أحدهم منهما فموجود عند غيره، رأوا أن هذا كاف في أداء الواجب عليهم مع الإيمان التام بأن الله تعالى حافظ لشريعته، نعم، فكروا في الاحتياط لجمع السنة فعرض لهم خشية أن يؤدي ذلك إلى محذور كما مر فكفوا عنه. مكتفين بما ظهر لهم من حرص المسلمين وما آمنوا به من حفظ رب العالمين. وغاية ما يخشى بعد هذا أن يجهل العالم شيئًا من السنة ولا يتيسر له من يخبره بها فيجتهد فيخطئ. وهذا في نظر الشرع ليس بمحذور كما علم مما مر في حال من كان من المسلمين بعيدًا عن المدينة إذ بقوا مدة يصلون الرباعية ركعتين ويتكلمون في الصلاة ويصلون إلى بيت المقدس ويستحلون الخمر بعد نزول الأحكام المخالفة لذلك حتى بلغتهم. وكما أذن الله تعالى أن يبني المسلم على ظنه وإن اتفق له أن ينكح أخته وهو لا يدري، وأن يقتل مسلمًا يحسبه كافرًا، وأن يأكل لحمًا يظنه حلالًا فبان لحم خنزير ميت وغير ذلك. إنما المحذور أن تدع الدليل الشرعي عمدًا اتباعًا منك لقول عالم قد يجهل ويذهل ويغفل ويغلط ويزل، وأشد من ذلك وأضر وأدهى وأمر ما يقول صاحب تلك النظرية: إن الدليل الشرعي إذا وجد قول لعالم يخالفه ينزل بذلك عن الدين العام اللازم إلى الدين الخاص الاختياري، من شاء أخذ ومن شاء ترك.
34
ومن خالف كل دليل من هذا القبيل مع علمه بها وعقله لها واقتصر على ما لم يخالفه أحد (كان مسلمًا ناجيًا في الآخرة مقربًاً عند الله تعالى) كما تقد م عنه (ص 16)، فهذا هو المحذور عند من يعقل. قال: (وبهذا يسقط قول من قال: إن الصحابة كانوا يكتفون في نشر الحديث بالرواية).
أقول: قد عرفت الحقيقة ولله الحمد، وعرفت ما هو الساقط.
قال: (وإذا أضفت إلى ذلك حكم عمر بن الخطاب على أعين الصحابة بما يخالف بعض تلك الأحاديث).
أقول: كان عليه أن يبينها، فإن كان يريد مطاعن الرافضة في أمير المؤمنين عمر فجوابها في منهاج السنة وغيره، ويكفينا هنا أن نسأله: هل علمت عمر ثبت عنده حديث فتركه لغير حجة قائلًا: لا يلزمنا الأخذ بالأحاديث؟
قال: (ثم ما جرى عليه علماء الأمصار في القرن الأول والثاني من اكتفاء الواحد منهم –كأبي حنيفة – بما بلغه ووثق به من الحديث وإن قل وعدم تعنيه في جمع غيره إليه ليفهم دينه ويبين أحكامه).
أقول: لزم أبو حنيفة
حماد بن أبي سليمان يأخذ عنه مدة، وكان حماد كثير الحديث، ثم أخذ عن عدد كثير غيره كما تراه في مناقبه، وقلة الأحاديث المروية عنه لا تدل على قلة ما عنده، ذلك أنه لم يتصدى للرواية، وقد قدمنا أن العالم لا يكلف جمع السنة كلها، بل إذا كان عارفًا بالقرآن وعنده طائفة صالحة من السنة بحيث يغلب على اجتهاده الصواب كان له أن يفتي، وإذا عرضت قضية لم يجدها في الكتاب والسنة سأل من عنده علم بالسنة، فإن لم يجد اجتهد رأيه. وكذلك كان أبو حنيفة يفعل، وكان عنده في حلقته جماعة من المكثرين في الحديث كمسعر وحبان ومندل، والأحاديث التي ذكروا أنه خالفها قليلة بالنسبة إلى ما وافقه، وما من حديث خالفه إلا وله عذر لا يخرج إن شاء الله عن أعذار العلماء، ولم يدَّعِ هو العصمة لنفسه ولا ادعاها له أحد، وقد خالفه كبار أصحابه في كثير من أقواله، وكان جماعة من علماء عصره ومن قرب منه ينفرون عنه وعن بعض أقواله، فإن فرض أنه خالف أحاديث صحيحة بغير حجة بينة فليس معنى ذلك أنه زعم أن العمل بالأحاديث الصحيحة غير لازم، بل المتواتر عنه ما عليه غيره من أهل العلم أنها حجة، بل ذهب إلى أن القهقهة في الصلاة تنقض الوضوء اتباعًا ل
حديث ضعيف.
[5] ومن ثم ذكر أصحابه أن من أصله تقديم الحديث الضعيف –بله الصحيح– على القياس.
قال: (قوي عندي ذلك الترجيح).
أقول: أما عند من يعرف دينه فهيهات.
35
قال: (بل تجد الفقهاء بعد اتفاقهم على جعل الأحاديث أصلًا من أصول الأحكام الشرعية، وبعد تدوين الحفاظ لها في الدواوين وبيان ما يحتج به وما لا يحتج به لم يتفقوا على تحرير الصحيح والاتفاق على العمل به. فهذه كتب الفقه في المذاهب المتبعة -ولاسيما كتب الحنفية فالمالكية فالشافعية- فيها مئات من المسائل المخالفة للأحاديث المتفق على صحتها، ولا يعد أحد منهم مخالفًا لأصول الدين).
أقول: أما ما اعترفت به من اتفاقهم على أن الأحاديث الصحيحة أصل من أصول الأحكام الشرعية، فحجة عليك وعليهم مضافة إلى سائر الحجج. وأما عدم اتفاقهم على تحرير الصحيح وعدم اتفاقهم على العمل به فإنما حاصله أنهم يختلفون في صحة بعض الأحاديث، وذلك قليل بالنسبة إلى ما اتفقوا عليه، ويتوقف بعضهم عن الأخذ ببعضها بدعوى أنه منسوخ أو مؤول أو مرجوح، وليس في ذلك مخالفة للأصل الذي اتفقوا عليه.
فإن قيل: منهم من يتعمد رد الصحيح بدعوى ضعفه أو نسخه أو تأويله أو رجحان غيره عليه وهو يعلم أنه لا شيء من ذلك. قلنا: لنا الظاهر والله يتولى السرائر -على أنهم قد تراموا بهذا زمنًا طويلًا وجرت فتن وحروب ثم ملوا فمالوا إلى التجامل وحسن الظن غالبًا- وعلى كل حال فلا متشبث لك فيما ذكر، والفرق واضح بين من يستحل معلنًا قتل المؤمنين بغير حق، ومن يقول: قتل المؤمن حرام، ثم يتفق له أن يقتل مؤمنًا قائلًا: حسبته كافرًا حربيًا، وإن فرض دلالة القرائن على كذبه.
قال (وقد أورد ابن القيم في إعلام الموقعين شواهد كثيرة جدًا من رد الفقهاء للأحاديث الصحيحة عملًا بالقياس ولغير ذلك).
أقول: القياس في الجملة دليل شرعي. وعلى كل حال فلا متنفس لك في ذلك كما مر.
قال: (ومن أغربها أخذهم ببعض الحديث الواحد دون باقيه، وقد أورد لهذا أكثر من ستين شاهدًا).
أقول: نصف عليك، ونصف ليس لك.
ثم ذكر أبو رية (ص27-28) كلامًا قد تقدم جوابه مستوفي ولله الحمد.
الصحابة ورواية الحديث
36
ذكر أبو رية (ص29) تحت هذا العنوان أن الصحابة: (كانوا يرغبون عن رواية الحديث، وينهون عنها، وأنهم كانوا يتشددون في قبول الأخبار تشديدًا قويًا).
أقول: دعوى عريضة، فما دليلها؟
قال: (روى الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ قال: ومن مراسيل ابن أبي مليكة «أن أبا بكر جمع الناس بعد وفاة نبيهم فقال: إنكم تحدثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها والناس بعدكم أشد اختلافًا، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئًا، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه».
أقول: قدم
الذهبي في التذكرة قول أبي بكر للجدة: «ما أجد لك في كتاب الله شيئًا، وما علمت أن رسول الله
ص ذكر لكِ شيئًا، ثم سأل الناس... إلخ».
فقضى بما أخبره المغيرة ومحمد بن مسلمة عن النبي
ص. ثم ذكر الذهبي هذا الخبر -ولا ندري ما سنده إلى
ابن أبي مليكة– وبين الذهبي أنه
مرسل -أي منقطع- لأن ابن أبي مليكة لم يدرك أبا بكر ولا كاد، ومثل ذلك ليس بحجة، إذ لايدرى ممن سمعه، ومع ذلك قال الذهبي: (مراد الصديق التثبت في الأخبار والتحري، لا سد باب الرواية… ولم يقل: حسبنا كتاب الله كما تقوله الخوارج).
أقول: المتواتر عن أبي بكر رضي الله عنه، أنه كان يدين بكتاب الله تعالى وسنة رسوله، وأخذ بحديث «لا نورث» مع ما يتراءى من مخالفته لظاهر القرآن، وأحاديثه عن النبي
ص موجودة في دواوين الإسلام، وقد استدل أبو رية كما مر (ص24) بما روي أن أبا بكر كتب خمسمائة حديث ثم أتلف الصحيفة وذكر ممما يخشاه إن بقيت قوله: «أو يكون قد بقي حديث لم أجده فيقال: لو كان قاله رسول الله
ص ما خفي على أبي بكر».
وقد ذكر أهل العلم أن أصول أحاديث الأحكام نحو خمسمائة حديث. انظر إعلام الموقعين (2: 342) وفيه (1: 61) (عن ابن سيرين قال: «وإن أبا بكر نزلت به قضية فلم يجد في كتاب الله منها أصلًا ولا في السنة أثرًا فاجتهد رأيه ثم قال: هذا رأيي فإن كان صوابًا فمن الله.. » وفيه (1: 70) عن ميمون بن مهران قال: «كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله تعالى... وإن لم يجد في كتاب الله نظر في سنة رسول الله
ص، فإن وجد فيها ما يقضي به قضى به، فإن أعياه ذلك سأل الناس: هل علمتم أن رسول الله
ص قضى فيه... ».
37
وفيه (3: 379) «لا يحفظ للصديق خلاف نص واحدٍ أبدًا». وفي
تاريخ الإسلام للذهبي (1: 381) في قصة طويلة عن أبي بكر: «وددت أني سألت رسول الله
ص... وأني سألته عن العمة وبنت الأخ فإن في نفسي منها حاجة» فإن كان لمرسل ابن أبي مليكة أصل فكونه عقب الوفاة النبوية يشعر بأنه يتعلق بأمر الخلافة، كأن الناس عقب البيعة بقوا يختلفون يقول أحدهم: أبو بكر أهلها؛ لأن النبي
ص قال كيت وكيت. فيقول آخر: وفلان قد قال له النبي
ص كيت وكيت، فأحب أبو بكر صرفهم عن الخوض في ذلك وتوجيهم إلى القرآن وفيه: { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } ).
قال أبو رية: (وروى ابن عساكر عن [إبراهيم بن] عبد الرحمن بن عوف قال: «والله ما مات عمر بن الخطاب حتى بعث إلى أصحاب رسول الله فجمعهم من الآفاق: عبد الله بن حذيفة، وأبا الدرداء، وأبا ذر، وعقبة بن عامر قال: ما هذه الأحاديث التي أفشيتم عن رسول الله في الآفاق؟ قالوا: تنهانا؟ قال [لا]. أقيموا عندي، لا والله لا تفارقوني ما عشت، فنحن أعلم، نأخذ منكم ونرد عليكم، فما فارقوه حتى مات».
أقول: أخذ أبو رية هذا من كنز العمال (1: 239) وأسقط منه ما أضفته بين حاجزين. وفي خطبة كنز العمال (1: 3) إن كل ما عزى فيه إلى
تاريخ ابن عساكر فهو
ضعيف، وعبد الله بن حذيفة غير معروف، إنما في الصحابة عبد الله بن حذافة، وهو مقل جدًا لا يثبت عنه حديث واحد، فلا يصلح لهذه القصة. وفي سماع
إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف من عمر خلاف والظاهر أنه لا يثبت، ثم إن هؤلاء النفر لم يكونوا جميع الصحابة، بل كان كثير جدًا من الصحابة في الأمصار والأقطار يحدثون.
قال أبو رية: (وفي رواية ابن حزم في الأحكام أنه حبس ابن مسعود وأبا موسى وأبا الدرداء في المدينة على الإكثار من الحديث).