العقد الفريد/الجزء الثالث/3
خطبة لمعاوية أيضاً قال بهيثم بن عديّ: لما حضرَت مُعاويةَ الوفاةُ ويزيد غائب دعا بمُسلم ابن عُقبة المر والضحَّاك بن قيس القهريّ وقال لهما: أبلغا عني يزيد وقولا له: انظر أهل الحجاز فهم عصابُتك اعترتك فمن أتاك منهم فأكرمه ومَن قعَدَ عنك فتعاهده وانظُر أهل العراق فإن سألوك عَزْل عامل في كل يوم فأعز له عنهم فإن عزل عامل واحد أهونُ عليك من سَلّ مائة ألف سيف ثم لا تدري عَلام أنت عليه منهم ثم انظُر أهلَ الشام فاجعلهم الشِّعار دون الدَثار فإنْ رابك من عدو رَيب فارْمه بهم فإن أظفرك اللهّ فارْدُد أهل الشام إلى بلادهم لا يُقيموا في غير بلادهم في فيتأدّبوا بغير أدابهم. لست أخاف عليك غير عبد الله بن عمر وعَبدِ الله بن الزبير والحُسين بن علي. فأما عبد الله بن عمر فرجل قد وَقَذَه الوَرع وأما الحُسين فأرجو أن يَكفيكه اللهّ بمنِ قَتلِ أباه وخَذَل أخاه وأما ابن الزُّبير فإنه خَبّ ضَبّ. فإِنْ ظَفِرْت به فقطعه إرْباً إرْباً. ومات معاوية. فقام الضَّحَّاك بن قَيس خَطيبَاَ فقال: إن أمير المؤمنين كان أنْفَ العرب وهذه أكفانه ونحن مُدْرِجوه فيها ومُخْلون بينه وبين ربّه فمن أراد حضوره بعد الظهر فليحضُر. فصلّى عليه الضحَّاك. ثم قَدِم يزيد فلم يَقْدَم أحدٌ عك تعزيته حتى دخل عليه عبدُ الله ابن همَام فأنشأ يقول: اصْبِر يزيد فقد فارقتَ ذا مِقَةٍ واشكُر حِبَاء الذي بالمُلك حاباكا لا رّزْءَ أعظمُ في الأقوام قد عَلِموا مما رُزِئتَ ولا عُقْبى كعًقْبَاكا أصبحتَ راعِيَ أهل الدِّين كلِّهم فانْتَ ترعاهم والله يَرْعاكا وَفي مُعاوية الباقي لنا خَلف إذا بَقيت فلا نسمع بمَنْعاكا قال: فانفتح الخطباء بالكلام. خطبة أيضاًً لمعاوية ولما مرض معاويةُ مرَضَ وفاته قال لمولى له: مَن بالباب قال: نفر من قُريشَ يتباشرون بموتك. قال: وَيحك! لمَ فوالله ما لهم بعدي إلا الذي يَسُوءهم. وأذِن للناس فَدَخلوا فحمد الله وأثنى عليه وأوْجز ثمٍ قال: أيها الناس إنا قد أصبحنا في دَهْر عنود وزمن شديد يُعدّ فيه المُحْسن مُسِيئاً ويزداد الظالم فيه عُتواً لا نَنْتفع بما عَلِمنا ولا نسأل عما جَهِلنا ولا نتخوّف قارعة حتى تَحُلّ بنا فالناس على أربعة أصناف: منهم من لا يمْنعه مِن الفساد في الأرض إلا مهانة نَفْسه وكلال حدِّه ونَضِيض وَفْرِه ومنهم المُصْلِت لسَيْفه المُجْلِب برَجْله المُعْلن بشرِّه وقد أَشْرَط نفسَه وأوْبق دِينَه لحُطام يَنْتهزه أو مِقْنب يَقوده أو مِنْبر يَفْرعه وليس المَتْجران تراهما لنفسك ثمناً وبمالكَ عند الله عِوَضاً ومنهم من يَطْلب الدنيا بعمل الآخرًة ولا يطلب الآخرًة بعمل الدنيا قد طامَن من شَخْصه وقارب من خَطْوه. وشمَر عن ثَوْبه وزَخْرَف نَفْسه بِالأمانة واتّخذ سِتْر الله ذَرِيعة إلى المَعْصية ومنهم مَن أَقعده عن طلب المُلْك ضآلة نفسه وانقطاع سَبَبِه فَقصِّرَت به الحال عن حاله فتحلِّى باسم القَناعة وتزيّا بلباس الزَّهادة وليس من ذلك في مَرَاح ولا مَغْدى. وبِقي رجالٌ أغضّ أبصارَهم ذِكْرُ المرْجع وأراق دُموعَهم خوفُ المَضْجَع فهم بين شريد بادٍ وبين خائف مُنْقمع وساكت مَكْعوم وداعٍ مُحلص ومُوجع ثَكْلان قد أخْمَلتهم التقيّة وشَملتهم الذلة فهم في بحر أجَاج أفواهُهم ضامرة وقلوبهم قَرِحَة قد وُعظوا حتى مَلّوا وقهروا حتى ذَلّوا وقتُلوا حتى قلّوا. فلتكن الدنيا في أعينكم أصغر من حُثالة القَرَظ وقُرَاِدة الحَلَم واتعظوا بمن كان قبلكم قبل أن يتّعِظ بكم من بعدكم وارفضوها ذميمةَ فقد رَفَضَت مَن كان أشفقَ بها منكم. ليزيد بن معاوية بعد موت أبيه الحمد الله الذي ما شاء صَنع ومَن شاء أعطى ومَن شاء مَنَع ومن شاء خَفَض ومن شاء رَفع. إن أميرَ المؤمنين كان حَبْلاً من حِبال الله مدَّه ما شاء أن يَمدَّه ثم قَطعه حين أراد أن يَقْطعه وكان. دون مَنِ قبلَه وخيراً ممن يأتي بعدَه ولا أزَكِّيه عند ربّه وقد صار إليه فإن يَعْفُ عنه فَبِرَحْمته وإنْ يُعاقبه فَبِذَنبه وقد وُلِّيتُ بعدَه الأمرَ ولستُ أعتذر من جَهل ولا آسىَ على طَلَب عِلْم وعلى رِسْلكم إذا كَرِهَ الله شيئاً غيَّرَه وإذا أحبَّ شيئاً يسَّره. وخطبة أيضاًً ليزيد الحمدُ لله أحمده وأستعينه وأومن به وأتوكّل عليه ونَعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيّات أعمالنا مَن يَهْد الله فلا مُضِلَّ له ومن يُضْلِل فلا هاديَ له وأشهد أن لا إله إلا الله وحدًه لا شريك له وأن محمداً عبدُه ورسولُه اصطفاه لوَحْيه. واختاره لرسالته بكتاب فَصَّله وفَضِّله وأعزَّه وأكرَمه ونَصره وحَفِظه ضرَب فيه الأمثال وحلّل فيه الحلال وحرَّم فيه