قال: وكان من حديث العمى؛ والعمى مرّة بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم - أنه تنخت عليه وعلى العصيّة بن امرئ القيس أفناء معدّ فعمّاه عن الرشد من لم ير نصره فارس على آل أردوان، فقال في ذلك كعب بن مالك أخوه - ويقال: صدي بن مالك:
لقد عم عنها مرّة الخير فانصمى ** وصمّ فلم يسمع دعاء العشائر
ليتنخ عنّا رغبة عن بلاده ** ويطلب ملكا عاليا في الأساور
فبهذا البيت سمى العم؛ فقيل بنو العم؛ عمّوه عن الصواب بنصره أهل فارس كقول الله تبارك وتعالى: " عموا وصمّوا "؛ وقال يربوع بن مالك:
لقد علمت عليا معدّ بأنّنا ** غداة التباهى غرّ ذاك التبادر
تنخنا على رغم العداة ولم ننخ ** بحي تميم والعديد الجماهر
نفينا عن الفرس النبيط فلم يزل ** لنا فيهم إحدى الهنات والبهاتر
إذ العرب العلياء جاشت بحورها ** فخرنا على كلّ البحور الزواخر
وقال أيّوب بن العصية بن امرئ القيس:
لنحن سبقنا بالتّنوخ القبائلا ** وعمدا تنخنا حيث جاءوا قنابلا
وكنّا ملوكا قد عززنا الأوائلا ** وفي كلّ قرن قد ملكنا الحلائلا
فلما كانت تلك الليلة من ليلة الموعد من سلمى وحرملة وغالب وكليب، والهرمزان يومئذ بين نهر تيرى بين دلث، خرج سلمى وحرملة صبيحتها في تعبية، وأنهضا نعيمًا ونعيمًا فالتقوا هم والهرمزان بين دلث ونهر تيرى، وسلمى ابن القين على أهل البصرة، ونعيم بن مقرّن على أهل الكوفة. فاقتتلوا فبيناهم في ذلك أقبل المدد من قبل غالب وكليب، وأتى الهرمزان الخبر بأنّ مناذر نهر تيرى قد أخذتا، فكسر الله في ذرعه وذرع جنده، وهزمه وأيّاهم، فقتلوا منهم ما شاءوا، وأصابوا منهم ما شاءوا، وأتبعوهم حتى وقفوا على شاطئ دجيل، وأخذوا ما دونه، وعسكروا بحيال سوق الأهواز، وقد عبر الهرمزان جسر سوق الأهواز، وأقام بها، وصار دجيل بين الهرمزان وحرملة وسلمى ونعيم ونعيم وغالب وكليب.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن المغيرة العبدىّ، عن رجل من عبد القيس يدعى صحارا، قال: قدمت على هرم ابن حيّان - فيما بين الدلوث ودجيل - بجلال من تمر، وكان لا يصبر عنه، وكان جلّ زاده إذا تزوّد التمر، فإذا فنى انتخب له مزاود من جلال وهم ينفرون فيحملها فيأكلها ويطعمها حيثما كان من سهل أو جبل. قالوا: ولما دهم القوم الهرمزان ونزلوا بحياله من الأهواز رأى ما لا طاقة له به، فطلب الصلح، فكتبوا إلى عتبة بذلك يستأمرونه فيه، وكاتبه الهرمزان، فأجاب عتبة إلى ذلك على الأهواز كلّها ومهرجان قذق، ما خلا نهر تيرى ومناذر، وما غلبوا عليه من سوق الأهواز، فإنه لا يردّ عليهم ما تنقّذنا. وجعل سلمى بن القين على مناذر مسحلة وأمرها إلى غالب، وحرملة على نهر تيرى وأمرها على كليب؛ فكانا على مسالح البصرة وقد هاجرت طوائف بنى العم، فنزلوا منازلهم من البصرة، وجعلوا يتتابعون على ذلك، وقد كتب بذلك عتبة إلى عمر، وفّد منهم سلمى، وأمره أن يستخلف على عمله، وحرملة - وكانا من الصحابة - وغالب وكليب، ووفد وفود من البصرة يومئذ، فأمرهم أن يرفعوا حوائجهم، فكلّهم قال: أما العمّة فأنت صاحبها، ولم يبق إلا خواصّ أنفسنا، فطلبوا لأنفسهم، إلّا ما كان من الأحنف ابن قيس، فإنه قال: يا أمير المؤمنين؛ إنك لكما ذكروا، ولقد يعزب عنك ما يحقّ علينا إنهاؤه إليك مما فيه صلاح العامّة، وإنّما ينظر الوالي فيما غاب عنه بأعين أهل الخير، ويسمع بآذانهم، وإنّا لم نزل ننزل منزلا بعد منزل حتى أرزنا إلى البرّ، وإنّ إخواننا من أهل الكوفة نزلوا في مثل حدقة البعير الغاسقة؛ من العيون العذاب، والجنان الخصاب، فتأتيهم ثمارهم ولم تخضد، وإنّا معشر أهل البصرة نزلنا سبخة هشاشة، زعقة نشّاشة، طرف لها في الفلاة وطرف لها في البحر الأجاج، يجرى إليها ما جرى في مثل مرىء النعامة. دارنا فعمة، ووظيفتنا ضيّقة، وعددنا كثير، وأشرافنا قليل، وأهل البلاء فيناكثير، ودرهمنا كبير، وقفيزنا صغير؛ وقد وسّع الله علينا، وزادنا في أرضنا، فوسّع علينا يا أمير المؤمنين، وزدنا وظيفة توظّف علينا، ونعيش بها. فنظر إلى منازلهم التي كانوا بها إلى أن صاروا إلى الحجر فنفّلهموه وأقطعهموه، وكان مما كان لآل كسرى، فصار فيئا فيما بين دجلة والحجر، فاقتسموه، وكان سائر ما كان لآل كسرى في أرض البصرة على حال ما كان في أرض الكوفة ينزلونه من أحبّوا، ويقتسمونه بينهم؛ لا يستأثرون به على بدء ولا ثنى، بعد ما يرفعون خمسه إلى الوالي. فكانت قطائع أهل البصرة نصفين: نصفها مقسوم، ونصفها متروك للعسكر وللاجتماع؛ وكان أصحاب الألفين ممّن شهد القادسيّة. ثم أتى البصرة مع عتبة خمسة آلاف، وكانوا بالكوفة ثلاثين ألفا، فألحق عمر أعدادهم من أهل البصرة من أهل البلاء في الألفين حتى ساواهم بهم، ألحق جميع من شهد الأهواز. ثم قال: هذا الغلام سيّد أهل البصرة، وكتب إلى عتبة فيه بأن يسمع منه ويشرب برأيه، وردّ سلمى وحرملة وغالبا وكليبا إلى مناذر ونهر تيرى، فكانوا عدّة فيه لكون إن كان، وليميّزا خراجها.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو، قالوا: بينا الناس من أهل البصرة وذمتهم على ذلك وقع بين الهرمزان وبين غالب وكليب في حدود الأرضين اختلاف وادّعاء، فحضر ذلك سلمى وحرملة لينظروا فيما بينهم، فوجدا غالبًا وكليبًا محقّين والهرمزان مبطلًا، فحالا بينه وبينهما، فكفر الهرمزان أيضا ومنع ما قبله، واستعان بالأكراد، فكثف جنده. وكتب سلمى وحرملة وغالب وكليب ببغى الهرمزان وظلمه وكفره إلى عتبة بن غزوان، فكتب بذلك إلى عمر، فكتب إليه عمر يأمره بأمره، وأمدّهم عمر بحرقوص بن زهير السعدىّ، وكانت له صحبة من رسول الله
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png، وأمّره على القتال وعلى ما غلب عليه. فنهد الهرمزان بمن معه وسلمى وحرملة وغالب وكليب، حتى إذا انتهوا إلى جسر سوق الأهواز أرسلوا إلى الهرمزان: إمّا أن تعبروا إلينا وإمّا أن نعبر إليكم، فقال: اعبروا إلينا، فعبروا من فوق الجسر، فاقتتلوا فوق الجسر ممّا يلي سوق الأهواز، حتى هزم الهرمزان ووجّه نحو رامهرمز، فأخذ على قنطرة أربك بقرية الشغر حتى حلّ برامهرمز، وافتتح حرقوص سوق الأهواز، فأقام بها ونزل الجبل، واتّسقت له بلاد سوق الأهواز إلى تستر، ووضع الجزية، وكتب بالفتح والأخماس إلى عمر، ووفّد وفدا بذلك، فحمد الله، ودعا له بالثبات والزيادة. وقال الأسود بن سريع في ذلك - وكانت له صحبة:
لعمرك ما أضاع بنو أبينا ** ولكن حافظوا فيمن يطيع
أطاعوا ربّهم وعصاه قوم ** أضاعوا أمره فيمن يضيع
مجوس لا ينهنهها كتاب ** فلاقوا كبّة فيها قبوع
وولّى الهرمزان على جواد ** سريع الشدّ يثفنه الجميع
وخلّى سرّة الأهواز كرها ** غداة الجسر إذ نجم الربيع
وقال حرقوص:
غلبنا الهرمزان على بلاد ** لها في كلّ ناحية ذخائر
سواء برّهم والبحر فيها ** إذا صارت نواجبها بواكر
لها بحر يعجّ بجانبيه ** جعافر لا يزال لها زواخر
فتح تستر
وفيها فتحتتستر في قول سيف وروايته - أعني سنة سبع عشرة - وقال بعضهم: فتحت سنة ستّ عشرة، وبعضهم يقول: في سنة تسع عشرة.
ذكر الخبر عن فتحها
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو، قالوا: لما انهزم الهرمزان يوم سوق الأهواز، وافتتح حرقوص بن زهير سوق الأهواز، أقام بها، وبعث جزء بن معاوية في أثره بأمر عمر إلى سرّق، وقد كان عهد إليه فيه: إن فتح الله عليهم أن يتبعه جزءا، ويكون وجهه إلى سرّق. فخرج جزء في أثر الهرمزان، والهرمزان متوجّه إلى رامهرمز هاربا، فما زال يقتلهم حتى انتهى إلى قرية الشغر، وأعجزه بها الهرمزان؛ فمال جزء إلى دورق من قرية الشغر؛ وهي شاغرة برجلها - ودورق مدينة سرّق فيها قوم لا يطيقون منعها - فأخذها صافية، وكتب إلى عمر بذلك وإلى عتبة، وبدعائه من هرب إلى الجزاء والمنعة، وإجابتهم إلى ذلك. فكتب عمر إلى جزء بن معاوية وإلى حرقوص بن زهير بلزوم ما غلبا عليه، وبالمقام حتى يأتيهما أمره، وكتب إليه مع عتبة بذلك، ففعلا وأستأذن جزء في عمران بلاده عمر، فأذن له، فشقّ الأنهار، وعمر الموات. ولما نزل الهرمزان رامهرمز وضاقت عليه الأهواز والمسلمون حلّال فيها فيما بين يديه، طلب الصلح، وراسل حرقوصا وجزءا في ذلك، فكتب فيه حرقوص إلى عمر، فكتب إليه عمر وإلى عتبة، يأمره أن يقبل منه على ما لم يفتحوا منها على رامهرمز وتستر والسوس وجندى سابور، والبنيان ومهرجا نقذق، فأجابهم إلى ذلك، فأقام أمراء الأهواز على ما أسند إليهم، وأقام الهرمزان على صلحه يجبى إليهم ويمنعونه، وإن غاوره أكراد فارس أعانوه وذبّوا عنه. وكتب عمر إلى عتبة أن أوفد علىّ وفدا من صلحاء جند البصرة عشرة، فوفّد إلى عمر عشرة، فيهم الأحنف. فلما قدم على عمر قال: إنك عندي مصدّق، وقد رأيتك رجلا، فأخبرني أأن ظلمت الذمّة، ألمظلمة نفروا أم لغير ذلك؟ فقال: لا بل لغير مظلمة، والناس على ما تحبّ. قال: فنعم إذا! انصرفوا إلى رحالكم. فانصرف الوفد إلى رحالهم، فنظر في ثيابهم فوجد ثوبا قد خرج طرفه من عيبة فشمّه، ثم قال: لمن هذا الثوب منكم؟ قال الأحنف: لي، قال: فبكم أخذته؟ فذكر ثمنا يسيرا، ثمانية أو نحوها، ونقص ممّا كان أخذه به - وكان قد أخذه باثنى عشر - قال: فهلّا بدون هذا، ووضعت فضلته موضعا تغنى به مسلما! حصّوا وشعوا الفضول مواضعها تريحوا أنفسكم وأموالكم، ولا تسرفوا فتخسروا أنفسكم وأموالكم؛ إن نظر امرؤ لنفسه وقدّم لها يخلف له. وكتب عمر إلى عتبة أن أعزب الناس عن الظلم، واتّقوا واحذروا أن يدال عليكم لغدر يكون منكم أو بغى، فإنكم إنّما أدركتم بالله ما أدركتم على عهد عاهدكم عليه، وقد تقدّم إليكم فيما أخذ عليكم. فأوفوا بعهد الله، وقوموا على أمره يكن لكم عونا وناصرا.
وبلغ عمر أنّ حرقوصا نزل جبل الأهواز والناس يختلفون إليه، والجبل كئود يشقّ على من رامه. فكتب إليه: بلغني أنك نزلت منزلا كئودا لا تؤتى فيه إلّا على مشقّة، فأسهل ولا تشقّ على مسلم ولا معاهد، وقم في أمرك على رجل تدرك الآخرة وتصف لك الدنيا، ولا تدركنّك فترة ولا عجلة، فتكدر دنياك، وتذهب آخرتك.