فإنَّ الغرائز تحسُّ بهذه المواضع، فتبارك الله أحسن الخالقين. فيقول امرؤ القيس: أدركنا الأوّلين من العرب لا يحفلون بمجيء ذلك، ولا أدري ما شجن عنه، فأمَّا أنا وطبقتي فكنَّا نمرُّ في البيت حتى نأتي إلى آخره، فإذا فني أو قارب تبيَّن أمره للسامع. فيقول، ثبَّت الله تعالى الإحسان عليه: أخبرني عن قولك:
ألا ربَّ يومٍ منهنَّ صالحٍ
ولا سيما يومٌ بدارة جلجل أتنشده: لك منهنَّ صالحٍ فتزاحف الكفِّ؟ أم تنشده على الرواية الأخرى؟ فأمَّا يومٌ، فيجوز فيه النّصب والخفض والرفع فأما النصب فعلى ما يجب للمفعول من الظُّروف، والعامل في الظَّرف هاهنا فعلٌ مضمرٌ، وأمَّا الرفع فعلى أن تجعل ما كافَّةً، وما الكافَّة عند بعض البصريِّين نكرةٌ، وإذا كان الأمر كذلك فهو بعدها مضمرةٌ، وإذا خفض يومٌ، فما من الزَّيادات. ويشدَّد سيَّ ويخفَّف: فأمَّا التشديد فهو اللغة العالية، وبعض النَّاس يخفَّف، ويقال: إنَّ الفرزدق مرَّ وهو سكران على كلابٍ مجتمعةٍ. فسلَّم عليها فلمّا لم يسمع لجواب أنشأ يقول:
فما ردَّ السّلام شيوخ قومٍ
مررت بهم على سكك البريد ولا سيَّما الذي كانت عليه
قطيفه أرجوانٍ في القعود فيقول امرؤ القيس: أمَّا أنا فما قلت في الجاهليّة إلاَّ بزحافٍ: لك منهَّن صالحٍ. وأمَّا المعلِّمون في الإسلام فغيَّروه على حسب ما يريدون، ولا بأس بالوجه الذي اختاروه. والوجوه في يوم متقاربةٌ، وسيَّ تشديدها أحسن وأعرف. فيقول: أجل، إذا خففِّت صارت على حرفين أحدهما حرف علِّةٍ. ويقول: أخبرني عن التَّسميط المنسوب إليك، أصحيحٌ هو عنك؟ وينشده الذي يرويه بعض النَّاس:
يا صحبنا عرَّجوا
تقف بكم أسج مهريَّةٌ دلج
في سيرها معج طالت بها الرِّحل
فعرَّجوا كلُّهم
والهمُّ يشغلهم والعيس تحملهم
ليست تعلِّلهم وعاجت الرٌّمل
يا قوم إنَّ الهوى
إذا أصاب الفتى في القلب ثمَّ ارتقى
فهدَّ بعض القوى فقد هوى الرَّجل
فيقول: لا والله ما سمعت هذا قطُّ، وإنّه لقريُّ لم أسلكه، وإنَّ الكذب لكثير، وأحسب هذا لبعض شعراء الإسلام، ولقد ظلمني وأساء إليَّ! أبعد كلمتي التي أوَّلها:
ألا أنعم صباحاً أيُّها الطَّلل البالي
وهل ينعمن من كان في العصر الخالي؟ خليليَّ مرَّا بي على أمّ جندب
لأقضي حاجات الفؤاد المعذَّب يقال لي مثل ذلك؟ والرَّجز من أضعف الشَّعر، وهذا الوزن من أضعف الرَّجز. فيعجب، ملأ الله فؤاده بالسُّرور، لما سمعه من امرىء القيس ويقول:: كيف ينشد:
جالت لتصرعني فقلت لها: قرى
إنَّي امرؤ صرعى عليك حرام أتقول: حرام، فتقوي؟ أم تقول: حرام، فتخرجه مخرج حذام وقطام؟ وقد كان بعض علماء الدَّولة الثانية يجعلك لا يجوز الإقواء عليك. فيقول امرؤ القيس: لا نكرة عندنا في الإقواء، أما سمعت البيت في هذه القصيدة:
فكأنَّ بدراً واصلٌ بكتفةٍ
وكأنَّما من عاقلٍ إرمام فيقول: لقد صدقت يا أبا هند، لأنَّ إرماماً هاهنا، ليس واقعاً موقع الصِّفة فيحمل على المجاورة، لأنَّه محمول على كأنَّما، وإضافته إلى ياء النَّفس تضعِّف الغرض. وقد ذهب بعض الناس إلى الإضافة في قول الفرزدق:
فما تدري إذا قعدت عليه
أسعد الله أكثر أم جذام فقالوا: أضاف كما قال جريرٌ:
إن الذين ابتنوا مجداً ومكرمةً
تلكم قريشي والأنصار أنصاري وكذلك قوله:
وإذا غضبت رمت ورائي مازنٌ
أولاد جندلتي كخير الجندل وبعضهم يروي: أولاد جندلة كخير الجندل وجندلة هذه هي أمُّ مازن بن مالك بن عمرو بن تميم وهي من نساء قريش. وإنَّا لنروي لك بيتاً ما هو في كلَّ الرِّوايات، وأظنُّه مصنوعاً لأنَّ فيه ما لم تجر عادتك بمثله، وهو قولك:
وعمرو بن درماء الهمام إذا غدا
بصارمه، يمشي كمشية قسورا فيقول: أبعد الله الآخر، لقد اخترص، فما اترَّص! وإنَّ نسبة مثل هذا إليَّ لأعدُّه إحدى الوصمات،فإن كان من فعله جاهليّاً، فهو من الذين وجدوا في النَّار صليّاً، وإن كان من أهل الإسلام، فقد خبط في ظلام. وإنَّما أنكر حذف الهاء من قسورة، لأنَّه ليس بموضع الحذف، وقلَّ ما يصاب في أشعار العرب مثل ذلك. فأمَّا قول القائل:
إنَّ ابن حارث إن أشتق لرؤيته
أو أمتدحه، فإنّ النَّاس قد علموا فليس من هذا النَّحو، إذ كان التّغيير إلى الأسماء الموضوعة أسرع منه إلى الأسماء التي هي نكراتٌ، إذ كانت النَّكرة أصلاً في الباب.
[عدل] عنترة العبسيُّ
وينظر فإذا عنترة العبسيُّ متلدَّدٌ في السَّعير، فيقول: ما لك يا أخا عبسٍ؟ كأنَّك لم تنطق بقولك:
ولقد شربت من المدامة بعدما
ركد الهواجر، بالمشوف المعلم بزجاجةٍ صفراء ذات أسرَّةٍ
قرنت بأزهر في الشَّمال مفدَّم وإنِّي إذا ذكرت قولك: هل غادر الشُّعراء من متردَّم لأقول: إنَّما قيل ذلك وديوان الشِّعر قليلٌ محفوظٌ، فأمَّا الآن وقد كثرت على الصائد ضباب، وعرفت مكان الجهل الرِّباب. ولو سمعت ما قيل بعد مبعث النّبي، صلى الله عليه وسلّم، لعتبت نفسك على ما قلت، وعلمت أنّ الأمر كما قال حبيب بن أوسٍ:
فلو كان يفنى الشِّعر أفناه ما قرت
حياضك منه في العصور الذّواهب ولكنَّه صوب العقول إذا انجلت
سحائب منه، أعقبت بسحائب فيقول: وما حبيبكم هذا؟ فيقول: شاعرٌ ظهر في الإسلام. وينشده شيئاً من نظمه: فيقول: أمّاالأصل فعربيٌّ، وأمّا الفرع فنطق به غبيٌّ، وليس هذا المذهب على ما تعرف قبائل العرب. فيقول، وهو ضاحكٌ مستبشرٌ: إنَّما ينكر عليه المستعار، وقد جاءت العارية في أشعار كثيرٍ من المتقدِّمين، إلا إنها لاتجتمع كاجتماعها فيما نظمه حبيب بن أوسٍ. فما أردت بالمشوف المعلم؟ الدِّينار أم الرِّداء؟ فيقول: أيُّ الوجهين أردت، فهو حسنٌ ولا ينتقض.
فيقول، جعل الله سمعه مستودعاً كل الصالحات: لقد شقَّ عليَّ دخول مثلك إلى الجحيم، وكأنَّ أذني مصغيةٌ إلى قينات الفسطاط وهي تغرِّد بقولك:
أمن سميَّة دمع العين تذريف؟
لو أنَّ ذا منك قبل اليوم معروف تجلِّلتني إذ أهوى العصا قبلي
كأنَّها رشأٌ في البيت مطروف العبد عبدكم، والمال مالكم
فهل عذابك عنِّي اليوم مصروف وإنِّي لأتمثِّل بقولك:
ولقد نزلت، فلا تظنِّي غيره
منِّي بمنزلة المحبِّ المكرّم ولقد وفِّقت في قولك: المحبِّ، لأنَّك جئت باللَّفظ على ما يجب في أحببت، وعامّة الشُّعراء يقولون: أحببت، فإذا صاروا إلى المفعول قالوا: محبوبٌ. قال زهير بن مسعودٍ الضَّبِّيُّ:
واضحة الغرَّة محبوبةٌ
والفرس الصّالح محبوب وقال بعض العلماء: لم يسمع بمحبٍّ إلا في بيت عنترة. وإنَّ الذي قال: أحببت، ليجب عليه أن يقول: محبُّ، إلا أنَّ العرب اختارت: أحبَّ في الفعل، وقالت في المفعول: محبوب. وكان سيبويه ينشد هذا البيت بكسر الهمزة:
إحبُّ لحبِّها السودان حتى
إحبُّ لحبِّها سود الكلاب فهذا على رأي من قال: مغيرة، فكسر الميم على معنى الإتباع، وليس هو عنده على: حببت أحبُّ،وقد جاء حببت، قال الشاعر
[2]:
ووالله لولا تمره ما حببته
ولا كان أدنى من عبيدٍ ومرشق