وفيما كتب [ إلي ] الحسن بن عبد الله أبو أحمد العسكري، قال: أخبرني محمد بن يحيى، قال: أخبرني عبد الله بن الحسين قال: قال لي البحتري: دعاني علي بن الجهم فمضيت إليه، فأفضنا في أشعار المحدثين، إلى أن ذكرنا شعر أشجع [ السلمي ]، فقال لي: إنه يُخلي، وأعادها مرات، ولم أفهمها، وأنفت أن أسأله عن معناها، فلما انصرفت أفكرت في الكلمة ونظرت في شعره، فإذا هو ربما مرت له الأبيات مغسولة ليس فيها بيت رائع، وإذا هو يريد هذا بعينه: أن يعمل الأبيات فلا يصيب فيها ببيت نادر، كما أن الرايى إذا رمى برشقة فلم يصب بشئ، قيل: قد أخلى. قال: وكان علي بن الجهم أحسن الناس علما بالشعر.
وقوم من أهل اللغة يميلون إلى الرصين من الكلام، الذي يجمع الغريب والمعاني، مثل أبي عمرو بن العلاء، وخلف الأحمر، والأصمعي.
ومنهم من يختار الوحشي من الشعر، كما اختار المفضل للمنصور من
المفضليات، وقيل: إنه اختار ذلك لميله إلى ذلك الفن.
وذكر الحسن بن عبد الله أنه أخبره بعض الكتاب عن علي بن العباس، قال: حضرت مع البحتري مجلس عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، وقد سأل البحتري عن أبي نواس ومسلم بن الوليد: أيهما أشعر؟ فقال البحتري: أبو نواس أشعر. فقال عبيد الله: إن أبا العباس ثعلبا لا يطابقك على قولك، ويفضل مسلما. فقال البحتري: ليس هذا من عمل ثعلب وذويه من المتعاطين لعلم الشعر دون عمله، إنما يعلم ذلك من دُفع في مسلك الشعر إلى مضايقه، وانتهى إلى ضروراته. فقال له عبيد الله: ورِيَتْ بك زنادي يا أبا عبادة، وقد وافق حكمك حكم أخيك بشار بن برد في جرير والفرزدق، [ فإن دعبلا حدثني عن أبي نواس، أنه حضر بشارا، وقد سئل عن جرير والفرزدق، و ] أيهما أشعر؟ فقال: جرير أشعرهما. فقيل له: بماذا؟ فقال: لأن جريرا يشتد إذا شاء، وليس كذلك الفرزدق، لأنه يشتد أبدا. فقيل له: فإن يونس وأبا عبيدة يفضلان الفرزدق على جرير. فقال: ليس هذا من عمل أولئك القوم، إنما يعرف الشعر من يضطر إلى أن يقول مثله، وفى الشعر ضروب لم يحسنها الفرزدق، ولقد ماتت النوار امرأته فناح عليها بقول جرير:
لولا الحياء لعادني استعبار * ولزرت قبرك والحبيب يزار
وروي عن أبي عبيدة أنه قال للفرزدق: ما لك لا تنسب كما ينسب جرير؟ فغاب حولا، ثم جاء فأنشد:
يا أختَ ناجية بن سامة إننى * أخشى عليك بَنيَّ إن طلبوا دمي
والأعدل في الاختيار ما سلكه أبو تمام من الجنس الذي جمعه في
كتاب الحماسة، وما اختاره من الوحشيات، وذلك أنه تنكبَ المستنكر الوحشي والمبتذل العامي، وأتى بالواسطة.
وهذه طريقة من ينصف في الاختيار، ولا يعدل به غرض يخص، لأن الذين اختاروا الغريب فإنما اختاروه لغرض لهم في تفسير ما يشتبه على غيرهم وإظهار التقدم في معرفته وعجز غيرهم عنه، ولم يكن قصدهم جيد الأشعار لشئ يرجع إليها في أنفسها.
ويبين هذا: أن الكلام الموضوع للإبانة عن الأغراض التي في النفوس وإذا كان كذلك وجب أن يتخير من اللفظ ما كان أقرب إلى الدلالة على المراد، وأوضح في الإبانة عن المعنى المطلوب، ولم يكن مستكره المطلع على الأذن، و [ لا ] مستنكر المورد على النفس، حتى يتأبى بغرابته في اللفظ عن الإفهام، أو يمتنع بتعويص معناه عن الإبانة. ويجب أن يتنكب ما كان عامى اللفظ، مبتذل العبارة، ركيك المعنى، سفسافى الوضع، مجتلب التأسيس على غير أصل ممهد، ولا طريق موطد.
وإنما فضلت العربية على غيرها، لاعتدالها في الوضع. لذلك وضع أصلها على أن أكثرها [ هو ] بالحروف المعتدلة، فقد أهملوا الألفاظ المستكرهة في نظمها وأسقطوها من كلامهم، وجعلوا عامة لسانهم على الأعدل. ولذلك صار أكثر كلامهم من الثلاثي، لأنهم بدءوا بحرف وسكتوا على آخر، وحعلوا حرفا وُصلةً بين الحرفين، ليتم الابتداء والانتهاء على ذلك. والثنائي أقل. وكذلك الرباعي والخماسي أقل، ولو كان ثنائيا لتكررت الحروف. ولو كان كله رباعيا أو خماسيا لكثرت الكلمات.
وكذلك بني أمر الحروف التي ابتدئ بها السور على هذا: فأكثر هذه السور التي ابتدئت بذكر الحروف، ذكر فيها ثلاثة أحرف. وما هو أربعة أحرف سورتان. وما ابتدئ بخمسة أحرف سورتان.
فأما ما بدئ بحرف واحد فقد اختلفوا فيه؛ فمنهم من لم يجعل ذلك حرفا، وإنما جعله فعلا واسما لشئ خاص. ومن جعل ذلك حرفا قال: أراد أن يحقق الحروف مفردها ومنظومها.
ولضيق ما سوى كلام العرب أو لخروجه عن الاعتدال، يتكرر في بعض الألسنة الحرف الواحد في الكلمة الواحدة والكلمات المختلفة كثيرا، كنحو تكرر الطاء والسين في لسان يونان، وكنحو الحروف الكثيرة التي هي اسم لشئ واحد في لسان الترك، ولذلك لا يمكن أن ينظم من الشعر في تلك الألسنة على الأعاريض التي تمكنُ في اللغة العربية.
والعربية أشدها تمكنا، وأشرفها تصرفا وأعدلها، ولذلك جعلت حلية لنظم القرآن، وعلق بها الإعجاز، وصار دلالة في النبوة.
http://upload.wikimedia.org/wikipedi...ts_ver.svg.png
وإذا كان الكلام إنما يفيد الإبانة عن الأغراض القائمة في النفوس التي لا يمكن التوصل إليها بأنفسها وهي محتاجة إلى ما يعبر عنها، فما كان أقرب في تصويرها وأظهر في كشفها للفهم الغائب عنها وكان مع ذلك أحكم في الإبانة عن المراد وأشد تحقيقا في الإيضاح عن المطلب وأعجب في وضعه وأرشق في تصرفه وأبرع في نظمه - كان أولى وأحق بأن يكون شريفا.
وقد شبهوا النطق بالخط، والخط يحتاج مع بيانه إلى رشاقة وصحة، [ وملاحة ] ولطف، حتى يحوز الفضيلة ويجمع الكمال.
وشبهوا الخط والنطق بالتصوير، وقد أجمعوا أن من أحذق المصورين من صور لك الباكي المتضاحك، والباكي الحزين، والضاحك المتباكي، والضاحك المستبشر. وكما أنه يحتاج إلى لطف يد في تصوير هذه الامثلة، فكذلك يحتاج إلى لطف في اللسان والطبع في تصوير ما في النفس للغير.
وفي جملة الكلام ما تقصر عبارته وتفضل معانيه. وفيه ما تقصر معانيه وتفضل العبارات. وفيه ما يقع كل واحد منهما وفقا للآخر. ثم ينقسم ما يقع وفقا إلى أنه قد يفيدها على [ جملة وقد يفيدها على ] تفصيل. وكل واحد منهما قد ينقسم إلى ما يفيدها على أن يكون كل واحد منهما بديعا شريفا، وغريبا لطيفا. وقد يكون كل واحد منهما مستجلبا متكلفا، ومصنوعا متعسفا، وقد يكون [ كل ] واحد منهما حسنا رشيقا، وبهيجا نضيرا. وقد يتفق أحد الأمرين دون الآخر. وقد يتفق أن يسلم الكلام والمعنى من غير رشاقة ولا نضارة في واحد منهما. [ و ] إنما يميز من يميز، ويعرف من يعرف. والحكم في ذلك صعب شديد، والفصل فيه شأو بعيد.
وقد قل من يميز أصناف الكلام، فقد حكى عن طبقة أبي عبيدة وخلف الاحمر وغيرهما في زمانهما، أنهم قالوا: ذهب من يعرف نقد الشعر.
وقد بينا قبل هذا اختلاف القوم في الاختيار، وما يجب أن يجمعوا عليه ويرجعوا عند التحقيق إليه، فكلام المقتدر نمط، وكلام المتوسط باب، وكلام المطبوع له طريق، وكلام المتكلف له منهاج، والكلام المصنوع المطبوع له باب.
ومتى تقدم الإنسان في هذه الصنعة، لم تخف عليه هذه الوجوه، ولم تشتبه عنده هذه الطرق: فهو يميز قدر كل متكلم بكلامه، وقدر كل كلام في نفسه، ويحله محله، ويعتقد فيه ما هو عليه، ويحكم فيه بما يستحق من الحكم.
وإن كان المتكلم يجود في شئ دون شئ، عرف ذلك منه. وإن كان يعم إحسانه، عرف.
ألا ترى أن منهم من يجود في المدح دون الهجو. ومنهم من يجود في الهجو وحده، ومنهم من يجود في المزح والسخف، ومنهم من يجود في الأوصاف.
والعالم لا يشذ عنه [ شئ من ذلك، ولا تخفى عليه ] مراتب هؤلاء، ولا تذهب عليه أقدارهم، حتى إنه إذا عرف طريقة شاعر في قصائد معدودة، فأُنشِد غيرها من شعره - لم يشك أن ذلك من نسجه، ولم يرتب في في أنها من نظمه، كما أنه إذا عرف خط رجل لم يشتبه عليه خطه حيث رآه من بين الخطوط المختلفة، وحتى يميز بين رسائل كاتب وبين رسائل غيره، وكذلك أمر الخطب.
فإن اشتبه عليه البغض، فهو لاشتباه الطريقين، وتماثل الصورتين، كما قد يشتبه شعر أبي تمام بشعر البحتري: في القليل الذي يترك أبو تمام فيه التصنع، ويقصد فيه التسهل، ويسلك الطريقة الكتابية، ويتوجه في تقريب الألفاظ وترك تعويض المعاني، ويتفق له مثل بهجة أشعار البحتري وألفاظه.
ولا يخفى على أحد يميز هذه الصنعة سَبْكُ أبي نواس [ من سبك مسلم ]، ولا نسجُ ابن الرومي من نسج البحتري؛ وينبهه ديباجة شعر البحتري وكثرة مائه وبديع رونقه وبهجة كلامه، إلا فيما يسترسل فيه، فيشتبه بشعر ابن الرومي؛ ويحركه ما لشعر أبي نواس من الحلاوة والرقة والرشاقة والسلاسة، حتى يفرق بينه وبين شعر مسلم.
وكذلك يميز بين شعر الأعشى في التصرف، وبين شعر امرئ القيس، وبين شعر النابغة وزهير، وبين شعر جرير والأخطل، والبعيث والفرزدق. وكل له منهج معروف، وطريق مألوف.
ولا يخفى عليه في زماننا الفصل بين رسائل عبد الحميد وطبقته وبين طبقة من بعده، حتى إنه لا يشتبه عليه ما بين رسائل ابن العميد وبين رسائل أهل عصره ومن بعده من برع في صنعة الرسائل وتقدم في شأوها، حتى جمع فيها بين طرق المتقدمين وطريقة المتأخرين، [ و ] حتى خلص لنفسه طريقة، وأنشأ لنفسه منهاجا، فسلك تارة طريقة الجاحظ وتارة طريقة السجع، وتارة طريقة الاصل، وبرع في ذلك باقتداره، وتقدم بحذقه؛ ولكنه لا يخفى مع ذلك على أهل الصنعة طريقه من طريق غيره، وإن كان قد يشتبه البعض، ويدق القليل، وتغمض الأطراف، وتشذ النواحي.
وقد يتقارب سبك نفر من شعراء عصر، وتتدانى رسائل كتاب دهر، حتى تشتبه اشتباها شديدا وتتماثل تماثلا قريبا، فيغمض الأصل.
وقد يتشاكل الفرع والأصل، وذلك فيما لا يتعذر دِراك أمَدِه، ولا يتصعب طِلابُ شأوه، ولا يمنع بلوغ غايته والوصول إلى نهايته، لأن الذي يتفق من الفصل بين أهل الزمان إذا تفاضلوا [ في سبق ] وتفاوتوا في مضمار، فصل قريب وأمر يسير.
وكذلك لا يخفى عليهم معرفة سارق الألفاظ و [ لا ] سارق المعاني، ولا من يخترعها، ولا من يلم بها، ولا من يجاهر بالأخذ ممن يكاتم به، ولا من يخترع الكلام اختراعا، ويبتدهه ابتداها، ممن يُروّي فيه، ويجيل الفكر في تنقيحه، ويصبر عليه، حتى يتخلص له ما يريد، وحتى يتكرر نظره فيه.
قال أبو عبيدة: سمعت أبا عمرو يقول: زهير والحُطيئة وأشباههما عبيد الشعر، لأنهم نقحوه، ولم يذهبوا فيه مذهب المطبوعين.
وكان زهير يسمي كبر شعره الحوليات المنقحة. وقال عدى ابن الرقاع:
وقصيدة قد بت أجمع بينها * حتى أقوم ميلها وسنادها
نظر المثقف في كعوب قناته * حتى يقيم ثقافة منادها
وكقول سويد بن كُراع: