وذكر عن ترك مولى إسحاق أنه قال: وقفت على باب البيت الذي فيه إيتاخ محبوس، فقال لي: يا ترك، قلت: ما تريد يا منصور؟ قال: أقرئ الأمير السلام، وقل له: قد علمت ما كان يأمرني به المعتصم والواثق في أمرك؛ فكنت أدفع عنك ما أمكنني؛ فلينفعني ذلك عندك؛ أما أنا فقد مر بي شدة ورخاء؛ فما أبالي ما أكلت وما شربت، وأما هذان الغلامان؛ فإنهما عاشا في نعمة ولم يعرفا البؤس، فصيّر لهما مرقة ولحمًا وشيئًا يأكلان منه. قال: ترك فوقفت على باب مجلس إسحاق، قال لي: مالك يا ترك؟ أتريد أن تتكلم بشيء؟ قلت: نعم، قال لي إيتاخ كذا، كذا، قال: وكانت وظيفة إيتاخ رغيفًا وكوزًا من ماء، ويأمر لابنيه بخوان فيه سبعة أرغفة وخمس غرف؛ فلم يزل ذلك قائمًا حياة إسحاق، ثم لا أدري ما صنع بهما؛ فأما إيتاخ فقيد وصيّر في عنقه ثمانون رطلًا، وقيدّ ثقيل، فمات يوم الأربعاء لخمس خلون من جمادى الآخرة سنة خمس وثلاثين ومائتين، وأشهد إسحاق على موته أبا الحسن إسحاق بن ثابت بن أبي عباد وصاحب بريد بغداد والقضاة، وأراهم إياه لا ضرب به ولا أثر.
وحدثني بعض شيوخنا أن إيتاخ كان موته بالعطش، وأنه أطعم فاستسقى فمنع الماء، حتى مات عطشًا، وبقي ابناه في الحبس حياة المتوكل، فلما أفضى الأمر إلى المنتصر أخرجهما؛ فأما مظفر فإنه لم يعش بعد أن أخرج من السجن إلا ثلاثة أشهر حتى مات؛ وأما منصور فعاش بعده.
ذكر خبر أسر ابن البعيث وموته
وفي هذه السنة قدم بغا الشرابي بابن البعيث في شوال وبخليفته أبي الأغر وبأخوي ابن البعيث صقر وخالد - وكانا نزلا بأمان - وبابن لابن البعيث، يقال له العلاء؛ خرج بأمان، وقدم من الأسرى بنحو من مائة وثمانين رجلًا، ومات باقيهم قبل أن يصلوا؛ فلما قربوا من سامرا حملوا على الجمال يستشرفهم الناس، فأمر المتوكل بحبسه وحبسهم، وأثقله حديدًا.
فذكر عن علي بن الجهم، أنه قال: أتى المتوكل بمحمد بن البعيث، فأمر بضرب عنقه، فطرح على نطع، وجاء السيافون فلوحوا له، فقال المتوكل، وغلظ عليه: ما دعاك يا محمد إلى ما صنعت؟ قال: الشقوة، وأنت الحبل الممدود بين الله وبين خلقه؛ وإن لي فيك لظنين أسبقهما إلى قلبي أولاهما بك؛ وهو العفو؛ ثم اندفع بلا فضل، فقال:
أبى الناس إلا أنك اليوم قاتلي ** إمام الهدى والصفح بالناس أجمل
هل أنا إلا جبلةٌ من خطيةٍ ** وعفوك من نور النبوة يجبل
فإنك خير السابقين إلا العلا ** ولا شك أن خير الفعالين تفعل
قال علي: ثم التفت إلى المتوكل، فقال: إن معه لأدبًا، وبادرت فقلت: بل يفعل أمير المؤمنين خيرهما ويمن عليك؛ فقال: ارجع إلى منزلك.
وحدثني** أنه أنشدني بالمراغة جماعة من أشياخها أشعارًا لابن البعيث بالفارسية، ويذكرون أدبه وشجاعته، وله أخبارًا وأحاديث.
وحدثني بعض من ذكر أنه شهد المتوكل حين أتى بابن البعيث، وكلمه ابن البعيث بما كلمه به، فتكلم فيه المعتز؛ وهو جالس مع أبيه المتوكل، فاستوهبه فوهب له، وعفي عنه.
وكان ابن البعيث حين هرب قال:
كم قد قضيت أمورًا كان أهملها ** غيري وقد أخذ الإفلاس بالكظم
لا تعذليني فيما ليس ينفعني ** إليك عني جرى المقدار بالقلم
سأتلف المال في عسرٍ وفي يسرٍ ** إن الجواد الذي يعطي على العدم
وكان ابن البعيث حين هرب خلّف في منزله ثلاثة بنين له، يقال لهم: البعيث وجعفر وحلبس، وجواري، فحبسوا ببغداد في قصر الذهب، فتكلم بغا الشرابي بعد موت ابن البعيث - ومات بعد دخوله سامرا بشهر - في أبي الأغر ختنه، فأطلق وأطلقت خالةٌ لابن البعيث، فخرجت من السجن، فماتت فرحًا من يومها، وبقي الباقون في الحبس.
وذكر أن ابن البعيث صيّر في عنقه مائة رطل، فلم يزل مكبوبًا على وجهه حتى مات.
ولما أخذ ابن البعيث أخرج من الحبس من كان محبوسًا بسبب كفالته به، وقد كان بعضهم مات في الحبس، فأخرج بعد باقي عياله وصيّر بنوه: حلبس والبعيث وجعفر في عداد الشاكرية مع عبيد الله بن خاقان، وأجريت عليهم الأنزال.
أمر المتوكل مع النصارى
وفي هذه السنة أمر المتوكل بأخذ النصارى وأهل الذمة كلهم بلبس الطيالسة العسلية والزنانير وركوب السروج بركب الخشب وبتصيير كرتين على مؤخر السروج، وبتصيير زرين على قلانس من لبس منهم قلنسوة مخالفة لون القلنسوة التي يلبسها المسلمون، وبتصيير رقعتين على ما ظهر من لباس مماليكهم مخالفٌ لونهما لون الثوب الظاهر الذي عليه؛ وأن تكون إحدى الرقعتين بين يديه عند صدره، والأخرى منهما خلف ظهره؛ وتكون كل واحدة من الرقعتين قدر أربع أصابع، ولونهما عسليًا، ومن لبس منهم عمامة فكذلك يكون لونها العسلي، ومن خرج من نسائهم فبرزت فلا تبرز إلا في إزار عسلي، وأمر بأخذ مماليكهم بلبس الزنانير وبمنعهم لبس المناطق، وأمر بهدم بيعهم المحدثة، وبأخذ العشر من منازلهم، وإن كان الموضع واسعًا صيّر مسجدًا، وإن كان لا يصلح أن يكون مسجدًا صيّر فضاء، وأمر أن يجعل على أبواب دورهم صور شياطين من خشب مسمورة؛ تفريقًا بين منازلهم وبين منازل المسلمين، ونهى أن يستعان بهم في الدواوين وأعمال السلطان التي يجري أحكامهم فيها على المسلمين، ونهى أن يتعلم أولادهم في كتاتيب المسلمين، ولا يعلمهم مسلم، ونهى أن يظهروا في شعانينهم صليبًا، وأن يشمعلوا في الطريق، وأمر بتسوية قبورهم مع الأرض، لئلا تشبه قبور المسلمين.
وكتب إلى عماله في الآفاق:
بسم الله الرحمن الرحيم؛ أما بعد؛ فإن الله تبارك وتعالى بعزته التي لا تحاول وقدرته على ما يريد؛ اصطفى الإسلام فرضيه لنفسه، وأكرم به ملائكته، وبعث به رسله، وأيد به أولياءه، وكنفه بالبر، وحاطه بالنصر، وحرسه من العاهة، وأظهره على الأديان، مبرءًا من الشبهات، معصومًا من الآفات، محبوًا بمناقب الخير، مخصوصًا من الشرائع بأطهرها وأفضلها، ومن الفرائض بأزكاها وأشرفها، ومن الأحكام بأعدلها وأقنعها، ومن الأعمال بأحسنها وأقصدها؛ وأكرم أهله بما أحل لهم من حلاله، وحرّم عليهم من حرامه؛ وبيّن لهم من شرائعه وأحكامه، وحدّ لهم من حدوده ومناهجه، وأعد لهم من سعة جزائه وثوابه، فقال في كتابه فيما أمر به ونهى عنه، وفيما حض عليه فيه ووعظ: " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون "، وقال فيما حرم على أهله مما غمط فيه أهل الأديان من ردىء المطعم والمشرب والمنكح ليزههم عنه وليظهر به دينهم، ليفضلهم عليهم تفضيلًا: " حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة.. " إلى آخر الآية، ثم ختم ما حرّم عليهم من ذلك في هذه الآية بحراسة دينه؛ ممن عند عنه وبإتمام نعمته على أهله الذين اصطفاهم، فقال عز وجل: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم.. " الآية، وقال عز وجل: " حرّمت عليكم أمهاتكم وبناتكم.. " وقال: " إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان.. " الآية، فحرّم على المسلمين من مآكل أهل الأديان أرجسها وأنجسها، ومن شرابهم أدعاه إلى العداوة والبغضاء، وأصده عن ذكر الله وعن الصلاة، ومن مناكحهم أعظمها عنده وزرًا، وأولاها عند ذوي الحجمى والألباب تحريمًا، ثم حباهم محاسن الأخلاق وفضائل الكرامات؛ فحعلهم أهل الإيمان والأمانة، والفضل والتراحم واليقين والصدق؛ ولم يجعل في دينهم التقاطع والتدابر، ولا الحمية ولا التكبر، ولا الخيانة ولا الغدر، ولا التباغي ولا التظالم؛ بل أمر بالأولى ونهى عن الأخرى، ووعد وأوعد عليها جنته وناره، وثوابه وعقابه؛ فالمسلمون بما اختصهم الله من كرامته، وجعل لهم من الفضيلة بدينهم الذي اختاره لهم، بائنون على الأديان بشرائعهم الزاكية، وأحكامهم المرضية الطاهرة، وبراهينهم المنيرة، وبتطهير الله دينهم بما أحل وحرّم فيه لهم وعليهم، قضاء من الله عز وجل في إعزاز دينه؛ حتمًا ومشيئةً منه في إظهار حقه ماضية، وإرادةً منه في إتمام نعمته على أهله نافذة " ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة "، وليجعل الله الفوز والعاقبة للمتقين، والخزي في الدنيا والآخرة على الكافرين.
وقد رأى أمير المؤمنين - وبالله توفيقه وإرشاده - أن يحمل أهل الذمة جميعًا بحضرته وفي نواحي أعماله؛ أقربها وأبعدها، وأخصهم وأخسهم على تصيير طيالستهم التي يلبسونها؛ من لبسها من تجارهم وكتابهم، وكبيرهم وصغيرهم، على ألوان الثياب العسلية، لا يتجاوز ذلك منهم متجاوز إلى غيره، ومن قصر عن هذه الطبقة من أتباعهم وأرذالهم، ومن يقعد به حاله عن لبس الطيالسة منهم أخذ بتركيب خرقتين صبغهما ذلك الصبغ يكون استدارة كل واحدة منهما شبرًا تامًا في مثله، على موضع أمام ثوبه الذي يلبسه، تلقاء صدره، ومن وراء ظهره، وأن يؤخذ الجميع منهم في قلانسهم بتركيب أزرة عليها تخالف ألوانها ألوان القلانس؛ ترتفع في أماكنها التي يقع بها، لئلا تلصق فتستسر ولا ما يركب منها على حباك فتخفى؛ وكذلك في سروجهم باتخاذ ركب خشب لها، ونصب أكرٍ على قرابيسها؛ تكون ناتئة عنها، وموفية عليها، لا يرخّص لهم في إزالتها عن قرابيسهم، وتأخيرها إلى جوانبها؛ بل يتفقد ذلك منهم؛ ليقع ما وقع من الذي أمر أمير المؤمنين بحملهم عليه ظاهرًا يتبينه الناظر من غير تأمل، وتأخذه الأعين من غير طلب، وأن تؤخذ عبيدهم وإماؤهم، ومن يلبس المناطق من تلك الطبقة بشد الزنانير والكساتيج مكان المناطق التي كانت في أوساطهم، وأن توعز إلى عمالك فيما أمر به أمير المؤمين في ذلك إيعازًا تحدوهم به إلى استقصاء ما تقدم إليهم فيه، وتحذرهم إدهانًا وميلًا، وتتقدم إليهم في إنزال العقوبة بمن خالف ذلك من جميع أهل الذمة عن سبيل عناد وتهوين إلى غيره؛ ليقتصر الجميع منهم على طبقاتهم وأصنافهم على السبيل التي أمر أمير المؤمنين بحملهم عليها، وأخذهم بها إن شاء الله.
فاعلم ذلك من رأى أمير المؤمنين وأمره، وأنفذ إلى عمالك في نواحي عملك ما ورد عليك من كتاب أمير المؤمنين بما تعمل به إن شاء الله؛ وأمير المؤمنين يسأل الله ربه ووليه أن يصلي على محمد عبده ورسوله
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png وملائكته، وأن يحفظه فيما استخلفه عليه من أمر دينه، ويتولى ما ولاه مما لا يبلغ حقه فيه إلا بعونه؛ حفظًا يحمل به ما حمله، وولاية يقضي بها حقه منه ويوجب بها له أكمل ثوابه، وأفضل مزيده؛ إنه كريم رحيم.
وكتب إبراهيم بن العباس في شوال سنة خمس وثلاثين ومائتين.