فأما كلام مسيلمة الكذاب وما زعم أنه قرآن، فهو أخس من أن نشتغل به وأسخف من أن نفكر فيه. وإنما نقلنا منه طرفا ليتعجب القارئ وليتبصر الناظر، فإنه على سخافته قد أضَلَّ، وعلى ركاكته قد أزل، وميدان الجهل واسع! ومن نظر فيما نقلناه عنه وفهم موضع جهله، كان جديرا أن يحمد الله على ما رزقه من فهم وآتاه من علم.
فمما كان يزعم أنه نزل عليه من السماء: "والليل الأضخم، والذئب الأدلم، والجذع الأزلم، ما انتهكت أسيد من محرم "! وذلك قد ذكر في خلاف وقع بين قوم أتوه من أصحابه!
وقال أيضا: "والليل الدامس، والذئب الهامس، ما قطعت أسيد من رطب ولا يابس"!
وكان يقول: "والشاء وألوانها، وأعجبها السود وألبهانها، والشاة السوداء، واللبن الابيض، إنه لعجب محض، وقد حرم المذق، فما لكم لا تجتمعون"!
وكان يقول: "ضِفدَع بنت ضفدعين، نِقّي ما تَنِقّين، أعلاكِ في الماء وأسفلك في الطين، لا الشارب تمنعين، ولا الماء تكدرين. لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريش قوم يعتدون "!
وكان يقول: "والمبديات زرعا، والحاصدات حصدا، والذاريات قمحا، والطاحنات طحنا، والخابزات خبزا، والثاردات ثردا، واللاقمات لقما، إهالة وسمنا، لقد فضلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المَدَر، ريفكم فامنعوه، والمُعتَرَّ فآووه، والباغي فناوئوه."
وقالت
سجاح بنت الحارث بن عقبان - وكانت تتنبأ، فاجتمع مسيلمة معها - فقالت له: ما أوحي إليك؟
فقال: "ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، ما بين صفاق وحَشا"!
وقالت: فما بعد ذلك؟ قال: أوحي إلى: "إن الله خلق النساء أفواجا، وجعل الرجال لهن أزواجا، فنولج فيهن قَعسا إيلاجا، ثم نخرجها إذا شئنا إخراجا، فينتجن لنا سِخالا نِتاجا"!
فقالت: أشهد أنك نبي!
ولم ننقل كل ما ذكر من سخفه كراهية التثقيل.
وروى: أنه سأل أبو بكر الصديق رضي الله عنه أقواما قدموا عليه من بنى حنيفة، عن هذه الألفاظ؟ فحكوا بعض ما نقلناه، فقال أبو بكر: سبحان الله! ويحكم، إن هذا الكلام لم يخرج عن إلٍّ، فأين كان يذهب بكم؟
ومعنى قوله: "لم يخرج عن إل": أي عن ربوبية.
ومن كان له عقل لم يشتبه عليه سخف هذا الكلام.
[180]
http://upload.wikimedia.org/wikipedi...ts_ver.svg.png
فنرجع الآن إلى ما ضمناه من الكلام على الاشعار المتفق على جودتها وتقدم أصحابها في صناعتهم، ليتبين لك تفاوت أنواع الخطاب وتباعد مواقع أنواع البلاغة، وتستدل على مواضع البراعة.
وأنت لا تشك في جودة شعر امرئ القيس ولا ترتاب في براعته، ولا تتوقف في فصاحته، وتعلم أنه قد أبدع في طرق الشعر أمورا اتبع فيها، من ذكر الديار والوقوف عليها، إلى ما يصل بذلك: من البديع الذي أبدعه، والتشبيه الذي أحدثه، والمليح الذي تجد في شعره، والتصرف الكثير الذي تصادفه في قوله، والوجوه التي ينقسم إليها كلامه: من صناعة وطبع، وسلاسة وعفو، ومتانة ورقة، وأسباب تحمد، وأمور تؤثر وتمدح. وقد ترى الأدباء أولا يوازنون بشعره فلانا وفلانا، ويضمون أشعارهم إلى شعره، حتى ربما وازنوا بين شعر من لقيناه وبين شعره في أشياء لطيفة وأمور بديعة، وربما فضلوهم عليه، أو سوّوا بينهم وبينه، أو قربوا موضع تقدمه عليهم، وبرزوه بين أيديهم.
ولما اختاروا قصيدته في السبيعيات،
[181] أضافوا إليها أمثالها وقرنوا بها نظائرها، ثم تراهم يقولون: لفلان لامية مثلها، ثم ترى أنفس الشعراء تتشوق إلى معارضته، وتساويه في طريقته، وربما غبّرت في وجهه في أشياء كثيرة، وتقدمت عليه في أسباب عجيبة.
وإذا جاءوا إلى تعداد محاسن شعره، كان أمرا محصورا، وشيئا معروفا. أنت تجد من ذلك البديع أو أحسن منه في شعر غيره، وتشاهد مثل ذلك البارع في كلام سواه، وتنظر إلى المحدثين كيف توغلوا إلى حيازة المحاسن، منهم من جمع رصانة الكلام إلى سلاسته، ومتانته إلى عذوبته، والإصابة في معناه إلى تحسين بهجته، حتى إن منهم من إن قصر عنه في بعض تقدم عليه في بعض، [ وإن وقف دونه في حال، سبقه في أحوال، وإن تشبه به في أمر، ساواه في أمور ]؛ لأن الجنس الذي يرمون إليه والغرض الذي يتواردون عليه، هو مما للآدمي فيه مجال، وللبشرى فيه مثال؛ فكل يضرب فيه بسهم، ويفوز فيه بقدح، ثم قد تتفاوت السهام تفاوتا، وتتباين تباينا، وقد تتقارب تقاربا، على حسب مشاركتهم في الصنائع، ومساهمتهم في الحرف.
ونظم القرآن جنس متميز، وأسلوب متخصص، وقَبيلٌ عن النظير متخلص. فإذا شئت أن تعرف عظم شأنه، فتأمل ما نقوله في هذا الفصل لامرئ القيس في أجود أشعاره، وما نبين لك من عواره، على التفصيل. وذلك قوله:
قَفا نَبكِ من ذكرى حبيب ومنزلِ * بسِقْط اللِّوى بين الدخول فَحَوْمَل
فَتُوضِحَ فالمِقراةِ لم يَعفُ رسمُها * لِما نَسَجَتْها مِن جنوبٍ وشَمأَلِ
الذين يتعصبون له ويدعون محاسن الشعر، يقولون: هذا من البديع، لأنه وقف واستوقف، وبكى واستبكى، وذكر العهد والمنزل والحبيب، وتوجع واستوجع، كله في بيت؛ ونحو ذلك.
وإنما بينا هذا لئلا يقع لك ذهابنا على مواضع المحاسن، إن كانت، ولا غفلتنا عن مواضع الصناعة، إن وجدت.
تأمل أرشدك الله وانظر هداك الله: أنت تعلم أنه ليس في البيتين شئ قد سبق في ميدانه شاعرا، ولا تقدم به صانعا. وفي لفظه ومعناه خلل:
فأول ذلك: أنه استوقف من يبكي لذكر الحبيب، وذكراه لا تقتضي بكاء الخَلِيِّ، وإنما يصح طلب الإسعاد في مثل هذا، على أن يبكي لبكائه ويرق لصديقه في شدة بُرَحائه، فأما أن يبكي على حبيب صديقه وعشيق رفيقه، فأمر محال.
فإن كان المطلوب وقوفه وبكاؤه أيضا عاشقا، صح الكلام [ من وجه ]، وفسد المعنى من وجه آخر! لأنه من السخف أن لا يغار على حبيبه، وأن يدعو غيره إلى التغازل عليه، والتواجد معه فيه!
ثم في البيتين ما لا يفيد، من ذكر هذه المواضع، وتسمية هذه الأماكن: من "الدَّخول" و "حومل" و "تُوضِح" و "المِقراة" و "سِقْط اللوى"، وقد كان يكفيه أن يذكر في التعريف بعض هذا. وهذا التطويل إذا لم يفد كان ضربا من العي.
ثم إن قوله: "لم يعف رسمها"، ذكر الأصمعي من محاسنه: أنه باق فنحن نحزن على مشاهدته، فلو عفا لاسترحنا.
وهذا بأن يكون من مساويه أولى، لأنه إن كان صادق الود، فلا يزيده عَفاءُ الرسوم إلا جِدّة عهد، وشدة وَجْد. وإنما فزع الأصمعي إلى إفادته هذه الفائدة خشيةَ أن يعاب عليه فيقال: أي فائدة لأن يُعرفنا أنه لم يعفُ رسم منازل حبيبه، وأي معنى لهذا الحشو؟ فذكر ما يمكن أن يذكر، ولكن لم يخلصه - بانتصاره له - من الخلل.
ثم في هذه الكلمة خلل آخر، لأنه عقّب البيت بأن قال: * فهل عند رسم دارس من معول * فذكر أبو عبيدة: أنه رجع فأكذب نفسه، كما قال زهير:
قِف بالديار التي لم يَعفُها القِدم * نعم، وغيَّرها الأرواحُ والديَم
[182]
وقال غيره: أراد بالبيت الأول أنه لم ينطمس أثره كله، وبالثاني أنه ذهب بعضه، حتى لا يتناقض الكلامان.
وليس في هذا انتصار، لأن معنى "عفا" و "درس" واحد، فإذا قال: "لم يعف رسمها" ثم قال: "قد عفا"، فهو تناقض لا محالة.
واعتذار أبي عبيدة أقرب لو صح، ولكن لم يرد هذا القول مورد الاستدراك كما قاله زهير، فهو إلى الخلل أقرب.
وقوله: "لما نسجتها"، كان ينبغى أن يقول: "لما نسجها " ولكنه تعسف فجعل "ما" في تأويل تأنيث، لأنها في معنى الريح، والأولى التذكير دون التأنيث، وضرورة الشعر قد قادته إلى هذا التعسف.
وقوله: "لم يعف رسمها" كان الأولى أن يقول: "لم يعف رسمه" لأنه ذكر المنزل، فإن كان رد ذلك إلى هذه البقاع والأماكن التي المنزل واقع بينها فذلك خلل، لأنه إنما يريد صفة المنزل الذي نزله حبيبه، بعفائه، أو بأنه لم يعف دون ما جاوره.
وإن أراد بالمنزل الدار حتى أنث، فذلك أيضا خلل.
ولو سَلِمَ من هذا كله ومما نكره ذكره كراهية التطويل لم نشك في أن شعر أهل زماننا لا يقصر عن البيتين، بل يزيد عليهما ويفضلهما.