قال: وقدم علباء بن منظور الليثي على هشام، فأنشده:
قالت علية واعتزمت لرحلة ** زوراء بالأذنين ذات تسدر
أين الرحيل وأهل بيتك كلهم ** كل عليك كبيرهم كالأصغر!
فأصاغر أمثال سلكان القطا ** لا في ثرى مال ولا في معشر
إني إلى ملك الشآم لراحل ** وإليه يرحل كل عبد موقر
فلأتركنك إن حييت غنية ** بندى الخليفة ذي الفعال الأزهر
إنا أناس ميت ديواننا ** ومتى يصبه ندى الخليفة ينشر
فقال له هشام: هذا الذي كنت تحاول، وقد أحسنت المسألة. فأمر له بخمسمائة درهم، وألحق له عيلًا في العطاء.
قال: وأتى هشامًا محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب. فقال: ما لك عندي شيء. ثم قال: إيّاك أن يغرّك أحد فيقول: لم يعرفك أمير المؤمنين؛ إني قد عرفتك؛ أنت محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، فلا تقيمنّ وتنفق ما معك، فليس لك عندي صلة، فالحق بأهلك.
قال: ووقف هشام يومًا قريبًا من حائط فيه زيتون، ومعه عثمان بن حيان المري، وعثمان قائم يكاد رأسه يوازي رأس أمير المؤمنين وهو يكلمه إذ سمع نفض الزيتون، فقال لرجل: انطلق إليهم فقل لهم: القطوه لقطًا، ولا تنفضوه نفضًا، فتتفقّأ عيونه، وتتكسر غصونه.
قال: وحجّ هشام، فأخذ الأبرش مخنثين ومعهم البرابط، فقال هشام: احبسوهم وبيعوا متاعهم - وما درى ما هو - وصيروا ثمنه في بيت المال، فإذا صلحوا فردّوا عليهم الثمن.
وكان هشام بن عبد الملك ينزل الرصافة - وهي فيما ذكر - من أرض قنسرين. وكان سبب نزوله إياها - فيما حدثني أحمد بن زهير بن حرب، عن علي بن محمد - قال: كان الخلفاء وأبناء الخلفاء يتبدّون ويهربون من الطاعون، فينزلون البريّة خارجًا عن الناس، فلما أراد هشام أن ينزل الرصافة قيل له: لا تخرج؛ فإنّ الخلفاء لا يطعنون؛ ولم نر خليفة طعن، قال: أتريدون أن تجربوا بي! فنزل الرصافة وهي برية، ابتنى بها قصرين، والرصافة مدينة رومية بنتها الروم.
وكان هشام أحول، فحدثني أحمد، عن علي، قال: بعث خالد بن عبد الله إلى هشام بن عبد الملك بحادٍ فحدا بين يديه بأرجوزة أبي النجم:
والشمس في الأفق كعين الأحول ** صغواء قد همت ولما تفعل
فغضب هشام وطرده.
وحدثني أحمد بن زهير، قال: حدثني علي بن محمد، قال: حدثنا أبو عاصم الضبي، قال: مرّ بي معاوية بن هشام، وأنا أنظر إليه في رحبة أبي شريك - وأبو شريك رجل من العجم كانت تنسب إليه وهي مزرعة - وقد اختبز خبزة، فوقف علي، فقلت: الغداء! فنزل وأخرجتها، فوضعتها في لبن، فأكل ثم جاء الناس، فقلت: من هذا؟ قالوا: معاوية بن هشام، فأمر لي بصلة. وركب وثار بين يديه ثعلب، فركض خلفه، فما تبعه غلوة؛ حتى عثر به فرسه فسقط فاحتملوه ميتًا، فقال هشام: تالله لقد أجمعت أن أرشحه للخلافة، ويتبع ثعلبًا! قال: وكانت عند معاوية بن هشام ابنة إسماعيل بن جرير وامرأة أخرى، فأخرج هشام كلّ واحدة منهما من نصف الثمن بأربعين ألفًا.
حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثنا، علي، قال: قال قحذم كاتب يوسف: بعثني يوسف بن عمر إلى هشام بياقوتة حمراء يخرج طرفاها من كفي، وحبّة لؤلؤ أعظم ما يكون من الحبّ، فدخلت عليه فدنوت منه، فلم أر وجهه من طول السرير وكثرة الفرش، فتناول الحجر والحبّة، فقال: أكتب معك بوزنهما؟ قلت: يا أمير المؤمنين؛ هما أجلّ عن أن يكتب بوزنهما، ومن أين يوجد مثلهما! قال: صدقت، وكانت الياقوتة للرائقة جارية خالد بن عبد الله، اشترتها بثلاثة وسبعين ألف دينار.
حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، قال: حدثنا حسين بن يزيد، عن شهاب بن عبد ربّه، عن عمرو بن علي، قال: مشيت مع محمد بن علي إلى داره عند الحمّام، فقلت له: إنه قد طال ملك هشام وسلطانه، وقد قرب من العشرين. وقد زعم الناس أن سليمان سأل ربه ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده، فزعم الناس أنها العشرون، فقال: ما أدري ما أحاديث الناس! ولكن أبي حدثني عن أبيه، عن علي، عن النبي
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png أنه قال: " لن يعمّر الله ملكًا في أمة نبي مضى قبله ما بلغ بذلك النبي من العمر ".
وفي هذه السنة ولي الخلافة بعد موت هشام بن عبد الملك الوليد بن يزيد ابن عبد الملك بن مروان، وليها يوم السبت في شهر ربيع الآخر سنة خمس وعشرين ومائة في قول هشام بن محمد الكلبي.
وأما محمد بن عمر فإنه قال: استُخلف الوليد بن يزيد بن عبد الملك يوم الأربعاء لست خلون من شهر ربيع الآخر من سنة خمس وعشرين ومائة.
وقال في ذلك علي بن محمد مثل قول محمد بن عمر.
خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان
ذكر الخبر عن بعض أسباب ولايته الخلافة
قد مضى ذكرى سبب عقد أبيه يزيد بن عبد الملك بن مروان له الخلافة بعد أخيه هشام بن عبد الملك؛ وكان الوليد بن يزيد يوم عقد له أبوه يزيد ذلك ابن إحدى عشرة سنة، فلم يمت يزيد حتى بلغ ابنُه الوليد خمس عشرة سنة، فندم يزيد على استخلافه هشامًا أخاه بعده؛ وكان إذا نظر إلى ابنه الوليد، قال: الله بيني وبين من جعل هشامًا بيني وبينك! فتوفيَ يزيد بن عبد الملك وابنه الوليد ابن خمسة عشرة سنة. وولى هشام وهو للوليد مكرّم معظم مقرّب؛ فلم يزل ذلك من أمرهما حتى ظهر من الوليد بن يزيد مجون وشرب الشراب؛ حمله على ذلك - فيما حدثني أحمد بن زهير، عن علي ابن محمد، عن جويرية بن أسماء وإسحاق بن أيوب وعامر بن الأسود وغيرهم - عبد الصمد بن عبد الأعلى الشبّاني أخو عبد الله بن عبد الأعلى - وكان مؤدّب الوليد - واتّخذ الوليد ندماء، فأراد هشام أن يقطعهم عنه فولاه الحجّ سنة تسع عشرة ومائة، فحمل معه كلابًا في صناديق، فسقط منها صندوق - فيما ذكر علي بن محمد عمّن سميت من شيوخه - عن البعير وفيه كلب، فأجالوا على لاكري السياط، فأوجعوه ضربًا. وحمل معه قبّة عملها على قدر الكعبة ليضعها على الكعبة، وحمل معه خمرًا، وأراد أن ينصب القبة على الكعبة؛ ويجلس فيها؛ فخوّفه أصحابه وقالوا: لا نأمن الناس عليك وعلينا معك؛ فلم يحرّكها. وظهر للناس منه تهاون بالدين واستخفاف به، وبلغ ذلك هشامًا فطمع في خلعه والبيعة لابنه مسلمة بن هشام، فأراده على أن يخلعها ويبايع لمسلمة؛ فأبى، فقال له: اجعلها له من بعدك؛ فأبى، فتنكر له هشام وأضرّ به، وعمل سرًّا في البيعة لابنه؛ فأجابه قوم. قال: فكان ممن أجابه خالاه: محمد وإبراهيم ابنا هشام بن إسماعيل المخزومي، وبنو القعقاع بن خليد العبسي وغيرهم من خاصّته.
قال: وتمادى الوليد في الشراب وطلب اللذات فأفرط، فقال له هشام: ويحك يا وليد! والله ما أدري أعلى الإسلام أنت أم لا! ما تدع شيئًا من المنكر إلا أتيته غير متحاش ولا مستتر به! فكتب إليه الوليد:
يأيها السائل عن ديننا ** نحن على دين أبي شاكر
نشربها صرفًا وممزوجة ** بالسخن أحيانًا وبالفاتر
فغضب هشام على ابنه مسلمة - وكان يكنى أبا شاكر - وقال له: يعيّرني بك الوليد وأنا أرشحك للخلافة! فالزم الأدب واحضر الجماعة.
وولّاه الموسم سنة تسع عشرة ومائة، فأظهر النسك والوقار واللين، وقسم بمكة والمدينة أموالًا، فقال مولى لأهل المدينة:
يأيها السائل عن ديننا ** نحن على دين أبي شاكر
الواهب الجرد بأرسانها ** ليس بزنديق ولا كافر
يعرّض بالوليد.
وأمّ مسلمة بن هشام أمّ حكيم بنت يحيى بن الحكم بن أبي العاص. فقال الكميت:
إن الخلافة كائن أوتادها ** بعد الوليد إلى ابن أم حكيم
فقال خالد بن عبد الله القسري: أنا برىء من خليفة يكنى أبا شاكر؛ فغضب مسلمة بن هشام على خالد، فلما مات أسد بن عبد الله أخو خالد ابن عبد الله، كتب أبو شاكر إلى خالد بن عبد الله بعشر هجا به يحيى بن نوفل خالدًا وأخاه أسدًا حين مات:
أراح من خالد وأهلكه ** رب أراح العباد من أسد
أما أبوه فكان مؤتشبًا ** عبدًا لئيمًا لأعبد قفد
وبعث بالطومار مع رسول على البرييد إلى خالد؛ فظنّ أنه عزاه عن أخيه، ففضّ الخاتم، فلم ير في الطومار غير الهجاء، فقال: ما رأيت كاليوم تعزية! وكان هشام يعيب الوليد ويتنقصه، وكشر عبثه به وبأصحابه وتقصيره به، فلمّا رأى ذلك الوليد خرج وخرج معه ناس من خاصّته ومواليه، فنزل بالأزرق؛ بين أرض بلقين وفزارة، على ماء يقال له الأغدف، وخلف كاتبه عياض ابن مسلم مولى عبد الملك بن مروان بالرصافة، فقال له: اكتب إلي بما يحدث قبلكم. وأخرج معهه عبد الصمد بن عبد الأعلى، فشربوا يومًا فلما أخذ فيهم الشراب، قال الوليد لعبد الصمد: يا أبا وهب، قل أبياتًا، فقال:
ألم تر للنجم إذ شيعا ** يبادر في برجه المرجعا
تحير عن قصد مجراته ** أتى الغور والتمس المطلعا
فقلت وأعجبني شأنه ** وقد لاح إذ لاح لي مطمعا:
لعل الوليد دنا ملكه ** فأمسى إليه قد استجمعا
وكنا نؤمل في ملكه ** كتأميل ذي الجدب أن يمرعا
عقدنا له محكمات الأمو ** ر طوعًا فكان لها موضعا
وروى الشعر؛ فبلغ هشامًا، فقطع عن الوليد ما كان يجرى عليه، وكتب إلى الوليد: بلغني عنك أنك اتخذت عبد الصمد خدنًا ومحدثًا ونديمًا؛ وقد حقق ذلك عندي ما بلغني عنك، ولم أبرئك من سوء، فأخرج عبد الصمد مذمومًا مدحورًا. فأخرجه، وقال فيه:
لقد قذفوا أبا وهب بأمر ** كبير بل يزيد على الكبير
فأشهد أنهم كذبوا عليه ** شهادة عالم بهم خبير
وكتب الوليد إلى هشام يعلمه إخراج عبد الصمد، واعتذر إليه مما بلغه من منادمته، وسأله أن يأذن لابن سهيل في الخروج إليه - وكان ابن سهيل من أهل اليمن وقد ولي دمشق غير مرّة، وكان ابن سهيل من خاصّة الوليد - فضرب هشام ابن سهيل وسيّره، وأخذ عياض بن مسلم كاتب الوليد، وبلغه أنه يكتب بالأخبار إلى الوليد، فضربه ضربًا مبرحًا، وألبسه المسوح. فبلغ الوليد، فقال: من يثق بالناس، ومن يصطنع المعروف! هذا الأحول المشئوم قدّمه أبي على أهل بيته فصيّره ولي عهده، ثم يصنع بي ما ترون؛ لا يعلم أنّ لي في أحد هوىً إلا عبث به، كتب إلي أن أخرج عبد الصمد فأخرجته إليه، وكتبت إليه أن يأذن لابن سهيل في الخروج إلي، فضربه وسيّره، وقد علم رأي فيه، وقد علم انقطاع عياض بن مسلم إلي، وتحرّمه بي ومكانه مني وأنه كاتبي، فضربه وحبسه، يضارّني بذلك؛ اللهم أجرني منه! وقال:
أنا النذير لمسدي نعمة أبدًا ** إلى المقاريف ما لم يخبر الدخلا
إن أنت أكرمتهم ألفيتهم بطرًا ** وإن أهنتهم ألفيتهم ذللا
أتشمخون ومنّا رأس نعمتكم ** ستعلمون إذا كانت لنا دولا
انظر فإن كنت لم تقدر على مثل ** له سوى الكلب فاضربه له مثلا
بينا يسمنه للصيد صاحبه ** حتى إذ ما قوى من بعد ما هزلا
عدا عليه فلم تضرره ع***ه ** ولو أطاق له أكلا لقد أكلا