-
خطب يزيد بن الوليد الناس بعد قتل الوليد فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه:
« أيّها الناس إني والله ما خرجت أشرا ولا بطرا ولا حرصا على الدنيا ولا رغبة في الملك وما بي إطراء لنفسي. إني لظلوم لنفسي إن لم يرحمني ربّى ولكني خرجت غضبا لله ورسوله ودينه، وداعيا إلى الله وكتابه وسنّة نبيه لمّا هدمت معالم الهدى وأطفئ نور أهل التقوى وظهر الجبّار العنيد المستحلّ لكلّ حرمة والراكب كلّ بدعة مع أنّه والله ما كان يصدّق بالكتاب، ولا يؤمن بيوم الحساب وأنّه لابن عمّى في النسب وكفئى في الحسب.
فلمّا رأيت ذلك استخرت الله في أمره وسألته ألّا يكلني إلى نفسي ودعوت إلى ذلك من أجابنى من أهل ولايتي وسعيت فيه حتى أراح الله منه العباد والبلاد بحول الله وقوّته لا بحولي وقوّتى.
« أيّها الناس إنّ لكم عليّ ألّا أضع حجرا على حجر ولا لبنة على لبنة، ولا أكرى نهرا، ولا أكنز مالا ولا أعطيه زوجة ولا ولدا، ولا أنقل مالا من بلد حتى أسدّ ثغر ذلك البلد، وخصاصة أهله بما يغنيهم فإن فضل فضل نقلته إلى البلد الذي يليه ممّن هو أحوج إليه ولا أجمركم على ثغوركم فأفتنكم وأفتن عليكم أهليكم ولا أغلق بابى دونكم، فيأكل قوّيكم ضعيفكم، ولا أحمل على أهل جزيتكم ما يجليهم عن بلادهم ويقطع نسلهم، وإنّ لكم أعطياتكم عندي في كل سنة وأرزاقكم في كل شهر، حتى تستدرّ المعيشة بين المسلمين فيكون أقصاهم كأدناهم. فإن أنا وفيت لكم بما قلت فعليكم السمع والطاعة وحسن المؤازرة وإن أنا لم أف لكم أن تخلعونى إلّا أن تستتيبونى فإن تبت قبلتم مني وإن علمتم أحدا ممّن يعرف بالصلاح يعطيكم من نفسه مثل ما أعطيكم فأردتم أن تبايعوه فأنا أوّل من يبايعه ويدخل في طاعته » « أيّها الناس، إنّه لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق ولا وفاء له بنقض عهد. إنّما الطاعة طاعة الله فمن أطاع فأطيعوه بطاعة الله ما أطاع، فإذا عصى الله ودعا إلى معصيته، فهو أهل أن يعصى ويقتل. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. » ثم دعا إلى تجديد البيعة له فكان أوّل من بايعه الأفقم يزيد بن هشام وبايعه قيس بن هانئ فقال:
« يا أمير المؤمنين، اتّق الله ودم على ما أنت عليه فما قام مقامك أحد من أهل بيتك، وإن قالوا: عمر بن عبد العزيز، فأنت أخذتها بحبل صالح وإنّ عمر أخذها بحبل سوء. » فلمّا بلغ قوله مروان بن محمّد قال:
« ما له قاتله الله ذمّنا جميعا وذمّ عمر وحقدها. »
فلمّا ولى بعث رجلا وقال له:
« إذا دخلت مسجد دمشق فانظر قيس بن هانئ فإنّه طالما صلّى فيه فاقتله. » « فانطلق الرجل، فدخل المسجد، فرأى قيسا يصلّى، فقتله.
عزل يزيد يوسف بن عمر عن العراق وتولية منصور بن جمهور
وفي هذه السنة عزل يزيد بن الوليد يوسف بن عمر عن العراق وولّاها منصور بن جمهور. ولمّا استوسق أهل الشام ليزيد بن الوليد على الطاعة عزل يوسف عن العراق وولّاها منصور بن جمهور، فسار وهو سابع سبعة. فبلغ خبره يوسف بن عمر، فهرب وقدم منصور بن جمهور الحيرة في رجب، وكان منصور أعرابيّا جافيا غيلانيّ الرأي وإنّما صار مع يزيد لرأيه في الغيلانيّة وحميه لقتل يوسف خالدا فلمّا ولّاه يزيد، وصّاه وقال:
« اتق الله وسر وأنت تستشعر التقوى، وأعلم إني إنّما قتلت الوليد لفسقه ولما أظهر من الجور، فلا تركب مثل ما قتلناه عليه. » فلمّا صار بالحيرة، كتب إلى سليمان بن سليم بن كيسان:
« أمّا بعد، فإن الله لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ الله بِقَوْمٍ سُوْءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ. وإنّ الوليد بدّل نعمة الله كفرا، فسفك الله دمه وعجّله إلى النار وولّى خلافته من هو خير منه وأحسن هديا وقد بايعه الناس. وولّى على العراق الحارث بن العبّاس بن الوليد وجّهنى العبّاس لأخذ يوسف وعمّاله، وقد نزل الأبيض وهو ورائي. فخذ يوسف وعمّاله ولا يفوتنّك منهم أحد فاحبسهم قبلك، وإيّاك أن تخالف فيحلّ بك وبأهل بيتك ما لا قبل لك ولهم به. فاختر لنفسك أو دع. » فلمّا ورد الكتاب على سليمان بن سليم مع كتب كتبها إلى جماعة من قوّاد الشام، أوصلت الكتب كلّها سليمان بن سليم وسئل أن يفرّقها في الجند.
فدخل سليمان على يوسف بن عمر، وأقرأه كتاب منصور إليه، فبعل به وقال:
« ما الرأي؟ » فقال:
« ليس لك إمام تقاتل معه ولا تقاتل أهل الشام، الحارث بن العبّاس معك، ولا آمن من منصور إن قدر عليك لما في نفسه من أجل خالد، وما الرأي إلّا أن تلحق بشامك. » قال:
« هو رأيي. فكيف الحيلة؟ » قال:
« تظهر الطاعة ليزيد، وتدعو له في خطبتك، فإذا قرب منصور بن جمهور وجّهت معك من أثق به. »
ففعل. فلمّا نزل منصور بحيث يصبّح البلد، خرج يوسف إلى منزل سليمان فأقام أيّاما ثم وجّه معه من أخذ به طريق السماوة حتى صار إلى البلقاء. وكان يوسف وجّه رجلا من بنى كلاب في خمسمائة وقال لهم:
« إن مرّ بكم يزيد بن الوليد نفسه فلا تدعنّه يجوز. » فأتاهم منصور بن جمهور في سبعة فلم يهيجّوه فانتزع سلاحهم منهم وأدخلهم الكوفة.
ولمّا بلغ يوسف البلقاء رفع خبره إلى يزيد بن الوليد فوجّه قائدا في خمسين رجلا وقال له:
« ائتني بيوسف. » فأتى البلقاء وطلبه في منزله فلم يجده ورأى ابنا فرهّبه. فقال:
« أنا أدلّك عليه. » وذهب به إلى مزرعة فوجدوه في ثياب النساء جالسا مع نسوة، فألقين عليه قطيفة خزّ، وجلسن على حواشيها حاسرات، فجرّوا برجله وأقبلوا به إلى يزيد، فلقيه عامل ليزيد على نوبة من نوائب الحرس، فأخذ بلحيته وهزّها ونتف بعضها - وكان من أعظم الناس لحية وأصغرهم قامة - فلمّا دخل على يزيد قبض على لحيته وكانت حينئذ تجوز سرّته وجعل يقول:
« نتف والله يا أمير المؤمنين لحيتي فما بقّى فيها شعرة. » فأمر يزيد بحبسه في الخضراء، فدخل عليه محمّد بن راشد فقال له:
« أما تخاف أن يطلع عليك بعض من قد وترت فيلقى عليك حجرا فيقتلك؟ » قال:
« لا والله ما فطنت لهذا فنشدتك الله إلّا كلّمت أمير المؤمنين في تحويلي إلى محبس غير هذا وإن كان أضيق منه. » « ما غاب عنك من حمقه أكثر، وما حبسته إلّا لأردّه إلى العراق فيقام للناس وتؤخذ منه المظالم من ماله ودمه. » فأخبرت يزيد. فقال وأمّا منصور بن جمهور فإنّه فتح الخزائن وفرّق في الناس استحقاتهم وأحسن إلى جميعهم.
امتناع نصر بن سيار لعامل منصور بن جمهور
وفي هذه السنة امتنع نصر بن سيّار بخراسان لعامل منصور بن جمهور وكان يزيد بن الوليد قد ولّاها منصورا مع العراق.
ذكر الخبر عن ذلك
كنّا ذكرنا ما أعدّه نصر من الهدايا وشخوصه متوجّها إلى يوسف بن عمر بالعراق وتباطئه في سفره حتى ورد عليه الخبر بقتل الوليد. فحكى بشير بن نافع وكان على سكك العراق قال: لمّا أقبل منصور بن جمهور أميرا على العراق هرب يوسف بن عمر، فوجّه منصور أخاه منظور بن جمهور على الريّ، فأقبلت مع منظور إلى الريّ وقلت: اقدم على نصر فأخبره. لمّا وردت على نصر وأخبرته كان الخبر عنده، فأمر حميدا مولاه أن يحملني إلى عنده، وأكرمنى وأمر لي بجارية. ثم دخل إلى نصر قوم فيهم يونس بن عبد الله وعبيد الله بن هشام وسلم بن أحوز، فأرسل إليّ وقال: أخبرهم.
فلمّا أخبرتهم كذّبونى فقلت: أستوثق من هولاء. فلمّا مضت ثلاث وكّل بي ثمانين رجلا من الحرس، فأبطأ الخبر إلى الليلة التاسعة، ثم جاءهم الخبر ليلة النيروز على ما وصفت، فصرف عامّة تلك الهدايا إلى أربابها وأعتق الرقيق وقسّم روقة الجواري في ولده وخاصّته، وقسّم تلك الأوانى في الناس ووجّه العمّال وأمرهم بحسن السيرة.
وأرجفت الأزد بخراسان أن منظور بن جمهور قادم خراسان. فخطب نصر وقال في خطبته:
« إن جاءنا أمير ظنين قطعنا يديه ورجليه. » ثم باح به بعد وقال:
عدوّ الله المخذول المتبور. » وولّى نصر ربيعة واليمن وولّى كلّ من ظنّ عنده خيرا وأمرهم بحسن السيرة ودعا الناس إلى البيعة وكان نصر وليّ عبد الملك بن عبد الله السلمى خوارزم فخطبهم وقال في خطبته:
« والله ما أنا بالأعرابيّ الجلف، ولا القرويّ المستنبط، ولقد كدمتنى الأمور وكدمتها. أما والله لأضعنّ السيف موضعه، والسوط مضربه، والسجن مدخله. ثم لتجدنّى غشمشما أعشبى الشجر ولتستقيمنّ لي على الطريقة رقص البكارة في السّنن الأعظم، ولأصكّنّكم صكّ القطاميّ القطا القارب. »
وقوع اختلاف بخراسان
وفي هذه السنة وقع الاختلاف بخراسان بين اليمانية والنزارية.
وأظهر فيها الكرمانيّ الخلاف لنصر بن سيّار واجتمع مع كلّ واحد منهما جماعة لنصرته.
وفيها أظهر مروان بن محمّد الخلاف وكتب إلى الغمر بن يزيد أخي الوليد بن يزيد كتابا بليغا يأمره بالطلب بدم أخيه الوليد.
تولية عبد الله بن عمر العراق
وفيها عزل يزيد منصور بن جمهور عن العراق وولّاها عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بن مروان. وكان عبد الله بن عمر هذا متألّها فدعاه يزيد بن الوليد وقال:
« إنّ أهل العراق يميلون إلى أبيك فسر إليها فقد ولّيتكها. » فلمّا شخص قدّم بين يديه رسلا وكتب إلى قوّاد الشام الّذين بالعراق، وخاف إلّا يسلّم منصور بن جمهور العمل، فانقاد له الكلّ، وسلّم منصور بن جمهور، وانصرف إلى الشام وفرّق عبد الله بن عمر عمّاله وأعطى الناس أرزاقهم وأعطياتهم. وكتب إلى نصر بعهده على خراسان. وكان المنجّمون ذكروا لنصر أنّ خراسان ستكون بها فتنة. فأمر نصر برفع حاصل بيت المال، وأعطى الناس بعض أعطياتهم ورقا وذهبا من الآنية التي كان اتّخذها للوليد بن يزيد.
وكان أوّل من تكلّم رجل من كندة أفوه طوال فقال:
« العطاء، العطاء. » فلمّا كانت الجمعة، أمر نصر رجلا من الحرس، فلبسوا السلاح، وفرّقهم في المسجد مخافة أن يتكلّم متكلّم، فقام الكنديّ فقال:
« العطاء، العطاء. » وقام مولى للأزد يلقّب أبا الشياطين فتكلّم، وقام آخرون فقالوا:
« العطاء، العطاء. » فقال نصر:
« عليكم بالطاعة والجماعة، اتّقوا الله واسمعوا ما توعظون. » فصعد سلم بن أحوز وهو على المنبر فكلّمه فقالوا:
« ما يغنى كلامك هذا شيئا. » ووثب أهل السوق إلى أسواقهم، فغضب نصر وقال:
« إيّاى والعصبيّة ما لكم عندي عطاء بعد يومكم هذا. » ثم قال:
-
« كأنّى بالرجل منكم قد قام إلى أخيه وابن عمّه، فلطم وجهه في حمل يهدى له، وثوب يكساه، ويقول مولاي وظئرى فأذلّوا هذه السفلة، وكأنّى بهم قد نبغ الشر من تحت أرجلهم. وكأنّى بكم مطرّحين في الأسواق كالجزر المنحورة، إنّه لم تطل ولاية رجل قطّ إلّا ملّوه. وأنتم يا أهل خراسان مسلحة في نحر العدوّ، فإيّاكم أن يختلف فيكم سيفان. » فقال الكرماني:
« أنتم في فتنة، فانظروا لأموركم رجلا. » وإنّما سمّى الكرمانيّ لأنّه ولد بكرمان واسمه جديع بن عليّ بن شبيب المعنيّ. فقالوا: « أنت لنا. » فاجتمعت المضريّة إلى نصر وقالوا له:
« إنّ الكرمانيّ يفسد الناس عليك، فأرسل إليه فاقتله أو فاحبسه. » فقال: « لا، ولكنّ لي ولدا ذكورا وإناثا، وله ولد فأزوّج بنيّ ببناته، وبنيه ببناتى. » قالوا: « ليس ينفع ذلك شيئا. » « فابعث إليه بمائة ألف فإنّه بخيل ولا يعطى أصحابه شيئا ويعلمون بها فيتفرّقون عنه. » قالوا: « لا، هذه تصير قوّة له. » قال: « فدعوه على حاله يتّقينا ونتّقيه. »
قالوا: « لا. » وبلغ نصر بأنّ الكرمانيّ يقول: كانت غايتي في طاعة بنى مروان أن يتقلّد ولدي السيوف فأطلب بثأر بنى المهلّب معما لقينا من نصر وجفائه وطول حرمانه ومكافأته إيّانا بما كان من صنيع أسد إليه.
فقال عصمة بن عبد الله الأسدى لنصر:
« إنّها بدئ فتنة، فتجنّ عليه، واحبسه، وأظهر أنّه مخالف، ثم اضرب عنقه، وعنق سباع بن النعمان الأزدي، والفرافصة بن ظهير البكريّ، فانّه لم يزل غضبان على الله، عز وجل، بتفضيله مضر على ربيعة. » وكثر على نصر الكلام في أمر الكرمانيّ، حتى قال له أصرم بن قبيصة:
لو أنّ جديعا لم يقدر على السلطان والملك إلّا بالنصرانيّة واليهوديّة، لتنصّر أو لتهوّد. » وكان نصر والكرماني متصافين وكان الكرماني أحسن إلى نصر في ولاية أسد بن عبد الله، فلمّا ولى نصر خراسان عزل الكرماني عن الرئاسة، وصيّرها لحرب بن عامر الواشجى. ثم مات حرب، فأعاد الكرمانيّ عليها، ولم يلبث إلّا يسيرا حتى عزله وصيّرها لجميل بن النعمان، فتباعد ما بين نصر والكرمانيّ، فحبس نصر الكرمانيّ في القهندز، وكان على القهندز مقاتل بن عليّ المرّى ولمّا همّ نصر بحبس الكرمانيّ تكلّم قوم فخاف نصر الفتنة لأنّ الأزد تعصّب له فقال نصر:
« أحلف بالله أنّى أحبسه ثم لا ينداه مني مكروه فإن خشيتم عليه فاختاروا رجلا يكون معه. » فاختاروا يزيد النحوي وكان معه في القهندز وصيّر حرسه بنى ناجية.
فبيناهم كذلك إذا جاءهم رجل من أهل نسف فقال لغلام الكرمانيّ، يقال له جعفر:
« ما تجعلون لي إن أنا أخرجته؟ » قالوا:
« لك ما سألت ».
فأتى مجرى الماء في القهندز، فدخله ووسّعه، وأتى ولد الكرماني وقال لهم:
« أكتبوا إلى أبيكم يستعدّ للخروج الليلة. » فكتبوا إليه وأدخلوا الكتاب مع الطعام فدعا الكرمانيّ يزيد النحويّ وحصين بن حكيم، فتعشّيا معه وخرجا. ودخل الكرمانيّ السرب، وأخذوا بضبعه فيقال: إنّه انطوت على بطنه حيّة فلم تضرّه، وانتهى إلى موضع ضيق فسحبوه فسحج منكبه وجنبه، ثم خرج.
وكان الكرمانيّ أرسل إلى محمّد بن المثنّى وعبد الملك بن حرملة: « إني خارج الليلة فاجتمعوا بعلطان. » « فتوافوا على باب الرّيان بن سنان اليحمدي بنوس في المرج، وكان مصلّاهم في العيد، وخرج إليهم الناس من قراهم، فصلى بهم الغداة وهم زهاء ألف رجل. فما ترجّلت الشمس حتى صاروا ثلاثة آلاف، فسار وأتاهم أهل السقاذم فأتوا حوزان.
وكان الأزد اجتمعوا إلى عبد الملك بن حرملة فبايعوه على الكتاب والسنة قبل خروج الكرمانيّ بليلة. فلمّا اجتمعوا في مرج نوس أقيمت الصلاة فاختلف عبد الملك والكرمانيّ في التقدّم ساعة، ثم قدّمه عبد الملك وصيّر الأمر له، فصلّى بهم الكرمانيّ.
ولمّا أتى نصرا هرب الكرمانيّ استخلف عصمة بن عبد الله الأسدى، وخرج إلى القناطر الخمس بباب مرو الرود وخطب الناس، فنال من الكرمانيّ، وذكره بالقبيح، ثم ذكر الأزد فقال:
« إن يستوسقوا فأذلّ قوم وإن يأبوا فهم كما قال الأخطل:
ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت ** فدلّ عليها صوتها حيّة البحر. »
ثم ندم على ما فرط منه فقال:
« اذكروا الله فإنّ ذكر الله شفا، ذكر الله خير لا شرّ فيه، ذكر الله براءة من النفاق. » واجتمع إلى نصر بشر كثير فوجّه سلم بن أحوز إلى الكرمانيّ في المجفّفة وهم خلق كثير فسفر الناس بين نصر والكرمانيّ وسألوا نصرا أن يؤمنه ولا يحبسه. وضمن قومه ألّا يخالفه وأتاه القاسم بن بخيت فكلّمه فيه فآمنه وقال له:
« إنّ شئت خرج لك عن خراسان وإن شئت أقام في داره. » وكان رأى نصر إخراجه فقال له سلم:
« إن أخرجته نوّهت باسمه وقال الناس: أخرجه إنّه هابه. » فقال نصر:
« إنّ الذي أتخوّفه منه إذا خرج أيسر ممّا أتخوّفه منه إذا أقام والرجل إذا نفى عن بلده صغر أمره. » فأبوا عليه، فكفّ عنه وأعطى من كان معه عشرة عشرة.
وأتى الكرمانيّ نصرا، فدخل سرادقه فآمنه ولحق عبد العزيز بن عبد ربّه بالحارث بن سريج وهو بالترك. وأتى نصرا عزل منصور بن جمهور وولاية عبد الله بن عمر بن عبد العزيز. فخطب الناس وذكر ابن جمهور بسوء وقال:
« قد علمت أنّه لم يكن من عمّال العراق وقد عزله الله واستعمل الطّيب بن الطيّب. » فغضب الكرمانيّ لابن جمهور فعاد في جمع الرجال واتخاذ السلاح، وكان يحضر الجمعة في ألف وخمسمائة وأكثر وأقلّ، فيصلّى خارجا من المقصورة ثم يدخل على نصر، فيسلّم عليه ولا يجلس. ثم ترك إتيان نصر وأظهر الخلاف. فأرسل إليه نصر سلم بن أحوز وقال:
« إني والله ما أردت بك في حبسك سوءا، ولكني خفت أن تفسد أمر الناس فأتنى. » فقال الكرمانيّ لسلم:
« لو لا أنّك في منزلي لقتلتك، ولو لا ما أعرف من حمقك لأحسنت أدبك.
فارجع إلى ابن الأقطع فأعلمه ما شئت من خير وشر. » فرجع إلى نصر فأخبره. قال:
« عد إليه. » قال:
« لا وما بي هيبة له، ولكن [ أكره ] أن يسمعني فيك ما أكره. » فبعث إليه عصمة بن عبد الله الأسديّ فقال:
« يا با عليّ، إني أخاف عليك خصالا فانطلق إلى أميرك يعرضها عليك وما يريد بذلك إلّا الإعذار إليك. » فقال الكرمانيّ:
« إني أعلم أنّ نصرا لم يقل هذا لك ولكنّك أردت أن يبلغه فتحظى، والله لا أكلّمك كلمة بعد انقضاء كلامي حتى ترجع إلى أميرك فيرسل من أحبّ غيرك. » فرجع عصمة فقال:
« ما رأيت علجا أعدى لطوره من الكرمانيّ، وما أعجب منه ولكني أعجب من يحيى بن حصين وأصحابه لعنهم الله والله لهم أشدّ تعظيما له من أصحابه. » فقال سلم بن أحوز لنصر:
« إني أخاف فساد هذا الثغر والناس. » فأرسل إليه قديدا فقال نصر لقديد بن منيع:
« انطلق إليه. » فأتاه فقال:
« يا با عليّ قد لحجت وأخاف أن يتفاقم الأمر فنهلك جميعا وتشمت بنا هذه الأعاجم. » قال:
« يا قديد، إني لا أتّهمك، وقد جاء من لا أثق معه بنصر. وقد قال رسول الله http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png: البكريّ أخوك ولا تثق به. » قال:
« أما وقد وقع هذا في نفسك فأعطه رهنا. » قال:
« أعطيه عليّا وعثمان فمن يعطيني ولا خير فيه؟ » فقال:
« يا با عليّ نشدتك الله أن يكون خراب هذه البلدة على يديك. » ورجع إلى نصر. فقال نصر لعقيل بن معقل الليثي:
« ما أخوفنى أن يقع بهذا الثغر بلاء فكلّم ابن عمّك. » فقال عقيل لنصر:
« أيّها الأمير. أنشدك الله أن تشأم عشيرتك. إنّ مروان بالشام تقاتله الخوارج والناس في فتنة، والأزد أخفّاء سفهاء، وهم جيرانك. » قال:
« فما أصنع إن علمت أمرا يصلح الناس فدونك وقد زعم أنّه لا يثق بي. » قال: فأتى عقيل الكرمانيّ فقال:
« يا با عليّ قد سننت للسفهاء سنّة تطلب بعدك من الأمراء. إني أرى أمرا أخاف أن تذهب فيه العقول. » قال الكرمانيّ:
« إنّ نصرا يريد أن آتيه ولا آمنه، وأريد أن يعتزل ونعتزل، ونختار رجلا من بكر بن وائل نرضاه جميعا، فيلي أمرنا حتى يأتى أمر الخليفة وهو يأبى هذا. » قال:
« يا با عليّ إني أخاف أن يهلك أهل هذا الثغر فأت أميرك وقل ما شئت تجب إليه ولا تطمع سفهاء قومك فيما دخلوا فيه. » فقال الكرمانيّ:
« إني لا أتّهمك في نصيحة ولا عقل ولكني لا أثق بنصر، فليحمل من المال ما شاء وليشخص. » قال:
« فهل لك في أمر يجمع الأمر بينكما، تتزوّج إليه ويتزوّج إليك؟. » قال:
« لا آمنه على حال. » قال:
-
« ما بعد هذا خير وإني لخائف أن يهلك غدا بمضبعة. » قال:
« لا حول ولا قوّة إلّا بالله. » فقال له عقيل:
« أعود إليك؟ » قال:
« لا ولكن أبلغه عني وقل له لا آمن أن يحملك قوم من أمري على غير ما تريد فتركب منّا ما لا بقيّة بعده. فإن شئت خرجت عنك لا من هيبة لك ولكن أكره أن أشأم أهل هذه البلدة وأسفك الدماء. » وتهيّأ ليخرج إلى جرجان.
وفي هذه السنة آمن يزيد بن الوليد الحراث بن سريج وكتب له بذلك وكتب إلى عبد الله بن عمر يأمره بردّ ما كان أخذ منه من ماله وولده.
ذكر السبب في ذلك
إنّ الفتنة لمّا وقعت بخراسان بين نصر والكرمانيّ خاف نصر قدوم الحارث بن سريج عليه بأصحابه والترك فيكون أمره أشدّ عليه من الكرمانيّ وغيره وطمع أن يناصحه فأرسل إليه مقاتل بن حيّان النبطي وثعلبة بن صفوان البنانيّ وجماعة ليردّه من بلاد الترك. وقيل: إنّ قوما خرجوا إلى يزيد بن الوليد فطلبوا منه أمانا للحارث بن سريج فكتب له أمانا ولمن معه وأمر نصرا بردّ ما كان أخذ له ولأصحابه. ثم نفذ القوم إلى الحارث فلقوا مقاتل بن حيّان وأصحابه الذين وجّههم نصر إلى الحارث وأقبل الحارث يريد مرو وكان مقامه بأرض الترك اثنتى عشرة سنة.
فيقال: إنّ نصرا كتب إلى الحراث من غير إذن الخليفة فكتب إليه ابن عمر:
« إنّك آمنت الحارث بغير إذنى ولا إذن الخليفة. » فسقط في يديه فبعث يزيد بن الأحمر وأمره أن يفتك بالحارث إذا صار معه في السفينة.
وفي هذه السنة وجّه إبراهيم بن محمّد الإمام أبا هاشم بكير بن ماهان إلى خراسان وبعث معه بالسيرة والوصيّة فقدم بمرو وجمع النقباء ومن بها من الدعاة. فنعى إليهم الإمام محمّد بن عليّ، ودعاهم إلى إبراهيم، فقبلوه ودفعوا إليه ما اجتمع عندهم من نفقات الشيعة.
ولاية عهد إبراهيم الوليد
وفي هذه السنة أخذ يزيد بن الوليد البيعة لأخيه إبراهيم بن الوليد وجعله ولّى عهده ولعبد العزيز بن الحجّاج بن عبد الملك من بعد إبراهيم بن الوليد.
ذكر السبب في ذلك
كان سبب ذلك أنّ يزيد مرض فاجتمع إليه القدريّة وكان يرى رأيهم وأشاروا عليه بذلك وقالوا:
« لا يحلّ لك أن تهمل أمر الأمة فبايع لأخيك. » حتى بايع لإبراهيم وعبد العزيز من بعده.
وفي هذه السنة أظهر مروان بن محمّد بن مروان الخلاف على يزيد بن الوليد وانصرف من أرمينية إلى الجزيرة مظهرا أنّه طالب بدم الوليد بن يزيد.
فلمّا صار بحرّان بايع ليزيد.
ذكر السبب في خلاف مروان ثم دخوله في الطاعة ومبايعته
لمّا بلغ مروان قتل الوليد أقبل يريد الجزيرة وكان ابنه عبد الملك بن مروان بن محمّد قد وثب على حرّان ومدائن الجزيرة فضبطها وكتب إلى أبيه بأرمينية يعلمه بذلك ويشير عليه بتعجيل السير والقدوم. فتهيّأ مروان للمسير وأظهر أنّه يطلب بدم الوليد وكره أن يدع الثغر معطّلا فوجّه إلى أهل الباب إسحاق بن مسلم العقيلي وهو رأس قيس وثابت بن نعيم الجذاميّ وهو رأس اليمن وكان سبب صحبة ثابت إيّاه أنّ مروان كان خلّصه من حبس هشام وأحسن إليه وحباه. فلمّا كتب مروان إلى أهل الباب على أيديهما وحمل معهما إليهم أعطياتهم ورغّبهم في الجهاد، ثبتوا. ثم بلغه أنّ ثابتا كان يدسّ إلى قوّاده بالانصراف إلى ثغرهم واللحاق بأجنادهم فلمّا انصرف إليه تهيّأ مروان للمسير وعرض جنده فدسّ ثابت بن نعيم إلى من معه من أهل الشام بالانخزال عن مروان والانضمام إليه ليسير بهم إلى أجنادهم فتولّى أمرهم فانخزلوا عن عسكر مروان ليلا وعسكروا على حدة، فبات ليلته ومن معه في السلاح يتحارسون حتى أصبح. ثم خرج إليهم بمن معه ومن مع ثابت يضعفون من مع مروان. فصافّوهم ليقاتلوهم فأمر مروان مناديين فبرزا بين الصفّين فنادوهم:
« يا أهل الشام ما دعاكم إلى الاعتزال وما الذي نقمتم عليّ ألم ألكم بما تحبّون وأحسن السيرة فيكم والولاية عليكم ما الذي دعاكم إلى سفك دمائكم؟ » فأجابوه ب [ قولهم ]:
« إنّا إنّما كنّا نطيعك بطاعة خليفتنا فقد قتل خليفتنا وبايع أهل الشام يزيد بن الوليد فرضينا بولاية ثابت ورأسناه ليسير بنا على ألويتنا حتى نردّ أجنادنا. » فأمر مناديه فنادى:
« أن قد كذبتم وليس تريدون الذي قلتم وإنّما أردتم أن تركبوا رؤوسكم فتغصبوا من مررتم به من أهل الذّمة أموالهم وأطعمتهم وأعلافهم. وما بيني وبينكم إلّا السيف حتى تنقادوا إليّ، فأسير بكم حتى أوردكن الفرات، ثم أخلّى عن كلّ قائد وجنده حتى يلحقوا بأجنادهم. » فلمّا الجدّ منه انقادوا له، ومالوا إليه، وأمكنوه من ثابت بن نعيم وأولاده وهم أربعة رجال فأمر بهم، فأنزلوا عن فيولهم، وسلبوا سلاحهم، ووضع في أرجلهم السلاسل، ووكّل بهم عدّة من حرسه يحتفظون بهم، وشخص بجماعة الجند من أهل الشام والجزيرة، وضمّهم إلى عسكره، وضبطهم في مسيره، فلم يقدر أحد منهم على أن يشذّ ولا أن يظلم أحدا من أهل القرى ولا يرزأه شيئا إلّا بثمن حتى ورد حرّان. ثم أمرهم باللحاق بأجنادهم وحبس ثابتا معه ودعا أهل الجزيرة إلى الفرض ففرض لستّة وعشرين ألفا من أهل الجلد منهم وتهيّأ للمسير إلى يزيد. فكاتبه يزيد على أن يبايعه ويوليّه ما كان عبد الملك بن مروان ولّى أباه محمّد بن مروان من الجزيرة وأرمينية والموصل وآذربيجان. فبايع له بحرّان ووجّه إليه بنفر من وجوه الجزيرة.
موت يزيد بن الوليد
وفي هذه السنة مات يزيد بن الوليد وكانت وفاته سلخ ذي القعدة سنة ست وعشرين ومائة. فكانت خلافته ستّة أشهر. واختلف في مبلغ سنّه فقيل نيّف وثلاثون وقيل نيّف وأربعون. وكان أسمر طويلا صغير الرأس جميلا وإنّما سمّى الناقص في قول أكثر الناس لأنّه نقصهم أعطياتهم التي كان الوليد زادها الناس. وقال بعضهم إنّما سمّى الناقص لأنّ مروان بن محمّد سبّه فقال: الناقص بن الوليد. فسمّى الناقص.
ثم كان إبراهيم غير أنّه لم يتمّ له أمر وسلّم عليه جمعة بالخلافة. وجمعة بالإمرة وجمعة لا بالخلافة ولا بالأمرة. فكان على ذلك [ أمره ] حتى قدم مروان بن محمّد فخلعه وقتل عبد العزيز بن الحجّاج بن عبد الملك.
ودخلت سنة سبع وعشرين ومائة
مسير مروان إلى الشام
فسار مروان بن محمّد إلى الشام في جند الجزيرة وخلف ابنه عبد الملك في أربعة آلاف بالرقّة. فلمّا انتهى إلى قنّسرين وبها أخ ليزيد بن الوليد يقال له بشر، كان ولّاه قنّسرين، فخرج إليه وصافة، وتنادى الناس، ودعاهم مروان إلى بيعته. فمال إليه يزيد بن عمر بن هبيرة في القيسيّة، وأسلموا بشرا وأخا له يقال له مسرور، فأخذهما مروان وحبسهما وسار متوجّها إلى حمص وكان أهل حمص قد امتنعوا حين مات يزيد أن يبايعوا إبراهيم. فوجّه إليهم إبراهيم عبد العزيز بن الحجّاج في جند أهل دمشق فحاصرهم في مدينتهم وأغذّ مروان السير، فلمّا دنا من مدينة حمص رحل عبد العزيز عنهم وخرجوا إلى مروان فبايعوه وساروا بأجمعهم معه.
ووجّه إبراهيم بن الوليد الجيوش مع سليمان بن هشام فسار بهم حتى نزل عين الجرّ في عشرين ومائة ألف وأتاه مروان في نحو من ثمانين ألفا فدعاهم مروان إلى الكفّ عن قتاله والتخلية عن ابني الوليد الحكم وعثمان وكانا في سجن دمشق وضمن لهم عنهما ألّا يؤاخذاهم بقتلهم أباهما ولا يطلبا أحدا ممّن ولى قتله. فأبوا عليه وجدّوا في قتاله، فاقتتلوا ما بين ضحوة النهار إلى العصر واستحرّ القتل وكثر في الفريقين. وكان محربا مكايدا، فدعا ثلاثة نفر من قوّاده أحدهم أخ لإسحاق بن مسلم، فأمرهم بالمسير خلف صفّه في خيلهم وهم ثلاثة آلاف، ووجّه معهم فعلة بالفؤوس وقد ملأ الصفّان من أصحابه وأصحاب سليمان ما بين الجبلين المحيطين بالمرج، وبين العسكرين نهر خرّار. وأمرهم إذا انتهوا إلى الجبل أن يقطعوا الشجر فيعقدوا جسورا فيجيزوا إلى عسكر سليمان ويغيروا فيه فلم تشعر خيول سليمان وهم مشغولون بالقتال إلّا بالخيل والبارقة والتكبير في عسكرهم من خلفهم فلمّا رأوا ذلك انكسروا وكانت هزيمتهم. ووضع أهل حمص السلاح فيهم، فقتلوا منهم نحوا من سبعة عشر ألفا، وكفّ أهل الجزيرة وأهل قنّسرين عن قتلهم، وأتوا مروان من أسراهم بمثل عدّة القتلى وأكثر، واستبيح عسكرهم فأخذ مروان عليهم العهد للغلامين: الحكم وعثمان، وخلّى عنهم بعد أن قوّاهم بدينار دينار وألحقهم بأهاليهم.
ومضى سليمان ومن معه من الفلّ حتى صبّحوا دمشق واجتمع إليه وإلى إبراهيم وعبد العزيز بن الحجّاج رؤوس [ من ] معهم فقال بعضهم لبعض:
« إن بقي الغلامان ابنا الوليد حتى يقدم مروان فيخرجهما من الحبس ويصير الأمر إليهما لم يستبقيا أحدا من قتلة أبيهما والرأي أن نقتلهما. »
فولّوا ذلك يزيد بن خالد ومعهما في الحبس أبو محمّد السفياني ويوسف بن عمر.
فأرسل يزيد مولى لخالد يكنّى أبا الأسد في عدّة من أصحابه فدخل السجن، فشدخ الغلامين بالعمد، وأخرج يوسف بن عمر فضرب عنقه وأرادوا أبا محمّد ليقتلوه فدخل بيتا من بيوت السجن فأغلقه وألقى خلفه المتاع واعتمد على الباب فلم يقدروا على فتحه ودعوا بنار ليحرقوه فلم يؤتوا بها حتى قيل قد دخلت خيل مروان المدينة. وهرب إبراهيم بن الوليد وتغيّب، ونهب سليمان ما كان في بيت المال من المال وقسمه فيمن معه من الجنود وخرج من المدينة.
وفي هذه السنة دعا إلى نفسه عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بالكوفة وحارب بها عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بن مروان فهزمه عبد الله بن عمر فلحق بالجبال وتغلّب عليها.
ذكر سبب خروج عبد الله بن معاوية وطمعه في الخلافة
كان سبب خروجه أنّه قدم الكوفة زائرا لعبد الله بن عمر بن عبد العزيز يلتمس صلته ولا يطمع في غيرها. فلمّا وقعت العصبيّة قال له أهل الكوفة:
« أدع إلى نفسك فبنو هاشم أولى بالأمر من بنى مروان لا سيّما وقد اختلفوا. » فدعا سرّا بالكوفة وابن عمر بالحيرة وبايعه قوم وكان فيهم ابن ضمره:
الخزاعي فدسّ إليه ابن عمر فأرضاه. فأرسل إليه:
« إذا نحن التقينا انهزمت بالناس. » وبلغ ابن معاوية فلمّا التقى الناس قال ابن معاوية:
« إنّ ابن ضمرة قد غدر ووعد ابن عمر أن ينهزم بالناس فلا يهولنّكم انهزامه فإنّه عن غدر ما يفعل. » فلمّا اقتتلوا انهزم ابن ضمرة، وانهزم الناس، فلم يبق مع ابن معاوية أحد فرجع ابن معاوية إلى الكوفة ثم خرج ومعه نفر، فغلب على حلوان، ثم على همذان والريّ وإصفهان.
خلافة مروان بن محمد
وفي هذه السنة بويع لمروان بن محمّد بدمشق بالخلافة.
وقد ذكرنا ما كان من هرب إبراهيم وأنّ سليمان انتهب ما كان في بيت المال وفرّقه في جنده ودخل مروان دمشق وأتى بالغلامين مقتولين وبيوسف بن عمر فأمر بهم فدفنوا وأتى بأبي محمّد في كبوله فسلّم عليه بالخلافة ومروان يسلّم عليه يومئذ بالإمرة فقال له: « مه » فقال أبو محمد:
« إنّهما جعلاها لك بعدهما. » وكانا قد بلغا أبا الحكم. وهو أكبرهما، وكان قد ولد له وأمّا الآخر فكان قد احتلم قبل ذلك بسنتين فأنشده شعرا قاله الحكم:
ألا من مبلغ مروان عني ** وعمّى الغمر، من كبدي حنينا
-
بأنّى قد ظلمت وصار قومي ** على قتل الوليد متابعينا
أ يذهب كلبهم بدمى ومالي ** فلا غثّا أصبت ولا سمينا
ومروان بأرض بنى نزار ** كليث الغاب مفترشا عرينا
ألم يحزنك قتل فتى قريش ** وشقّهم عصا للمسلمينا
ألا فاقرا السّلام على قريش ** وقيس بالجزيرة أجمعينا
وسار الناقص القدريّ فينا ** وألقى الحرب بين بنى أبينا
فلو شهد الفوارس من سليم ** وكعب، لم أكن لهم رهينا
ولو شهدت ليوث بنى تميم ** لما بعنا تراث بنى أبينا
أ ينكث بيعتي من أجل أمي ** فقد بايعتم بعدي هجينا
فليت خؤولتى في غير كلب ** وكانت في ولادة آخرينا
فإن أهلك أنا ووليّى عهدي ** فمروان أمير المؤمنينا
ثم قال:
« ابسط يدك أبايعك. » وسمعه من تبع مروان من أهل الشام. فكان أوّل من نهض معاوية بن يزيد بن حصين بن نمير، وتبعه الناس فبايعوه. فلمّا استوت لمروان بن محمّد الشام انصرف إلى منزله من حرّان وطلب منه الأمان إبراهيم بن الوليد وسليمان بن هشام فآمنهما. فقدم عليه سليمان وكان يتذمّر في إخوته وأهل بيته ومواليه فبايعوا مروان.
وفي هذه السنة انتقض على مروان أهل حمص وسائر أهل الشام.
ذكر السبب في ذلك
كان الذي دعاهم إلى ذلك ثابت بن نعيم، كان يراسلهم، ويكاتبهم ومروان بحماة ليس بينه وبين مدينة حمص إلّا ثلاثون ميلا. فأتاه خبرهم صبيحة الفطر، فجدّ في السير، ومعه يومئذ إبراهيم بن الوليد المخلوع وسليمان بن هشام. كان آمنهما وكان يكرمهما ويجلسان معه على غدائه وعشائه ويسيران معه في موكبه. فانتهى إلى مدينة حمص بعد الفطر بيومين وقد ردم القوم أبوابها من داخل، فأحدقت خيله بالمدينة ووقف حذاء باب منها، فأشرفت عليه جماعة من الحائط. فناداهم مناديه:
« ما دعاكم إلى النكث؟ » قالوا:
« فإنّا على طاعتك لم ننكث. » فقال لهم:
« إن كنتم على ما تذكرون فافتحوا. » ففتحوا له الباب فاقتحم عمرو بن الوضّاح في الوضّاحية وهم نحو من ثلاثة آلاف. فقاتلوهم داخل المدينة. ثم كثرتهم خيل مروان، فخرجوا من باب من أبواب المدينة فقاتلهم داخل المدينة من كان عليه، فقتل عامّتهم وأسر منهم قوم، فأتى بهم مروان فقتلهم. ثم أمر بجمع قتلاهم وهم خمسمائة أو ستّمائة فصلبوا حول المدينة وهدم من حائط مدينتها نحو غلوة، وثار أهل الغوطة إلى مدينة دمشق فحاصروا أميرهم زامل بن عمرو، وولّوا عليهم يزيد بن خالد القسريّ.
وثبت زامل مع أهل المدينة، فوجّه إليهم مروان بن حمص أبا الورد بن الكوثر بن زفر بن الحارث وعمرو بن الوضّاح في عشرة آلاف. فلمّا دنوا من المدينة حملوا عليهم وخرج من في المدينة فحملوا عليهم فهزموهم واستباحوا عساكرهم ولجأ يزيد بن خالد وأبو علاقة إلى رجل من لخم من أهل مزّة فدلّ عليهما زامل فأرسل إليهما فقتلا وبعث برأسيهما إلى مروان بحمص.
وخرج ثابت بن نعيم في أهل فلسطين حتى أتى طبرية، فحاصر أهلها فقاتلوه أيّاما. وكتب مروان إلى أبن الورد أن يشخص إليهم، ورحل من حمص إلى دمشق بعد أيّام. فلمّا بلغهم دنوّه خرجوا من المدينة على ثابت ومن معه، فاستباحوا عسكرهم وانصرف ثابت منهزما إلى فلسطين. فجمع قومه وجنده ومضى إليه أبو الورد، فهزمه ثانية وتفرّق من معه، وأسر ثلاثة من ولده وهم نعيم وبكر وعمران. فبعث بهم إلى مروان، فقدم بهم عليهم وهو بدير أيّوب جرحى، فأمر بمداواتهم.
وتغيّب ثابت وأفلت من ولده رفاعة بن ثابت وكان أخبثهم، فلحق بمنصور بن جمهور بالسند فأكرمه وولّاه وخلّفه مع أخ له يقال له منظور بن جمهور فوثب عليه فقتله فبلغ منصورا وهو متوجّه إلى الملتان وكان أخوه بالمنصورة فرجع إليه وظفر به فبنى له أسطوانة من آجرّ مجوّفة، وأدخله فيها وسمّره إليها وبنى عليه.
وكتب مروان إلى واليه على فلسطين وهو الرماحس في طلب ثابت والتلطّف له. فدلّ عليه رجل من قومه فأخذ ومعه نفر فأتى به مروان بعد شهرين فأمر به وببنيه الذين كانوا في يديه فقطعت أيديهم وأرجلهم. ثم حملوا إلى دمشق وأقيموا على باب مسجدها، لأنّهم كانوا يرجفون بثابت ويقولون: أتى مصر فغلب عليها وقتل عامل مروان بها.
وأقام مروان بدير أيّوب حتى بايع لابنيه عبيد الله وعبد الله واستقامت له الشام كلّها ما خلا تدمر. وأمر بثابت وبنيه الذين قطعوا، فقتلوا وصلبوا على أبواب دمشق.
وسار حتى نزل القسطل من أرض حمص ممّا يلي تدمر وبينهما مسيرة ثلاثة أيّام وبلغه أنّهم عوّروا ما بينه وبينها من الآبار وطمّوها بالصخر، فهيّأ المزاد والقرب والعلف والإبل له ولمن معه. فكلّمه الأبرش بن الوليد وسليمان بن هشام وغيرهما، وسألوه أن يعذر إليهم. فأجابه، ووجّه الأبرش إليهم أخاه، وكتب إليهم يحذّرهم ويعلمهم أنّه يتخوّف أن يكون هلاكه وهلاك قومه، فطردوه ولم يجيبوه. فسأله الأبرش أن يأذن له في التوجّه إليهم ويؤجّله أيّاما ففعل وأتاهم وكلّمهم وأعلمهم أنّهم حمقى ولا طاقة لهم به وبمن معه.
فأجابه عامّتهم وهرب من لم يثق به منهم.
فكتب الأبرش إلى مروان يعلمه ذلك، فكتب إليه مروان أن:
« اهدم حائط مدينتهم، وانصرف إليّ بمن تابعك. » ففعل وقدم عليه بالرصافة.
ثم شخص إلى الرقّة ومضى حتى نزل عند واسط على شاطئ الفرات فأقام ثلاثا. ثم مضى إلى قرقيسيا وابن هبيرة بها ليقدّمه إلى العراق لمحاربة الضحّاك بن قيس الشيبانى الحروري وكان خرج محكّما.
وأقبل جماعة نحو عشرة آلاف ممّن كان مروان قطع عليهم البعث بدير أيّوب لغزو العراق مع قوّادهم، حتى حلّوا بالرّصافة. فدعوا سليمان إلى خلع مروان ومحاربته.
وفي هذه السنة دخل الضّحك بن قيس الشيبانى الكوفة.
ذكر السبب في خروج الضحّاك وقوّته حتى دخل الكوفة
يقال: إنّ سبب خروج الضحّاك أنّه كان خرج بالجزيرة حروريّ يقال له:
سعيد بن بهدل الشيبانى، في مائتين من أهل الجزيرة فيهم الضحّاك، وقتل الوليد في تلك الأيّام فاغتنم ذلك واشتغال مروان بالشام، فخرج في أرض بكفرتوثا وخرج بسطام البيهسى وهو مفارق لرأيه في مثل عدّتهم من ربيعة، فسار كلّ واحد منهما إلى صاحبه. فلمّا تقارب العسكران وجّه سعيد بن بهدل الخيبري وهو أحد قوّاده وهو الذي هزم مروان في نحو من مائة وخمسين فارسا ليبّيته، فانتهى إلى عسكره وهم غارّون وقد أمر كلّ رجل منهم أن يكون معه ثوب أبيض يجلّل به دابّته ليعرف بعضهم بعضا فكبّروا في عسكره وقتلوا بسطاما وجميع من معه إلّا أربعة عشر رجلا ثم مضى فلحقوا بمروان فكانوا معه وأثبتهم وولّى عليهم رجلا منهم يكنّى أبا النعثل.
ثم مضى سعيد بن بهدل نحو العراق لما بلغه من تشتت الأمر بها واختلاف أهل الشام وقتال بعضهم بعضا مع عبد الله بن عمر والنضر بن سعيد الحرشي.
وكانت اليمانية من أهل الشام مع عبد الله بن عمر بالحيرة، والمضريّة مع ابن الحرشي بالكوفة، فهم يقتتلون فيما بينهم غدوة وعشية. فمات سعيد بن بهدل في وجهه ذلك من طاعون أصابه.
واستخلف الضحّاك بن قيس من بعده، فاجتمع مع الضحّاك نحو من ألف. ثم توجّه إلى الكوفة ومرّ بأرض الموصل فاتّبعه منها ومن السواد نحو من ثلاثة آلاف وبالكوفة يومئذ النضر بن سعيد الحرشي ومعه المضريّة وبالحيرة عبد الله بن عمر في اليمانية فهم متعصّبون يقتتلون فيما بين الكوفة والحيرة.
وكان سبب قتال عبد الله بن عمر النضر بن سعيد الحرشي أنّ مروان ولّى النضر العراق وعزل عبد الله بن عمر فأبى عبد الله أن يسلّم وقاتل النضر ووجد أعوانا من اليمانية للعصبيّة التي بينهم وبين المضريّة.
فلمّا دنا الضحّاك فيمن معه من الكوفة اصطلح ابن عمر والحرشيّ وصار أمرهما واحدا ويدا على قتال الضحّاك، وخندقا ومعهما يومئذ من أهل الشام نحو من ثلاثين ألفا لهم قوّة وعدّة ومعهم قائد من أهل قنّسرين يقال له، عبّاد بن العزيل، في ألف فارس قد كان مروان أمدّ به ابن الحرشي فبرزوا لهم فقاتلوهم فقتل يومئذ عاصم بن عمر بن عبد العزيز وجعفر بن عبّاس الكندي وهزموهم أقبح هزيمة.
ولحق عبد الله بن عمر في جماعتهم بواسط، وتوجّه ابن الحرشيّ، وجماعته المضريّة، وإسماعيل بن عبد الله القسريّ، إلى مروان واستولى الضحّاك بن قيس والحروريّة على الكوفة وأرضها، وجبوا السواد.
ثم استخلف الضّحاك رجلا من أصحابه يقال له: ملحان، على الكوفة في مائتي فارس ومضى في أصحابه إلى عبد الله بن عمر بواسط، فحاصره بها، وكان عبد الله بن عمر يأمل أن يقتل مروان لحديث سمعه وهو:
« إنّ عين بن عين بن عين، يقتل ميم بن ميم بن ميم. » فكان يروى هذا الحديث ويظنّه هو حتى تبيّن بعد ذلك فقتله عبد الله بن عليّ بن عبد الله بن العبّاس بن عبد المطلب.
فذكر أنّ أصحاب ابن عمر لمّا انهزموا فلحقوا بواسط، قالوا لابن عمر:
« علام تقيم، قد هرب الناس؟ » قال:
« أتلوّم وأنظر. » فأقام يوما أو يومين لا يرى إلّا هاربا قد امتلأت قلوبهم رعبا من الخوارج.
فأمر عند ذلك بالرحيل إلى واسط وجمع خالد بن العزيل أصحابه، فلحق بمروان وهو بالجزيرة مقيم.
ونظر عبيد الله بن العبّاس الكندي إلى ما لقي الناس فلم يأمن على نفسه فجنح إلى الضحّاك فبايعه وكان في عسكره.
فقال أبو عطاء السندي يعيّره باتباعه الضحّاك وقد قتل أخاه:
فقل لعبيد الله لو كان جعفر ** هو الحيّ لم يجنح وأنت قتيل
ولم يتبع المرّاق والثّار فيهم ** وفي كفّه عضب الذّباب صقيل
إلى معشر أردوا أخاك وأكفروا ** أباك فما ذا بعد ذاك تقول
فلمّا بلغ عبيد الله هذا البيت قال: