أدم إدامة حصن أو خدًا بيدي ** حربًا ضروسًا تشبّ عالجزل والضّرما
في جاركم وابنكم إذ كان مقتله ** شنعاء شيّبت الأصداغ واللّمما
أعيا المسود بها والسّيّدون فلم ** يوجد لها غيرنا مولىً ولا حكما
وجعل الجهني كلما تنجّز الكتاب لم يزده على هذه الأبيات؛ حتى إذا كان الشهر الثالث من مقتل عثمان في صفر، دعا معاوية برجل من بني عبس، ثم أحد بني رواحة يدعى قبيصة، فدفع إليه طومارًا مختومًا، عنوانه: من معاوية إلى علي. فقال: إذا دخلت المدينة فاقبض على أسفل الطومار، ثمّ أوصاه بما يقول وسرّح رسول علي. وخرجا فقدما المدينة في ربيع الأوّل لغرّته، فلما دخلا المدينة رفع العبسي الطومار، ففضّ خاتمه فلم يجد في جوفه كتابةً، فقال للرّسول: ما وراءك؟ قال: آمن أنا؟ قال: نعم، إنّ الرسل آمنة لا تقتل؛ قال: ورائي أني تركت قومًا لا يرضون إلا بالقود، قال: ممن؟ قال: من خيط نفسك، وتركت ستين ألف شيخ يبكي تحت قميص عثمان وهو منصوب لهم، قد ألبسوه منبر دمشق. فقال: منّي يطلبون دم عثمان! ألست موتورًا كترة عثمان! اللهمّ إني أبرأ إليك من دم عثمان؛ نجا والله قتلة عثمان إلّا أن يشاء الله، فإنّه إذا أراد أمرًا أصابه؛ اخرج؛ قال: وأنا آمن؟ قال: وأنت آمن. فخرج العبسي وصاحت السبئيّة قالوا: هذا الكلب، هذا وافد الكلاب، اقتلوه! فنادى: يا آل مضر، يا آل قيس، الخيل والنّبل، إني أحلف بالله جلّ اسمه ليردّنّها عليكم أربعة آلاف خصي، فانظروا كم الفحولة والرّكاب! وتعاووا عليه ومنعنه مضر، وجعلوا يقولون له: اسكت، فيقول: لا والله، لا يفلح هؤلاء أبدًا، فلقد أتاهم ما يوعدون. فيقولون له: اسكت، فيقول: لقد حلّ بهم ما يحذرون، انتهت والله أعمالهم، وذهبت ريحهم، فوالله ما أمسوا حتى عرف الذلّ فيهم.
استئذان طلحة والزبير عليا
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: استأذن طلحة والزّبير عليًّا في العمرة، فأذن لهما، فلحقا بمكة؛ وأحبّ أهل المدينة أن يعلموا ما رأى علي في معاوية وانتقاضه، ليعرفوا بذلك رأيه في قتال أهل القبلة؛ أيجسر عليه أو ينكل عنه! وقد بلغهم أنّ الحسن بن علي دخل عليه ودعاه إلى القعود وترك الناس، فدسّوا إليه زياد بن حنظلة التميمي - وكان منقطعًا إلى علي - فدخل عليه فجلس إليه ساعةً ثمّ قال له علي: يا زياد، تيسّر؛ فقال: لأي شيء؟ فقال: تغزو الشأم، فقال زياد: الأناة والرفق أمثل، فقال:
ومن لا يصانع في أمور كثيرة ** يضرّس بأنياب ويوطأ بمنسم
فتمثّل علي وكأنه لا يريده:
متى تجممع القلب الذكي وصارمًا ** وأنفًا حميًّا تجتنبك المظالم
فخرج زياد على الناس والناس ينتظرونه، فقالوا: ما وراءك؟ فقال: السيف يا قوم، فعرفوا ما هو فاعل. ودعا عليٌّ محمد بن الحنفيّة فدفع إليه اللواء، وولّى عبد الله بن عباس ميمنته، وعمر بن أبي سلمة - أو عمرو بن سفيان بن عبد الأسد - ولّاه ميسرته، ودعا أبا ليلى بن عمر بن الجرّاح؛ ابن أخي أبي عبيدة بن الجرّاح، فجعله على مقدّمته، واستخلف على المدينة قثم بن عبّاس، ولم يولّ ممن خرج على عثمان أحدًا، وكتب إلى قيس بن سعد أن يندب الناس إلى الشأم، وإلى عثمان بن حنيف وإلى أبي موسى مثل ذلك، وأقبل على التهيّؤ والتجهّز، وخطب أهل المدينة فدعاهم إلى النهوض في قتال أهل الفرقة، وقال: إنّ الله عز وجل بعث رسولًا هاديًا مهديًّا بكتاب ناطق وأمر قائم واضح؛ لا يهلك عنه إلا هالك، وإنّ المبتدعات والشبهات هنّ المهلكات إلّا من حفظ الله، وإنّ في سلطان الله عصمة أمركم، فأعطوه طاعتكم غير ملويّة ولا مستكره بها، والله لتفعلنّ أو لينقلنّ الله عنكم سلطان الإسلام ثمّ لا ينقله إليكم أبدًا حتى يأرز الأمر إليها، انهضوا إلى هؤلاء القوم الذين يريدون يفرّقون جماعتكم، لعلّ الله يصلح بكم ما أفسد أهل الآفاق، وتقضون الذي عليكم. فبينا هم كذلك إذ جاء الخبر عن أهل مكة بنحو آخر وتمام على خلاف، فقام فيهم بذلك؛ فقال: إنّ الله عز وجل جعل لظالم هذه الأمة العفو والمغفرة، وجعل لمن لزم الأمر واستقام الفوز والنّجاة، فمن لم يسعه الحقّ أخذ بالباطل. ألا وإنّ طلحة والزّبير وأمّ المؤمنين قد تمالئوا على سخط إمارتي، ودعوا الناس إلى الإصلاح، وسأصبر ما لم أخف على جماعتكم، وأكفّ إن كفّوا، وأقتصر على ما بلغني عنهم.
ثمّ أتاه أنهم يريدون البصرة لمشاهدة الناس والإصلاح، فتعبّى للخروج إليهم، وقال: إن فعلوا هذا فقد انقطع نظام المسلمين وما كان عليهم في المقام فينا مؤونة ولا إكراه. فاشتدّ على أهل المدينة الأمر، فتثاقلوا، فبعث إلى عبد الله بن عمر كميلا النخعي، فجاء به فقال: انهض معي، فقال: أنا مع أهل المدينة، إنما أنا رجل منهم وقد دخلوا في هذا الأمر فدخلت معهم لا أفارقهم، فإن يخرجوا أخرج وإن يقعدوا أقعد. قال: فأعطني زعيمًا بألّا تخرج، قال: ولا أعطيك زعيمًا، قال: لولا ما أعرف من سوء خلقك صغيرًا وكبيرًا لأنكرتني، دعوه فأنا به زعيم. فرجع عبد الله بن عمر إلى المدينة وهم يقولون: لا والله ما ندري كيف نصنع، فإنّ هذا الأمر لمشتبه علينا، ونحن مقيمون حتى يضيء لنا ويسفر.
فخرج من تحت ليلته وأخبر أمّ كلثوم بنت علي بالذي سمع من أهل المدينة، وأنه يخرج معتمرًا مقيمًا على طاعة علي ما خلا النهوض؛ وكان صدوقًا فاستقرّ عندها؛ وأصبح علي فقيل له: حدث البارحة حدث هو أشدّ عليك من طلحة والزبير وأمّ المؤمنين ومعاوية. قال: وما ذلك؟ قال: خرج ابن عمر إلى الشأم؛ فأتى علي السوق ودعا بالظّهر فحمل الرجال وأعدّ لكل طريق طلّابًا. وماج أهل المدينة، وسمعت أمّ كلثوم بالذي هو فيه، فدعت ببغلتها فركبتها في رحل ثمّ أتت عليًا وهو واقف في السوف يفرّق الرجال في طلبه، فقالت: مالك لا تزنّد من هذا الرجل؟ إنّ الأمر على خلاف ما بلّغته وحدثته. قالت: أنا ضامنة له، فطابت نفسه وقال: انصرفوا، لا والله ما كذبت ولا كذب، وإنه عندي ثقة فانصرفوا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: ولما رأى علي من أهل المدينة ما رأى لم يرض طاعتهم حتى يكون معها نصرته، قام فيهم وجمع إليه وجوه أهل المدينة، وقال: إنّ آخر هذا الأمر لا يصلح إلّا بما صلح أوّله، فقد رأيتم عواقب قضاء الله عز وجل على من مضى منكم، فانصروا الله ينصركم ويصلح لكم أمركم. فأجابه رجلان من أعلام الأنصار؛ أبو الهيثم بن التيّهان - وهو بدري - وخزيمة بن ثابت؛ وليس بذي الشهادتين؛ مات ذو الشهادتين في زمن عثمان رضي الله عنه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد، عن عبيد الله، عن الحكم، قال: قيل له: أشهد خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين الجمل؟ فقال: ليس به، ولكنّه غيره من الأنصار؛ مات ذو الشهادتين في زمان عثمان بن عفان رضي الله عنه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد، عن الشعبي، قال: بالله الذي لا إله إلّا هو؛ ما نهض في تلك الفتنة إلّا ستّة بدريّين ما لهم سابع، أو سبعة ما لهم ثامن.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بن محمد، عن الشعبي، قال: بالله الذي لا إله إلّا هو ما نهض في ذلك الأمر إلّا ستة بدرّيين ما لهم سابع. فقلت: اختلفتما. قال: لم نختلف، إنّ الشعبي شكّ في أبي أيوب: أخرج حيث أرسلته أمّ سلمة إلى علي بعد صفين، أم لم يخرجّ إلّا أنه قدم عليه فمضى إليه، وعلي يومئذ بالنّهروان.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن سعيد ابن ثابت، عن رجل، عن سعيد بن زيد، قال: ما اجتمع أربعة من أصحاب النبي
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png ففازوا على الناس بخير يحوزونه إلّا وعلي بن أبي طالب أحدهم.
ثم إنّ زياد بن حنظلة لما رأى تثاقل الناس عن علي ابتدر إليه وقال: من تثاقل عنك فإنا نخفّ معك ونقاتل دونك. وبينما عليٌّ يمشي في المدينة إذ سمع زينب ابنة أبي سفيان وهي تقول: ظلامتنا عند مدمّم وعند مكحلة، فقال: إنها لتعلم ما همّا لها بثأر.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة؛ أن عثمان قتل في ذي الحجة لثمان عشرة خلت منه، وكان على مكة عبد الله بن عامر الحضرمي. وعلى الموسم يومئذ عبد الله بن عباس، بعثه عثمان وهو محصور، فتعجّل أناس في يومين فأدركوا مع ابن عباس، فقدموا لامدينة بعد ما قتل وقبل أن يبايع علي، وهرب بنو أميّة فلحقوا بمكة، وبويع علي لخمس بقين من ذي الحجّة يوم الجمعة؛ وتساقط الهرّاب استخبرتهم فأخبروها أن قد قتل عثمان رضي الله عنه ولم يجبهم إلى التأمير أحد؛ فقالت عائشة رضي الله عنها: ولكن أكياس، هذا غبّ ما كان يدور بينكم من عتاب الاستصلاح؛ حتى إذا قضت عمرتها وخرجت فانتهت إلى سرف لقيها رجل من أخوالها من بني ليث - وكانت واصلة لهم، رفيقة عليهم - يقال له عبيد بن أبي سلمة يعرف بأمّه أمّ كلاب، فقالت: مهيم! فأصمّ ودمدم، فقالت: ويحك! علينا أو لنا؟ فقال: لا تدري، قتل عثمان وبقوا ثمانيًا، قالت: ثمّ صنعوا ماذا؟ فقال: أخذوا أهل المدينة بالاجتماع على علي، والقوم الغالبون على المدينة. فرجعت إلى مكة وهي لاتقول شيئًا ولا يخرج منها شيء، حتى نزلت على باب المسجد وقصدت للحجر فستّرت فيه، واجتمع الناس إليها فقالت: يأيّها الناس، إنّ الغوغاء من أهل الأمصار وأهل المياه وعبيد أهل المدينة اجتمعوا أن عاب الغوغاء على هذا المقتول بالأمس الإرب واستعمال من حدثت سنّه، وقد استعمل أسنانهم قبله، ومواضع من مواضع الحمى حماها لهم، وهي أمور قد سبق بها لا يصلح غيرها، فتابعهم ونزع لهم عنها استصلاحًا لهم، فلما لم يجدوا حجّةً ولا عذرًا خلجوا وبادوا بالعدوان ونبا فعلهم عن قولهم؛ فسفكوا الدم الحرام واستحلّوا البلد الحرام وأخذوا المال الحرام، واستحلّوا الشهر الحرام. والله لإصبع عثمان خير من طباق الأرض أمثالهم. فنجاة من اجتماعكم عليهم حتى ينكل بهم غيرهم ويشرّد من بعدهم، ووالله لو أن الّذي اعتدّوا به عليه كان ذنبًا لخلّص منه كما يخلص الذهب من خبثه أو الثوب من درنه إذ ماصوه كما يماص الثوب بالماء. فقال عبد الله بن عامر الحضرمي: هأنذا لها أوّل طالب - وكان أوّل مجيب ومنتدب.
حدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا أبو الحسن المدائني، قال: حدثنا سحيم مولى وبرة التميمي، عن عبيد بن عمرو القرشي، قال: خرجت عائشة رضي الله عنها وعثمان محصور، فقدم عليها مكّة رجل يقال له أخضر، فقالت: ما صنع الناس؟: فقال: قتل عثمان المصريين، قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون! أيقتل قومًا جاءوا يطلبون الحقّ وينكرون الظلم! والله لا نرضى بهذا. ثمّ قدم آخر فقالت: ما صنع الناس؟ قال: قتل المصرّيون عثمان، قالت: العجب لأخضر، زعم أنّ المقتول هو القاتل!. فكان يضرب به المثل: " أكذب من أخضر ".
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بن محمد، عن الشعبي، قال: خرجت عائشة رضي الله عنها نحو المدينة من مكّة بعد مقتل عثمان، فلقيها رجل من أخوالها، فقالت: ما وراءك؟ قال: قتل عثمان واجتمع الناس على علي، والأمر أمر الغوغاء. فقالت: ما أظنّ ذلك تامًّا ردّوني. فانصرفت راجعة إلى مكة، حتى إذ دخلتها أتاها عبد الله ابن عامر الحضرمي - وكان أمير عثمان عليها - فقال: ما ردّك يا أمّ المؤمنين؟ قالت: ردّني أنّ عثمان قتل مظلومًا، وأنّ الأمر لا يستقيم ولهذه الغوغاء أمر، فاطلبوا بدم عثمان تعزّوا الإسلام. فكان أوّل من أجابها عبد الله بن عامر الحضرمي، وذلك أوّل ما تكلمت بنو أميّة بالحجاز ورفعوا رءوسهم، وقام معهم سعيد بن العاص، والوليد بن عقبة، وسائر بني أميّة. وقد قدم عليهم عبد الله بن عامر من البصرة؛ ويعلى بن أميّة من اليمن، وطلحة والزّبير من المدينة، واجتمع ملؤهم بعد نظر طويل في أمرهم على البصرة، وقالت: أيّها الناس، إنّ هذا حدث عظيم وأمر منكر، فانهضوا فيه إلى إخوانكم من أهل البصرة فأنكروه، فقد كفاكم أهل الشأم ما عندهم، لعلّ الله عز وجل يدرك لعثمان وللمسلمين بثأرهم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: كان أوّل من أجاب إلى ذلك عبد الله بن عامر وبنو أميّة؛ وقد كانوا سقطوا إليها بعد مقتل عثمان، ثم قدم عبد الله بن عامر، ثمّ قدم يعلى بن أميّة، فاتّفقا بمكة، ومع يعلى ستمائة بعير وستمائة ألف، فأناخ بالأبطح معسكرًا؛ وقدم معهما طلحة والزّبير، فلقيا عائشة رضي الله عنها، فقالت: ما وراءكما؟ فقالا: وراءنا أنا تحملنا بقلّيّتنا هرّابًا من المدينة من غوغاء وأعراب، وفارقنا قومًا حيارى لا يعرفون حقًّا ولا ينكرون باطلًا ولا يمنعون أنفسهم. قالت: فائتمروا أمرًا؛ ثمّ انضهوا إلى هذه الغوغاء. وتمثّلت:
ولو أنّ قومي طاوعتني سراتهم ** لأنقذتهم من الحبال أو الخبل