ولو كان فيهم تمكُّن من المعارضة لقصدوا تلك القصة وعبروا عنها بألفاظ لهم تؤدي تلك المعاني ونحوها، وجعلوها بإزاء ما جاء به، وتوصلوا بذلك إلى تكذيبه، وإلى مساواته فيما [ حكى و ] جاء به. وكيف وقد قال لهم: { فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين }. فعلى هذا يكون المقصد - بتقديم بعض الكلمات وتأخيرها - إظهار الإعجاز على الطريقين جميعا، دون السجع الذي توهموه.
فإن قال قائل: القرآن مختلط من أوزان كلام العرب، ففيه من جنس خطبهم ورسائلهم [ وشعرهم ] وسجعهم وموزون كلامهم الذي هو غير مقفى، ولكنه أبدع فيه ضربا من الإبداع لبراعته وفصاحته.
قيل: قد علمنا أن كلامهم ينقسم إلى نظم ونثر، وكلام مقفى غير موزون [ وكلام موزون غير مقفى ]، ونظم موزون ليس بمقفى كالخطب والسجع، ونظم مقفى موزون له روي.
ومن هذه الاقسام ما هو سجية الأغلب من الناس، فتناوله أقرب وسلوكه لا يتعذر. ومنه ما هو أصعب تناولا، كالموزون عند بعضهم، والشعر عند الآخرين.
وكل هذه الوجوه لا تخرج عن أن تقع لهم بأحد أمرين: إما بتعمل وتكلف وتعلم وتصنع، أو باتفاق من الطبع وقذف من النفس على اللسان للحاجة إليه.
ولو كان ذلك مما يجوز اتفاقه من الطبائع، لم ينفك العالم من قوم يتفق ذلك منهم، ويعرض على ألسنتهم، وتجيش به خواطرهم، ولا ينصرف عنه الكل، مع شدة الدواعي إليه.
ولو كان طريقه التعلم لتصنعوه ولتعلموه والمهلة لهم فسيحة، والأمد واسع.
http://upload.wikimedia.org/wikipedi...ts_ver.svg.png
وقد اختلفوا في الشعر كيف اتفق لهم؟ فقد قيل: إنه اتفق في الأصل غير مقصود إليه، على ما يعرض من أصناف النظام في تضاعيف الكلام، ثم لما استحسنوه واستطابوه ورأوا أنه قد تألفه الاسماع وتقبله النفوس تتبعوه من بعد وتعملوه. وحكى لي بعضهم عن أبي عمر غلام ثعلب عن
ثعلب: أن العرب تعلم أولادها قول الشعر بوضع غير معقول، يوضع على بعض أوزان الشعر كأنه على وزن: * قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل * ويسمون ذلك الوضع المتير واشتقاقه من المتر، وهو الجذب أو القطع، يقال: مترت الحبل، أي قطعته أو جذبته. ولم يذكر هذه الحكاية عنهم غيره، فيحتمل ما قاله.
وأما ما وقع السبق إليه فيشبه أن يكون على ما قدمنا ذكره أولا.
وقد يحتمل - على قول من قال: إن اللغة اصطلاح - أنهم تواضعوا على هذا الوجه من النظم.
وقد يمكن أن يقال مثله على المذهب الآخر، وأنهم وقفوا على ما يتصرف إليه القول من وجوه التفاصح، وتواقفوا بينهم على ذلك.
ويمكن أن يقال: إن التواضع وقع على أصل الباب، وكذلك التوقيف، ولم يقع على فنون تصرف الخطاب، وإن الله تعالى أجرى على لسان بعضهم من النظم ما أجرى، وفطنوا لحسنه فتتبعوه من بعد، وبنوا عليه وطلبوه، ورتبوا فيه المحاسن التي يقع الإطراب بوزنها، وتهش النفوس إليها، وجمع دواعيهم وخواطرهم على استحسان وجوه من ترتيبها، واختبار طرق نم تنزيلها، وعرفهم محاسن الكلام، ودلهم على كل طريقة عجيبة، ثم أعلمهم عجزهم عن الإتيان [ بمثل ] القرآن، [ وأن ] القدر الذي تتناهى إليه قدرهم هو ما لم يخرج عن لغتهم، ولم يشذ من جميع كلامهم، بل قد عرض في خطابهم، ووجدوا أن هذا لما تعذر عليهم مع التحدي والتقريع الشديد والحاجة الماسة إليه، مع علمهم بطريق وضع النظم والنثر، وتكامل أحوالهم فيه - دل على أنه اختص به ليكون دلالة على النبوة ومعجزة على الرسالة. ولولا ذلك لكان القوم إذا اهتدوا في الابتداء إلى وضع هذه الوجوه التي يتصرف إليها الخطاب على براعته وحسن انتظامه، فلان يقدروا بعد التنبيه على وجهه والتحدي إليه، أولى أن يبادروا إليه، لو كان لهم إليه سبيل.
ولو كان الأمر على ما ذكره السائل: لوجب أن لا يتحيروا في أمرهم، أو لا تدخل عليهم شبهة فيما نابهم، ولكانوا يسرعون إلى الجواب ويبادون إلى المعارضة.
ومعلوم من حالهم أن الواحد منهم يقصد إلى الأمور البعيدة عن الوهم، والأسباب التي لا يحتاج إليها، فيكثر فيها من شعر ورجز، ونجد من يعينه على نقله عنه، على ما قدمنا ذكره من وصف الإبل ونتاجها، وكثير من أمرها لا فائدة في الاشتغال به في دين ولا دنيا.
ثم كانوا يتفاخرون باللسن والذلاقة والفصاحة والذرابة، ويتنافرون فيه وتجري بينهم فيه الأسباب المنقولة في الآثار، على ما لا يخفى على أهله.
فاستدللنا بتحيرهم في أمر القرآن على خروجه من عادة كلامهم، ووقوعه موقعا يخرق العادات. وهذه سبيل المعجزات.
فبان بما قلنا أن الحروف التي وقعت في الفواصل متناسبة موقع النظائر التي تقع في الاسجاع، لا يخرجها عن حدها، ولا يدخلها في باب السجع.
وقد بينا أنهم يذمون كل سجع خرج عن اعتدال الاجزاء، فكان بعض مصاريعه كلمتين، وبعضها أربع كلمات، ولا يرون في ذلك فصاحة، بل يرونه عجزا.
فلو رأوا أن ما تلى عليهم من القرآن سجع لقالوا: نحن نعارضه بسجع معتدل، فنزيد في الفصاحة على طريقة القرآن، ونتجاوز حده في البراعة والحسن.
ولا معنى لقول من قدر أنه ترك السجع تارة إلى غيره ثم رجع إليه، لأن ما تخلل بين الأمرين يؤذن بأن وضع الكلام غير ما قدروه من التسجيع { 1، لأنه لو كان من باب السجع لكان أرفع نهاياته، وأبعد غاياته.
ولا بد لمن جوز السجع فيه وسلك ما سلكوه من أن يسلم ما ذهب إليه
النظام، وعباد بن سليمان، وهشام الفوطي، ويذهب مذهبهم، في أنه ليس في نظم القرآن وتأليفه إعجاز، وأنه يمكن معارضته، وإنما صرفوا عنه ضربا من الصرف.
[22]
ويتضمن كلامه تسليم الخبط في طريقة النظم، وأنه منتظم من فرق شتى ومن أنواع مختلفة ينقسم إليها خطابهم ولا يخرج عنها، ويستهين ببديع نظمه وعجيب تأليفه الذي وقع التحدي إليه. وكيف يعجزهم الخروج عن السجع والرجوع إليه، وقد علمنا عادتهم في خطبهم وكلامهم أنهم كانوا لا يلزمون أبدا طريقة السجع والوزن، بل كانوا يتصرفون في أنواع مختلفة، فإذا ادعوا على القرآن مثل ذلك لم يجدوا فاصلة بين نظمي الكلامين.
فصل في ذكر البديع من الكلام
إن سأل سائل فقال: هل يمكن أن يعرف إعجاز القرآن من جهة ما تضمنه من البديع؟
قيل: ذكر أهل الصنعة ومن صنف في هذا المعنى من صفة البديع ألفاظا نحن نذكرها، ثم نبين ما سألوا عنه، ليكون الكلام واردا على أمر مبين، وباب مقرر مصور.
ذكروا: أن من البديع في القرآن قوله عز ذكره: { واخفض لهما جناح الذل من الرحمة }. وقوله: { وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم }. وقوله: { واشتعل الرأس شيبا وقوله: { وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون }. وقوله: { أو يأتيهم عذاب يوم عقيم }. وقوله: { نورٌ على نور }.
وقد يكون البديع في الكلمات الجامعة الحكيمة، كقوله: { ولكم في القصاص حياة }.
وفي الألفاظ الفصيحة، كقوله: { فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا }.
وفي الألفاظ الإلهية، كقوله: { وله كل شئ }. وقوله: { وما بكم من نعمة فمن الله }. وقوله: { لمن الملك اليوم؟ لله الواحد القهار }.
http://upload.wikimedia.org/wikipedi...ts_ver.svg.png
ويذكرون من البديع قول النبي
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png «خير الناس رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله، كلما سمع هيعة طار إليها».
وقوله: «ربنا تقبل توبتي، واغسل حوبتي».
وقوله: «غلب عليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، وهي حالقة الدين، لا حالقة الشعر».
وقوله: «الناس كإبل مائة، لا تجد فيها راحلة».
وقوله: «وهل يكب الناس على مناخرهم في نار جهنم إلا حصائد ألسنتهم».
وقوله: «إن مما ينبت الربيع ما يقتل حَبَطا أو يُلِمُّ».
وكقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه في كلام له قد نقلناه بعد هذا على وجهه، وقوله لخالد بن الوليد رضي الله عنه: "احرص على الموت توهب لك الحياة". وقوله: "فر من الشرف يتبعك الشرف".
وكقول علي بن أبي طالب في كتابه إلى ابن عباس، وهو عامله على البصرة: "أرغب راغبهم، واحلل عقدة الخوف عنهم". وقوله رضي الله عنه حين سئل عن قول النبي
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png: "[ غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود" -: إن النبي
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png ] إنما قال ذلك والدين في قل، فأما وقد اتسع نطاق الإسلام، فكل امرئ وما اختار".
وسأل علي رضي الله عنه بعض كبراء فارس عن أحد ملوكهم عندهم؟ فقال: لأردشير فضيلة السبق، غير أن أحمدهم أنوشِروان. قال: فأي أخلاقه كان أغلب عليه؟ قال: الحلم والأناة. فقال على رضي الله عنه: "هما توأمان ينتجهما علو الهمة".
وقال: "قيمة كل امرئ ما يحسن".
وقال: "العلم قفل، ومفتاحه المسئلة".
وكتب
خالد بن الوليد إلى مرازبة فارس: "أما بعد، فالحمد لله الذي فض خدمتكم، وفرق كلمتكم". والخَدَمة: الحلقة المستديرة، ولذلك قيل للخلاخيل، خِدَام.
وقال الحجاج: "دلوني على رجل سمين الأمانة".