أقول: هذا شيء تفرد به أسماء بن الحكم الفزاري وهو رجل مجهول، وقد رده البخاري وغيره كما في ترجمة أسماء من تهذيب التهذيب. وتوثيق العجلي وجدته بالاستقراء كتوثيق
ابن حبان أو أوسع، فلا يقاوم إنكار البخاري وغيره على أسماء. على أنه لو فرض ثبوته فإنما هو مزيد الاحتياط، لا دليل على اشتراطه. هذا من المتواتر عن الخلفاء الأربعة أن كلًا منهم كان يقضي ويفتي بما عنده من السنة بدون حاجة إلى أن تكون عند غيره. وأنهم كان ينصبون العمال من الصحابة وغيرهم ويأمرونهم أن يقضي ويفتي كل منهم بما عنده من السنة بدون حاجة إلى وجودها عند غيره. هذا مع أن المنقول عن أبي بكر وعمر وجمهور العلماء أن القاضي لا يقضي بعلمه. وقال أبو بكر: «لو وجدت رجلًا على حد ما أقمته عليه حتى يكون معي غيري» وقال عكرمة: «قال عمر لعبد الرحمن بن عوف: لو رأيت رجلًا على حد زنا أو سرقة وأنا أمير؟ فقال: شهادتك شهادة رجل من المسلمين قال: صدقت». (راجع فتح الباري 13: 139 و141). ولوكان عندهم أن خبر الواحد العدل ليس بحجة تامة لما كان للقاضي أن يقضي بخبر عنده حتى يكون معه غيره، ولا كان للمفتي أن يفتي بحسب خبر عنده ويلزم المستفتي العمل به حتى يكون معه غيره. فتدبر هذا فإنه إجماع. وقد مضى به العمل في عهد النبي
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png، وفيه الغنى.
وذكر شيئًا عن أبي هريرة، وسيأتي في ترجمته رضي الله عنه.
الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال أبو رية (ص6): (لما قرأت حديث: «من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار» غمرني الدهش لهذا القيد الذي لا يمكن أن يصدر من رسول جاء بالصدق وأمر به، ونهى عن الكذب وحذر منه، إذ ليس بخافٍ أن الكذب هو الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه، سواء أكان عمدًا أم غير عمد).
ثم ذكر (ص9) كلمة "متعمدًا" (لم تأت في روايات كبار الصحابة قال: ويبدو أن هذه الكلمة قد تسللت إلى هذا الحديث على سبيل الإدراج لكي يتكئ عليها الرواة فيما يروونه عن غيرهم من جهة الخطأ أو الوهم أو الغلط… ذلك بأن المخطيء غير مأثوم. أو أن هذه الكلمة وضعت ليسوغ للذين يضعون الأحاديث عن غير عمد عملهم).
ثم أطال الكلام (ص36) فزعم أن: (الروايات الصحيحة التي جاءت عن كبار الصحابة ومنهم ثلاثة من الخلفاء الراشدين
48
تدل على أن هذا الحديث لم تكن فيه تلك الكلمة "متعمدًا"، قال: وكل ذي لب يستبعد أن يكون النبي قد نطق بها، لمنافاة ذلك للعقل والخلق اللذين كان الرسول متصفًا بالكمال فيهما).
أقول: أما الرواية فقد جاءت عن كبار الصحابة وغيرهم بلفظ: «من كذب عليَّ فلبيتبوأ… إلخ» وبما يؤدي معناه مثل: (من قال عليَّ ما ألم أقل… إلخ) وجاءت بلفظ: «من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ… إلخ» وبما يؤدي معناه مثل: (من تعمد عليَّ كذبًا… إلخ) راجع البخاري من فتح الباري، وصحيح مسلم، ومسند أحمد، وتاريخ بغداد، وكنز العمال (5: 22)، و
مشكل الآثار للطحاوي (1: 164-176). وقد يمكن الترجيح بالنظر إلى الرواية عن صحابي معين، فأما على الإطلاق فلا، وكما أن الله عز وجل كرر في القرآن بيان شدة الإثم في افتراء الكذب عليه فمعقول أن يكرر رسوله، وها هنا بحثان:
البحث الأول: في البرهان العقلي الذي اعتمد عليه أبو رية إذ قال عن هذا القيد (متعمدًا): (لا يمكن أن يصدر من رسول جاء بالصدق… إلخ) وقال: (وكل ذي لب يستبعد أن يكون النبي قد نطق بها لمنافاة ذلك للعقل… إلخ).
أقول: ما عسى أن يقول أبو رية في قول الله عز وجل: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ }. واقرأ: (6: 93 و 144)، (7: 37)، (10: 17)، (11: 18)، (18: 15)، (29: 68)، (61: 70) كل هذه الآيات تذكر افتراء الكذب على الله، وافتراء الكذب هو تعمده، والكذب على النبي
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png لا يزيد على الكذب على الله، فلماذا لا يعقل أن يقيد النبي
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png كما قيد القرآن؟
وقال الله سبحانه: { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا }
[11] وقد اعترف أبو رية (ص8) بأنه ليس في وسع من سمع الحديث أن لا يقع منه في تبليغه خطأ البتة، وعبارته: (وتركه يذهب بغير قيد إلى أذهان السامعين، تخضعه الذاكرة لحكمها القاهر، الذي لا يستطيع إنسان مهما كان أن ينكره أو ينازع فيه من سهو أو غلط أو نسيان). وإذا كان الله عز وجل لا يكلف نفسًا إلا وسعها فبماذا يستحق من وقع منه ما ليس في وسعه أن لا يقع أن يتبوأ منزلًا من جهنم؟ وقد علم الله عباده أن يقولوا: { رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } وما علمهم إلا ليستجيب لهم. وقد ثبت في الصحيح أن الصحابة لما قالوها قال الله تعالى: «قد فعلت» وقال الله تبارك وتعالى: { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } وقال سبحانه: { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } والمخطئ أولى بالعذر من المكره.
49
قد يقول أبو رية: كان للصحابة مندوحة عن الوقوع في الخطأ، وذلك بأن يَدَعوا الحديث عن النبي
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png البتة.
قلت: (أنى لهم ذلك وهم مأمورون أن يبلغ شاهدهم غائبهم، كان ذلك في حياة النبي
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png وبعده، وكان أصحابه يبلغ بعضهم بعضًا، وكانوا يتناوبون كما في الصحيح عن عمر: «كنت أنا وجار لي من الأنصار... وكنا نتناوب النزول على رسول الله
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png ينزل يومًا وأنزل يومًا، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك.. ». وقد قال تعالى: { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ }. وكان النبي
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png يبعث الرسل والأمراء ويأمرهم أن يبلغوا من أرسلوا إليهم ويجيء أفراد من القبائل فيسلمون ويتعلمون ويسمعون ويرجعون إلى قبائلهم فيبلغونهم. وقد علموا أن محمدًا رسول الله إلى الناس كافة إلى يوم القيامة، وأن شريعته شريعة للناس كافة إلى يوم القيامة، وأن الله تعالى أمر الناس كافة باتباعه وطاعته والتأسي به وأخذ ما أتى به والانتهاء عما نهى، وجعله المبين عنه لما أنزله بقوله وفعله، وأنهم مأمورون بتبليغ الكتاب وبيانه، إذ كل ذلك دين الناس كافة إلى يوم القيامة، وأنهم مأمورورن بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعاون على البر والتقوى، والدلالة على الخير والنصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولعباده. وعلموا الوعيد الشديد على كتمان الحق، وكتمان ما أنزل الله من البينات والهدى، مع علمهم بأن كتمان بيان الكتاب بمنزلة كتمان الكتاب. وحسبنا أنهم كانوا أعلم بالله ودينه وما لهم وعليهم، وأتبع للحق وأحرص على النجاة من كل من جاء بعدهم، وقد حدث أفاضلهم وخيارهم ما بين مكثر ومقل، ولم يكن المقل يعيب على المكثر إلا أن يرى بعضهم أن الإكثار جدًا خلاف الأولى، وهذا عمر الذي نسب إليه كراهية الإكثار قد جاءت عنه -مع تقدم وفاته- أكثر من خمسمائة حديث، وله في صحيح البخاري وحده ستون حديثًا، وقد نسب إليه الوهم كما نسب إلى غيره، فالحق الذي لا يرتاب فيه عاقل أنهم كانوا مأمورين بالتبليغ عند الحاجة، مأذونًا لهم أن يحدثوا مطلقًا، مع العلم بشدة حرمة الكذب في جميع الأحوال، فمعنى ذلك أن عليهم ولهم أن يحدثوا بما يعتقدون أنهم صادقون فيه، ومع العلم بأن أحدهم إذا حدث معتقدًا أنه صادق فقد يقع له خطأ، وإن من وقع له ذلك مع بذله وسعه في التحري والتحفظ فهو معذور، وهذا هو الذي تقتضيه القضايا العقلية والنصوص القرآنية، حتى لو فرض أنه لم يأت في الحديث
50
لفظ (متعمدًا) ولا ما يؤدي معناه، فإن الأدلة القطعية توجب أن يكون هذا مرادًا في المعنى.
ولا يتوهمن أحد أن كلمة "متعمدًا" تخرج من حدث جازمًا وهو شاك، كلا. فإن هذا متعمد بالإجماع، ولا نعلم أحدًا من الناس حتى من أهل الجهل والضلالة زعم أن كلمة "متعمدًا" تخرج هذا، وإنما وجد من أهل الجهل والضلال من تشبث بكلمة "عليَّ" فقال: نحن نكذب له لا عليه. فلو شكك أبو رية في كلمة "عليَّ" لكان أقرب.
وذكر أبو رية (ص38) حديث الزبير، ودونك تلخيص حاله: أشهر طرقه رواية شعبة عن جامع بن شداد عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن الزبير، رواه عن شعبة جماعة بدون كلمة (متعمدًا) ورواه معاذ بن معاذ -وهو من جبال الحفظ- فذكرها. فنظرنا في رواية غندر عن شعبة فإن غندرًا ضبط كتابه عن شعبة وعرضه عليه وحققه، قال
ابن المبارك: إذا اختلف الناس في حديث شعبة فكتاب غندر حكم بينهم. فوجدنا الإمام أحمد رواه في مسنده عن غندر عن شعبة وفيه الكلمة (متعمدًا). وكذلك رواه أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن بشار بندار عن غندر، ورواه ابن ماجه عنهما، لكن في الفتح أن الإسماعيلي أخرجه من طريق غندر بدونها. وفي الفتح أن الزبير بن بكار روى الخبر في كتاب النسب من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن
عبد الله بن الزبير بدونها، ولا أدري كيف سنده. وكذلك
أخرجه الدارمي بدونها من طريق أخرى عن ابن الزبير، في سندها عبد الله بن صالح كاتب الليث، وفيه كلام. وقد أخرجه أبو داود بسند صحيح عن عامر بن عبد الله بن الزبير بسنده وفيه الكلمة. وقال
المنذري في اختصاره لسنن أبي داود: (والمحفوظ في حديث الزبير أنه ليس فيه "متعمدًا"). نظر فيه العلامة أحمد محمد شاكر رحمه الله في تعليقه على المسند فذكر أن ابن سعد روى الخبر في طبقاته (3/1/ 74) عن عفان، ووهب بن جرير وأبي الوليد، ثلاثتهم عن شعبة. فذكر الحديث وفي آخره: قال وهب بن جرير في حديثه عن الزبير: «والله ما قال (متعمدًا) وأنتم تقولون (متعمدًا)». رأى أحمد شاكر أن هذا من قول وهب بن جرير لزملائه الذين رووا معه عن شعبة، يريد وهب: والله ما قال شعبة…إلخ: فنسبتها إلى الزبير وهم.