما صحبتمونا لا نمنعكم: » « لا نمنعكم مساجد الله أن يذكر فيها اسمه. » « ولا نمنعكم الفيء، ما دامت أيديكم فيه مع أيدينا. » « ولا نقاتلكم حتى تبدأونا. » ثم رجع إلى مكانه الذي كان فيه من خطبته.
وخرج الرجلان يحكّمان، واجتمع معهم قوم. فبعث عليّ عبد الله بن العباس، وقال له: « لا تعجل إلى جوابهم حتى آتيك. »
ذكر ما جرى بينهم من الجدال ورجوعهم مع علي وهذه الدفعة الأولى من خروجهم
فخرج ابن عباس إليهم، فأقبلوا يكلّمونه. فلم يصبر حتى راجعهم، فقال: « ما الذي نقمتم من الحكمين؟ وقد قال الله عز وجل: فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفّق الله بينهما، فكيف بأمّه محمد http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png؟ » فقالت الخوارج: « أمّا ما جعل حكمه إلى الناس وأمرهم بالنظر فيه والإصلاح له، فهو إليكم كما أمر به، وأمّا ما حكم فأمضاه، فليس للعباد أن ينظروا فيه، حكم في الزاني مائة جلدة، وفي السارق بقطع يده، وليس لأمثال هذا أن ينظر فيه مخلوق. » قال ابن عباس: « فإنّ الله يقول: يحكم به ذوا عدل منكم. » فقالوا له: « أو تجعل الحكم في الصيد والحدث يكون بين المرأة وزوجها، كالحكم في دماء المسلمين؟ » وقالت الخوارج: « قلنا له، فهذه الآية بيننا وبينك. أعدل عندك ابن العاص، وهو يقاتلنا، ويسفك دماءنا؟ فإن كان عدلا فلسنا عدلا، وقد حكّمتم في أمر الله الرجال، وقد أمضى الله حكمه في معاوية وحزبه أن يقتلوا. ثم كتبتم بينكم وبينهم كتابا جعلتم نيّتكم الموادعة والاستفاضة، وقد قطع الله تعالى الاستفاضة والموادعة بين المسلمين وأهل الحرب، إلّا من أقرّ بالجزية. »
ثم خرج عليّ حتى انتهى إليهم وهم يخاصمون ابن عباس، فقال: « انته عن كلامهم! ألم أنهك - رحمك الله؟ » ثم تكلّم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: « اللهمّ، إنّ هذا مقام، من فلج فيه، كان أولى بالفلج يوم القيامة، ومن نطف فيه، أو وعث، فهو في الآخرة أعمى وأضلّ سبيلا. » ثم قال: « من زعيمكم؟ » قالوا: « ابن الكوّاء. » قال عليّ: « فمن أخرجكم علينا. » قالوا: « حكومتكم يوم صفّين. » قال: « أنشدكم الله، هل تعلمون أنهم حيث رفعوا المصاحف، فقلتم: نجيبكم إلى كتاب الله، قلت لكم: إني أعلم بالقوم منكم، إنّهم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، صحبتهم وعرفتهم أطفالا ورجالا. امضوا على حقكم وصدقكم. فلما رفع القوم لكم المصاحف خديعة ودهنا ومكيدة، فرددتم عليّ رأيي وقلتم: لا بل نقبل منهم، فقلت لكم: اذكروا قولي ومعصيتكم إيّاى. فلما أبيتم إلّا الكتاب اشترطت على الحكمين أن يحييا ما أحيى القرآن، وأن يميتا ما أمات القرآن. فإن حكما حكم القرآن فليس لنا أن نخالف حكمه، وإن أبينا، فنحن منه برءاء ».
فقالوا له: « فخبّرنا: أتراه عدلا تحكيم الرجال في الدماء؟ » فقال: « إنّا لسنا الرجال حكّمنا، إنّما حكّمنا القرآن، وهذا القرآن إنّما هو خطّ مسطور بين دفّتين لا ينطق، إنما يتكلّم به الرجال. » قالوا: « فخبّرنا عن الأجل: لم جعلته في ما بينك وبينهم؟ »
قال: « ليعلم الجاهل، ويثبت العالم. ولعلّ الله يصلح في هذه المدة هذه الأمة، ادخلوا مصركم، رحمكم الله. »
فدخل القوم من عند آخرهم.
ابتداء يوم النهر
ثم اجتمعوا بالكوفة، وتذكروا أمرهم، وكاتبوا إخوانهم بالبصرة، وتواعدوا ليوم يخرجون فيه إلى المدائن، ومنها إلى النهر. ففعلوا ذلك، واستعرضوا الناس، وقتلوا عبد الله بن خبّاب بن الأرتّ، وبلغ ذلك عليّا، فسار إليهم. ثم لما اجتمعوا كلّمهم واستعطفهم. فأبوا إلّا قتاله، وجرت بينهم مخاطبات تركت ذكرها.
ثم تنادوا أن: « دعوا مخاطبة عليّ وأصحابه، وبادروا إلى الجنة. » فصاحوا: « الرواح الرواح إلى الجنة! »
علي يعبئ ويرفع راية أمان
فعبّى عليّ http://upload.wikimedia.org/wikipedi...8%A7%D9%85.png أصحابه، ورفع راية أمان مع أبي أيوب الأنصاري، فناداهم أبو أيوب فقال: « من جاء هذه الراية منكم، ممن لا يقتل ولا يستعرض، فهو آمن، ومن انصرف منكم إلى الكوفة، أو المدائن، وخرج من هذه الجماعة، فهو آمن. إنه لا حاجة لنا - بعد أن نصيب قتلة إخواننا منكم - في سفك دمائكم. » فقال فروة بن نوفل الأشجعى: « والله ما أدري: على أيّ شيء، أقاتل عليّ بن أبي طالب. » فانصرف في خمسمائة فارس. وخرج إلى عليّ منهم نحو ذلك. وكانوا أربعة آلاف، ورئيسهم عبد الله بن وهب الراسبي.
وكان عليّ قدّم الخيل دون الرجال، وصفّ الناس وراء الخيل صفّين، وصفّ المرامية أمام الصفّ الأول، وقال لأصحابه: « كفّوا عنهم حتى يبدءوكم، فإنّهم لو قد شدّوا عليكم وخلفهم رجال، لم ينتهوا إليكم إلّا لاغبين، وأنتم له قارّون حامّون. » فأقبل الخوارج وهم يتنادون: « الرواح الرواح إلى الجنّة. » وشدّوا، فلم تثبت خيل عليّ لشدّتهم، وافترقت الخيل فرقتين: فرقة نحو الميمنة، وفرقة نحو الميسرة. وأقبلوا نحو الرجال، فاستقبلت المرامية وجوههم بالنبل، وعطفت عليهم الخيل من الميمنة والميسرة، ونهض إليهم الرجال بالرماح والسيوف، فما لبّثوهم أن أناموهم عن آخرهم.
قال حكيم بن سعد: ما هو إلّا أن لقينا أهل النهر، فما لبّثناهم، كأنّما قيل لهم: موتوا! فماتوا.
ولم يقتل من أصحاب عليّ إلّا سبعة، واستخرج ذو الثديّة، على الحكاية المعروفة، وخبره مشهور. وانصرف عليّ إلى معكسره بالنخيلة من ظاهر الكوفة، وأمر الناس أن يسيروا على تعبئتهم إلى الشام.
-
استبدال الشام بالنهر
وقد كان عليّ همّ بالخروج إلى الشام قبل. فلما عظمت الشوكة من الخوارج، وأخذوا في الاستعراض، وقتلوا الصالحين، قال الناس: « يا أمير المؤمنين، علام تخلّف هؤلاء المارقة وراءنا، يخلفوننا في أبنائنا ونساءنا بالقتل، فنبدأ بهم.
ولما انصرف إلى معسكره بالنخيلة، أمرهم أن يوطّنوا أنفسهم على الجهاد، وأن يسيروا إلى عدوهم. فتسلّلوا من معسكرهم، فدخلوا إلّا رجالا قليلا من وجوه الناس، وترك المعسكر.
فلما رأى ذلك عليّ، دخل الكوفة، وانكسر عليه رأيه في المسير، وذلك في سنة ثمان وثلاثين.
ثم جرت بين عليّ وأصحابه خطوب ومخاطبات يستنهضهم ويأبون، ويخطب فيهم ويستمدّهم، ويستدعى نصرهم، ويستبطئهم، فيتثاقلون، وخطبه مشهورة معروفة.
إلى أن طمع معاوية في العراق، وبثّ دعاته سرّا وجهرا إلى البصرة يطلب دم عثمان، وسرّب خيله في أطراف عليّ http://upload.wikimedia.org/wikipedi...8%A7%D9%85.png فأنفذ النعمان بن بشير في ألفى رجل إلى عين التمر، وبها مالك بن كعب في ألف رجل من قبل عليّ. فلما سمع القوم به، تسلّلوا إلى الكوفة حتى بقي مالك في مائة رجل، وكتب إلى عليّ يخبره، واستمدّه.
فخطب عليّ، وأمرهم بالخروج، فتثاقلوا. فواقعهم مالك في من تبعه، وأمر أصحابه أن يجعلوا حيطان المدينة في ظهورهم ويقاتلوا. وكتب إلى محنف بن سليم أن يمدّه وهو قريب منه وقاتلهم ابن كعب في العصابة التي معه أشدّ قتال يكون.
اتفاق جيد وقع لمالك حتى هزم النعمان ومن معه
ووجّه محنف ابنه إليه، عبد الرحمن، في خمسين رجلا. فانتهوا إلى مالك وأصحابه وقد كسروا جفون سيوفهم واستقتلوا. فلما رءاهم أهل الشام، وذلك عند المساء، ظنّوا أنّ لهم مددا، فانهزموا، واتبعهم مالك، فقتل منهم ثلاثة نفر، ومضوا على وجوههم. فأما غيره من سرايا معاوية، فإنّهم كانوا يظفرون ويقتلون ويغنمون وينصرفون.
وأما من حصل من قبل بالبصرة لأجل التضريب بين الناس، فإنّه بلغ ما أراد، ووقعت الفتنة والعصبية، فطمع أهل فارس، وكرمان في عمّال عليّ، فغلب أهل كلّ ناحية على ما يليهم، فأخرجوا عمّالهم.
فاستشار عليّ أصحابه في من يضبط به فارس وكرمان. فقال ابن عباس: « أدلّك على رجل صليب الرأي عالم بالسياسة، كاف، وليّ. » قال: « من هو؟ » قال: « زياد. » قال: « هو لها. » فتوجّه ابن عباس إلى عمله بالبصرة. وكان زياد يخلفه بها. فضمّ إليه أربعة آلاف رجل، وولّى فارس، فدوّخها حتى استقاموا.
ذكر سياسة زياد لهذا الوجه
حدّث قوم من أهل فارس قالوا: ورد زياد نواحي فارس، وهي تضطرم. فلم يزل يبعث إلى رؤسائها، يعد من نصره ويمنّيه، ويخوّف من خالفه ويوعده، ويضرّب بعضهم ببعض، ويدارى من يرى مداراته، حتى دلّ بعضهم على عورة بعض، وهربت طائفة، وأقامت طائفة، يقتل بعضها بعضا، حتى صفت له فارس، فلم يلق فيها جمعا، ولا حربا، ولم يقف موقفا واحدا للقتال. وفعل مثل ذلك بكرمان حتى صفت أيضا له.
فقال الناس: « ما رأينا سيرة أشبه بسيرة كسرى أنوشروان، من سيرة هذا العربيّ، في اللين، والمداراة، والعلم بما يأتى. »
دخول بسر بن أرطاة المدينة ومكة وهروب عمال علي
ثم كثرت غارات معاوية على أطراف عليّ، ووجّه بسر بن أرطاة إلى الحجاز.
فدخل المدينة ومكة، وهرب عمال عليّ، وقتل شيعة عليّ. ومضى نحو اليمن، وكان على اليمن عبيد الله بن العباس، فهرب إلى الكوفة، واستخلف عبد الله بن عبد المدان، فأتاه بسر، فقتله، ولحق ثقل عبد الله وفيه ابنان له صغيران، فقتلهما، وبلغ ذلك عليّا، فوجّه جارية بن قدامة في ألفين، ووهب بن مسعود في ألفين.
فسار جارية حتى أتى نجران، وقتل خلقا من شيعة عثمان، وهرب بسر منه، وتبعه حتى دخل مكة والمدينة، وأرجف الناس بموت عليّ. فأخذ الناس ببيعة الحسن بن عليّ، فأبوا، ثم خافوه، فبايعوه، فأقام مدة، ثم انصرف إلى الكوفة.
العراق لعلي والشام لمعاوية
ثم جرت مكاتبات كثيرة بين عليّ http://upload.wikimedia.org/wikipedi...8%A7%D9%85.png وبين معاوية، استقرّ آخرها على وضع الحرب بينهما، ويكون لعليّ العراق، ولمعاوية الشام، لا يدخل أحدهما على صاحبه في عمله بجيش، [ ولا غارة ] ولا غزوة، وأن يضعا السيف، ولا يريقا دماء المسلمين، فتراضيا على ذلك.
تحالف الخوارج لقتل علي ومعاوية وعمرو بن العاص
واجتمع بعد ذلك نفر ممن يرى رأى الخوارج، فتذاكروا أصحاب النهر، وترحّموا عليهم، وعابوا ولاتهم، وقالوا: « ما نصنع بالبقاء بعدهم؟ فلو قتلنا أئمة الضلال، لرجونا الأجر والثواب. » فتحالف عبد الرحمن بن ملجم، والبرك بن عبد الله، وعمرو بن بكر التميمي أن يأتى كلّ واحد منهم واحدا من الأئمة الثلاثة يعنون: عليّا، ومعاوية، وعمرو بن العاص، فيغتالونهم.
فأمّا ابن ملجم فقال: « أنا أكفيكم عليّ بن أبي طالب. » وكان من أهل مصر. وقال البرك بن عبد الله: « أنا أكفيكم معاوية. » وقال عمرو بن بكر: « أنا أكفيكم عمرو بن العاص. » فتعاهدوا، وتواثقوا، وأخذوا أسيافهم وسمّوها، واتّعدوا لسبع عشرة من شهر رمضان، أن يثب كلّ واحد منهم على صاحبه الذي توجّه له.
ما جرى بين ابن ملجم وقطام في الكوفة وتعاونهما على قتل علي
فأما ابن ملجم، فإنّه دخل الكوفة، ورأى امرأة يقال لها: قطام، وكان عليّ قتل أباها وأخاها يوم النهر، وكانت فائقة الجمال، فالتبست بعقله، ونسي حاجته التي جاء لها، فخطبها، فقالت: « لا أتزوّجك حتى تشترط إليّ. » فقال: « ما شرطك؟ » قالت: « ثلاثة آلاف، وعبد، وقينة، وقتل عليّ! » قال: « هو لك، وو الله ما وردت إلّا لقتل عليّ. » قالت: « فأنا ألتمس لك من يساعدك على أمرك. » فطلبت له رجلا من قومها، والتمس عبد الرحمن آخر، فصاروا ثلاثة، وأخذوا أسيافهم في الليلة التي واعد عبد الرحمن بن ملجم أصحابه، وجلسوا مقابلي السدّة التي يخرج منها عليّ للصلاة.
فلما خرج، ضربه ابن ملجم، وأقرنه، وهرب، وتصايح الناس، فأخذ ابن ملجم، وحمل إلى عليّ.
فلما رءاه، قال: « أى عدوّ الله! ألم أحسن إليك؟ »
قال: « بلى. » قال: « فما حملك على هذا؟ » قال: « شحذته أربعين صباحا، فسألت الله أن يقتل به شرّ خلقه. » فقال عليّ: « لا أراك إلّا مقتولا به، ولا أراك إلّا شرّ خلق الله. » ثم مات عليّ بن أبي طالب http://upload.wikimedia.org/wikipedi...8%A7%D9%85.png وذلك في شهر رمضان سنة أربعين.
-
قتل ابن ملجم وحرقه
وأحضر الحسن بن عليّ بن أبي طالب - عليهما السلام - ابن ملجم. فلما دخل عليه، قال: « هل لك في خصلة؟ إني والله ما أعطيت الله عهدا إلّا وفيت به، وكنت أعطيت الله عهدا عند الحطيم أن أقتل معاوية وعليّا، أو أموت دونهما، فإن شئت خلّيت بيني وبينه، ولك الله عليّ إن لم أقتله، أو قتلته ثم بقيت، أن آتيك حتى أضع يدي في يدك. »
فقال له الحسن: « أما والله، حتى تعاين النار فلا! » ثم قدّمه، فضرب عنقه. ثم أخذه الناس، فأدرجوه في بواريّ، ثم أحرقوه بالنار.
ما كان من أمر برك ومعاوية
وأمّا البرك، فإنّه قعد لمعاوية، فلما خرج للصلاة، ضربه بالسيف، فوقع في أليته، فأخذ فقال: « إنّ عندي خبرا أسرّك به، فإن أخبرتك، أينفعنى ذلك؟ » قال: « نعم. » قال: « إنّ عليّا قتله أخ لي في هذه الليلة. » وحدّثه الحديث.
قال: « فلعلّه لم يقدر على ذلك. » قال: « بلى، إنّ عليّا يخرج وحده، وليس معه من يحرسه. » فأمر به معاوية، فضربت عنقه.
ما كان من أمر عمرو بن بكر وعمرو بن العاص
وأمّا عمرو بن بكر، فجلس لعمرو بن العاص، وكان اشتكى بطنه، فأمر خارجة بن أبي حبيبة، وكان على شرطه، ليصلّى بالناس. فخرج، وشدّ عليه ابن بكر، وهو يرى أنه عمرو، فضربه فقتله. فأخذه الناس، فانطلقوا به إلى عمرو، وسلّموا عليه بالإمرة، فقال: « من هذا؟ » قالوا: « عمرو. » قال: « فمن قتلت؟ » قالوا: « خارجة. » قال: « والله يا فاسق، ما ظننته غيرك. » قال عمرو: « أردتنى، وأراد الله خارجة. » وقدّمه عمرو، وقتله.
ما قالته عائشة في قتل علي
ولما انتهى إلى عائشة قتل عليّ، قالت:
فألقت عصاها واستقرّت بها النّوى ** كما قرّ عينا بالإياب المسافر
وقالت: « من قتله؟ » قيل: « رجل من مراد. » قالت:
فإن يك نائيا فلقد نعاه ** نعاة ليس في فيها التّراب
أسماء كتاب علي بن أبي طالب صلوات الله عليه
كتب له سعيد بن نمران الهمداني، وكان يكتب له عبد الله بن جعفر أيضا، وعبيد الله بن أبي رافع.
وحكى عن عبيد الله أنه قال: كتبت بين يدي عليّ http://upload.wikimedia.org/wikipedi...8%A7%D9%85.png فقال: « ألق دواتك، وأطل سنّى قلمك، وفرّج بين السطور، وقرمط بين الحروف. » وكنّا ذكرنا أنه استكتب زيادا على خراج البصرة وديوانها لمّا استخلف ابن عباس عليها.
ولزياد سياسات يصلح أن تذكر في هذا الكتاب، فإنّا إنما نذكر كتّاب الخلفاء لأجل ما عزمنا على ذكر سياستهم، ولم يمض إلى هذا الوقت أحد منهم عرفت له سياسة غير زياد، ونحن نذكر ذلك في آخر أيّام معاوية، إن شاء الله
بيعة الحسن بن علي
وبويع الحسن بالخلافة في سنة أربعين، وأوّل من بايعه قيس بن سعد، وكان قيس على مقدّمة أهل العراق، ويقال: إنّهم كانوا أربعين ألفا، بايعوا عليّا على الموت. »
نزع قيس وتأمير عبيد الله بن عباس
ولمّا قتل عليّ، واستخلف أهل العراق الحسن، كان الحسن لا يريد القتال، ولكنّه يريد أن يأخذ لنفسه ما استطاع من معاوية، ثم يدخل في الجماعة. وعرف الحسن أن قيس بن سعد لا يوافقه على رأيه، فنزعه، وأمر عبيد الله بن عبّاس، وعلم عبيد الله بالذي يريد الحسن أن يأخذ لنفسه. فكتب إلى معاوية يسأله الأمان ويشترط لنفسه على الأموال التي أصاب، فشرط له ذلك معاوية.
ذكر مكيدة لمعاوية
يقال: إنّ معاوية دسّ إلى عسكر الحسن بن عليّ، حين نزل المدائن، وعلى مقدمته قيس بن سعد في اثنى عشر ألفا، وذلك قبل أن ينزعه، وكان معاوية أقبل من الشام، فنزل مسكن، فدسّ معاوية من نادى في عسكر الحسن: « ألا إنّ قيس بن سعد قد قتل، فانفروا! » فنفروا بسرادق الحسن، حتى نازعوه بساطا كان تحته، وجرحوه، فخرج الحسن حتى نزل المقصورة البيضاء بالمدائن.
كتاب كتبه الحسن إلى معاوية في الصلح
وكتب حينئذ الحسن بن عليّ إلى معاوية يطلب الأمان، فقال الحسن للحسين وعبد الله بن جعفر: « إني كتبت إلى معاوية في الصلح. » فقال له الحسين: « أنشدك الله أن تصدّق أحدوثة معاوية، وتكذّب أحدوثة عليّ. » فقال الحسن: « اسكت، فإني أعلم بالأمر منك. » واشترط الحسن على معاوية: على أن يجعل له ما في بيت ماله. وخراج دارابجرد. وعلى أن لا يشتم عليّ وهو يسمع.
وكان الذي في بيت المال بالكوفة خمسة آلاف ألف.
ذكر حيلة واتفاق طريف في هذا الشرط
كان معاوية أرسل قبل أن ترد عليه صحيفة الحسن بالشرط، بصحيفة بيضاء مختوم على أسفلها، وكتب إليه أن: « اشترط في هذه الصحيفة التي ختمت أسفلها ما شئت، فهو لك. » ولمّا أتت الحسن هذه الصحيفة، اشترط فيها أضعاف الشروط التي كان سألها قبل ذلك، وأمسكها عنده، وأمسك معاوية صحيفة الحسن التي كان كتبها. فلمّا التقى معاوية والحسن، سأله الحسن أن يعطيه الشروط التي في السجل الذي ختمه معاوية في أسفله، فأبى معاوية أن يعطيه، وقال: « ما لك إلّا ما سألتنيه بخطّك. » فاختلفا، وتنازعا، ولم ينفّذ للحسن من تلك الشروط شيئا.
معاوية يكايد قيس بن سعد
ثم إنّ الناس اجتمعوا إلى قيس بن سعد، وتعاقدوا على قتال معاوية.
فلمّا فرغ معاوية من عبيد الله والحسن، خلص إلى مكايدة رجل هو أهمّ إليه، وأبلغ مكيدة، ومعه أربعون ألفا. فراسله يذكّره بالله، ويقول له: « على طاعة من تقاتل؟ قد بايعنى الذي أعطيته طاعتك. » وأبي قيس أن يلين له حتى بعث إليه معاوية بسجلّ ختم في أسفله، وقال: « أكتب ما شئت في هذا السجل، فهو لك. » واشترط قيس له ولشيعة عليّ الأمان، على ما أصابوا من الدماء، والأموال، ولم يسأل معاوية في سجلّه ذلك مالا، فأعطاه معاوية ذلك.
الدهاة الخمسة
وكان قيس يعدّ في الدهاة، وكانوا خمسة يومئذ، وهم: معاوية، وعمرو بن العاص، والمغيرة ابن شعبة، وقيس بن سعد، وعبد الله بن بديل. وكان قيس [ و ] عبد الله بن بديل مع عليّ، والمغيرة بن شعبة معتزلا بالطائف، حتى حكّم الحكمان.
ما قاله الحسن بن علي في خطبته بعد الصلح وقبل أن يغادر الكوفة إلى المدينة
ولمّا تمّ الصلح بين الحسن ومعاوية، قام الحسن في الناس خطيبا بالكوفة، فقال: « يا أهل العراق! إنّه سخّى بنفسي عنكم ثلاث: قتلكم أبي، وطعنكم إيّاى، وانتهابكم متاعي. » وبرأ الحسن من جراحته، فتحوّل إلى المدينة. وحال أهل البصرة بينه وبين خراج دارابجرد، وقالوا: « فيئنا. » ولمّا دخل المدينة، تلقّاه الناس، فصاحوا: « يا مذلّ العرب! »