-
تجارب الأمم
مقدمة المصنف
الحمد لله ربّ العالمين حمد الشاكرين، وصلواته على محمّد النبي وآله أجمعين. قد أنعم الله علينا، معاشر خدم مولانا الملك السيّد الأجلّ، وليّ النعم - أطال الله بقاءه، وأكبّ أعداءه، وحرس ملكه، وأعزّ سلطانه - لمّا أخرجنا في زمانه، وأنشأنا في أيامه، وبوّأنا ظلّه، وأنزلنا كنفه، وجعلنا من خاص خدمه.
فنحن نتقلّب من نعمه فيما لا شكر له غير الدعاء، ولا ثمن له غير الثناء، فنسأل الله بأخلص نيّة وأصدق طويّة، إدامة أيّامه، والإمتاع بما خوّلناه من إنعامه، إنّه جواد كريم.
وإني لمّا تصفّحت أخبار الأمم، وسير الملوك، وقرأت أخبار البلدان، وكتب التواريخ، وجدت فيها ما تستفاد منه تجربة لا تزال يتكرّر مثلها وينتظر حدوث شبهها وشكلها: كذكر مبادئ الدول، ونشء الممالك، وذكر دخول الخلل فيها بعد ذلك، وتلافى من تلافاه وتداركه إلى أن عاد إلى أحسن حال، وإغفال من أغفله واطّرحه إلى أن تأدّى إلى الاضمحلال والزوال، وذكر ما يتّصل بذلك من السياسات في عمارة البلدان، وجمع كلم الرعيّة، وإصلاح نيّات الجند، والحروب ومكايد الرجال، وما تمّ منها على العدوّ، وما رجع على صاحبه، وذكر الأسباب التي تقدّم بها قوم عند السلطان، والأحوال التي تأخّر لها آخرون، وما كان منها محمود الأوائل مذموم العواقب، وما كان بضدّ ذلك، وما استمرّ أوّله وآخره على سنن واحد، وذكر سياسات الوزراء، وأصحاب الجيوش، ومن أسند إليه حرب وسياسة، أو تدبير أو إيالة، فوفى بذلك وتأتّى له، أو كان بخلاف ذلك.
ورأيت هذا الضرب من الأحداث، إذا عرف له مثال مما تقدّم، وتجربة لمن سلف، فاتّخذ إماما يقتدى به، حذر مما ابتلى به قوم، وتمسّك بما سعد به قوم.
فإنّ أمور الدنيا متشابهة، وأحوالها متناسبة، وصار جميع ما يحفظه الإنسان من هذا الضرب كأنّه تجارب له، وقد دفع إليها، واحتنك بها، وكأنّه قد عاش ذلك الزمان كله، وباشر تلك الأحوال بنفسه، واستقبل أموره استقبال الخبر وعرفها قبل وقوعها، فجعلها نصب عينه وقبالة لحظه، فأعدّ لها أقرانها وقابلها بأشكالها. وشتّان بين من كان بهذه الصورة وبين من كان غرّا غمرا لا يتبيّن الأمر إلّا بعد وقوعه، ولا يلاحظه إلّا بعين الغريب منه، يحيّره كلّ خطب يستقبله، ويدهشه كلّ أمر يتجدّد له.
ووجدت هذا النمط من الأخبار مغمورا بالأخبار التي تجرى مجرى الأسمار والخرافات التي لا فائدة فيها غير استجلاب النوم بها، والاستمتاع بأنس المستطرف منها، حتى ضاع بينها، وتبدّد في أثنائها، فبطل الانتفاع به، ولم يتصل لسامعه وقارئه اتصالا يربط بعضه بعضا، بل تنسى النكتة منها قبل أن تجيء أختها، وتتفلّت من الذهن قبل أن تقيّدها نظيرتها، ويشتغل الفكر بسياقة خبرها دون تحصيل فائدتها.
فلذلك، جمعت هذا الكتاب، وسمّيته تجارب الأمم. وأكثر الناس انتفاعا به وأكبرهم حظّا منه، أوفرهم قسطا من الدنيا، كالوزراء، وأصحاب الجيوش، وسوّاس المدن، ومدبّرى أمر العامّة والخاصّة. ثم سائر طبقات الناس. وأقلّ الناس حظّا، لا يخلو أن ينتفع به في سياسة المنزل، وعشرة الصديق، ومداخلة الغريب، ولا يعدم مع ذلك، أنس السمر الذي يوجد في القسم الآخر الذي اطّرحناه.
وبعد، فلو كان الخادم لا يتقرّب إلّا بما يعزّ وجوده عند سلطانه، ولا يلطف في الخدمة إلّا بما لا يجد مثله، لانقطعت أسباب الهدايا والتحف، وارتفعت الملاطفات بالآداب والطرف، ولا سيما عند من كان في علوّ الهمّة، وتوقّد القريحة، وحفظ الآداب، وسياسة الملك والرعيّة في الخير، على ما عليه الملك السيّد، أدام الله سلطانه.
وأنا مبتدئ بذكر الله ومنّته، بما نقل إلينا من الأخبار بعد الطوفان، لقلّة الثقة بما كان منها قبله، ولأنّ ما نقل [ إلينا ] أيضا لا يفيد شيئا مما عزمنا على ذكره وضمنّاه في صدر الكتاب. ولهذا السبب بعينه، لم نتعرّض لذكر معجزات الأنبياء - صلوات الله عليهم - وما تمّ لهم من السياسات بها، لأنّ أهل زماننا لا يستفيدون منها تجربة فيما يستقبلونه من أمورهم، اللهمّ إلّا ما كان منها تدبيرا بشريّا لا يقترن بالإعجاز.
وقد ذكرنا أشياء مما يجرى على الاتّفاق والبخت وإن لم يكن فيها تجربة، ولا تقصد بإرادة. وإنّما فعلنا ذلك لتكون هي وأمثالها في حساب الإنسان وفي خلده ووهمه، لئلّا تسقط من ديوان الحوادث عنده وما ينتظر وقوع مثله، وإن لم يستطع تحرّزا من مكروهه إلّا بالاستعانة بالله، ولا توقّعا لمحبوبه إلّا بمسألته التوفيق، وهو - عزّ اسمه - خير موفّق ومعين.
الفيشداذية ومن عاصرهم
-
أوشهنج
فأوّل من يحفظ اسمه وسيرته من الملوك أوشهنج وأنا ذاكره والملوك بعده على توال ونسق. فإن كان لواحد منهم سيرة محمودة أو تدبير مرضيّ، ذكرته وذكرت سائر ما ضمنته في صدر الكتاب، ومن لم يحفظ له سيرة، ذكرت اسمه فقط، ليكون نظام التاريخ محفوظا، فأقول:
إنّ أوشهنج هذا هو الذي خلف جدّه جيومرت وجمع الأقاليم السبعة، ورتّب الملك، ونظم الأعمال، ولقّب ب « فيشداذ »، وتفسيره بالعربية: أوّل سيرة العدل. ويقال: إنّه كان بعد الطوفان بمائتي سنة. وهو أوّل من عرف قطع الشجر، وبنى به، واستخرج المعادن وبنى مدينتي بابل والسوس. وكان فاضلا سائسا محمودا، ونزل الهند، ثم تنقّل في البلاد، وعقد التاج، وجلس على السرير. وكان من حسن سياسته أن نفى أهل الفساد والدّعارة من البلدان إلى البراري، وألجأهم إلى رؤوس الجبال وجزائر البحار، وطهّر منهم الممالك، واستخدم من كان يستصلحه منهم، وسمّاهم الشياطين والعفاريت، وقرّب أهل الصلاح وأحسن رعاية الأمور، إلى أن انتهى ملكه إلى طهومرت بعده.
طهومرت
وهو من ولد أوشهنج، وبينهما عدّة آباء، وسلك سيرة جدّه، وتنقّل في البلدان، وبنى الموضع الذي جدّده بعد ذلك سابور من فارس، ونزله، وطلب الدعّار ونفى الشياطين أعنى الأشرار. وهو أول من كتب بالفارسية. وسلك سبيل جدّه، فاستمرّ نظام الملك على حال واحدة من عموم الصلاح، واستقامة أحوال الجند والرعية، إلى أن ملك بعده جمّ شيذ.
جم شيذ
وهو أخو طهمورت، وتفسير « شيذ » الشعاع. لأنه كان وضيئا، جميلا. وملك الأقاليم، وسلك السيرة المتقدمة، وزاد عليها بأن صنّف الناس وطبّقهم ورتّب منازل الكتّاب، وأمر أن يلزم كل أحد طبقته. وعمل أربعة خواتيم: خاتما للحروب والشرط، وكتب عليه « الأناة »، وخاتما للخراج، وجباية الأموال، وكتب عليه « العمارة »، وخاتما للبريد، وكتب عليه « الوحا » وخاتما للمظالم، وكتب عليه « العدل ». فبقيت هذه الرسوم في ملوك الفرس إلى أن جاء الإسلام، وألزم من غلبه من أهل الفساد والشياطين الأعمال الصّعبة، وأذلّهم بقطع الحجارة والصخور من الجبال، وعمل الكلس والجصّ والبناء والطين، وعمل المعادن، وغير ذلك من الأمور الصعبة. فحسنت سيرته، وخافه أهل العيث والفساد، بما ألزمهم من الأعمال الشاقّة. وأحدث النوروز، وجعله عيدا وأمر الناس بالتنعم فيه. ثم إنّه بعد ذلك، بدّل سيرته. فكان من نتيجة فعله وسوء عاقبته، أن دخل الوهن في الممالك، وتجاسر أهل الفساد عليه.
فمما حكى من تبديل سيرته، إظهار الكبر والجبرية على وزرائه وكتّابه وقوّاده، وإيثار التخلّى والإغرام باللذّات، وترك مراعاة كثير من السياسيات التي كان يتولّاها بنفسه. فأحسّ بذلك بيوراسب - وهو الذي تسمّيه العرب الضحّاك - وعلم استيحاش الناس منه، وتنكّر خواص أصحابه له، فدسّ إلى رجاله من استصلحه لنفسه، ودبّر عليه حتى قوى، ثم قصده، فهرب منه جمّ وتبعه حتى ظفر به، فنكل به، وأشره بمئشار. وقد كان جمّ تنقّل في البلدان قبل ذلك، إلى أن جرى عليه ما جرى.
وكان الضحّاك هذا - على ما تزعم الفرس - من ولد جيومرت، وبينه وبين جيومرت من الآباء « تاج » وإليه تنتسب العرب، فيقال لهم: « تاجى » وهم يلقّبون بيوراسب ب « الازدهاق ». وقوّم منهم يزعمون أن جمّ شيذ زوّج أخته من بعض أشراف أهل بيته وملّكه اليمن، فولدت له الضحّاك. وأما العرب فينسبون الضحّاك غير هذه النسبة. ورغم قوم أنّه نمرود. وزعم آخرون أنّ نمرود كان عاملا من قبله على كثير من أعماله، ولا ينبغي أن نذكر من أمره فيما قصدنا له، أكثر من هذا النّبذ، لئلّا ننقطع عن غرضنا.
بيوراسب وما جرى بينه وبين كابي الإصبهاني
ولما ملك بيوراسب ظهر منه خبث شديد وفجور كثير، وملك الأرض كلّها، فسار فيها بالجور والعسف، وبسط يده بالقتل والصلب، ليهابه الناس، وليمحو عن صدور الناس سياسة من تقدّمه وذكرهم وسنّتهم. فسنّ العشور، واتخذ المغنّين والملهين. وكان على منكبه سلعتان يحركهما إذا شاء، كما يحرّك يديه.
فادّعى أنهما حيّتان، تهويلا على ضعفاء الناس، وأغبيائهم، وكان يسترهما بثيابه.
فلما طالت أيامه وعمّ الناس جوره، كان من سوء عاقبة ذلك أن ظهر بإصبهان رجل يقال له: « كابى » من أثناء العامة، وكان الضحّاك قتل له ابنين. فلما بلغ الجزع من كابى هذا على ولديه ما بلغ، أخذ عصا، فعلّق بطرفها جرابا. - ويقال: إنّه كان حدّادا وإنّ الذي علّقه نطع كان يتوقّى به من النار - فجعله علما ودعا الناس إلى مجاهدة بيوراسب، فأجابه خلق كثير، لما كانوا فيه من البلاء وفنون الجور. فاستفحل أمره وقوى، وتفأل الفرس بذلك العلم، وعظّموا أمره، وزادوه ورصّعوه بعد ذلك بالجوهر، حتى جعله ملوك العجم علمهم الأكبر الذي يتبرّكون به، وسمّوه « درفش كابيان ». فكانوا لا يسيّرونه إلّا في الأمور العظام.
ولما استعلى كابى الإصبهاني، وأشرف على بيوراسب، هرب عن منازله.
واجتمع أشراف الناس على كابى، وناظروه في الملك. فقال لهم كابى: إنّه لا يتعرّض للملك، لأنه ليس من أهله. وأمرهم أن يملّكوا بعض ولد جمّ. وكان أفريذون بن أثفيان مستخفيا من الضحّاك في بعض النواحي، فوافى هو ومن معه إلى كابى، فاستبشر الناس به، لأنّه كان مرشّحا للملك. فصار كابى أحد أعوان أفريذون حتى احتوى على منازل بيوراسب، وحتى تبعه وأسره بدنباوند، فقتله.
ولم يسمع من أمور الضحّاك بشيء يستحسن، ولا نقل من أخباره ما يكتب غير شيء واحد. وهو أنّ بليّته لما اشتدّت، وطالت أيّامه وتراسل وجوه الناس في أمره، وأجمعوا على المصير إليه من البلدان، وافى بابه العظماء والوجوه من النواحي والأقطار، وتناظروا في الدخول عليه والتأتّى له واستعطافه، وأجمعوا على تقديم كابى الإصبهاني، وذلك لما رأوا من تحرّقه على ولديه، وجرأته على الكلام. فلما اجتمعوا ببابه أعلم بمكانهم، فأذن لهم، فدخلوا يقدمهم كابى.
فمثل بين يديه، وأمسك عن السلام.
ثم قال:
« أسلّم عليك سلام من يملك الأقاليم كلّها، أم سلام من يملك هذا الإقليم؟ » فقال: « بل سلّم سلام من يملك الأقاليم كلّها، فإني ربّ الأرض. » فقال له كابى: « فإن كنت مالك الأقاليم كلّها، فما بالك خصصت بتحاملك ومؤنك وإساءتك ناحية كذا؟ وهلّا قسمت أمر كذا بين الأقاليم؟ » ثم عدّد أشياء، وجرّد له الصّدق، حتى انخزل له الضحّاك وأقرّ، ووعد الناس بما يحبّون، وأمرهم بالانصراف ليتّدعوا، ثم يعودوا إليه ليقضى حاجاتهم.
وكانت له أم فاحشة بذيئة جبّارة، وكانت تسمع كلامهم لمّا دخلوا عليه، فاغتاظت منهم وأنكرت إقراره للقوم. فكلّمت بيوراسب منكرة عليه وقالت:
« هلّا دمّرت عليهم وأمرت بهم؟ »
فقال لها الضحّاك على عتوّه:
« إنك لم تفكّرى في أمر، إلّا وقد سبقت إليه. إنّ القوم بدهونى بالحق. فلما هممت بالسطوة بهم، وقف الحقّ بيني وبينهم، واعترض كالجبل، فحال بيني وبين ما أردت. » فهذا ما استحسن من فعل الضحّاك وقوله، ولا يعرف له شيء مستحسن غيره.
ثم ملك أفريذون
وهو من ولد جمّ. ويقال: إنّه كان التاسع من ولده. فردّ مظالم الناس، وأمر بالإنصاف والإحسان، ونظر إلى ما غصب عليه الضحّاك من الأرضين وغيرها، فردّها كلّها على أهلها، إلّا ما لم يجد له أهلا، فإنّه وقفه على المساكين ومصالح العامة. وكان موثرا للعلم وأهله، وكان صاحب طبّ ونجوم وفلسفة. وكان له ثلاثة أولاد: سرم، وطوج، وإيرج. فخشي ألّا يتّفقوا بعده. وأن يبغى بعضهم على بعض. فظنّ أنّه إذا قسم الملك بينهم أثلاثا في حياته، بقي الأمر بعده على انتظام وصلاح. فجعل الروم وناحية المغرب لسرم، والترك والصين لطوج، والعراق والهند لإيرج وهو صاحب التاج والسرير، فلمّا مات أفريذون، وثب طوج وسرم بإيرج، فقتلاه، وملكا الأرض بينهما.
وأفريذون أوّل من تسمّى ب « كي ». فكان يقال له: كي أفريذون، وهي كلمة تعنى التنزيه، أى: روحانى، أى: هو منزّه متصل بالروحانية. وكان جسيما وسيما حسن البهاء، محربا عظيم القوة.
ويقال: إنّ بيوراسب قال له لمّا ظفر به:
« لا تقتلني بجدّك جمّ. » فقال له أفريذون منكرا لقوله:
« لقد سمت بك نفسك وهمّتك، وعظمت في نفسك، حين قدرتها لهذا. جدّى كان أعظم قدرا من أن يكون مثلك كفؤا له في القود، ولكنى أقتلك بثور كان في دار جدّى. » وأفريذون أوّل من عرف ذلّل الفيلة، وقاتل بها الأعداء. ثم قسم الأرض كما ذكرنا بين أولاده. ولأجل ما صار بين أولاده من العداوة، بقيت الذحول بين الترك، وملوك إيرانشهر، والروم، وطلب بعضهم بعضا بالدماء والترات.
وكان إبراهيم النبي http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png في أيام الضحّاك. ولذلك زعم قوم أنّه نمرود وأن نمرود عامل من عمّاله. ولم ينقل من أخباره http://upload.wikimedia.org/wikipedi...8%A7%D9%85.png شيء من النمط الذي هممنا بإيراده في هذا الكتاب، إلّا أشياء حكاها مانى، وهي بعيدة من الحقّ، فلذلك لم أوردها، ولم أتعرّض لذكرها.
منوشهر
فكان من سوء عاقبة وثوب طوج وسرم بإيرج وقتلهما إيّاه، أن نشأ ابن لإيرج بن أفريذون يقال له: منوشهر حقد على طوج، فدبّر عليه، إلى أن قاومه، وتغلّب على ملك أبيه إيرج، ثم نشأ ولد لطوج التركي، فنفى منوشهر عن بلاده. وكانت بينهما حروب لم ينقل منها شيء يستفاد منه تجربة. ثم أديل منه منوشهر، فنفاه عن بلاده، وعاد إلى ملكه.
وكان منوشهر موصوفا بالعدل والإحسان. وهو أوّل من عرف خندق الخنادق وجمع آلة الحروب، وأوّل من وضع الدّهقنة، فجعل لكل قرية دهقانا، وجعل أهلها عبيدا وخولا، وألبسهم لباس المذلّة، وأمرهم بطاعته. ولما قوى سار نحو التّرك وطالب دم جدّه إيرج بن أفريذون، فقتل طوج بن أفريذون وأخاه سرما، وأدرك ثأره وانصرف.
ثم نشأ فراسياب بن ترك الذي ينسب إليه الترك من ولد طوج بن أفريذون، فحارب منوشهر، وحاصره بطبرستان. ثم إن منوشهر وفراسياب اصطلحا، وضربا بينهما حدّا لا يجاوزه واحد منهما، وهو نهر بلخ - والفرس تحكى في ذلك حكايات لا فائدة في إيرادها - فانقطعت الحرب بين فراسياب ومنوشهر.
خطبة منوشهر
-
فمما حكى ونقل من تدابير منوشهر أنّه لما مضى من ملكه نحو ثلاثين سنة، تناولت الأتراك أطراف أعماله، فجمع قومه، ووبّخهم، ثم خطب عليهم، وهذه أوّل خطبة عرفناها، ونقلت إلينا. قال:
« أيها الناس: إنّكم لم تلدوا الناس كلّهم. وإنّما الناس ناس ما حفظوا أنفسهم، ودفعوا العدوّ عنهم. وقد نالت الترك منكم، ومن أطرافكم، وليس ذلك إلّا من ترككم جهاد عدوّكم، وقلّة المبالاة، وإن الله تعالى أعطانا هذا الملك ليبلونا: أنشكر فيزيدنا، أم نكفر فيعاقبنا؟ ونحن أهل بيت خير، ومعدن الملك. فإذا كان غدا، فاحضروا. » فاعتذر الناس، وواعدوه الحضور. فلمّا كان من غد، أرسل إلى أهل بيت المملكة وأشرافهم، وإلى الأساورة وكبارهم، فدعاهم، وأذن للرؤساء من الناس ودعا « موبذان موبذ »، وأقعده على كرسي مقابل سريره، ثم قام على سريره خطيبا. فقام أشراف الناس، وأهل بيت المملكة والأساورة، فقال: اجلسوا. فإني إنّما قمت لأسمعكم. فجلسوا، فقال:
« أيها الناس، إنما الخلق للخالق، والشكر للمنعم، والتسليم للقادر، ولا بدّ مما هو كائن، وإنّه لا أضعف من مخلوق، طالبا كان أو مطلوبا، ولا أقوى من خالق، ولا أقدر ممن طلبته في يده، ولا أعجز ممن هو في يد طالبه.
« ألا وإنّ التفكّر نور، والغفلة ظلمة، والجهالة ضلالة. وقد ورد الأوّل، ولا بدّ للآخر من اللحوق بالأوّل، وقد مضت قبلنا أصول نحن فروعها، فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله، وإنّ الله - عز وجل - أعطانا هذا الملك، فله الحمد، ونسأله إلهام الرشد والصدق واليقين.
« ألا وإنّ للملك على أهل مملكة حقّا، ولأهل مملكته عليه حقّا. فحقّ الملك على أهل مملكته، أن يطيعوه ويناصحوه ويقاتلوا عدوّه، وحقّهم على الملك أن يعطيهم أرزاقهم في أوقاتها، إذ لا معتمد لهم على غيرها، وإنّه تجارتهم وحقّ الرعية على الملك، أن ينظر لهم، ويرفق بهم، ولا يحمّلهم ما لا يطيقون. فإنّ أصابتهم مصيبة تنقص من ثمارهم، لآفة أو ضرر من السماء أو الأرض، أن يسقط عنهم خراج ما نقص وإن اجتاحتهم مصيبة، أن يعوّضهم ما يقوّيهم على عمارتهم، ثم يأخذ منهم بعد ذلك على قدر ما لا يجحف بهم في سنة أو سنتين. والجند للملك بمنزلة جناحي الطير، فهم أجنحة الملك، ومتى قصّ من الجناح ريشة، كان ذلك نقصانا منه، وكذلك الملك، إنّما هو بجناحه وريشه.
« وإن الملك ينبغي له أن يكون فيه ثلاث خلال: أوّلها أن يكون صدوقا فلا يكذب، وأن يكون سخيّا فلا يبخل، وأن يملك نفسه عند الغضب، فإنّه مسلّط، ويده مبسوطة، والخراج يأتيه.
فينبغي له أن لا يستأثر عن جنده ورعيته، بما هم أهل له، وأن يكثر العفو. فإنّه لا ملك أبقى من ملك فيه العفو، ولا أهلك من ملك فيه العقوبة. وإن المرء لأن يخطئ في العفو، خير له من أن يخطئ في العقوبة. فينبغي له أن يتثبّت في الأمر الذي فيه قتل النفس وبوارها. وإذا رفع إليه من عامل من عماله ما يستوجب به العقوبة، فلا ينبغي له أن يحابيه، وليجمع بينه وبين المتظلّم، فإن صحّ عليه للمظلوم حقّ خرج إليه منه، وانعجز عنه أدّى الملك عنه، وردّه إلى موضعه، وأخذه بإصلاح ما أفسد. فهذا لكم علينا. ألا ومن سفك دما بغير حقّ، أو قطع يدا بغير حقّ، فإني لا أعفو عن ذلك إلّا أن يعفو عنه صاحبه. فخذوا هذا عني.
« ألا وإنّ الترك قد طمعت فيكم فاكفونا، فإنّما تكفون أنفسكم. وقد أمرت لكم بالسلاح والعدّة وأنا شريككم في الرأي.
وإنّما لي من هذا الملك اسمه مع الطاعة منكم. ألا وإنّ الملك ملك إذا أطيع، فإذا خولف، فذلك مملوك وليس بملك. ومهما بلغنا من الخلاف، فإنّا لا نقبله من المبلغ، حتى نتيقّنه. فإذا صحّت معرفة ذلك، أنزلناه منزلة المخالف.
« ألا وإنّ أكمل الأداة عند المصيبات، الأخذ بالصبر، والراحة إلى اليقين. فمن قتل في مجاهدة العدو، رجوت له الفوز برضوان الله.
وأفضل الأمور التسليم لأمر الله، والراحة إلى اليقين، والرضا بقضائه. أين المهرب مما هو كائن، وإنّما نتقلّب في كفّ الطالب.
وإنّما هذه الدنيا سفر، أهلها لا يحلّون عقد الرحال إلّا في غيرها.
إنّما بلغتهم فيها بالعوارى. فما أحسن الشكر للمنعم، والتسليم لمرّ قضاء الحق، ومن أحقّ بالتسليم لمن فوقه ممن لا يجد مهربا إلّا إليه [ ولا معوّلا إلّا عليه ]. فثقوا بالغلبة إذا كانت نيّاتكم أنّ النصر من عند الله. وكونوا على ثقة من درك الطلبة إذا صحّت نيّاتكم. واعلموا أنّ هذا الأمر لا يقوم إلّا بالاستقامة، وحسن الطاعة، وقمع العدوّ، وسدّ الثغور، والعدل للرعيّة، وإنصاف المظلوم.
فشفاؤكم عندكم، والدواء الذي لا داء فيه الاستقامة والأمر بالخير والنهي عن الشرّ، ولا قوّة إلّا بالله.
« أنظروا للرعية، فإنّها مطعمكم ومشربكم، ومتى عدلتم فيهم، رغبوا في العمارة، فزاد ذلك في خراجكم، وتبيّن في زيادة أرزاقكم. وإذا حفتم على الرعيّة زهدوا في العمارة وعطّلوا أكثر الأرض، فنقص ذلك من خراجكم، وتبيّن في نقص أرزاقكم.
فتعاهدوا الرعيّة بالإنصاف. وما كان من الأنهار، والبثوق، مما نفقته على السلطان، فأسرعوا فيه قبل أن يكبر. وما كان من ذلك على الرعيّة، فعجزوا عنه، فأقرضوهم من بيت مال الخراج، فإذا جاءت أوقات خراجهم، فخذوا من خراج غلّاتهم على قدر ما لا يجحف بهم. ذلك ربع في كل سنة، أو ثلث، أو نصف، لكيلا يتبيّن عليهم.
هذا قولي وأمري. يا موبذ موبذان، الزم هذا القول، وجدّ في الذي سمعت في يومك. أسمعتم أيّها الناس؟ » قالوا: « نعم. » وأثنوا عليه، ودعوا له، ثم أمر بالطعام. فوضع، وأكلوا وشربوا، وخرجوا وهم له شاكرون. ثم كان من أمره ما كان مما ذكرناه.
منوشهر والرايش بن قيس
وفي أيّامه غزا الرايش بن قيس بن صيفي بن يشجب بن يعرب بن قحطان من ملوك اليمن. وكان اسم الرايش الحارث. غزا الهند، فغنم غنائم عظيمة، فأنفذ رجلا من أصحابه يعرف بشمر بن العطّاف، فدخل الترك من أرض آذربيجان، وهي يومئذ في أيديهم، فقتل وسبى وغنم.
وغزا بعده ذو منار بن الرايش بعد أبيه، وانّما سمّى ذا منار لأنّه غزا بلاد المغرب، فوغل فيها برّا وبحرا، وخاف على جيشه الهلاك عند قفوله، فبنى المنار ليهتدوا بها. ثم وجّه ابنه إلى أقاصى المغرب، فغنم، وأصاب مالا، وقدم عليه بسبي لهم خلقة منكرة، فذعر الناس منهم، فسمّوه ذا الأذعار.
وإنّما ذكرتهم في هذا الموضع، لاتصال ذلك بذكر منوشهر، وأنّ الفرس تدّعى أنّ ملوك اليمن كانت عمّالا لملوك الفرس بها، وأنّ الرايش كان من قبل منوشهر يغزو الترك وغيرهم. والعرب تنكر ذلك، وتزعم أن ملكهم لم يكن قطّ من قبل أحد، وإنّما كانوا برؤوسهم.
ظهور موسى في أيام منوشهر
وفي أيّام منوشهر ظهر موسى http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png ويقال: إنّ عمره http://upload.wikimedia.org/wikipedi...8%A7%D9%85.png كان مائة وعشرين سنة، منها في أيام أفريذون عشرون سنة، وفي أيام منوشهر مائة سنة. وكان من حديث موسى مع فرعون وما أنزل من الآيات على يده، ما هو مشهور. وقد اعتذرنا من ذكر هذه الأخبار وتركها.
ثم كان من حديث التّيه ما كان، إلى أن أخرج بني إسرائيل منه يوشع بن نون بعد موت موسى، وغزا الكنعانيين، ونفاهم إلى السواحل، وافتتح مدينة الجبّارين. فيقال إنّ إفريقس بن قيس بن صيفي بن كعب بن زيد بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان مرّ بهم متوجها إلى إفريقية، فاحتملهم من سواحل الشام، حتى أتى بهم إفريقية، فافتتحها، وقتل ملكها جرجيرا، وأسكنها البقية التي كانت بقيت من الكنعانيين الذين كان احتملهم من سواحل الشام، فهم البرابرة. وإنّما سمّوا بذلك لأنّ إفريقس قال لهم: « ما أكثر بربرتكم! » فسمّوا بذلك « بربرا ».
وكان إفريقس هذا عاملا لمنوشهر على ما تزعم الفرس. وكان تدبير يوشع أمر بني إسرائيل، من لدن مات موسى إلى أن توفّى يوشع في زمان منوشهر، عشرين سنة، وفي زمان فراسياب سبع سنين. ولمّا هلك منوشهر، تغلّب فراسياب على مملكة فارس، وطلب بالذحول. وصار إلى أرض بابل وأقام بمهرجاقذق، وأكثر الفساد، وخرّب ما كان عامرا، ودفن الأنهار والقنيّ، فقحط الناس في سنة خمس من ملكه، إلى أن أخرج، وردّ إلى بلاد الترك. فغارت المياه في تلك السنين، وحالت الأشجار المثمرة.
زو بن طهماسب
ولم يزل الناس في أعظم بليّة إلى أن ظهر زوّ بن طهماسب، ويقول بعضهم:
زاغ، وبعضهم: زاب، وبعضهم: زاسب، وهو من أولاد منوشهر، وبينه وبينه عدّة آباء.
فلما ظهر زوّ طرد فراسياب عن مملكة فارس، حتى ردّه إلى الترك بعد حروب كثيرة جرت بينهما لم يذكر لنا منها ما نستفيد منه تجربة. وكانت غلبة فراسياب على إقليم بابل اثنتي عشرة سنة من لدن توفّى منوشهر إلى أن طرده زوّبن طهماسب، إلى تركستان.
ثم ابتدأ زوّ في عمارة ما خرّبه فراسياب. فأمر ببناء ما هدم من الحصون وإعادة ما طمّر وعوّر من الأنهار والقنيّ وكرى ما كان اندفن من المياه حتى عاد جميع ذلك إلى أحسن ما كان، ووضع عن الناس الخراج سبع سنين.
فعمرت البلاد في أيّامه، وكثرت المياه، ودرّت معايش الناس، واستخرج بالسواد نهرا، وسمّاه: الزاب، وبنى على حافتيه مدينة، وهي التي تسمى:
المدينة العتيقة، وكوّرها كورة، وجعلها ثلاث طساسيج: الزاب الأعلى، والزاب الأوسط، والزاب الأسفل، ونقل إليها بذور الرياحين وأصول الأشجار من الجبال. وزوّ هذا أوّل من عرف اتّخذ ألوان الطبيخ، وأصناف الأطعمة، وأعطى جنوده مما غنم بالخيل، ومما أوجف عليه من أموال الترك، وكان وزيره « كرساسف » من أولاد طوج بن أفريذون. وقد حكى أنّ زوّا وكرساسف، اشتركا في الملك. والصحيح من أمره أنّه كان وزيرا لزوّ ومعينا له. فكان جميع ملك زوّ ثلاث سنين.
الكيية ومن عاصرهم
كيقباذ بن زو
ثم ملك بعده كيقباذ بن زوّ، وسلك سبيل أبيه. فكوّر الكور، وبيّن حدودها وحريمها، وأمر الناس بالعمارات، وأخذ العشر من الغلّات لأرزاق الجند، وكان حريصا على العمارة، ومانعا لحوزته. والملوك الكييّة من نسله. وجرت بينه وبين الترك حروب كثيرة. وكان مقيما في الحدّ الذي بين مملكة الفرس والترك بناحية بلخ، يمنع الترك من تطرّف شيء من حدود فارس. فجميع هذه العداوات والحروب سببها سوء نظر من قسم الملك بين أولاده، ثم وثوب من وثب من الإخوة بأخيه، واستمرار الشحناء بعد ذلك والعداوات.
وأما القيّم بأمر بني إسرائيل بعد يوشع، فكان كالب بن توفيل، ثم حزقيل الذي يقال له: ابن العجوز - وكانت لهما أخبار مشهورة تركنا ذكرها لأنها معجزات لا تستفاد منها تجربة - وحزقيل هو صاحب القوم « الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، فقال لهم الله: موتوا، ثم أحياهم » لأنهم ودّوا لو ماتوا فاستراحوا من بلاء كان أصابهم: إمّا طاعون، أو ما أشبهه، فخرجوا فرارا من ذلك.
ثم إلياس، ثم اليسع، ثم إيلاف. وفي خلال هؤلاء، كان يتملّك عليهم قوم من الكنعانيين وغيرهم، فيسومونهم البلايا والعظائم، وليس في ذكرهم فائدة. إلى أن جاءهم شمويل النبي. وكان من خبره مع جالوت وطالوت ما ذكره الله تعالى.
وملك داود لما كان منه من مبارزة جالوت. والخبر مشهور مقرون بمعجزة الأنبياء. ثم ملك سليمان، وأخباره ومعجزاته مذكورة.
-
كيقابوس وما جرى على ابنه سياوخش
ثم ملك بعد كيقباذ، كيقابوس بن كيبنة بن كيقباذ الملك. فشدّد على أعدائه وقتل خلقا من عظماء البلاد، ممن كان ينكر أمرهم وسكن بلخ. وولد له ابن لم ير مثله في عصره جمالا وتمام خلقة، وسمّاه سياوخش، وضمّه إلى رستم الشديد بن دستان من ولد كرساسف الذي ذكرناه قبيل، وكان إصبهبذ سجستان وما يليه من قبله، وأمره بتربيته وأوصاه به. فأخذه رستم، ومضى به إلى سجستان وتخيّر له الحواضن والمرضعات، حتى أدرك، فجمع له المعلّمين، وأدّبه، ثم علّمه الفروسة، حتى فاق فيها، وقدم على والده رجلا كاملا، فامتحنه كيقابوس والده، فوجده كاملا نافذا بارعا.
وكان لكيقابوس زوجة بارعة الجمال، يقال: إنّها بنت فراسياب ملك الترك، ويقال: إنّها بنت ملك اليمن. فهويت سياوخش، وهويها. والفرس تحكى أمورا طويلة، وتزعم أنّها كانت ساحرة، وأنّها سحرته، إلّا أن آخر أمرها آل إلى أن علم كيقابوس بما يجرى بينهما.
فكان من عاقبة ميلهما إلى الهوى، وظنّهما أنّ ذلك ينكتم، أن تغيّر كيقابوس لابنه سياوخش، وأشفق سياوخش على نفسه. فسأل رستم أن يسأل أباه توجيهه لحرب فراسياب. وكان قد تجدّدت وحشة بين كيقابوس وفراسياب. وأراد سياوخش بذلك البعد من والده، والتنحّى عما تكيده به امرأة أبيه. ففعل ذلك رستم وخاطب أباه فيه، واستأذن له في جند يضمّهم إليه. فأذن له، وضمّ إليه جندا كثيفا وأشخص سياوخش إلى بلاد الترك. فلما التقى سياوخش وفراسياب، جرى بينهما صلح. وكتب بذلك سياوخش إلى أبيه يعلمه ما جرى بينه وبين فراسياب.
فكتب إليه أبوه بإنكار ذلك، وأمره بمناهضته ومناجزته الحرب. فرأى سياوخش أنّ في فعله ما كتب به أبوه من محاربة فراسياب - بعد الذي جرى بينهما من الصلح والهدنة، من غير نقض فراسياب شيئا من أسباب ذلك - عارا ومنقصة. فامتنع من إنفاذ أمر أبيه في ذلك. ورأى أنّه يؤتى في كلّ ذلك من زوجة أبيه. فمال إلى الهرب من أبيه، فراسل فراسياب في أخذ الأمان لنفسه منه، واللحاق به وفراق والده، فأجابه فراسياب إلى ذلك. وكان السفير بينهما رجلا من عظماء الترك يقال له: فيران. فلمّا فعل ذلك سياوخش، انصرف عنه من كان معه من جند أبيه، إلى أبيه. وأكرم فراسياب سياوخش، وزوّجه ابنة له، وهي أمّ كيخسرو، ولم يزل على إكرامه، إلى أن ظهر له من أدب سياوخش وإربه وكماله، ونجدته ما أشفق منه، وضرّب بينهما أخ كان لفراسياب وابنان له حذرا على ملكهم. وله خبر طويل في ذلك، إلى أن قتل وامرأة سياوخش - وهي ابنة فراسياب - حامل منه، بابنه كيخسرو. فطلبوا له الحيلة، لاسقاطها ما في بطنها، فلم تسقط.
ثم إن فيران الذي توسّط الصلح بين سياوخش وبين فراسياب، أنكر ما جرى من فعل فراسياب، وحذّره عاقبة الغدر والطلب بالثأر، وأشار عليه أن يدفع ابنته إليه، يعنى: زوجة سياوخش، لتكون عنده إلى أن تضع، ثم إن أراد قتله قتله.
ففعل فراسياب ذلك. فلما وضعت، امتنع فيران من قتل الولد، وستر أمره حتى بلغ المولود، وهو كيخسرو.
ويحكى: أن كيقابوس بعث بيب بن جوذرز إلى بلاد الترك، وأمره بالبحث عن أمر المولود الذي لسياوخش، والتأتّى لإخراجه مع أمّه. ففعل بيب ذلك، وبقي زمانا طويلا يبحث عن أمره، إلى أن وقف على خبره. فاحتال فيه وفي أمّه، حتى أخرجهما من أرض الترك. فاستقبلهما رستم الشديد في جند عظيم من أولى البأس والنجدة، وطلب الترك أثر كيخسرو، فجرت بينهم وبين رستم حروب ظفر فيها رستم.
فللفرس هاهنا خرافات، وتزعم أنّ الشياطين كانت مسخّرة لكيقابوس. وقوم يزعمون أنّ سليمان بن داود - عليهما السلام - أمرهم بذلك، في خرافات كثيرة ظاهرة الإحالة، من الصعود إلى السماء، وبناء مدينة كنكرز بأسوار ذهب وفضّة وحديد ونحاس، وأنّها بين السماء والأرض، وأشباه ذلك مما لا فائدة في ذكره.
إلّا أنّ جملة أمره، أنّه تجبّر لما تمّ له أكثر ما كان يقصده. وسار من خراسان حتى نزل بابل، وترك ما كان يسوسه بنفسه، ويباشره برأيه. وأوحش الناس بالحجّاب والتعظّم، وآثر الخلوة. فكان من عاقبة ذلك أن فسد عليه ملكه، وكثرت الملوك في النواحي، حتى كان يغزوهم بعد ذلك ويغزونه، فيظفر مرّة وينكب أخرى، إلى أن غزا بلاد اليمن والملك يومئذ بها ذو الأذعار بن أبرهة بن ذي المنار بن الرايش. فلمّا أظلّه كيقابوس، خرج إليه ذو الأذعار في جموع حمير وولد قحطان، فظفر بكيقابوس، وأسره واستباح عسكره، وحبسه في بئر وأطبق عليها طبقا.
فخرج من سجستان رستم الشديد في من أطاعه من الناس. وأمّا الفرس فتحكى حكايات لا فائدة فيها عن شدّة رستم وبأسه، وأنّه وغل في البلاد بلاد اليمن، واستخرج كيقابوس من محبسه. وأما اليمن فتزعم أنّه لم يكن من ذلك شيء، وأنّ ذا الأذعار لمّا بلغه إقبال رستم، خرج إليه في جنود عظيمة، وخندق كل واحد منهما على نفسه وعسكره، وأنّهما أشفقا من البوار على جنديهما، وتخوّفا - إن تزاحما - أن لا يكون لهما بقيّة. فاصطلحا على دفع كيقابوس إلى رستم ووضع الحرب. فانصرف رستم بكيقابوس إلى بابل، فكتب له كيقابوس كتابا بالعتق، وأقطعه سجستان وزابلستان. وكانت الكتب يومئذ والرسائل يسيرة نزرة الكلام، لا يذكر فيها الأسباب والعلل. ونسخة الكتاب:
« من كيقابوس بن كيقباذ، إلى رستم.
إني قد أعتقتك من العبودة، وملّكتك على بلاد سجستان. فلا تقرّنّ لأحد بعبودة. واملك سجستان كما أمرتك، واجلس على سرير من فضّة مموّهة بالذهب. والبس قلنسوة منسوجة بالذهب متوّجة ».
ومما يدلّ على صدق ما حكيناه من أمر كيقابوس، قول الحسن بن هاني:
وقاظ قابوس في سلاسلنا ** سنين سبعا وفت لحاسبها
ثم ملك كيخسرو بن سياوخش بن كيقابوس
فعقد التاج على رأسه، وخطب رعيّته خطبة بليغة، أعلمهم فيها أنّه على الطلب بدم أبيه سياوخش قبل فراسياب. ثم كتب إلى جوذرز بإصبهان وكان إصفهبذه على خراسان، يأمره بالمصير إليه، وأمره أن يعرض جنده وأن [ ينتخب ] ثلاثين ألف رجل، وضمّهم إلى طوس، وكان في من أشخص معه برزافره عمّ كيخسرو، وابن لجوذرز، وجماعة من إخوته. وتقدّم كيخسرو إلى طوس أن يكون قصده لفراسياب وطراخنته، وحذّره من ناحية ببلاد الترك فيها أخ له يقال له: فروذ بن سياوخش، من بعض نساء الأتراك، كان سياوخش تزوّجها أيام صار إلى فراسياب، فولدت له فروذ، وأقام بموضعه إلى أن شبّ.
فكان من غلط طوس أن خالف كيخسرو، وذاك أنّه لمّا صار بالقرب من المدينة التي فيها فروذ، هاجت الحرب، وقتل فروذ. واتصل خبره بكيخسرو.
فكتب إلى برزافره عمّه كتابا غليظا يعلمه فيه ما ورد عليه من خبر طوس، ومحاربته فروذ، وقتله إيّاه. وأمره بتوجيه طوس إليه مقيّدا مغلولا. وتقدّم إليه في القيام بالعسكر، والتوجه إليه لوجهه. ففعل برزافره ذلك، وتولّى أمر العسكر، وعبر النهر المعروف ب « كاسرود »، وانتهى خبره إلى فراسياب. فوجّه إلى برزافره جماعة من إخوته وطراخنته لمحاربته. فالتقوا وفيهم فيران واخوته.
فاقتتلوا قتالا شديدا، وظهر من برزافره في ذلك اليوم فشل لما اشتدّ الحرب، وكثر القتلى، فهرب وانحاز بالعلم إلى رؤوس الجبال، واضطرب على ولد جوذرز أمرهم، فقتل منهم في تلك الملحمة، في وقعة واحدة، سبعون رجلا، وقتل بشر كثير.
وانصرف برزافره ومن أفلت معه إلى كيخسرو. فرئيت الكآبة في وجهه، وامتنع من الطعام والشراب، إلى أن مضت أيام. ثم راسل جوذرز. ولمّا دخل عليه شكا إليه برزافره، وأعلمه أنّه كان سبب الهزيمة بالعلم وخذلانه ولده.
فقال كيخسرو:
« إنّ حقّك لازم لنا لخدمتك أبانا، وهذه جنودنا وخزائننا مبذولة لك.
فاطلب ترتك، واستعدّ وتهيّأ للتوجّه إلى فراسياب.
فنهض جوذرز، فقبّل يده وقال:
« أيها الملك، نحن رعيّتك وعبيدك. فإن كانت آفة، أو نازلة، فلتكن بالعبيد، دون الملوك. وأولادى المقتولون فداؤك، ونحن من وراء الانتقام من فراسياب والاشتفاء من الترك. » وكتب كيخسرو إلى رؤساء أجناده ووجوه عسكره يأمرهم بموافاته في صحراء تعرف بشاه اسطون من كورة بلخ، في وقت وقّته لهم. فوافت رؤساء الأجناد في ذلك اليوم، وشخص إليه كيخسرو بإصبهبذيه وأصحابهم وفيهم برزافره عمه، وجوذرز وبقية ولده. فتولى كيخسرو بنفسه عرض الجند، حتى عرف مبلغهم، وفهم أحوالهم. ثم دعا بجوذرز وثلاثة نفر معه، فأعلمهم أنه يريد إدخال العساكر على الترك من أربعة وجوه، حتى يحيطوا بهم برّا وبحرا، وقوّد على تلك العساكر، وجعل أعظمها إلى جوذرز وجماعة من الإصهبذين كثيرة. ودفع إليه يومئذ العلم الأكبر الذي يسمونه: درفش كابيان، ولم يكن يدفع قبل ذلك إلى أحد من القواد، وإنّما كانوا يسيّرونه مع أولاد الملوك، وأمر أحد القواد بالدخول مما يلي الصين، وضمّ إليه جماعة كبيرة، وأمر آخر بالدخول من ناحية الخزر، وضمّ إلى آخر ثلاثين ألف رجل وأمرهم بالدخول من طريق بين جوذرز، وبين الذي دخل من طريق الصين.
ودخل جوذرز من ناحية خراسان، وبدأ بفيران. فالتحمت بينهما حرب مذكورة، تحكى فيها الفرس عجائب، بارز فيها بيزن بن بيب خمان وهو أخو فيران، فقتله مبارزة وقتل جوذرز فيران مبارزة أيضا. وقصد جوذرز فراسياب، وألحّت عليه العساكر من كل وجه، واتّبع القوم كيخسرو بنفسه، وجعل قصده للوجه الذي كان فيه جوذرز، وصيّر مدخله منه. فوافى عسكر جوذرز، وقد أثخن في القتل. وقتل فيران إصهبذ فراسياب والمرشّح للملك بعده، وجماعة كبيرة من إخوته وأولاده، وأسر بروين قاتل سياوخش، ووجد جوذرز قد أحصى القتلى والأسرى وما غنم من الكراع والأموال، فوجد مبلغ ما في يده من الأسرى ثلاثين ألفا ومن القتلى خمسمائة ألف ونيفا وستين ألفا على ما تزعم الفرس، وحاز من الكراع والأموال ما لا يحصى كثرة، وأمر كل واحد من الوجوه الذين كانوا معه، أن يجعل أسيره أو قتيله عند علمه، لينظر إليه كيخسرو عند موافاته.
فلمّا وافى كيخسرو العسكر موضع الملحمة، اصطفّت الرجال له وتلقاه جوذرز. فلمّا دخل العسكر، جعل يمرّ بعلم علم. فكان أول قتيل رآه جثّة فيران.
فنظر إليه، وخاطبه بما يجرى مجرى الاشتفاء، ولم يزل يفعل ذلك حتى وقف على علم بيب بن جوذرز، ووجد تحته بروين حيّا أسيرا، فسأل عنه، فأخبر أنه قاتل سياوخش الذي مثل به بعد قتله. فقرب منه كيخسرو، ثم طأطأ رأسه بالسجود، ثم قال: « الحمد لله الذي أمكننى منك. » ووبّخه طويلا. ثم أمر بقطع أعضائه حيّا. فلمّا لم يبق له طابق ذبحه. ثم استقرّ في مضربه، وأجلس عمّه عن يمينه، ودعا بجوذرز، فأحسن صلته ومخاطبته، وحمد ما كان منه، وفوّض إليه الوزارة التي يقال لها: بزرج فرمذار، وهو مرتبة الوزارة، وجعل إليه مع ذلك إصبهان وجرجان، وفعل مثل ذلك من الحباء والكرامة بكلّ من أبلى من قوّاده ورجاله.
ثم أتته الأخبار من الوجوه الثلاثة الأخر: أنّهم قد أحاطوا بفراسياب. وبرز فراسياب، وما كان بقي من ولده إلّا شيذه، فتوجه نحو كيخسرو بعدّة وعتاد.
فيقال: إنّ كيخسرو أشفق يومئذ، وهابه، وظنّ أن لا طاقة له به، وإنّ القتال بقي متّصلا بينهما أربعة أيام، إلى أن انهزم شيذه واتّبعه كيخسرو، فلحقه وضربه بالعمود على رأسه فخرّ ميّتا، وغنم كيخسرو ماله.
وبلغ الخبر فراسياب، فأقبل في جمع عظيم. فلمّا التقى مع كيخسرو، نشبت بينهما حرب يقال: إنّه لم ير مثلها قطّ على وجه الأرض، حتى اختلط رجال إيرانشهر برجال الترك. ثم انهزم فراسياب وكثر القتل. فتزعم الفرس أنّه بلغ عدد القتلى أمرا عظيما، لم أستحسن ذكره لكثرته. وجدّ كيخسرو في طلبه، حتى لحقه بآذربيجان، فظفر به واستوثق منه بالحديد. ثم وبّخه، وسأله عن سبب قتله سياوخش. فلم تكن له حجّة، فذبحه كما ذبح سياوخش. ثم انصرف غانما مسرورا.
-
وكان لفراسياب أخ يقال له: كي شواسف، صار إلى بلاد الترك بعد أخيه، وكان له ابن يقال له: خرزاسف، فملك البلاد بعد أبيه كي شواسف، وهو ابن أخي فراسياب الذي حارب منوشهر.
ولما فرغ كيخسرو من المطالبة بوتره، واستقرّ في ملكه، زهد في الملك، وتنسّك وأعلم الوجوه من أهل بيته ومملكته، أنّه على التخلّى. فاشتدّ جزعهم، وتضرّعوا إليه، وراودوه على المقام على تدبير ملكهم. فأبى عليهم، ولما يئسوا، قالوا:
« فإذا قمت على ما أنت عليه، فسمّ من يقوم به. » وكان لهراسف حاضرا، فأشار بيده إليه، وأعلمهم أنّه خاصّته ووصيّه. فقبل لهراسف الوصية، وأقبل الناس عليه، وفقد كيخسرو. فبعض الناس يقول: إنّه غاب للتنسك، ولا يدرى أين مات. وبعضهم يقول غير ذلك. وكان ملكه ستين سنة. ثم ملك بعده لهراسب.
لهراسب وما كان من أمر بختنصر
ويقال: إنّه ابن أخي كيقابوس. واتّخذ سريرا من ذهب مكلّلا بالجوهر، للجلوس عليه. وبنيت له بأرض خراسان مدينة بلخ وسمّاها: الحسناء. وهو أوّل من دوّن الدواوين، وقوّى ملكه بانتخاب الجنود لنفسه وعمر الأرض.
وذلك أنّ الأتراك اشتدت شوكتهم في زمانه، فجعل منزله بلخ ليقاتل الأتراك.
ووجّه بختنصّر إصبهبدا لما بين الأهواز إلى أرض الروم من غربي دجلة.
ويقال: إن اسمه بالفارسية: بخت نرسى. فشخص حتى أتى دمشق، فصالحه أهلها.
ووجّه قائدا له، فأتى بيت المقدس، فصالح ملك بني إسرائيل، وهو رجل من ولد داود، وأخذ منه رهائن وانصرف. فلما بلغ طبرية وثبت بنو إسرائيل على ملكهم، فقتلوه وقالوا:
« داهنت أهل بابل وخذلتنا »، واستعدّوا للقتال.
فكان من عاقبة جنايتهم على ملكهم أن كتب قائد بختنصّر إليه بما كان.
فكتب إليه يأمره أن يقيم بموضعه حتى يوافيه، وأن يضرب أعناق الرهائن الذين معه، وسار بختنصّر، حتى أتى بيت المقدس، فأخذ المدينة عنوة، وقتل المقاتلة، وسبى الذرية، وهرب الباقون إلى مصر.
فكتب بختنصّر إلى ملك مصر: « إنّ عبيدا لي هربوا مني إليك. فسرّحهم إليّ، وإلّا غزوتك وأوطأت بلادك الخيل. » فكتب إليه ملك مصر:
« ما هم عبيدك، ولكنهم الأحرار أبناء الأحرار. » فغزاه بختنصّر، فقتله، وسبى أهل مصر. ثم انصرف بسبي كثير من أهل فلسطين والأردن فيهم دانيال النبي وغيره من أبناء الأنبياء، وخرب بيت المقدس منذ ذاك.
وكان لهراسف بعيد الهمّة، طويل الفكر، شديد القمع للملوك المحيطة بإيرانشهر. وكانت ملوك الروم والمغرب والهند يحملون إليه في كل سنة وظيفة معروفة وإتاوة معلومة، ويقرّون له أنّه ملك الملوك هيبة له. وكان بختنصّر حمل إليه من بيت المقدس خزائن وأموالا عظيمة. ثم كبرت سنّه، وأحسّ بالضعف.
فملّك ابنه بشتاسف، واعتزل الملك، وكان عمره وملكه فيما ذكر مائة وعشرين سنة. وقد قيل: إنّ بختنصّر كان في خدمة لهراسف، وتوجّه من قبله إلى الشام وبيت المقدس، ليجلى اليهود عنها، ففعل، ثم انصرف. ثم كان في خدمة ابنه بشتاسف، ثم في خدمة ابنه بهمن، وإنّ بهمن أقام ببلخ التي كانت تسمى: الحسناء، وأنفذ بختنصّر إلى بيت المقدس لإجلاء اليهود، وإنّ السبب في ذلك كان وثوب صاحب بيت المقدس على رسل بهمن وقتله بعضهم. فمضى بختنصّر، فسبى وهدم بيت المقدس. وانصرف إلى بابل، وملّك « متنيا » وسمّاه: « صدقيا ». فلمّا صار بختنصّر ببابل، خالفه صدقيا. فغزاه بختنصّر ثانيا، وظفر به. فأخرب المدينة والهيكل وأوثق صدقيا وحمله إلى بابل، بعد أن ذبح ولده وسمل عينيه، فمكث بنو إسرائيل ببابل، إلى أن رجعوا إلى بيت المقدس. فكانت غلبة بختنصّر - وهو بخت نرسى - إلى أن مات، في هذا القول الذي حكيناه آنفا، أربعين سنة.
ثم قام بعده ابن له يقال له: نمروذ، ثم ابن له يقال له: بلتنصّر، فخلّط، ولم يرتض بهمن أمره، فعزله، وملّك مكانه:
كيرش
وتقدّم إليه بهمن أن يرفق ببني إسرائيل، ويطلق لهم النزول حيث أحبّوا، والرجوع إلى أرضهم وأن يولّى عليهم من يختارونه، فاختاروا دانيال النبي http://upload.wikimedia.org/wikipedi...8%A7%D9%85.png فولّا أمرهم. وكان ملك كيرش ومدة سنيه معدودة من خراب بيت المقدس، منسوبة إلى بختنصّر ومبلغها سبعون سنة. ثم ملك بابل وناحيتها من قبل بهمن رجل من قرابته يقال له:
اخشوارس
ابن كيرش بن جاماسب الملقّب ب « العالم ».
وولد لإخشوارس ولد من امرأة من سبى بني إسرائيل يقال لها: أشير، صنعا من الله لبني إسرائيل، فسمّاه:
كيرش
فملك بعد أبيه وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وعلّمه خاله التوراة، وفهم أمر دانيال ومن كان معه: مثل حننيا، وعازريا، وعزير. وتأدّب وعلم العلوم. وسأله بنو إسرائيل أن يأذن لهم في الخروج إلى بيت المقدس فأبى وقال:
« لو كان معي منكم ألف نبي، ما فارقني [ ما فارقني ] ما دمت حيّا ».
وولّى دانيال القضاء، وأمره ان يخرج كل شيء في الخزائن مما كان بختنصّر أخذه من بيت المقدس، فبنى وعمر في أيام كيرش، ومات بهمن لثلاث عشرة سنة خلت من قيام كيرش ببابل.
وقد حكى أهل التوراة في أمر بختنصّر أقوالا مختلفة تركنا ذكرها. إلّا أنهم ذكروا أن بختنصّر لما خرّب بيت المقدس، أمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه ترابا، ثم يقذفه في بيت المقدس. فقذفوا فيه من التراب ما ملأه. ولما انصرف إلى بابل، اجتمع معه سبايا بني إسرائيل، وأمرهم أن يجمعوا من كان في بيت المقدس كلّهم. فاجتمع عنده الكلّ، فاختار منهم سبعين ألف صبيّ. فلمّا خرجت غنائم جنده، سألوه أن يقسم فيهم الصبيان. فقسم في الملوك منهم، فأصاب كلّ رجل منهم أربعة. فكان من أولئك الغلمة: دانيال النبي، وحننيا، وميشايل، وسبعة آلاف من أهل بيت داود، وأحد عشر ألفا من سبط آسر بن يعقوب، وعلى ذلك سائر أولاد يعقوب الأسباط.
ثم غزا بختنصّر العرب. وذلك في زمن معدّ بن عدنان. فوثب على كلّ من كان في بلاده من تجّار العرب، وكانوا يقدمون عليه بالتجارات، ويمتارون من عندهم الحبّ والتمر والثياب وغيرها. فجمع من ظفر به منهم، وبنى لهم حيرا على النجف، وحصّنه، وضمّهم فيه، ووكّل بهم حرسا. ثم نادى في الناس بالغزو، فتأهّبوا لذلك، وانتشر الخبر في من يليهم من العرب، فخرجت إليهم طوائف منهم مسالمين فأحسن إليهم، وأنزلهم بختنصّر شاطئ الفرات، فابتنوا موضع معسكرهم، وسمّوه: « الأنبار » وخلّى عن أهل الحيرة، فاتّخذوها منزلا مدّة حياة بختنصّر. فلمّا مات انضموا إلى أهل الأنبار وبقي ذلك الحير خرابا.
وملك كي بشتاسف بن كي لهراسف، فبنى مدينة فسّا، وهو أول من عرف بسط دواوين الكتّاب، لا سيّما ديوان الرسائل، وأمر الكتّاب أن يطيلوا كتب الرسائل، ويذكروا فيها الأسباب والعلل.
وكان له ديوانان: أحدهما ديوان الخراج، والآخر ديوان النفقات. فكان كلّ ما يرد، فإلى ديوان الخراج، وكل ما يخرج من جيش وغيره، فإلى ديوان النفقات. وكان من رسم الوزير - واسمه: « برزج فرمذار » - أن يكون له خليفة يسمى:
« إيرانمارغر »، يصل إلى الملك، ويعرض عليه وينوب عن الوزير. فأمّا المتقلّد لديوان الرسائل فيسمّى: « دبيرفذ »، وكان له كاتب موكّل بدار المملكة، فان وقع على أحد تقصير في منزلة، أو حطّ في درجة، رجع إلى ذلك الكاتب حتى يبيّن حال مرتبته، فيجري عليه رسمه.
-
ظهور زردشت
وظهر في أيامه زردشت، وأراده على قبول دينه، فامتنع من ذلك، ثم صدّقه، وقبل ما دعاه إليه وأتاه به، من كتاب يكتب في جلد اثنى عشر ألف بقرة، حفرا في الجلود، ونقشا بالذهب. وصيّر بشتاسف ذلك بإصطخر ووكّل به الهرابذة، ومنع تعليمه العامة، وبنى ببلاد الهند بيوتا للنيران، وتنسّك واشتغل بالعبادة. وهادن خرزاسف بن كي سواسف ابن أخي فراسياب وملك الترك على ضرب من الصلح. وفي شريطة الصلح أن يكون [ بباب ] خرزاسف دابّة موقوفة في منزلة الدواب التي تكون على أبواب الملوك، فأشار زردشت على بشتاسف، بنقض الهدنة، ومفاسدة ملك الترك. فقبل منه، وبعث إلى الدابّة، والموكّل بها، أن ينصرف، وأظهر الغدر. فغضب خرزاسف، وكتب إليه كتابا غليظا، وأمره بتوجيه زردشت إليه، وأقسم - إن امتنع - أن يغزوه حتى يسفك دمه ودماء أهل بيته.
فلما ورد الرسول بالكتاب، كتب كتابا أغلظ منه جوابا عن كتابه، وآذنه بالحرب، وأعلمه أنّه غير ممسك [ عنه ] إن أمسك، فسار بعضهما إلى بعض، ومع كلّ واحد منهما إخوته وأهل بيته. فقتل بينهما خلق كثير، وأحسن الغناء ابن بشتاسف إسفنديار، وقتل بيدرفش الساحر بيده مبارزة. فصارت الدبرة على الترك، فقتلوا قتلا ذريعا، ومضى خرزاسف هاربا على وجهه، ورجع بشتاسف إلى بلخ.
فلمّا مضت لتلك الحرب سنون، سعى على إسفنديار رجل يقال له: فرّوخ، فأفسد قلب بشتاسف عليه. وذاك أنه أعلمه: أنه ينتدب للملك، ويزعم أنه أحقّ به، وأن الناس مائلون إليه. فصدّق بشتاسف بذلك، وترك الرفق ومعالجة الأمور على تؤدة، وأخذ في أن يندبه لحرب دون حرب. فكان ينجح فيها كلّها، ثم أمر بتقييده، وصيّره في الحصن الذي فيه حبس النساء. وصار بشتاسف إلى جبل يقال له: « طميذر »، لدراسة دينه، والتنسك هناك، وخلّف أباه لهراسف في مدينة بلخ شيخا هرما قد أبطله الكبر، وترك خزائنه وأمواله على امرأته.
فكان من عاقبة ذلك، أن حملت الجواسيس خبره إلى خرزاسف، فجمع جنودا لا يحصون كثرة، وشخص من بلاده نحو بلخ. فلما انتهى إلى تخوم ملك فارس، قدّم أمامه جوهرمز أخاه - وكان مرشّحا للملك - في جماعة من المقاتلة كثيرة، وأمرهم أن يغذّوا السير، حتى يتوسطوا المملكة، ثم يوقعوا بأهلها ويغيروا على المدن والقرى. ففعل جوهرمز ذلك، وسفك الدماء، واستباح الحرم، وسبى ما لا يحصى كثرة، واتبعه خرزاسف، فأحرق الدواوين، وقتل لهراسف والهرابذة، وهدم بيوت النيران، واستولى على الأموال والكنوز، وسبى ابنتين لبشتاسف، وأخذ فيما أخذ « درفش كابيان »، وشخص يتبع بشتاسف، فهرب منه بشتاسف، حتى تحصّن في الجبل الذي يعرف بطميذر مما يلي فارس، ونزل ببشتاسف ما ضاق به ذرعا وندم على ما صنعه بإسفنديار.
فيقال: إنه وجّه إليه بجاماسف، حتى استخرجه من محبسه، وصار به إلى أبيه. فلما دخل عليه، اعتذر إليه ووعده عقد التاج على رأسه، وأن يفعل به مثل الذي فعل به لهراسف، وقلّده عسكره، وأمره بمحاربة خرزاسف. فلما سمع إسفنديار كلام أبيه، طابت نفسه، وكفّر بين يديه، وتولّى الأمر، وتقدم فيما احتاج إليه.
ثم عبّى ليلته أصحابه، فلما أصبح، أمر بنفخ القرون، وسار بالجنود نحو عسكر الترك. فلما رأت الترك عسكره، خرجوا إليه على وجوههم يتسابقون وفي القوم جوهرمز وأندرمان. فالتحمت الحرب بينهم، وانقضّ إسفنديار [ و ] بيده الرمح كالبرق، حتى خالط القوم، وأكبّ عليهم بالطعن. فلم تكن هنيهة حتى ثلم في القوم ثلمة عظيمة، وفشا في الترك: إسفنديار قد أطلق من الحبس، فانهزموا لا يلوون على شيء، وانصرف إسفنديار وقد ارتجع العلم الأكبر، وحمل معه منشورا.
فلمّا دخل على بشتاسف، استبشر بظفره، وأمر باتّباع القوم وقتل خرزاسف إن قدر عليه، بلهراسف، وبقتل جوهرمز وأندرمان، بمن قتل من ولده، وبهدم حصون الترك وبحرق مدنها وبقتل أهلها، بمن قتلوا من حملة الدين، وباستنقاذ السبايا، ووجّه معه من القواد والعظماء خلقا كثيرا. فدخل إسفنديار بلاد الترك، ورام ما لم يرمه أحد، واعترض - على ما تزعم الفرس - العنقاء المذكورة، ورماها، ودخل مدينة الصفر عنوة، حتى قتل ملكها وإخوته ومقاتلته، واستباح أمواله، وسبى ذراريّه ونساءه واستنقذ أختيه، وكتب بالفتح إلى أبيه.
ياسر أنعم
فأمّا ملوك اليمن، فقد كتبناهم إلى عهد سليمان وأيّامه، ثم صار الملك إلى ياسر بن عمرو الذي يقال له: ياسر أنعم، لإنعامه على العرب. وكان سار غازيا نحو المغرب. حتى بلغ واديا يقال له: وادي الرمل، ولم يكن بلغه أحد قبله، ولم يجد وراءه مجازا لكثرة الرمل. فبينا هو مقيم إذ انكشف الرمل. فأمر بعض أهل بيته أن يعبر هو وأصحابه. فعبروا، ولم يرجعوا. فأمر بصنم من نحاس، فصنع ثم نصب على صخرة عظيمة على شفير الوادي، وكتب في صدره بالمسند:
« هذا الصنم لياسر أنعم الحميري، ليس وراءه مذهب، فلا يتكلّفن ذلك أحد فيعطب. »
تبع
ثم ملك بعد تبّع. وهو تبان، وهو أسعد، وهو أبو كرب بن مليكيكرب، تبّع بن زيد بن عمرو بن تبّع ذي الاذعار بن أبرهة تبّع ذي المنار بن الرائش بن قيس بن صيفي بن سبأ.
وكان تبّع هذا في أيام بشتاسف وأردشير بهمن بن إسفنديار بن بشتاسف.
خرج وغزا، وبلغ الأنبار، والموصل، ثم آذربيجان، ولقي بها الترك، فهزمهم، وقتل بها المقاتلة، وسبى الذريّة، فأقام بها دهرا، وهابته الملوك، وأهدت إليه، وقدم عليه رسول ملك الهند بالهدايا والطرف من الحرير والمسك، وسائر الطرف، فرأى ما لا يرى مثله.
فقال: « ويحك! أكلّ هذا في بلادكم؟ » فقال: أبيت اللعن، هذا أقلّ ما ترى في بلادنا، وأكثره في بلاد الصين. » ووصف له بلاد الصين، وسعتها وخصبها. فآلى ليغزونّها، وسار بحمير، حتى أتى الصين في جمع عظيم، حتى دخلها، فقتل مقاتلتها، واكتسح ما وجد فيها.
ويزعمون أنّ مسيره إليها كان - ومقامه بها ورجعته منها - في سبع سنين. وخلّف بالتبّت اثنى عشر ألف فارس من حمير، فهم أهل التبت اليوم، ويزعمون أنهم عرب، وخلقهم وألوانهم خلق العرب وألوانهم.
أردشير بهمن
وملك بعد بشتاسف أردشير بهمن. وانبسطت يده، وتناول الممالك بقدرة [ حتى ] ملك الأقاليم. وابتنى بالسواد مدينة وهي المعروفة ب « همينيا » وهو أبو دارا [ الأكبر ]، وأبو ساسان أبي الفرس الأخير أردشير بن بابك وولده.
وكان بهمن بن إسفنديار كريما، متواضعا، مرضيّا. وكانت تخرج كتبه: « من أردشير بهمن عبد الله، وخادم الله، والسائس لأمركم ».
ويقال: إنّه غزا الرومية الداخلة، في ألف ألف مقاتل. ولم تزل ملوك الأرض تحمل إليه الإتاوة، إلى أن هلك، وابنه دارا [ الأكبر ] في بطن أمه. فملّكوا خماى بنته شكرا لأبيها. وكان من أعظم ملوك الفرس شأنا، وأفضلهم تدبيرا. وله كتب ورسائل تفوق كتب أردشير وعهده. وتفسير « بهمن » بالعربية: « الحسن النيّة ».
-
خماي
ثم ملكت خماي بنته، لأنّها حملت منه دارا الأكبر، وسألته أن يعقد التاج له في بطنها، ويؤثره بالملك، ففعل بهمن ذلك. وكان ساسان بن بهمن في ذلك الوقت رجلا يتصنّع للملك، [ لا يشكّ ] فيه. فلما رأى ساسان ما فعل أبوه، شقّ عليه، فلحق بإصطخر، وتزهّد، وخرج من الحلية، واتخذ غنيمة، فكان يتولّى ماشيته بنفسه، واستشنعت العامة ذلك من فعله، وقالوا: « صار ساسان راعيا ».
وسبّوه به. ثم لمّا كبر دارا حوّل التاج إليه. وكانت خماى ضبطت الحكم بنجدة ورأى وحصافة، وأغزت الروم جيشا، وأوتيت ظفرا. فقمعت الأعداء وشغلتهم عن تطرّف شيء من بلادها، ونال رعيّتها في تدبيرها خفض ورفاهة، إلى أن ملّك ابنها:
دارا بن بهمن
فنزل بابل، وكان ضابطا لملكه، قاهرا لمن حوله من الملوك يؤدّون إليه الخراج. ابتنى بفارس مدينة، وسماها: « دارا بجرد ». وحذف دوابّ البريد ورتّبها. وكان معجبا بابنه « دارا »، وبلغ من حبّه إيّاه أن سمّاه باسم نفسه، وصيّر له الملك من بعده، وكان له وزير يسمّى: « رشتين » محمودا في عقله. فشجر بينه وبين غلام تربّى مع دارا الأصغر يقال له: « بيرى »، شرّ وعداوة. فسعى رشتين عليه عند الملك. فيقال: إنّ الملك سقى بيرى شربة فمات، فاضطغن دارا الأصغر على رشتين، وعلى جماعة كانوا عاونوه.
دارا الأصغر
فلمّا ملك دارا ابن دارا بن بهمن، كان أول ما تكلم به حين عقد التاج على رأسه، قال:
« لن ندفع أحدا في مهوى الهلكة، ومن تردّى فيها، لم نكففه عنها. » واستكتب أخا بيرى، واستوزره، رعاية لحق أخيه، وأنسا به، ولم يكن في موضع الوزارة، ولا كان له كفاية رشتين.
فكان من عاقبة ذلك، أن أفسد قلبه على أصحابه، وحمله على قتل بعضهم، فاستوحشت منه الخاصّة والعامّة، ونفروا عنه، وكان حقودا جبّارا. فعرف خبره الإسكندر فغزاه وقد ملّه أهل مملكته، واستوحش جنده، وأحبّ الجميع الراحة منه. فلحق كثير من وجوه أصحابه وأعلام جنده بالإسكندر، فأطلعوه على عورة دارا وقوّوه عليه، فلمّا التقيا ببلاد الجزيرة، اقتتلا سنة. ثم إنّ رجالا من أصحاب دارا وثبوا به، فقتلوه، وتقرّبوا بذلك إلى الإسكندر، فأمر بقتلهم وقال:
« هذا جزاء من اجترأ على ملكه. » وتزوّج ابنته: روشنك. ثم غزا الهند ومشارق الأرض، فملكها. ثم انصرف وهو يريد الاسكندرية، فهلك بناحية السواد، فحمل في تابوت من ذهب إلى أمّه. وكان ملكه أربع عشرة سنة، واجتمع ملك الروم وكان قبل الإسكندر متفرقا، وتفرّق ملك فارس وكان مجتمعا.
مما يحكى عن الإسكندر وحيله الإسكندر ودارا
وقد كان فيلفوس أبو الإسكندر، صالح دارا، على خراج يحمله إليه في كلّ سنة. فلمّا هلك الأب، وملك الإسكندر، وطمع في دارا، منعه الخراج الذي كان يحمله أبوه إليه. فأسخط دارا، فكتب إليه يؤنّبه بسوء صنيعه في تركه حمل ما كان أبوه يحمله من الخراج، وأنه إنما دعاه إلى حبس ذلك، الصبى والجهل، وبعث إليه بصولجان وكرة وبقفيز من السمسم: يعلمه بذلك أنه إنّما ينبغي أن يلعب مع الصبيان بالصولجان، ولا يتقلّد الملك، ولا يتلبّس به، ويعلمه أنه إن لم يقتصر على ما أمره به، وتعاطى الملك، بعث إليه من يأتيه به في وثاق، وأن عدّة جنوده الذين يبعث بهم، كعدّة حبّ السمسم الذي بعث به إليه.
فكتب الإسكندر في جواب ذلك، أن قد فهم ما كتب به، ونظر إلى ما أرسله من الصولجان والكرة، وتيمّن به، لإلقاء الملقى الكرة إلى الصولجان واجتراره إيّاها، وأنّه شبّه الأرض بالكرة، وتفأل بملكه إياها، واحتوائه عليها، وأنه يجترّ ملك دارا إلى ملكه، وبلاده إلى حيّزه من الأرض، وأن نظره إلى السمسم الذي بعث به، كنظره إلى الصولجان والكرة، لدسمه وبعده من المرارة والحرافة. وبعث إلى دارا مع كتابه بصرّة من « خردل »، وأعلمه في ذلك الجواب: أنّ ما بعث به إليه قليل، غير أنّ ذلك مثل الذي بعث به في القوّة، والحرافة، والمرارة، وأنّ جنوده فيما وصف به منه.
فلما وصل إلى دارا جواب كتاب الإسكندر، جمع إليه جنده، وتأهّب لمحاربة الإسكندر، وتأهّب له الإسكندر، وسار نحو بلاد دارا. فلمّا التقيا، وجرى ما جرى من أمر القائدين اللذين تقرّبا إلى الإسكندر وطلبا الحظوة عنده والوسيلة، وكان نادى الإسكندر ألّا يقتل دارا، وأن يؤسر أسرا، فلمّا أعلم الإسكندر بما جرى، سار حتى وقف عنده، فرآه يجود بنفسه. فنزل الإسكندر عن دابته، حتى جلس عند رأسه، وأخبره أنه ما همّ بقتله، وأن الذي أصابه لم يكن عن رأيه.
وقال له: « سلني ما بدا لك فإنى أسعفك به. » فقال له دارا: « لي حاجتان: إحداهما أن تنتقم لي من الرجلين اللذين فتكا بي - وسمّاهما - والأخرى أن تتزوج ابنتى: روشنك. » فأجابه إلى الحاجتين، وأمر بصلب الرجلين اللذين انتهكا من ملكهما ما انتهكا، وتزوّج روشنك وملك الأرض كلها.
ويقال: إن الرجلين اللذين قتلا دارا، إنّما فعلا ذلك بأمر الإسكندر، وكان شرط لهما شرطا. فلما طعناه، دفع إليهما حكمهما، ووفى لهما بشرطهما، ثم قال:
« قد وفيت لكما بالشرط، ولم تكونا شرطتما أنفسكما، وأنا قاتلكما، فإنّه ليس ينبغي لقتلة الملوك أن يستبقوا، إلّا بذمّة لا تخفر »، فقتلهما وصلبهما.
ويقال: إنّ الإسكندر في الأيام التي نازل فيها دارا كان يصير إليه بنفسه على أنه رسول. فيتوسط العسكر، ويعرف كثيرا مما يحتاج إليه. فكان إذا وصله دارا، أعجب به واستحسن سمته ومجاراته. إلى أن اتهمه وأحسّ الإسكندر، فهرب.
ذكر حيلة للإسكندر
فلمّا تواقفت الخيلان يوم الحرب، خرج الإسكندر من صفّ أصحابه وأمر من ينادى:
« يا معشر الفرس! قد علمتم ما كتبنا لكم من الأمانات، فمن كان منكم على الوفاء، فليعتزل عن العسكر، وله منّا الوفاء بما ضمنّاه. » واتهمت الفرس بعضها بعضا. فكان أول اضطراب حدث فيهم.
حيلة أخرى
ومما يحكى من حيله في الحروب: أنه لما شخص عن فارس إلى أرض الهند، تلقّاه فور ملكها في جمع عظيم، ومعه ألف فيل عليها السلاح والرجال، وفي خراطيمها السيوف والأعمدة، فلم تقف دواب الإسكندر وانهزم. فلما حصل في مأمنه، أمر باتخاذ فيلة من نحاس مجوّفة، وربط خيله بين تلك التماثيل حتى ألفتها، ثم أمر فملئت نفطا وكبريتا، وألبسها الدروع، وجرّت على العجل إلى المعركة، وبين كلّ تمثالين منها جماعة من أصحابه. فلما نشبت الحرب، أمر بإشعال النيران في أجواف التماثيل، فلما حميت، انكشف أصحابه عنها، وغشيتها الفيلة، فضربتها بخراطيمها، فنشطت وولّت مدبرة راجعة على أصحابها، وصارت الدبرة على ملك الهند.
حيلة أخرى له
ومما يحكى أيضا عنه: أنه كان نزل على مدينة حصينة. فتحصن منه أهلها وعرف خبرها، فأعلم أنّ فيها من الميرة والعيون المنفجرة كفايتهم. فدسّ تجّارا متنكرين، وأمرهم بدخول المدينة، وأمدّهم بمال على سبيل التجارة، وتقدم إليهم ببيع ما معهم، وابتياع ما أمكنهم من الميرة، والمغالاة بها. ففعل التجار ذلك، ورحل الإسكندر عنهم. فلم يزل التجار يشترون الميرة، إلى أن حصل في أيديهم أكثره. فلما علم الإسكندر ذلك، كتب إليهم أن أحرقوا الميرة التي في أيديكم واهربوا. ففعلوا ذلك، وزحف الإسكندر إليها، فحاصرهم أياما يسيرة، فأعطوه الطاعة، وملك المدينة.
وكان أيضا إذا انصرف عن مثل هذه المدينة، شرّد من حولها من أهل القرى، وتهدّدهم بالسبي، حتى خرجوا هاربين معتصمين بالمدينة، فلا يزال بذلك حتى يعلم أنّه قد دخلها أضعاف أهلها وأسرعوا في الميرة، فيرجع حينئذ، فيحاصرهم، ويفتح المدينة.
الإسكندر وأرسطوطالس
ومما يحكى عنه: أنّه كتب إلى أرسطوطالس يخبره: أنّ في عسكره من الروم جماعة من خاصته، لا يأمنهم على نفسه، لما يرى من بعد هممهم وشجاعتهم وكثرة آلتهم، ولا يرى لهم عقولا تفي بتلك الفضائل، ويكره الإقدام بالقتل عليهم بالظنّة، مع وجوب الحرمة.
فكتب إليه أرسطوطالس:
« فهمت كتابك، وما وصفت به أصحابك. فأمّا ما ذكرت من بعد هممهم فإنّ الوفاء من بعد الهمة. وأمّا ما ذكرت من شجاعتهم ونقص عقولهم عنها، فمن كانت هذه حاله، فرفّهه في معيشته، واخصصه بحسان النساء. فإنّ رفاهة العيش توهى العزم، وتحبّب السلامة، وتباعد من ركوب الخطأ والغرر. وليكن خلقك حسنا تخلص لك النيات، ولا تتناول من لذيذ العيش ما لا يمكن أوساط إخوتك مثله.
فليس مع الاستيثار محبة، ولا مع المواساة بغضة. واعلم أنّ المملوك إذا اشترى لا يسأل عن مال مولاه وإنّما يسأل عنه خلقه. » وكان الإسكندر في الأيام التي لقي فيها دارا، وجل من محاربته، ودعاه إلى الموادعة، لما رأى كثرة عدّته وعتاده وعدد جنده. فاستشار دارا أصحابه في أمره، فغشّوه، وزيّنوا له الحرب، لفساد قلوبهم عليه، وكاتبوا الإسكندر، وأطمعوه فيه. وكان ملك دارا أربع عشرة سنة. فهدّم الإسكندر حصون الفرس، وبيوت النيران، وقتل الهرابذة، وأحرق كتبهم، ودواوين دارا.
وكاتب معلّمه ووزيره أرسطوطالس يعلمه: أنّه شاهد بإيرانشهر رجالا ذوي أصالة في الرأي، وجمال في الوجوه، لهم مع ذلك صرامة وشجاعة، وأنه رأي لهم هيآت وخلقا، لو كان عرف حقيقتها، لما غزاهم، وأنّه إنّما ملكهم بحسن الاتفاق والبخت، وأنّه لا يأمن - إن ظعن عنهم - وثوبهم، ولا تسكن نفسه إلّا ببوارهم.
فكتب إليه أرسطوطالس:
« فهمت كتابك في رجال فارس. فأما قتلهم فهو من الفساد في الأرض ولو قتلتهم لأنبت البلد أمثالهم لأنّ إقليم بابل يولّد أمثال هؤلاء الرجال، من أهل العقول والسداد في الرأي، والاعتدال في التركيب، فصاروا أعداءك وأعداء عقبك بالطبع، لأنّك تكون قد وترت القوم، وكثرت الأحقاد على أرض الروم منهم وممن بعدهم، وإخراجك إياهم في عسكرك مخاطرة بنفسك وأصحابك. ولكنى أشير عليك برأى هو أبلغ لك في كلّ ما تريد من القتل، وهو أن تستدعى أولاد الملوك منهم، ومن يستصلح للملك ويترشح له، فتقلّدهم البلدان، ويتوليهم الولايات، ليصير كل واحد منهم ملكا برأسه، فتتفرّق كلمتهم، ويجتمعوا على الطاعة لك، ولا يؤدّى بعضهم إلى بعض طاعة، ولا يتّفقوا على أمر واحد، ولا تجتمع كلمتهم. » ففعل الإسكندر ذلك، فتمّ أمره، وأمكنه أن يتجاوز ملك الفرس، فسار قدما إلى أرض الهند، حتى قتل ملكها مبارزة، بعد حروب عظيمة هائلة، وفتح مدنها، ثم صار إلى الصين، وصنع بها كصنيعه بأرض الهند، ثم طاف مما يلي القطب الشمالي، ورجع إلى العراق، وخرج منها بعد أن ملّك ملوك الطوائف، فمات في طريقه بشهرزور، ويقال: بل في قرية من قرى بابل، وكان عمره ستّا وثلاثين سنة، وملك منها ثلاث عشرة سنة وأشهرا. وقتل دارا في السنة الثالثة من ملكه.
-
الإسكندر وملك الصين
وفي الرواية الصحيحة: أنّ الإسكندر لما انتهى إلى بلاد الصين، أتاه حاجبه وقد مضى من الليل شطره، فقال:
« هذا رسول ملك الصين بالباب يستأذن في الدخول عليك. » قال: « أدخله. » فأدخله. فوقف بين يدي الإسكندر، وسلّم، ثم قال:
« إن رأى الملك يستخلينى. » فأمر الملك من بحضرته أن ينصرفوا، فانصرفوا كلهم وبقي حاجبه. فقال:
« إن الذي جئت له، لا يحتمل أن يسمعه غيرك. » قال: « فتّشوه. » فلم يوجد معه سلاح. فوضع الإسكندر بين يديه سيفا مسلولا وقال له:
« قف بمكانك وقل ما شئت. » وأخرج كلّ من كان بقي عنده.
فقال:
« أنا ملك الصين، لا رسوله، جئت أسألك عما تريده، فإن كان مما أمكن عمله - ولو على أصعب الوجوه - عملته، وأغنيتك عن الحرب. » فقال له الإسكندر: « ما الذي آمنك منى؟ » قال: « علمي بأنّك عاقل حكيم، ولم تك بيننا عداوة، ولا مطالبة بذحل، وأنّك تعلم، إن قتلتني، لم يكن ذلك سببا لتسليم أهل الصين إليك ملكهم، ولم يمنعهم قتلي من أن ينصبوا لأنفسهم ملكا، ثم ينسب إلى غير الجميل، وضدّ الحزم. » فأطرق الإسكندر، وعلم أنه رجل عاقل، ثم قال له:
« الذي أريد منك ارتفاع مملكتك لثلث سنين عاجلا، ونصف ارتفاع مملكتك لكلّ سنة ».
قال: « هل غير هذا؟ » قال: « لا. » قال: « قد أجبتك، ولكن سلني: كيف تكون حالي بعد ذلك؟ » قال: « قل، كيف تكون حالك؟ » قال: « أكون أول قتيل من محارب، أو أول أكيلة مفترس. » قال: « فإن قنعت منك بارتفاع سنتين، كيف تكون حالك؟ » قال: « تكون أصلح قليلا وأفسح مدّة. » قال: « فإن قنعت منك بارتفاع سنة؟ » قال: « يكون في ذلك بقاء لملكى، وذهاب جميع لذّاتى. » قال: « فإن قنعت منك بارتفاع الثلث، كيف تكون حالك؟ » قال: يكون السدس للفقراء ومصالح البلاد، ويكون الباقي لجيشى ولسائر أسباب الملك ».
فقال: « قد اقتصرت منك على هذا. » فشكره وانصرف. فلما طلعت الشمس، أقبل جيش الصين، حتى طبّق الأرض، وأحاط بجيش الإسكندر، حتى خافوا الهلاك. وتواثب أصحابه حتى ركبوا الخيل، واستعدوا للحرب بعد الأمن والطمأنينة إلى السلم. فبينا هم كذلك، إذ طلع ملك الصين وعليه التاج وهو راكب. فلما تراءى الصفّان، ورأى الإسكندر ملك الصين، قدّر أنه حضر للحرب.
فصاح به: « أغدرت؟ » فترجّل، وقال: « لا، والله. » قال: « فادن منى. » فدنا وقال: « ما هذا الجيش الكثير؟ » قال: « إني أردت أن أريك أنّى لا أطيعك من قلّة وضعف، ولكني رأيت العالم العلوي مقبلا عليك، ممكّنا لك ممن هو أقوى منك وأكثر عددا، ومن حارب العالم العلوي غلب، فأردت طاعته بطاعتك، والتذلل له بالتذلل لك. » فقال له الإسكندر: « ليس مثلك من يسام الذلّ، ولا من يؤدّى الجزية، فما رأيت بيني وبينك من الملوك، من يستحق التفضيل والوصف بالعقل، غيرك، وقد أعفيتك من جميع ما أردته منك، وأنا منصرف عنك ».
فقال ملك الصين: « فلست تخسر. » ثم انصرف عنه الإسكندر، فبعث إليه ملك الصين بضعف ما قرّره معه.
وبنى الإسكندر اثنتي عشرة مدينة، وسمّاها كلّها « الاسكندرية »، منها: مدينة « جيّ » بإصبهان، وثلاث مدن أخرى بخراسان، وهي: هراة، ومرو، وسمرقند.
وبنى بأرض بابل مدينة لروشنك، وبنى بأرض يونان سبع مدن.
البطالسة
وعرض على ابن للإسكندر الملك بعد وفاة أبيه، فأبى واختار النسك، ملّكت اليونانية على رواية أكثر الناس بطليموس. ثم ملك عدة متوالية يقال لكل واحد منهم: « بطلميوس »، كما يقال لملوك الفرس: « الأكاسرة » وتغلّب قوم من اليونانيين بعده على نواحي مصر والشام.
الأشغانية ومن عاصرهم
واختلف أهل الرواية في عدد ملوك الطوائف الذين ملكوا إقليم بابل، إلى أن قام بالملك أردشير بابكان، فنظم ملك الفرس. فبعضهم يزعم أنّ آشك - وهو ابن دارا الأكبر - جمع جمعا كثيرا وسار إلى أنطيخس، وكان مقيما بسواد العراق من قبل الروم، وزحف إليه أنطيخس. فالتقيا ببلاد الموصل، فقتل أنطيخس، وغلب آشك على السواد، وصار في يده من الموصل إلى الريّ وإصبهان، وعظّمه سائر ملوك الطوائف لشرفه، وما كان من فعله، وبدءوا به على أنفسهم في كتبهم، وبدأ فيما كان يكتب إليهم بنفسه، وسمّوه ملكا، وأهدوا إليه، من غير أن يعزل أحدا منهم، أو يستعمله.
ثم ملك جوذرز بن أشكان
وهو الذي غزا بني إسرائيل المرّة الثانية. وذلك بعد قتلهم يحيى بن زكريّا.
فسلّطه الله عليهم، فأكثر القتل فيهم، فلم تعد لهم [ جماعة بعد ] ذلك ورفع الله عنهم النبوّة، وأنزل بهم الذلّ.
وكان من سنّة الفرس بعد الإسكندر، أن يخضعوا لمن ملك بلاد الجبل.
فخضعوا للأشغانيّة، وأوّلهم: أشك بن أشكان، ثم سابور بن أشكان - وفي أيامه ظهر عيسى بن مريم بأرض فلسطين - ثم ملك جوذرز بن أشغانان الأكبر، ثم بيرى الأشغانى، ثم جوذرز الأشغانى، ثم نرسى الأشغانى، ثم هرمز الأشغانى، ثم أردوان الأشغانى، ثم كسرى الأشغانى، ثم بلاش الأشغانى، ثم أردوان الأصغر الأشغانى، ثم أردشير بن بابك.
فكان مدّة هؤلاء إلى أن وثب أردشير على الأردوان، فقتله وجمع أمر الفرس، مائتين وستّا وستّين سنة. ولم يقع إلينا شيء من تدابيرهم يستفاد منه تجربة إلّا خبر لبعض الروم، وهو:
ذكر حيلة لبعض ملوك الروم
كان أحد ملوك الفرس وجّه رجلا من جلّة قوّاده في جيش إلى ملك الروم، فحاربه، فأجلاه الفارسيّ عن أكثر بلاده، حتى فتح أنطاكية، وجاوزها، وأوغل في بلاد الروم. فجمع ملك الروم رؤساء قومه، فشاورهم. فأشاروا بأمور مختلفة، حتى انفرد له رجل من أهل مملكته، ولم يكن من أبناء الملوك.
فقال: « إنّ عندي رأيا أشير به. فإن رزق الله الظفر، فما لي عندك؟ »
قال الملك: « سل حاجتك. » قال: « إني أرى الرأي الصحيح، وأخاطر فيه بنفسي، فاجعل لي الملك من بعدك. » قال: « نعم »، فوثّق له به.
فقال الرومي: « إنّ الفرس قد طمعت في ملكنا، فلم يبق منهم نجد ولا ذو رأى إلّا وجّهوه في وجوهنا، وقد ضعفنا عنهم، وقد حملوا ذراريّهم إلى الشام والجزيرة. فالرأي أن تأذن لي فأنتخب من عسكرك خمسة آلاف رجل، ثم أحملهم في البحر، وأصير من خلفهم، فأوكل بمضائق الطرق، وصعاب العقاب، رجالا من أصحابي من أهل البأس والنجدة، فإنّ خبري إذا بلغهم، فتّ في عضدهم ونخبت قلوبهم، ورجعوا إلى عيالاتهم وأموالهم متقطّعين، فلا يمرّ بالمواضع التي وكّلت بها أحد من الفرس إلّا قتل، فلا يسلم إلّا القليل الذين إذا صاروا إلى الشام أتيت عليهم وتشرّدهم أنت من خلفهم. » فأجابه الملك إلى رأيه، وأنفذه إلى الشام. فلما بلغ الفرس أنّ الروم قد خلفتهم في أموالهم، وأهاليهم، خرج أكثرهم على وجوههم متقطّعين لا يلوون على شيء، ومرّوا بمضائق الطرق، فقتل أكثرهم، وخرج ملك الروم إلى من بقي منهم، فهزمهم، فلم يسلم منهم إلّا القليل. فتحوّل الملك بذلك السبب من أهل بيت المملكة بالروم، إلى قوم ليسوا من أهل بيتها، بل هم من أهل إرميناقس، فبقى فيهم إلى هذه الغاية.
ذكر سبب طمع العرب في أطراف الفرس
كنّا حكينا من أمر بختنصّر أنّه أنزل الحيرة من العرب جماعة، فانتقلوا بعد موته إلى الأنبار، وبقي الحير خرابا يبابا، زمانا طويلا، لا تطلع [ عليهم ] طالعة من بلاد العرب، ولا يطمع أحد فيهم من الريف، بعد ما قصدهم بختنصّر.
فلمّا غلب الإسكندر على مملكة الفرس، وجعلها مقسومة في ملوك الطوائف، ضعف كل واحد منهم في نفسه، وصار عدوّه بالقرب منه من الأرض، ولكلّ واحد خندق يقصده الآخر، فيغير بعضهم على بعض، ثم يرجع كالخطفة.
وقد كان كثر في ذلك الزمان أولاد معدّ بن عدنان، ومن كان معهم من قبائل العرب، وملأوا بلادهم من تهامة وما يليهم، وحدثت بينهم أحداث وحروب، فتفرّقوا، وخرجوا يطلبون متّسعا في بلاد اليمن ومشار [ ف ] الشام، وأقبلت منهم قبائل حتى نزلوا البحرين وبها جماعة من الأزد، وكانوا نزلوها في زمان ابن ماء السماء، وتحالف القوم الذين خرجوا من تهامة على التنوخ بالبحرين - التّنوخ: المقام - وكان منهم قوم من قضاعة، وقوم من معدّ، وقوم من إياد.
فتعاقدوا على التوازر والتناصر، وصاروا يدا على الناس وصار اسمهم: « تنوخ ».
ثم لمّا بلغهم انتشار أمر الفرس واختلاف كلمتهم، تطلّعت نفوسهم إلى ريف العراق، وطمعوا في الفرس وفيما يلي بلاد العرب من أعمالهم، أو مشاركتهم فيها، واهتبلوا ما وقع بين ملوك الطوائف من الاختلاف، فأجمع رؤساؤهم على المسير الى العراق. فلمّا ساروا، وجدوا الإرمانيّين - وهم القوم الذين بأرض بابل وما يليها إلى ناحية الموصل - يقاتلون الأردوانيّين، وهم: ملوك الطوائف، وهم فيما بين نفّر - قرية من سواد العراق - إلى الأبلّة وأطراف البادية. فلم تدن لهم، فدفعوهم عن بلادهم. وإنما قيل: « الإرمانيّين » لأنّه كان يقال لعاد: « إرم »، فلمّا هلكت، قيل لثمود: « إرم »، ثم سمّوا: « الإرمانيّين » وهم بقايا « إرم »، وهم نبط السواد. ويقال لدمشق: « إرم ».
ثم طلع قوم من تيم الله، وغطفان في من تنخ معهم من الحلفاء والعشائر على الأنبار، على ملك الإرمانيّين. وطلع قوم من كندة وبنى فهم مع من حالفهم. وتنخ بعضهم على نفّر على ملك الأردوانيّين، فأنزلوا الحير، فلم تزل طالعة الأنبار وطالعة نفّر على ذلك، لا يدينون للأعاجم، ولا تدين لهم الأعاجم، حتى قدمها تبّع - وهو أسعد بن مليكيكرب - في جيوشه، فخلّف بها من لم تكن به قوّة ومن لم يقو على الغزو معه، ولا الرجوع إلى بلاده. فانضمّوا إلى أهل الحيرة، وخرج تبّع في حمير سائرا، ثم رجع إليهم، فأقرّهم على حالهم، وانصرف إلى اليمن وفيهم من كلّ القبائل من بنى لحيان - وهم بقايا جرهم - وطيّء، وكلب، وتميم، وغيرهم، واتّصلت جماعتهم وقووا، وكانوا بين الأنبار والحيرة إلى طفّ الفرات في المظالّ والأبنية، وكانوا يسمّون: « عرب الضاحية ».
-
من عاصر الأشغانيين من ملوك العرب
فكان أوّل من ملك منهم:
مالك بن فهم، وملوك الفرس طوائف، وقد دخل الوهن عليهم، وطمع فيهم.
ثم ملك أخوه عمرو بن فهم.
ثم جذيمة الأبرش بن مالك بن فهم، فقوى أمره، وكان جيّد الرأي، شديد النكاية في الأعداء بعيد المغار. فاستجمع له الملك بأرض العراق، وضمّ إليه العرب، وغزا بالجيوش، وعظّمته العرب، وكنت - عن برص به - ب « الأبرش » وب « الوضّاح »، فكان تفد عليه الوفود، وتجبى إليه الأموال.
وكان عنده غلام من إياد يقال له: عديّ بن نصر بن ربيعة، وضيء، له جمال وظرف، يلي شرابه. فعشقته أخت جذيمة رقاش، وما زالت تحتال، وتواطئه، حتى زوّجها الملك بعديّ في سكره. فوطئها من ليلته وعلقت منه. فلما أصبح جذيمة وعرف الخبر، ندم ندامة شديدة. وعرف عديّ الخبر، فهرب، ولحق بإياد حتى هلك. واشتملت رقاش على حبل، فولدت غلاما وسمّته عمرا. فترعرع الغلام وحسن وبرع، فالبسته وحلّته، وأزارته خاله جذيمة، فأعجب به، وأحبّه، وخلطه بولده، وأمر فطوّق، وهو أوّل عربيّ ألبس طوقا. ثم تزعم العرب أنّ الجنّ استهوته زمانا إلى أن عاد إلى جذيمة. وله خبر.
عمرو بن ظرب
وكان قد ملك بأرض الحيرة ومشار [ ف ] بلاد الشام، عمرو بن ظرب بن حسّان العمليقى. فجمع جذيمة جموعه من العرب ليغزوه. وأقبل عمرو بن ظرب بجموعه من الشام. فالتقوا، واقتتلوا قتالا شديدا، فقتل عمرو بن ظرب، وفضّت جموعه، وغنمه جذيمة وانصرف موفورا. فملكت من بعده ابنته:
الزباء
واسمها نائلة. وكان جنودها بقايا من العماليق، والعاربة الأولى، وقبائل من قضاعة. فلمّا استحكم حكمها، أجمعت على غزو جذيمة الأبرش تطلب بثأر أبيها. واستشارت أهل الرأي، فأشير عليها بالعدول عن الحرب إلى المكر، وأعلموها أنّها امرأة، والحرب سجال بين الرجال، وأنّها لو قد هزمت كان البوار، وأعلموها من غبّ مباشرة مثلها للحرب، ما كرهته.
وأشارت عليها أختها « زنيبة » وكانت ذات دهاء وإرب - أن تأتى الأمر من جهة الخدع والمكر، وأن تكتب إلى جذيمة تدعوه إلى نفسها وملكها.
فقبلت ذلك وكتبت إليه:
أنها لم تجد ملك النساء إلّا إلى قبح في السماع، وضعف في السلطان وقلّة ضبط للمملكة، وأنّها لم تجد لملكها موضعا، ولا لنفسها كفؤا « غيرك. فهلمّ إليّ، واجمع ملكي إلى ملكك، وصل بلادي ببلادك، وتولّ تدبيري كلّه وأمري، لتموت الضغائن والأحقاد، وتزول عن قلوب الناس ما خامرها من العداوات. » فلما انتهى كتاب الزباء إلى جذيمة، وقدم عليه رسلها بمخاطبات شبيهة بهذا المعنى، استخفّه ما دعته إليه، ورغب فيما أطمعته فيه، وجمع أهل الرأي من أصحابه، فاستشارهم. فأجمع رأيهم على أن يسير إليها، ويستولى على ملكها.
وكان فيهم رجل يقال له:
قصير بن سعد
وكان سعد هذا تزوّج أمة تخدم لجذيمة، فولدت له قصيرا، وكان حازما، أريبا، أثيرا عند جذيمة. فخالفهم في ما أشاروا به عليه، وقال:
« رأى فاتر وغدر حاضر. » - فذهب مثلا.
فنازعوه الرأي، فقال لجذيمة:
« أكتب إليها: فلتقبل إليك إن كانت صادقة. فإن لم تفعل. لم تسر إليها ممكّنا [ إيّاها ] من نفسك وقد وترتها، وقتلت أباها. » فلم يوافق جذيمة ما أشار به عليه قصير، وقال جذيمة:
« أنت امرؤ رأيك في الكنّ، لا في الضحّ » - فذهبت مثلا.
دعا جذيمة ابن أخته عمرو بن عديّ، فاستشاره، فشجّعه على المسير، وقال:
« هناك نمارة قومي، ولو قد رأوك، صاروا معك. » فأطاعه وعصى قصيرا. فقال قصير:
« لا يطاع لقصير أمر. » وفي ذلك يقول الشعراء ما حذفناه طلب الإيجاز.
واستخلف جذيمة عمرو بن عديّ على ملكه وسلطانه. وسار في وجوه أصحابه، فأخذ على الفرات من الجانب الغربيّ. فلمّا نزل رحبة مالك بن طوق - وكان تدعى في ذلك الزمان « الفرضة» - دعا قصيرا، فقال: ما الرأي؟ »
فقال: « ببقّة تركت الرأي. »
فذهبت مثلا. واستقبلته رسل الزبّاء بالهدايا والألطاف، فقال: « يا قصير كيف ترى؟ » قال:
« خطر يسير في خطب كبير - فذهبت مثلا - وستلقاك الخيل، فإن سارت أمامك فإن المرأة صادقة، وإن أخذت جنبتيك، فالقوم غادرون، فاركب العصا، فإني مسايرك عليها. » وكانت العصا فرسا لجذيمة لا تجارى، فلقيته الخيول والكتائب، فحالت بينه وبين العصا، فركبها قصير مولّيا على متنها، فقال:
« ويل أمّه حزما على ظهر العصا. » - فذهبت مثلا.
ونجا قصير، وأدخل على الزبّاء. فلما رأته كشفت له عن إسبها، فإذا هو مضفور. فقالت:
« يا جذيمة! أدأب عروس ترى؟ » - فذهبت مثلا.
فقال: « بلغ المدى، وجفّ الثرى، وأمر غدر أرى. » - فذهبت مثلا.
فتمّت حيلتها على جذيمة، حتى قتلته بأن قطعت راهشيه، في خبر طويل، وأمثال محفوظة. فهلك جذيمة، وخرج قصير حتى قدم على عمرو بن عديّ
وهو بالحيرة.
فقال له قصير: « أداثر، أم ثائر؟ » فقال: « بل ثائر سائر. » - فذهبت مثلا.
-
ذكر حيلة لقصير على الزباء تمت له عليها
كانت الزبّاء قد سألت الكهنة والمنجّمين عن أمرها وملكها، فقالوا:
« نرى هلاكك بسبب غلام مهين غير أمين. » ووصفوا قصيرا وعمرو بن عديّ، وقالوا:
« لن تموتي إلّا بيده، ولكنّ حتفك بيدك، ومن قبله ما يكون. » فحذرت عمرا، واتّخذت نفقا من مجلسها الذي كانت تجلس فيه، إلى حصن لها داخل مدينتها، وقالت: إن فجئنى أمر دخلت النفق إلى حصني.
ثم دعت مصوّرا حاذقا فجهّزته، وقالت:
« سر حتى تقدم على عمرو بن عديّ متنكّرا فتخلو بحشمه وتخالطهم بما عندك من التصوير، ثم أثبت عمرو بن عديّ معرفة، فصوّره جالسا، وقائما، وراكبا، ومتفضّلا، ومتسلّحا بهيئته، ولبسته، وثيابه، ولونه. فإذا أحكمت ذلك، فأقبل إليّ. » فانطلق المصوّر، حتى قدم على عمرو بن عديّ وبلغ جميع ما وصّته به، ثم رجع إليها بما وجّهته له من الصور. فعرفت عمرا على جميع هيئاته، وحذرته.
ثم إنّ قصيرا قال لعمرو: « إجدع أنفى، واضرب ظهري، ودعني وإيّاها. » فقال عمرو: « وما أنا بفاعل، ولا أنت بمستحقّ مني لذلك. » فقال قصير: « خلّ عني إذا وخلاك ذمّ. » فذهبت مثلا.
فقال له عمرو: « فأنت أبصر. » فجدع قصير أنف نفسه، وأثّر بظهره، وقيلت فيه الأشعار. وخرج قصير كأنّه هارب، وأظهر أنّ عمرا فعل به ذلك، وأنّه يزعم أنّه مكر بخاله جذيمة، وغرّه من الزبّاء.
فسار قصير حتى قدم على الزبّاء. فقيل لها: « إنّ قصيرا بالباب. » فأمرت به، فأدخل عليها، فإذا أنفه قد جدع وظهره قد ضرب.
فقالت: « ما الذي أرى بك يا قصير؟ » قال: « زعم عمرو أنّى غررت خاله، وزيّنت له المسير إليك، وغششته، ومالأتك عليه، ففعل بي ما ترين، فأقبلت إليك، وعرفت أنّى لا أكون مع أحد هو أثقل عليه منك. » فأكرمته، وأصابت عنده حزما ورأيا وتجربة ومعرفة بأمور الملوك. فلمّا علم أنّها قد وثقت به، واسترسلت إليه، قال لها:
« إنّ لي بالعراق أموالا كثيرة، وبها طرائف وثياب وعطر، فابعثني إلى العراق لأحمل مالي، وأحمل إليك من بزوزها، وطرائف ثيابها، وصنوف ما يكون بها من الأمتعة، والطيب، والتجارات، فتصيبين ما لا غناء للملوك عنه، مع أرباح عظيمة، فإنّه لا طرائف كطرائف العراق. » فلم يزل بها يزيّن لها ذلك، حتى سرّحته، ودفعت إليه أموالا، وجهّزت معه عيرا، وقالت:
« انطلق إلى العراق، فبع بها ما جهّزناك به، وابتع لنا طرائف ما يكون بها. » فسار قصير، وأتى الحيرة متنكّرا، فدخل على عمرو، وأخبره بالخبر، وقال:
« جهّزنى بالبزّ والطرف من الأمتعة، لعلّ الله يمكّن من الزبّاء، فتصيب ثأرك، وتقتل عدوّك. » فأعطاه حاجته، وجهّزه بصنوف الثياب وغيرها. فرجع بذلك كلّه إلى الزبّاء فعرضه عليها. فأعجبها ما رأت، وازدادت به ثقة، وإليه طمأنينة، ثم جهّزته بأكثر ممّا كانت جهّزته به. فسار حتى قدم العراق، ولقي عمرو بن عديّ، وحمل من عنده ما ظنّ أنّه موافق للزبّاء، ولم يترك جهدا ولا حيلة في طرفة ولا متاع قدر عليه إلّا حمله إليها.
ثم عاد الثالثة إلى العراق. فقال لعمرو:
« اجمع إليّ ثقات قومك وأصحابك وجندك، وهيّئ لي الغرائر والمسوح. » وحمل كلّ رجلين في غرارتين، وجعل معقد رؤوس الغرائر من باطنها، وقال:
« إذا دخلنا مدينة الزبّاء، أقمتك على باب نفقها، وخرجت الرجال من الغرائر، فصاحوا بأهل المدينة، فمن قاتلهم قتلوه، وإذا أقبلت الزبّاء تريد النفق، حلّلتها بالسيف. » ففعل عمرو بن عدى جميع ذلك. فلمّا قرب من المدينة، تقدّم قصير إليها، وبشّرها، وأعلمها كثرة ما حمل إليها من الثياب، وسألها أن تخرج فتنظر إلى قطرات تلك الإبل، وما عليها من الأحمال. وكان قصير يكمن النهار ويسير بالليل. فخرجت الزبّاء فأبصرت الإبل. فلمّا توسّطت الإبل المدينة أنيخت، ودلّ قصير عمرا على باب النفق، وخرجت الرجال من الغرائر، وصاحوا بأهل المدينة، ووضعوا فيهم السلاح. وقام عمرو بن عديّ بباب النفق، وأقبلت الزبّاء مبادرة تريد النفق لتدخله. فأبصرت عمرا قائما، فعرفته بالصورة التي صوّرها المصوّر، فمصّت خاتمها وكان فيه سمّ، وقالت:
« بيدي، لا بيدك يا عمرو! » فحلّلها بالسيف، فقتلها وأصاب ما أصاب، وانكفأ سالما.
عمرو بن عدي
وصار الملك بعد جذيمة لعمرو بن عديّ بن نصر بن ربيعة بن الحارث بن مالك بن عمرو بن نمارة بن لخم، وهو أول من اتّخذ الحيرة منزلا من ملوك العرب، وإليه تنسب ملوك آل نصر، ومات وهو ابن مائة وعشرين سنة، لا يدين لملوك الطوائف، ولا يدينون له، حتى قدم أردشير بن بابك في أهل فارس، فكان من أمرهم ما كان. ولم يكن لملوك اليمن نظام قبل آل نصر، وإنّما كان الرئيس يكون ملكا على مخلافه ومحجره، ولا يتجاوزه، فإن نبغ منهم نابغ مثل تبّع وغيره، فتجاوز ذلك، فإنّما هو عن غير نظام ولا ملك موطّد [ له ] ولا لآبائه، ولا لأبنائه، ولكن كالذي يكون من بعض من تشرّد، فيغير عند الغرّة، فإذا قصده الطلب، لم يكن له ثبات. فكذلك كان أمر ملوك اليمن كان الواحد منهم بعد الواحد، في قديم الدهر، يخرج من مخلافه ومحجره أيّاما، فيصيب ما مرّ به، ثم يتشمّر عند الطلب راجعا إلى موضعه من غير أن يدين له أحد من غير أهل مخلافه ومحجره بالطاعة، أو يؤدّى إليه خرجا إلّا ما يصيب على جهة الغارة، حتى كان عمرو بن عديّ، ابن أخت جذيمة، فإنّه اتّصل له ولعقبه ولأسبابه الملك على من كان بنواحي العراق، وبادية الحجاز، باستعمال ملوك فارس إيّاهم واستكفائهم أمر من وليهم من العرب.
طسم وجديس
وممّن أساء السيرة فاصطلم، طسم وجديس، وكانوا في أيّام ملوك الطوائف. فأما طسم فكان الملك فيهم، وكانوا ساكني اليمامة، وهي إذ ذاك من أخصب البلاد وأعمرها وأكثرها خيرا، لهم فيها صنوف الثمار، ومعجبات الحدائق والقصور الشامخة. وكان ملكهم ظلوما غشوما راكبا هواه. فكان مما لقوا من ظلمه: أنه أمر ألّا تهدى بكر من جديس إلى زوجها حتى تدخل عليه فيفترعها. فغبر على ذلك دهرا، حتى أنف منهم رجل يقال له: الأسود بن عفار.
فقال لرؤساء قومه:
« قد ترون ما نحن فيه من العار والذلّ، الذي ينبغي للكلاب أن تعافه، وتمتعض منه، فأطيعونى، فإني أدعوكم إلى عزّ الدهر ونفى الذلّ. » قالوا: « وما ذاك؟ » فأخذ عهودهم إلى أن وثق ثم قال:
« إني صانع للملك طعاما، فإذا حضر نهضنا إليهم بأسيافنا، فانفردت به فقتلته، وأجهز كلّ رجل منكم على جليسه. » فأجابوه إلى ذلك، واجتمع رأيهم عليه. فاتّخذ طعاما وأمر قومه، فانتضوا سيوفهم ودفنوها في الرمل، وقال:
« إذا أتاكم القوم يرفلون في حللهم فخذوا سيوفكم ثم شدّوا عليهم قبل أن يأخذوا مجالسهم، ثم اقتلوا الرؤساء، فإنّكم إذا قتلتموهم لم تكن السفلة شيئا. » وحضر الملك، فقتل وقتل الرؤساء، ثم شدّوا على البقيّة، فأفنوهم.
-
حدة بصر اليمامة
فهرب رجل من طسم يقال له: رياح بن مرّة، حتى أتى حسان بن تبّع، فاستغاث به. فخرج حسّان بن تبّع في حمير، فلمّا كان من اليمامة على ثلاث، قال له رياح:
« أبيت اللعن، إنّ لي أختا متزوّجة في جديس يقال لها: اليمامة، ليس على وجه الأرض أبصر منها. إنها لتبصر الراكب من مسيرة ثلاث، وإني أخاف أن تنذر القوم، فمر أصحابك، فليقطع كلّ رجل منهم شجرة فيجعلها أمامه. » ففعلوا ذلك، فأبصرتهم، فقالت لجديس:
« لقد سارت حمير. » فكذّبوها وقالوا:
« ما الذي ترين؟ » قالت: « أرى رجلا في شجر معه كتف يتعرّقها أو نعل يخصفها. » فلم يستمعوا منها، واستهانوا، فكان كما قالت. وصبّحهم حسّان فأبادهم وأخرب بلادهم، وهدّم قصورهم وحصونهم. وأتى حسّان باليمامة ففقأ عينها، وقالت العرب في ذلك الأشعار، وهي معروفة.
الساسانية ومن عاصرهم أردشير بن بابك
ثم لمّا استولى أردشير بن بابك على الأرمانيّين (و هم ملوك العراق وأنباط السواد، وكان كلّ واحد منهم يقاتل صاحبه، فاستولى أردشير عليهما، وقتل الأردوان - ويسمّى « شاهنشاه»)، كره كثير من تنوخ أن يقيموا في مملكته، فخرجوا، فلحقوا بالشام، وانضمّوا إلى من كان هناك، وكان ناس من العرب يحدثون الأحداث لو تضيق بهم المعيشة، فيخرجون إلى ريف العراق وينزلون الحيرة على ثلاثة أثلاث: الثلث [ الأوّل ]: « تنوخ »، وهم من كان يسكن المظالّ وبيوت الشعر والوبر في غربيّ الفرات فيما بين الحيرة والأنبار وما فوقها.
والثلث الثاني: « العبّاد »، وهم الذين سكنوا الحيرة وابتنوا بها. والثلث الثالث:
« الأخلاف »، وهم الذين لحقوا بأهل الحيرة ونزلوا فيهم ممن لم تكن من تنوخ الوبر ولا من العبّاد الذين دانوا لأردشير. وكانت الحيرة والأنبار جميعا بنيتا في زمن بختنصّر، فخربت الحيرة لما تحول أهلها عند هلاك بختنصّر إلى الأنبار، وعمرت الأنبار خمسمائة وخمسين سنة إلى أن عمرت الحيرة في زمن عمرو بن عديّ باتّخاذه إيّاها منزلا، فعمرت الحيرة خمسمائة وبضعا وثلاثين سنة، إلى أن وضعت الكوفة، ونزلها المسلمون.
ودبّر أردشير أمر الفرس والعرب، وردّ نظام الملك، وكان حازما أريبا كثير الاستشارة طويل الفكر، معتمدا في تدبيره على رجل فاضل من الفرس يعرف ب « تنسر »، وكان هربذا. فلم يزل يدبّر أمره ويجتمع معه على سياسة الملك، إلى أن أطاعه من جاوره من ملوك الطوائف، وعرفوا فضله، ودخلوا تحت رايته رهبة ورغبة، وحارب من امتنع منهم عليه.
وله مكايد وحروب يطول الكتاب بذكرها. فمن أحسن ما حفظ له عهده إلى الملوك بعده، وهذه نسخته:
عهد أردشير
« باسم وليّ الرحمة. من ملك الملوك أردشير بن بابك، إلى من يخلفه بعقبه من ملوك فارس، السلام والعافية. أمّا بعد، فإنّ صيغ الملوك على غير صيغ الرعية، فالملك يطبعه العزّ والأمن والسرور والقدرة، على طباع الأنفة والجرأة والعيث والبطر. ثم كلّما ازداد في العمر تنفّسا وفي الملك سلامة، زاده في هذه الطبائع الأربع، حتى يسلمه إلى سكر السلطان الذي هو أشدّ من سكر الشراب، فينسى النكبات والعثرات والغير والدوائر وفحش تسلّط الأيام، ولؤم غلبة الدهر، فيرسل يده ولسانه بالفعل والقول. وقد قال الأوّلون منّا: عند حسن الظنّ بالأيّام تحدث الغير. وقد كان من الملوك من يذكّره عزّه الذلّ، وأمنه الخوف، وسروره الكآبة، وبطره [ السوقة ]، [ وقدرته المعجزة ]، ولا حزم إلّا في جميعها.
« اعلموا أنّ الذي أنتم لاقون بعدي، هو الذي لقيني من الأمور، وهي بعدي واردة عليكم [ بمثل الذي وردت به عليّ ]، فيأتيكم السرور والأذى في الملك من حيث أتيانى، وأن منكم من سيركب الملك صعبا فيمنى من شماسه وجماحه وخبطه واعتراضه بمثل الذي منيت به. ومنكم من سيرث الملك عن الكفاة المذلّلين له مركبه، وسيجرى على لسانه ويلقى فيه قلبه أن قد فرع له، وكفى، واكتفى وفرغ للسعي في العبث والملاهي، وأنّ من قبله من الملوك إلى التوطيد له أجروا، وفي التمكين له سعوا، وأن قد خصّ بما حرموا، وأعطى ما منعوا، فيكثر أن يقول مسرّا ومعلنا: خصّوا بالعمل وخصصت بالدعة، وقدّموا قبلي إلى الغرر، وخلّفت في الثقة.
وهذا الباب من الأبواب التي تكسر سكور الفساد، ويهاج بها قربات البلاء، ويغنى البصير اللطيف ما ينتهك من الأمور في ذلك. فإنّا قد رأينا الملك الرشيد السعيد المنصور المكفيّ المظفر الحازم في الفرصة، البصير بالعورة، اللطيف [ للشبهة ] المبسوط له في العلم والعمر، يجتهد فلا يعدو صلاح ملكه حياته، إلّا أن يتشبّه به متشبّه. ورأينا الملك القصير عمره، القريبة مدّته، إذا كان سعيه بإرسال اللسان بما قال، واليد بما عملت، بغير تدبير يدرك، أفسد جميع ما قدّم له من الصلاح قبله، ويخلّف المملكة خرابا على من بعده.
« وقد علمت أنكم ستبلون مع الملك بالأزواج والأولاد والقرناء والوزراء والأخدان والأنصار والأصحاب والأعوان والمتنصّحين والمتقربين والمضحكين والمزيّنين: كلّ هؤلاء - إلّا قليلا - أن يأخذ لنفسه أحبّ إليه من أن يعطى منها، وإنّما عمله لسوق يومه وحياة غده. فنصيحته الملوك فضل نصيحته لنفسه، وغاية الصلاح عنده صلاح نفسه، وغاية الفساد عنده فسادها يجعل نفسه هي العامّة، والعامّة هي الخاصّة: فإن خصّ بنعمة دون الناس فهي عنده نعمة عامّة، وإذا عمّ الناس بالنصر على العدوّ، والعدل في البيضة، والأمن على الحريم، والحفظ للأطراف، والرأفة من الملك، والاستقامة من الملك، ولم يخصص من ذلك بما يرضيه، سمّى تلك النعمة نعمة خاصّة. ثم أكثر شكيّة الدهر، ومذمّة الأمور. يقيم للسلطان سوق المودّة ما أقام له سوق الأرباح، ولا يعلم ذلك الوزير والقرين أنّ في التماس الربح على السلطان فساد جميع الأمور، وقد قال الأوّلون منّا: رشاد الوالي خير للرعيّة من خصب الزمان.
« واعلموا أنّ الملك والدين أخوان توأمان. لا قوام لأحدهما إلّا بصاحبه، لأنّ الدين أسّ الملك وعماده، وصار الملك بعد حارس الدين، فلا بدّ للملك من أسّه، ولا بدّ للدين من حارسه، فإنّ ما لا حارس له ضائع، وإنّ ما لا أسّ له مهدوم. وإنّ رأس ما أخاف عليكم مبادرة السفلة إيّاكم إلى دراسة الدين [ وتلاوته والتفقّه فيه، فتحملكم الثقة بقوّة السلطان ] على التهاون بهم، فتحدث في الدين رئاسات مستسرّات في من قد وترتم وجفوتم وحرمتم وأخفتم وصغّرتم من سفلة الناس والرعيّة وحشو العامّة، ولم يجتمع رئيس في الدين مسرّ، ورئيس في الملك معلن، في مملكة واحدة قطّ، إلّا انتزع الرئيس في الدين ما في يد الرئيس في الملك، لأنّ الدين أسّ والملك عماد، وصاحب الأسّ أولى بجمع البنيان من صاحب العماد.
« وقد مضى قبلنا ملوك كان الملك منهم يتعهد الجملة بالتفسير والجماعات بالتفصيل، والفراغ بالأشغال، كتعهّده جسده بقصّ فضول الشعر والظفر وغسل الدرن والغمر ومداواة ما ظهر من الأدواء وما بطن. وقد كان من أولئك الملوك من صحّة ملكه أحبّ إليه من صحّة جسده، وكان بما يخلّفه من الذكر [ الجميل ] المحمود، أفرح وأبهج منه بما يسمعه بأذنه في حياته.
فتتابعت تلك الأملاك بذلك كأنهم ملك واحد، وكأنّ أرواحهم روح واحدة، يمكّن أوّلهم لآخرهم، ويصدّق آخرهم أوّلهم بجميع أنباء أسلافهم، ومواريث آرائهم، وصياغات عقولهم، عند الباقي منهم بعدهم، فكأنّهم جلوس معه، يحدّثونه، ويشاورونه، حتى كان على رأس دارا بن دارا ما كان، وغلبة الإسكندر على ما غلب من ملكنا. فكان إفساده أمرنا، وتفريقه جماعتنا، وتخريبه عمران مملكتنا، أبلغ له في ما أراد من سفك دمائنا. فلمّا أذن الله في جمع مملكتنا ودولة أحسابنا، كان من ابتعاثه إيّانا ما كان، وبالاعتبار تتّقى الغير، ومن يخلفنا أوجد للاعتبار، منّا، لما استدبروا من أعاجيب ما أتى علينا.
« واعلموا أنّ سلطانكم إنّما هو على أجساد الرعيّة، وأنّه لا سلطان للملوك على القلوب. واعلموا أنكم إن غلبتم الناس على ذات أيديهم، فلن تغلبوهم على عقولهم. واعلموا أنّ العاقل [ المحروم ] سالّ عليكم لسانه، وهو أقطع سيفيه، وإنّ أشدّ ما يضربكم به من لسانه، ما صرف الحيلة فيه إلى الدين: فكأنّ بالدين يحتجّ وللدين - فيما يظهر - يغضب، فيكون للدين بكاؤه، وإليه دعاؤه، وهو أوجد للتابعين والمصدّقين والمناصحين والمؤازرين منكم. لأنّ بغضة الناس هي موكّلة بالملوك، ومحبّتهم ورحمتهم موكلّة بالضعفاء المغلوبين. وقد كان من قبلنا من الملوك يحتالون لعقول من يحذرون، بتخريبها، فانّ العاقل لا تنفعه [ جودة ] نحيزته إذا صيّر عقله خرابا [ مواتا ]، وكانوا يحتالون للطاعنين بالدين على الملوك، فيسمّونهم المبتدعين.
فيكون الدين هو الذي يقتلهم ويريح الملوك منهم. ولا ينبغي للملك أن يعترف للعبّاد والنسّاك [ والمتبتّلين ] أن يكونوا أولى بالدين، ولا أحدب عليه، ولا أغضب له منه. ولا ينبغي للملك أن يدع النسّاك بغير الأمر والنهى لهم في نسكهم [ ودينهم ] فإنّ خروج النساك وغير النسّاك من الأمر والنهى عيب على الملوك وعيب على المملكة. وثلمة يتسنّمها الناس بنيّة الضرر للملك ولمن بعده.
« واعلموا أنّ مصير الوالي إلى غير أخدانه، وتقريبه غير وزرائه، فتح لأبواب [ الأنباء ] المحجوب عنه علمها. وقد قيل: إذا استوحش الوالي ممّن لم يوطّن نفسه عليه، أطبقت عليه ظلم الجهالة، وقيل: أخوف ما تكون العامّة آمن ما يكون الوزراء.
« اعلموا أنّ دولتكم تؤتى من مكانين: أحدهما غلبة بعض الأمم المخالفة لكم، والآخر فساد أدبكم. ولن يزال حريمكم من الأمم محروسا، ودينكم من غلبة الأديان محفوظا، ما عظّمت فيكم الولاة، وليس تعظيمهم بترك كلامهم، ولا إجلالهم بالتنحّى عنهم، ولا المحبّة لهم بالمحبّة لكل ما يحبّون. ولكن تعظيمهم تعظيم أديانهم وعقولهم، وإجلالهم إجلال منزلتهم من الله، ومحبّتهم محبّة إصابتهم، وحكاية الصواب عنهم.
« واعلموا أنه لا سبيل إلى أن يعظّم الوالي إلّا بالإصابة في السياسة، ورأس إصابة السياسة أن يفتح الوالي لمن قبله من الرعية بابين: أحدهما باب رقّة ورحمة [ ورأفة وتضرّع وبذل وتحنّن وإلطاف ومواساة ومؤانسة ] وبشر وتهلل [ وعفو ] وانبساط وانشراح، والآخر: باب غلظة وخشية وتعنّت وتسدّد وإمساك ومباعدة وإقصاء ومخالفة ومنع وقطوب وانقباض [ وتضييق وعقوبة ] ومحقرة إلى أن يبلغ القتل. واعلموا انّى لم أسمّ [ هذين البابين ] باب رفق وباب عنف، ولكني [ سمّيتهما ] جميعا « بابى رفق »، لأنّ فتح باب المكروه مع باب السرور هو أو شك لغلقه، حتى لا يبتلى به أحد. وفي الرعيّة من الأهواء الغالبة للرأى والفجور المستثقل للدين والسفلة الحنقة على الوجوه بالنفاسة والحسد، ما لا بدّ معه أن يقرن بباب الرأفة باب الغلظة، وبباب الاستبقاء باب القتل، وقد يفسد الوالي بعض الرعيّة من حرصه على صلاحها، ويغلظ عليها من رقّته لها، ويقتل فيها من حرصه على حياتها.
« واعلموا أنّ قتالكم الأعداء من الأمم قبل قتالكم الأدب من أنفس رعيّتكم، ليس بحفظ، ولكنّه إضاعة. وكيف يجاهد العدوّ بقلوب مختلفة، وأيد متعادية. وقد علمتم أنّ الذي بنى عليه الناس، وجبلت عليه الطباع، حبّ الحياة وبغض الموت، [ وأنّ الحرب تباعد من الحياة وتدنى من الموت ]، فلا دفع ولا منع ولا صبر ولا محاماة مع هذا، إلّا بأحد وجهين: إمّا بنيّة، والنيّة ما لن يقدر على الوالي عند الناس بعد النيّة التي تكون في أوّل الدولة، وإمّا بحسن الأدب وإصابة السياسة.
-
« واعلموا أنّ بدء ذهاب الدول من قبل إهمال الرعية بغير أشغال معروفة، ولا أعمال معلومة. فإذا فشى الفراغ [ في الناس ]، تولّد منه النظر في الأمور، والفكر في الأصول. فإذا نظروا في ذلك، نظروا فيه بطبائع مختلفة، فتختلف بهم المذاهب، ويتولّد من اختلاف مذاهبهم، تعاديهم وتضاغنهم وتطاعنهم، وهم في ذلك مجتمعون - في اختلافهم - على بغض الملوك، لأنّ كل صنف منهم إنما يجرى إلى فجيعة الملك بملكه، ولكنهم لا يجدون سلّما إلى ذلك أوثق من الدين، ولا أكثر أتباعا، ولا أعزّ امتناعا، ولا أشدّ على الناس صبرا. ثم يتولّد من تعاديهم أنّ الملك لا يستطيع جمعهم على هوى واحد، فإذا انفرد ببعضهم، فهو عدوّ بقيّتهم، ثم تتولّد من عداوتهم [ للملك ] كثرتهم، فإنّ من شأن العامّة الاجتماع على استثقال الولاة والنفاسة عليهم. لأنّ في الرعيّة المحروم، والمضروب، والمقام عليه وفيه وفي حميمه الحدود، والداخل عليه بعزّ الملك الذلّ في نفسه وخاصّته. فكلّ هؤلاء يجرى إلى متابعة أعداء الملك. ثم يتولّد من كثرتهم أن يجبن الملك عن الإقدام عليهم، فإنّ إقدام الملك على جميع الرعيّة تغرير بملكه ونفسه، ويتولّد من جبن الولاة عن تأديب العامة تضييع الثغور التي فيها الأمم من ذوي الدين والبأس، لأنّ الملك إن سدّ الثغور بخاصّته المناصحين له، وخلت به العامّة الحاسدة المعادية، لم يعد بذلك تدريبهم في الحرب، وتقويتهم في السلاح، وتعليمهم المكيدة مع البغضة، فهم عند ذلك أقوى عدو [ وأضرّه، وأحنقه ]، وأحضره، وأخلقه بالظفر، ولا بدّ من استطراد هذا كله إذا ضيّع أوّله.
« فمن ألفى منكم الرعيّة بعدي وهي على حال أقسامها الأربعة التي هي: أصحاب الدين، والحرب، والتدبير، والخدمة - من ذلك:
الأساورة صنف، والعبّاد والنسّاك وسدنة النيران صنف، والكتّاب والمنجّمون والأطبّاء صنف، والزرّاع والمهّان والتجار صنف - فلا يكوننّ بإصلاح جسده أشدّ اهتماما منه بإحياء تلك الحال، وتفتيش ما يحدث فيها من الدخلات، ولا يكوننّ لانتقاله عن الملك بأجزع منه من انتقال صنف من هذه الأصناف إلى غير مرتبته. لأنّ تنقّل الناس عن مراتبهم سريع في نقل الملك عن ملكه: إمّا إلى خلع، وإمّا إلى فتك. فلا يكوننّ من شيء من الأشياء أوحش بتّة من رأس صار ذنبا، أو ذنب صار رأسا، أو يد مشغولة أحدثت فراغا، أو كريم ضرير، أو لئيم مرح. فانّه يتولّد من تنقّل الناس عن حالاتهم، أن يلتمس كلّ امرئ منهم أشياء فوق مرتبته. فإذا انتقل أو شك أن يرى أشياء أرفع مما انتقل إليه، فيغبط وينافس. وقد علمتم أنّ من الرعيّة أقواما هم أقرب الناس من الملوك حالا. وفي تنقّل الناس عن حالاتهم مطمعة للذين يلون الملوك في الملك، ومطمعة للذين دون الذين يلون الملوك في تلك الحال، وهذا لقاح بوار الملك.
« ومن ألفى منكم الرعيّة وقد أضيع أوّل أمرها، فألفاها في اختلاف من الدين، واختلاف من المراتب، وضياع من العامّة، وكانت به على المكاثرة قوّة، فليكاثر بقوّته ضعفهم، وليبادر بالأخذ بأكظامهم قبل أن يبادروا بالأخذ بكظمه، ولا يقولنّ:
أخاف العسف. فإنّما يخاف العسف من يخاف جريرة العسف على نفسه، فأمّا إذا كان العسف لبعض الرعيّة صلاحا لبقيّتها، وراحة له ولمن بقي معه من الرعيّة، من النغل والدغل والفساد، فلا يكوننّ إلى شيء بأسرع منه إلى ذلك، فإنّه ليس نفسه ولا أهل موافقته يعسف، ولكنّما يعسف عدوّه.
« ومن ألفى منكم الرعيّة في حال فسادها، ولم ير بنفسه عليها قوّة في [ إ ] صلاحها، فلا يكوننّ لقميص قمل بأسرع خلعا منه لما لبس من ذلك الملك، وليأته البوار - إذا أتاه - وهو غير مذكور بشؤم، ولا منوّه به في دنياه، ولا مهتوك به ستر ما في يديه.
« واعلموا أنّ فيكم من يستريح إلى اللهو والدعة، ثم يديم من ذلك ما يورثه خلقا وعادة. فيكون ذلك لقاح جدّ لا لهو فيه، وتعب لا خفض فيه، مع الهجنة في الرأي والفضيحة في الذكر. وقد قال الأولون منّا: لهو رعيّة الصدق بتقريظ الملوك، ولهو ملوك الصدق بالتودّد إلى الرعيّة.
« واعلموا أنّ من شاء منكم ألّا يسير بسيرة إلّا قرّظت له فعل، ومن شاء منكم بعث العيون على نفسه فأذكاها، فلم تكن الناس بعيب نفوسهم بأعلم منه بعيبه.
« ثم إنه ليس منكم ملك إلّا كثير الذكر لمن يلي الأمر بعده، ومن فساد الرعيّة نشر أمور ولاة العهود، فإنّ في ذلك من الفساد أنّ أوّله دخول عداوة ممضّة بين الملك، وولى عهده، وليس يتعادى متعاديان بأشدّ من أن يسعى كلّ واحد منهما في قطع سؤل صاحبه. وهكذا الملك، وولى عهده: لا يسرّ الأرفع أن يعطى الأوضع سؤله في فنائه. ولا يسرّ هذا الأوضع أن يعطى الآخر سؤله في البقاء، ومتى يكن فرح أحدهما في الراحة من صاحبه، تدخل كل واحد منهما وحشة من صاحبه في طعامه وشرابه، ومتى تداينا بالتهمة، يتّخذ كلّ واحد منهما [ أحبّاء وأخدانا وأهلا، ثم يدخل كلّ واحد منهما ] وغر على أحبّاء صاحبه. ثم تنساق الأمور إلى هلاك أحدهما لما لا بدّ منه من الفناء، فتفضى الأمور إلى الآخر وهو حنق على جيل من الناس، يرى أنه موتور إن لم يحرمهم ويضعهم، وينزل بهم التي كانوا يريدون إنزالها به لو ولوا.
فإذا وضع بعض الرعية وأسخط بعضا على هذه الجهة، تولّد من ذلك ضغن وسخط من الرعيّة، ثم ترامى ذلك إلى بعض ما أحذر عليكم بعدي. ولكن ليختر الوالي منكم لله، ثم للرعيّة، ثم لنفسه، وليّا للعهد من بعده، ثم ليكتب اسمه في أربع صحائف، فيختمها بخاتمه، فيضعها عند أربعة نفر من خيار أهل المملكة. ثم لا يكوننّ منه في سرّ ولا في علانية أمر يستدلّ به على وليّ ذلك العهد، لا في إدناء وتقريب يعرف به، ولا في إقصاء وتنكّب يستراب له، وليتّق ذلك في اللحظة والكلمة. فإذا هلك، جمعت تلك الكتب التي عند الرهط الأربعة، إلى النسخة التي عند الملك، ففضضن جميعا، ثم نوّه بالذي وضع اسمه في جميعهن. فيلقى الملك - إذا لقيه - بحداثة عهده بحال السوقة، فلبس ذلك الملك - إذا لبسه - ببصر السوقة، وسمعها، ورأيها. فإنّ في سكر السلطان الذي سيناله، ما يكتفى به له من سكر ولاية العهد مع سكر الملك.
فيصمّ ويعمى قبل لقاء الملك لصمم الملوك وعماهم، ثم يلقى الملك، فيزيده صمما وعمى مع ما يلقى في ولاية العهد من بطر السلطان، وحيلة العتاة، وبغى الكذّابين و [ ترقية ] النمّامين وتحميل الوشاة بينه وبين من فوقه.
« ثم اعلموا أنّه ليس للملك [ أن يبخل، لأنه لا يخاف الفقر، وليس له ] أن يكذب، لأنه لا يقدر أحد على استكراهه، وليس له أن يغضب، لأنّ الغضب والعداوة لقاح الشرّ والندامة، وليس له أن يلعب ولا يعبث، لأنّ العبث واللعب من عمل الفرّاغ، وليس له أن يفرغ، لأنّ الفراغ من أمر السّوق، وليس له أن يحسد إلّا ملوك الأمم على حسن التدبير، وليس له أن يخاف، لأنّ الخوف من المعور، وليس له أن يتسلّط، إذ هو معور.
« واعلموا أنّ زين الملوك، في استقامة الحال: أن لا تختلف منه ساعات العمل والمباشرة، وساعات الفراغ والدعة، وساعات الركوب والنزهة، فإنّ اختلافها منه خفّة، وليس للملك أن يخفّ.
« اعلموا أنّكم لن تقدروا على ختم أفواه الناس من الطعن والإزراء عليكم، ولا قدرة بكم على أن تجعلوا القبيح حسنا.
« واعلموا أنّ لباس الملك ومطعمه مقارب للباس السوقة ومطعمهم، وبالحريّ أن يكون فرحهما بما نالا من ذلك واحدا.
وليس فضل الملك على السوقة إلّا بقدرته على اقتناء المحامد واستفادة المكارم. فإنّ الملك إذا شاء أحسن، وليس السوقة كذلك.
« واعلموا أنّه يحقّ على الملك منكم أن يكون ألطف ما يكون نظرا، أعظم ما يكون خطرا، وألّا يذهب حسن أثره في الرعيّة خوفه لها، وألّا يستغنى بتدبير اليوم عن تدبير غد، وأن يكون حذره للملاقين أشدّ من حذره للمباعدين، وأن يتّقى بطانة السوء أشدّ من اتّقائه عامّة السوء، ولا يطمعنّ ملك في إصلاح العامّة إذا لم يبدأ بتقويم الخاصّة.
« واعلموا أنّ لكل ملك بطانة، وأنّ لكل رجل من بطانته بطانة، ثم لكلّ امرئ من بطانة البطانة بطانة، حتى يجتمع في ذلك [ جميع ] أهل المملكة! فإذا أقام الملك بطانته على حال الصواب، أقام كل امرئ منهم بطانته على مثل ذلك حتى يجتمع على الصلاح عامّة الرعيّة.
« اعلموا أنّ الملك منكم قد تهون عليه العيوب، لأنّه لا يستقبل بها إن عملها حتى يرى أنّ الناس يتكاتمونها بينهم كمكاتمتهم إيّاه تلك العيوب. وهذا من الأبواب الداعية إلى طاعة الهوى، وطاعة الهوى داعية إلى غلبته، فإذا غلب الهوى اشتدّ علاجه من السوقة المغلوب فضلا عن الملك الغالب.
« اتّقوا بابا واحدا طالما أمنته فضرّنى، وحذرته فنفعني: احذروا إفشاء السرّ عند الصغار من أهليكم وخدمكم، فانّه لا يصغر أحد منهم [ عن ] حمل ذلك السرّ كاملا! لا يقول منه شيئا حتى يضعه حيث تكرهون، إمّا سقطا وإما غشّا، والسقط أكثر ذلك. اجعلوا حديثكم لأهل المراتب، وحباءكم لأهل الجهاد، وبشركم لأهل الدين، وسرّكم عند من يلزمه خير ذلك وشرّه وزينه وشينه. « واعلموا أنّ صحة الظنون مفاتيح اليقين، وأنكم ستستيقنون من بعض رعيّتكم بخير وشرّ، وستظنّون ببعضهم خيرا وشرّا، فمن استيقنتم منه بالخير والشرّ، فليستيقن منكم بهما، ومن ظننتموهما به، فليظنّهما بكم في أمره، فعند ذلك يبدو من المحسن إحسانه، فيخالف الظنّ فيغتبط، ومن المسيء إساءته، فيصدق الظنّ به فيندم.
-
« واعلموا أنّ للشيطان في ساعات من الدهر طمعا في السلطان عليكم، منها: ساعات الغضب والحرص والزهو، فلا تكونوا له في شيء من ساعات الدهر أشدّ قتالا منكم عندهنّ حتى يتقشّعن.
وكان يقال: اتّق مقارنة الحريص الغادر، فإنّه إن رءاك في القرب، رأى منك أخبث حالاتك، وإن رءاك في الفضول، لم يدعك وفضولك.
أسعدوا الرأي على الهوى، فإنّ ذلك تمليك للرأى. واعلموا أنّ من شأن الرأي الاستخذاء للهوى، إذا جرى الهوى على عادته.
وقد عرفنا رجالا كان الرجل منهم يؤنس من قوّة طباعه، ونبالة رأيه ما تريه نفسه أنّه على إزاحة الهوى عنه، وإن جرى على عادته، ومعاودته الرأي، وإن طال به عهده قادر، لثقة يجدها بقوّة الرأي. فإذا تمكّن الهوى منه، فسخ عزم رأيه، حتى يسمّيه كثير من الناس ناقصا في العقل. فأمّا البصراء فيستبينون من عقله عند غلبة الهوى عليه ما يستبان من الأرض الطيّبة الموات.
« واعلموا أنّ في الرعية صنفا من الناس هم بإساءة الوالي أفرح منهم بإحسانه، وإن كان الوالي لم يترهم، وكان الزمان لم ينكبهم، وذلك لاستطراف حادثات الأخبار، فإنّ استطراف الأخبار معروف من أخلاق حشو الناس. ثم لا طرفة عندهم فيما اشتهر، فجمعوا في ذلك سرور كلّ عدو لهم ولعامّتهم مع ما وتروا به أنفسهم وولاتهم.
فلا دواء لأولئك إلّا بالأشغال. وفي الرعية صنف وتروا الناس كلّهم وهم الذين قووا على جفوة الولاة، ومن قوى على جفوتهم فهو غير سادّ ثغرا ولا مناصح إماما، ومن غشّ الإمام فقد غشّ العامّة وإن ظنّ أنه للعامة مناصح، وكان يقال: لم ينصح عملا من غشّ عامله.
« وفي الرعيّة صنف تركوا إتيان الملوك من قبل أبوابهم وأتوهم من قبل وزرائهم. فليعلم الملك منكم أنّ من أتاه من قبل بابه فقد آثره بنصيحته إن كانت عنده، ومن أتاه من قبل وزرائه فهو موثر للوزير على الملك في جميع ما يقول ويفعل.
« وفي الرعيّة صنف دعوا إلى أنفسهم الجاه، بالإباء والردّ له، ووجدوا ذلك عند المغفّلين نافقا، وربّما قرّب الملك الرجل من أولئك لغير نبل في رأى، ولا إجزاء في العمل، ولكن الإباء والردّ أغرياه به.
« وفي الرعيّة صنف أظهروا التواضع، واستشعروا الكبر.
فالرجل منهم يعظ الملوك زاريا عليهم بالموعظة، يجد ذلك أسهل طريقي طعنه عليهم ويسمّى هو ذلك - وكثير ممن معه - تحرّيا للدين. فإن أراد الملك هو انهم لم يعرف لهم ذنبا يهانون عليه، وإن أراد إكرامهم فهي منزلة حبوا بها أنفسهم على رغم الملوك، وإن أراد إسكاتهم كان السماع في ذلك أنّه استثقل ما عندهم من حفظ الدين، وإن أمروا بالكلام قالوا [ ما يفسد ولا يصلح ]. فأولئك أعداء الدول وآفات الملوك. فالرأي للملوك تقريبهم من الدنيا، فإنّهم إليها أجروا، وفيها عملوا، ولها سعوا، وإيّاها أرادوا. فإذا تلوّثوا فيها بدت فضائحهم، وإلّا فإنّ فيما يحدثون ما يجعل للملوك سلّما إلى سفك دمائهم. وكان بعض الملوك يقول: القتل أقلّ للقتل.
« وفي الرعيّة صنف أتوا الملوك من قبل النصائح لهم، والتمسوا صلاح منازلهم بإفساد منازل الناس. فأولئك أعداء الناس وأعداء الملوك، ومن عادى الملوك وجميع الرعيّة، فقد عادى نفسه.
« واعلموا أنّ الدهر حاملكم على طبقات، منهنّ: حال السخاء حتى تدنو من السرف، ومنهن: حال التقتير حتى تقرب من البخل، ومنهنّ: حال الأناة، حتى تصير إلى البلادة، ومنهنّ: حال المناهزة للفرصة حتى تدنو من الخفّة، ومنهنّ حال الطلّاقة في اللسان حتى تدنو من الهذر، ومنهنّ: حال الأخذ بحكم الصمت حتى تدنو من العيّ، فالملك منكم جدير أن يبلغ من كلّ طبقة في محاسنها حدّها، فإذا وقف على الحدود التي ما وراءها سرف، ألجم نفسه عمّا وراءها.
« واعلموا أنّ الملك منكم ستعرض له شهوات في غير ساعاتها. والملك إذا قدّر ساعة العمل، وساعة الفراغ، وساعة المطعم، وساعة المشرب، وساعة الفضيلة، وساعة اللهو، كان جديرا ألّا يعرف منه الاستقدام بالأمور، ولا الاستيخار عن ساعاتها. فإنّ اختلاف ذلك يورث مضرّتين: إحداهما السخف، وهي أشدّ الأمرين، والأخرى نقص الجسد، بنقص أقواته وحركاته.
« واعلموا أنّ من ملوككم من سيقول: لي الفضل على من كان قبلي من آبائي وعمومتي ومن ورثت عنه هذا الأمر، لبعض الإحسان يكون منه. فإذا قال ذلك، سوعد عليه بالمتابعة له.
فليعلم ذلك الملك والمتابعون: إنما وضعوا أيديهم وألسنتهم في قصب آبائه من الملوك وهم لا يشعرون. ولبالحريّ أن يشعر بعض المتابعين له فيغمّض على ما لا يحزنه من ذلك.
« واعلموا أنّ ابن الملك وأخاه وعمّه وابن عمّه كلّهم يقول:
كدت أن أكون ملكا، وبالحريّ ألّا أموت حتى أكون ملكا، فإذا قال ذلك، قال ما لا يسرّ الملك. فإن كتمه، فالداء في كلّ مكتوم، وإن أظهره كلم في قلب الملك كلما يكون لقاحا للتباين والتعادي.
وستجدون القائل ذلك من المتابعين والمحتملين والمتمنّين، ما تمنّى لنفسه ما يريده، إلّا ما اشتاق إليه شوقا. فإذا تمكّن في صدره الأمل، لم يرج النيل له، إلّا في اضطراب من الحبل، وزعزعة تدخل على الملك وأهل المملكة. فإذا تمنّى ذلك فقد جعل الفساد سلّما إلى الصلاح، ولم يكن الفساد سلّما إلى صلاح قطّ. وقد رسمت لكم في ذلك مثالا لا مخرج لكم منه إلّا به.
اجعلوا أولاد الملك من بنات عمومتهم. ثم لا يصلح من أولاد بنات الأعمام، إلّا كامل غير سخيف العقل، ولا عازب الرأي، ولا ناقص الجوارح، ولا معيوب عليه في الدين. فإنّكم إذا فعلتم ذلك، قلّ طلّاب الملك، وإذا قلّ طلّابه استراح كلّ امرئ على جديلته، وعرف حاله، وغضّ بصره، ورضى بمعيشته واستطاب زمانه.
« واعلموا أنّه سيقول قائل من عرض رعيّتكم، أو من ذوي قرابتكم: ما لأحد عليّ فضل ولو كان لي ملك..، فإذا قال ذلك فإنّه قد تمنّى الملك وهو لا يشعر، ويوشك أن يتمنّاه بعد ذلك وهو يشعر. فلا يرى ذلك من رأيه خطلا، ولا من فعله زللا، وإنّما يستخرج ذلك فراغ القلب واللسان ممّا يكلّف أهل الدين والكتّاب والحسّاب، أو فراغ اليد ممّا يكلّف الأساورة، أو فراغ البدن مما يكلّف التجّار، والمهنة، والخدم. واعلموا أنّ الملك ورعيّته جميعا يحقّ عليهم ألّا يكون للفراغ عندهم موضع، فإنّ التضييع في فراغ الملك، وفساد المملكة في فراغ الرعيّة.
« واعلموا أنّا على فضل قوّتنا، وإجابة الأمور إيّانا، وحدّة دولتنا، وشدة بأس أنصارنا، وحسن نيّة وزرائنا، لم نستطع إحكام تفتيش الناس، حتى بلغنا من الرعيّة مكروهها، ومن أنفسنا مجهودها.
« واعلموا أنّه لا بدّ من سخط سيحدث منكم على بعض أعوانكم المعروفين بالنصيحة لكم، ولا بدّ من رضى سيحدث لكم من بعض أعدائكم المعروفين بالغشّ لكم، فلا تحدثوا، عند ما يكون من ذلك، انقباضا عن المعروف بالنصيحة، ولا استرسالا إلى المعروف بالغشّ.
« قد خلّفت لكم رأيي، إذ لم أستطع تخليف بدني، وقد حبوتكم بما حبوت به نفسي وقضيت حقّكم فيما آسيتكم به من رأى.
-
فاقضوا حقّى بالتشفيع لي في صلاح أنفسكم والتمسك بعهدي إليكم. فإني قد عهدت إليكم عهدي، وفيه صلاح جميع ملوككم وعامّتكم وخاصّتكم. ولن تضيعوا ما احتفظتم بما رسمت لكم ما لم تصنعوا غيره. فإذا تمسّكتم به، كان علامة في بقائكم ما بقي الدهر.
« ولولا اليقين بالبوار النازل على رأس الألف من السنين، لظننت أنّى قد خلّفت فيكم ما إن تمسّكتم به، كان علامة في بقائكم الدهر. ولكن القضاء إذا جاءت أيّامه، أطعتم أهواءكم، واستثقلتم ولاتكم، وأمنتم وتنقّلتم عن مراتبكم وعصيتم خياركم [ وأطعتم شراركم ]، وكان أصغر ما تخطئون فيه سلّما إلى أكبر منه حتى تفتقوا ما رتقنا، [ وتوهوا ما وثّقنا ]، وتضيعوا ما حفظنا. والحقّ علينا وعليكم ألّا نكون للبوار أغراضا، وفي الشؤم أعلاما. فإنّ الدهر إذا أتى بالذي تنتظرون، اكتفى بوحدته. ونحن ندعو الله لكم بنماء المنزلة، وبقاء الدولة، دعوة لا يفنيها فناء قائلها حتى المنقلب، ونسأل الله الذي عجّل بنا وخلّفكم، أن يرعاكم رعاية يرعى بها ما تحت أيديكم [ وأن يرفعكم رفعة يضع بها من عاداكم ]، ويكرمكم كرامة يهين بها من ناوأكم. ونستودعكم الله وديعة يكفيكم بها الدهر الذي يسلّمكم إلى زياله وغيره [ وعثراته ] وعداوته، والسلام على أهل الموافقة ممّن يأتى عليه العهد من الأمم الكائنة بعدي. »
ثم انتهى الملك إلى سابور بن أردشير
فمن وجوه المكائد الغريبة ما تمّ على رجل من الجرامقة يقال له: الساطرون، وهو الذي تسمّيه العرب: الضيزن، وكان ينزل بجبال تكريت بين دجلة والفرات في مدينة يقال لها: الحضر. وزعم هشام بن الكلبي أنّه من العرب من قضاعة، وأنّه ملك أرض الجزيرة، وكان معه من قبائل قضاعة ما لا يحصى، وبلغ ملكه الشام.
ثم إنه تطرّف بعض السواد في غيبة لسابور إلى ناحية خراسان. فلمّا قدم من غيبته، شخص إليه حتى أناخ على حصنه، وتحصّن الضيزن، كما قال الأعشى ميمون بن قيس، سنتين، لا يقدر سابور على الوصول إليه، وهو قوله:
ألم تر للحضر إذ أهله ** بنعمى، وهل خالد من نعم
أقام به شاهبور الجنو ** د حولين يضرب فيه القدم
وكان للضيزن هذا ابنة يقال لها: النضيرة، عركت فأخرجت إلى ربض المدينة - وكذلك كان يفعل بالنساء إذا عركن - وكانت من أجمل نساء زمانها، وكان سابور أيضا من أجمل رجال زمانه. فاطّلعت عليه يوما، فرأته، فعشقته، وأرسلت إليه:
« ما تجعل لي، إن دللتك على ما تهدم به سور هذه المدينة، وتقتل أبي؟ » قال:
« حكمك، وأرفعك على نسائي، وأخصّك بنفسي دونهن ».
فاحتالت للحرس حتى سقتهم الخمر وصرعتهم، وأظهرت علامة ذلك لسابور.
فنصب للسور حتى [ تسوّر ] وفتحها عنوة، وقتل الحرس والضيزن، وأباد قضاعة الذين كانوا مع الضيزن، فلم يبق منهم باق يعرف إلى اليوم، وأخرب سابور المدينة، وفي ذلك يقول عمرو بن إله:
ألم يحزنك والأنباء تنمى ** بما لاقت سراة بنى العبيد
ومصرع ضيزن وبنى أبيه ** وأحلاس الكتائب من تزيد
أتاهم بالفيول مجلّلات ** وبالأبطال سابور الجنود
فهدّم من أواسى الحصن صخرا ** كأنّ ثفاله زبر الحديد
واحتمل سابور النضيرة بنت الضيزن، فأعرس بها بعين التمر. فذكر أنّها لم تنم، وتضوّرت ليلتها من خشونة فرشها وهي من حرير محشوّة بالقزّ. فالتمس ما كان يؤذيها. فإذا ورقة آس، ملتزقة بعكنة من عكنها قد أثّرت فيها من لين بشرتها.
فقال لها سابور: « ويحك! بأيّ شيء كان يغذوك أبوك؟ » فقالت: « بالزبد، والمخّ، وشهد الأبكار من النحل، وصفو الخمر. » قال: « وأبيك لأنا أحدث عهدا بك، وأوتر لك من أبيك، الذي غذّاك بما تذكرين. » فأمر رجلا، فركب فرسا جموحا، ثم عصب غدائرها بذنبه، ثم استركضها، فقطّعها قطعا. وقد أكثر الشعراء في ذكر الضيزن هذا، وإيّاه عنى عديّ بن زيد بقوله:
وأخو الحضر، إذ بناه وإذ دج ** لة تجبى إليه، والخابور
شاده مرمرا، وجلّله كل ** سا، فللطّير في ذراه وكور
لم يهبه ريب المنون فباد ال ** ملك عنه، فبابه مهجور
توالى ستة ملوك
ومضت أيّام سابور، وهي ثلاثون سنة، حميدة. وفي أيّامه ظهر ماني الزنديق، وكذلك أيّام ابنه هرمز الملقّب بالبطل والجريء. وكان عظيم الخلق جريئا. له حكايات عظيمة جدّا، وكوّر مدينة « رامهرمز » وملك سنة. ثم مضت أيّام ابنه بهرام بن هرمز كذلك، وقتل مانى وسلخه. ومضت أيّام ابنه بهرام بن بهرام، ثم [ أيّام ] ابنه بهرام بن بهرام بن بهرام، ثم [ أيّام ] نرسى بن بهرام أخي بهرام الثالث، ثم أيّام هرمز بن نرسى، وكان فظّا، إلّا أنّه رفق بالرعيّة، وسار بأعدل سيرة فيهم، وحرص على العمارة وانتعاش الضعفاء، ثم هلك وببعض نسائه حبل. فبعض الناس يزعم أنه وصّى بالملك لذلك الحمل في بطن أمّه، وبعضهم زعم أنّ الناس لما شقّ عليهم موت هرمز، سألوا عن نسائه. فلمّا عرفوا أنّ ببعضهنّ حبلا، عقدوا التاج عليه في بطن أمّه، ثم ولد:
سابور الملقب بذي الأكتاف
وهو سابور بن هرمز بن نرسى بن بهرام بن بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشير. فكتب إليه الناس الكتب من الآفاق، ووجّه البرد إلى الأطراف، وقلّد الوزراء والكتّاب، والعمّال، الأعمال التي كانوا يعملونها في ملك أبيه.
فممّا حدث في أيّامه: أنّ خبره لمّا فشا وشاع، وعلم أصحاب الأطراف أنّ ملك الفرس صبيّ يدبّر، ولا يدرى ما يكون منه، طمع فيهم وفي مملكتهم الروم، والترك، والعرب. وكانت أدنى بلاد الأعداء إلى فارس بلاد العرب، وكانوا من أحوج الأمم إلى تناول شيء من المعايش، لسوء حالهم وشظف عيشهم. فسار جمع عظيم منهم في البحر، من ناحية بلاد عبد القيس والبحرين وكاظمة، حتى أناخوا براشهر وسواحل أردشير خرّه، وأسياف فارس، وغلبوا أهلها على مواشيهم وحروثهم ومعايشهم، وأكثروا الفساد في تلك البلاد، ومكثوا بذلك حينا لا يغزوهم أحد من الفرس لقلّة الهيبة، وانتشار الأمر، وكثرة المدبّرين، ولأنّ الملك طفل، حتى ترعرع سابور، وجعل الوزراء يعرضون عليه أمر الجنود التي في الثغور، ووردت الأخبار بأنّ أكثرهم قد أحلّ. وعظّموا عليه الأمر بعد الأمر. وكان ممّن عرض عليه، أمر الجنود التي في الثغور، ومن كان منهم بإزاء الأعداء، وأنّ الأخبار وردت بإحلال أكثرهم. وهوّلوا عليه الخطب في ذلك.
فقال لهم سابور: « لا يكبرنّ عليكم هذا، فانّ الحيلة فيه يسيرة »، وأمر بالكتاب إلى أولئك الجنود بأنه:
« انتهى إليّ طول مكثكم في النواحي التي أنتم فيها، وعظم غناءكم عن إخوانكم وأوليائكم، فمن أحبّ منهم الانصراف إلى أهله، فلينصرف مأذونا له في ذلك، ومن أحبّ أن يستكمل الفضل بالصبر في موضعه عرف له ذلك. » وتقدّم إلى من اختار الانصراف، في لزوم أهله وبلاده إلى وقت الحاجة إليه.
فلمّا سمع الوزراء ذلك من قوله ورأيه، استحسنوه وقالوا: « لو كان هذا قد أطال تجربة الأمور وسياسة الجنود، ما زاد رأيه على ما سمعنا منه. » ثم تتابعت آراؤه في تقويم أصحابه وقمع أعدائه، حتى إذا تمّت له ست عشرة سنة، وأطاق حمل السلاح وركوب الخيل، واشتدّ عظمه، جمع إليه رؤساء أصحابه وأجناده، ثم قام فيهم خطيبا. فذكر الله عز وجل، وذكر ما أنعم به عليه وعليهم بآبائه، وما أقاموا من إربهم، ونفوا من أعدائهم، وما اختلّ من أمورهم في الأيّام التي مضت من أيّام صباه، وأعلمهم: أنّه يستأنف العمل في الذبّ عن البيضة، وأنّه يقدّر الشخوص إلى بعض الأعداء لمحاربته، وأنّ عدّة من يشخص معه من المقاتلة ألف رجل. فنهض إليه القوم داعين متشكرين، وسألوه أن يقيم بموضعه ويوجّه القواد والجنود ليكفوه ما قدّر من الشخوص فيه. فأبى أن يجيبهم إلى المقام.
فسألوه الإزدياد على العدة التي ذكرها، فأبى. ثم انتخب ألف فارس من صناديد جنده وأبطالهم وأغنيائهم، وتقدّم إليهم في المضيّ لأمره، ونهاهم عن الإبقاء على العرب وعلى من لقوا منهم، ووصّاهم ألّا يعرّجوا على مال ولا غنيمة ولا يلتفتوا إليه.
ثم سار بهم، حتى أوقع بمن انتجع بلاد فارس من العرب وهم غارّون. فقتل منهم أبرح القتل، وأسر أعنف الأسر، وهرب بقيّتهم. ثم قطع البحر في أصحابه فورد الخطّ، واستبرى بلاد البحرين. فجعل يقتل أهلها ولا يقبل فداء ولا يعرّج على غنيمة. ثم مضى على وجهه، فورد هجر وبها ناس من تميم وبكر بن وائل وعبد القيس. فسفك فيهم من الدماء سفكا سالت كسيل المطر، حتى كان الهارب منهم يرى أن لن ينجيه غار ولا جبل ولا بحر ولا جزيرة. ثم عطف إلى بلاد عبد القيس، فأباد أهلها إلّا من هرب منهم. فلحق بالرمال، ثم أتى اليمامة، فقتل بها مثل تلك المقتلة. ولم يمرّ بماء من مياه العرب إلّا عوّره ولا جبّ من جبابهم إلّا طمّه. ثم أتى قرب المدينة، فقتل من وجد هنالك من العرب وأسر. ثم عطف نحو بلاد بكر وتغلب وفيما بين مملكة فارس ومناظر الروم بأرض الشام. فقتل من وجد بها من العرب وسبى وطمّ مياههم.
ثم أسكن قوما من بنى تغلب ومن سكن منهم البحرين، دارين والخطّ، ومن كان من عبد القيس وطوائف تميم، هجر، ومن كان من بكر بن وائل، كرمان، - وهم الذين يدعون بكر إياد - ومن كان منهم من بنى حنظلة، بالرميلة من بلاد الأهواز. وبنى بالسواد مدينة بزرج سابور، وبنى الأنبار، وبنى السوس والكرخ. وغزا بعد ذلك أرض الروم، فسبى سبيا كثيرا. وبنى بخراسان نيسابور.
ثم هادن قسطنطين ملك الروم الذي بنى قسطنطينيّة، وهو أوّل من تنصّر من ملوك الروم.
-
ذكر حيلة لقسطنطين
كان قسطنطين لمّا ملك الروم كبرت سنّه، وساء خلقه، وظهر به وضح.
فأرادت الروم خلعه، وكاشفته وقالت: « اعتزل الملك، فإنّ لك من المال ما لا تفقد معه شيئا ممّا أنت فيه من نعمتك. »
فشاور نصحاءه فقالوا له: « لا طاقة لك بالقوم، فقد اجتمعت كلمتهم على خلعك. » قال: « بما الحيلة؟ » قالوا: « تحتال بالدين - وكانت النصرانية قد ظهرت وهي خفيّة - وذلك بأن تستأذن في زيارة بيت المقدس، وتستمهلهم مدّة ما تعود. فإذا حصلت بها دخلت في هذا الدين النصراني تحمل الناس عليه، فانّهم يفترقون فرقتين، فتقاتل بمن أطاعك من عصاك، وما قاتل قوم على دين قط إلّا غلبوا. » ففعل قسطنطين ذلك، فظفر بالروم. فأحرق كتبهم وحكمتهم، وبنى البيع، وحمل الناس على النصرانية، ونقلهم من الرومية وكانت دار مملكتهم، وبنى قسطنطينية ولم يزل الملك محروسا بالنصرانية، وغلب على الشام، إلى أن ظهر الإسلام.
ثم ملك من الروم لليانوس
وكان يدين بملة اليونانية القديمة التي كانت قبل النصرانية. فلمّا ملك، أظهر ملّته، وأعادها كهيئتها، وأمر بهدم البيع، وجمع جموعا من الروم والخزر ومن كان في مملكته من العرب.
عاقبة سرف سابور في القتل
فكان من عاقبة ذلك السرف الذي أقدم عليه سابور من قتل العرب: أن اجتمع في عسكر لليانوس من العرب مائة وسبعون ألف مقاتل. فوجّههم مع بطريق له في مقدمته. وأقدموا على فارس حنقين موتورين. وذلك أنّ سابور لم يقتصر على الانتقام ممّن أذنب وتجاوز حدّه، حتى قتل البريء، وسفك من الدماء ما لا يحصى.
فلما انتهى إلى سابور كثرة من مع لليانوس من الجنود، وشدّة بصائرهم، وحنق العرب، وعدد الروم والخزر، هاله ذلك، ووجّه عيونا تأتيه بأخبارهم، ومبلغ عددهم، وشجاعتهم، وعدّتهم. فاختلفت عليه أقاويل العيون في ما أتوه من الأخبار عن لليانوس وجنده. فتنكّر سابور، وسار في ثقاته ليعاين عسكرهم.
تخلصه بحسن الاتفاق
فكان مما جنى فيه على نفسه وتخلّص منه بحسن الاتفاق: أنّه لمّا قرب من عسكر البطريق الذي كان على المقدمة وكان اسمه يوسانوس ومعه العرب والخزر، وجّه قوما ليتجسّسوا الأخبار ويأتوه بحقائقها. فنذرت بهم الروم، فأخذوهم ودفعوهم إلى يوسانوس. فأقرّ من جملتهم رجل واحد، وأخبر بالقصة على وجهها وبمكان سابور، وسأله أن يوجّه معه جندا فيدفع إليهم سابور.
فأرسل يوسانوس رجلا من بطانته إلى سابور يعلمه ما ألقى إليه من أمره وينذره. وإنّما فعل ذلك لميله إلى النصرانية التي قصدها لليانوس. فارتحل سابور من الموضع الذي كان فيه وصار إلى عسكره. ثم زحف لليانوس بمسألة العرب إيّاه، فقاتل سابور وفضّ جمعه، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وهرب سابور في من بقي من جنده، واحتوى لليانوس على مدينة طيسبون محلّة سابور، وظفر ببيوت أمواله وخزائنه فيها. ثم اجتمع إلى سابور من آفاق بلاده جنوده، وحارب لليانوس، واستنقذ منه طيسبون، واختلفت الرّسل بينه وبين لليانوس.
سوء تحفظ لليانوس
فكان من سوء تحفّظ لليانوس في تلك الحال واسترساله: أن كان يوما جالسا في حجرة من فسطاطه، والرسل تختلف بينه وبين سابور، فجاءه سهم غرب فأصاب مقتله من فؤاده، فسقط ومات، وأسقط في روع جنده وهالهم ما نزل به، ويئسوا من التقصّى في بلاد فارس، فصاروا نشرا لا ملك عليهم. فطلبوا إلى يوسانوس أن يتولّى الملك لهم ليملّكوه عليهم. فأبى ذلك، وألحّوا عليه، فأعلمهم أنّه على ملّة النصرانية، وأنّه لا يلي قوما هم له مخالفون في دينه.
فأخبرتهم الروم أنّهم على ملّته، وأنّهم كتموها مخافة لليانوس. فأجابهم حينئذ، فلمّا ملّكوه أظهروا النصرانية.
ثم إنّ سابور لما علم بهلاك لليانوس، أرسل إلى قوّاد جنوده الروم يقول:
« إنّ الله قد أمكننا منكم، وأدالنا عليكم، ونرجو أن تهلكوا ببلادنا جوعا من غير أن نهزّ لقتالكم سيفا، أو نشرع له رمحا، فسرّحوا إلينا رئيسا إن كنتم رأستموه عليكم. » فعزم يوسانوس على إتيان سابور لما كان بينه وبينه، لما أنذره ومن عليه. فلم يتابعه أحد من قوّاد جنده. فاستبدّ برأيه، وجاء إلى سابور في ثمانين رجلا من أشراف من كان في عسكره وجنده، وعليه تاجه. فبلغ سابور مجيئه إليه، فتلقّاه، وتساجدا، فعانقه سابور شكرا لما كان منه في أمره، وطعم عنده يومئذ ونعم. وإنّ سابور أرسل إلى قوّاد جند الروم وذوي الرئاسة فيهم يعلمهم: أنّهم لو ملّكوا غير يوسانوس، لجرى هلاكهم في بلاد فارس، ولكن تمليكهم إيّاه ينجيهم من سطوته. ثم قوّى أمر يوسانوس بكلّ جهد، وقال له عند منصرفه:
« إنّ الروم قد شنّوا الغارة على بلادنا، وقتلوا بشرا كثيرا، وقطّعوا بأرض السواد من الشجر والنخل ما كان بها، وخرّبوا عمرانها، فإمّا أن تدفعوا إلينا قيمة ما أفسدوا وخرّبوا، وإمّا أن تعوّضونا من ذلك نصيبين وحيّزها. » فأجاب يوسانوس وأشراف جنده سابور إلى ما سأل من العوض، ودفعوا إليه نصيبين. فبلغ ذلك أهلها، فجلوا عنها إلى مدن للروم، خوفا على أنفسهم من ملك مخالف ملّتهم. فبلغ ذلك سابور، فنقل اثنى عشر ألف أهل بيت من أهل إصطخر وإصبهان وكور أخر، من بلاده إلى نصيبين، فأسكنهم إيّاها. وانصرف يوسانوس إلى الروم وملكها يسيرا ثم هلك.
وضرى سابور على قتل العرب، ونزع أكتاف رؤسائهم زمانا طويلا، فسمّته العرب « ذا الأكتاف ». ثم إنّه استصلح العرب وأسكن من بعض تغلب وعبد القيس وبكر، كرمان وتوّج والأهواز. وبنى مدينة نيسابور ومدائن أخر بالسند وسجستان، ونقل طبيبا من الهند، فأسكنه السوس، فورث طبّه أهل السوس.
وهلك سابور بعد اثنتين وسبعين سنة من ملكه.
أردشير بن هرمز
وقام بالملك بعد سابور، أخوه أردشير بن هرمز بن نرسى بن بهرام بن بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشير بن بابك. فلمّا استقرّ به الملك ظهر منه شرّ، وقتل [ من ] ذوي الرئاسة والعظماء خلقا كثيرا، فخلعه الناس بعد أربع سنين من ملكه، وملّكوا:
سابور بن سابور ذي الأكتاف
فاستبشرت الرعية به وبرجوع ملك أبيه إليه. فأحسن السيرة ورفق بالرعية، إلى أن سقط عليه فسطاط كان ضرب عليه، فمات وملّك بعده أخوه:
بهرام بن سابور ذي الأكتاف
وكان يلقّب بكرمان شاه، لأن سابور ولّاه « كرمان »، فمضت أيّامه محمودة، وكان جميل السياسة محبّبا. ثم قام بالملك:
يزدجرد المعروف بالأثيم ابن بهرام بن سابور ذي الأكتاف
ومن الفرس من يقول: هو أخو بهرام وهو يزدجرد بن سابور ذي الأكتاف.
وكان فظّا غليظا ذا عيوب كثيرة، وكان من أشدّ عيوبه وضعه ذكاء ذهن وحسن أدب كانا فيه، غير موضعهما. وذلك أنّه كان كثير الرؤية في الضارّ من الأمور، واستعمل علمه الذي أوتيه، في الدهاء والختل، واستخفّ بكلّ علم كان عند الناس، واحتقر آدابهم واستطال بما عنده، وكان من ذلك معجبا، غلقا، سيئ الخلق، ردىء الطعمة، حتى بلغ من شدة غلقه وحدّته أن يستعظم صغير الزلّات ولا يرضى في عقوبتها إلّا بما لا يستطاع أن يبلغ مثلها. ثم لم يقدر أحد من بطانته - وإن كان لطيف المنزلة منه - أن يشفع لمن ابتلى به، وإن كان ذنب المبتلى به يسيرا. ولم يكن يأتمن أحدا على شيء من الأشياء. ولم يكن يكافئ على حسن البلاء. وكان يعتدّ بالخسيس من العرف إذا أولاه ويستجزل ذلك. فإن جسر على كلامه أحد في أمر قال له:
« ما قدر جعالتك في هذا الأمر الذي كلّمتنا فيه، وما الذي بذل لك؟ » وما أشبه ذلك. فلقى الناس منه عنتا. فلما اشتدّت بليّته، وكثر إهانته للعظماء، وحمل على الضعفاء، وأكثر من سفك الدماء، اجتمعوا وتضرّعوا إلى ربّهم في تعجيل إنقاذهم منه.
فتزعم الفرس: أنه كان مطّلعا من قصره ذات يوم إذ رأى فرسا عائرا لم ير مثله قطّ في الخيل، حسن صورة وتمام خلق، حتى وقف على بابه، فتعجّب الناس منه، لأنه كان متجاوز الأمر. فأمر يزدجرد أن يسرج ويلجم ويدخل عليه. فحاول ساسته وأصحاب مراكبه إلجامه وإسراجه، فلم يمكّن أحدا منهم من نفسه. فخرج بنفسه إلى الموضع الذي فيه الفرس، فألجمه بيده وأسرجه ولّينه فلم يتحرّك، فلمّا استدار به ورفع ذنبه ليثفره، رمحه الفرس على فؤاده رمحة هلك منها مكانه، ثم لم يعاين ذلك الفرس. فأكثرت الفرس في حديثه وظنّت الظنون. وكان أحسنهم مذهبا من قال: « إنما استجاب الله دعاءنا ».
ثم ملك بعد يزدجرد الأثيم ابنه:
بهرام جور
وكان أسلمه يزدجرد إلى المنذر بن النعمان ليربّيه في ظهر الحيرة، لصحّة التربة والهواء، وليتعلّم هناك الفروسية. وتكفّله النعمان وعظّم يزدجرد المنذر بن النعمان وشرّفه، وملّكه على العرب، وسار به المنذر، فربّاه، واستدعى له الحواضن من الفرس والعرب، ثم أحضره المؤدّبين، وحرص بهرام على الأدب.
فتحكى عنه حكايات من النجابة في صغره، فمنها أنّه قال للمنذر بن النعمان وهو ابن خمس سنين:
« أحضرنى مؤدّبين ليعلّمونى الكتابة والفقه والرمى والفروسية. » فقال له المنذر: « إنّك بعد صغير السنّ، ولم يأن لك ذلك بعد. » فقال له بهرام: « أما تعلم أيّها الرجل، أنّى من ولد الملوك، وأنّ الملك صائر إليّ، وأولى ما كلّف به الملوك وطلبوه، صالح العلم، لأنّه زين لهم وركن، وبه يفوقون؟ أما تعلم أنّ كلّ ما يتقدّم في طلبه ينال وقته، وما لا يتقدّم فيه، بل يطلب في وقته، ينال في غير وقته، وما يفرّط فيه وفي طلبه، يفوت فلا ينال؟ عجّل عليّ بما سألتك! » فوجّه المنذر ساعة سمع مقالة بهرام، إلى باب الملك من أتاه برهط من المعلّمين والفقهاء ومعلّمى الرمى والفروسية، وجمع له حكماء الروم وفارس ومحدّثى العرب، فألزمهم إيّاه، ووقف أوقاتا لكل قوم منهم. فتفرّغ بهرام لتعلّم كل ما سأل أن يعلّم، واستمع من أهل الحكمة، ووعى ما سمع، وثقف كل ما علّم بأيسر سعى، وبلغ أربع عشرة سنة وقد فاق معلّميه، واستفاد كل ما أفيد وحفظ وفاق. ثم حرص على انتخاب الأفراس العربيّة وركوبها وإحضارها والرمى عليها، فبرع في ذلك. وتحكى الفرس عنه حكايات عظيمة جدّا.
ثم أعلم المنذر أنّه على الإلمام بأبيه، فشخص، وكان أبوه لا يحفل بولد له، فاتّخذ بهرام للخدمة، ولقي بهرام من ذلك عنتا. واتفق أن ورد على يزدجرد وفد من قيصر - وفيهم أخو قيصر - في طلب الصلح والهدنة، فسأله بهرام أن يكلّم يزدجرد في الإذن له في الانصراف إلى المنذر. فأذن له أبوه وانصرف إلى بلاد العرب وقد عرّض بأبيه ورأى قلّة نفاق أدبه عليه، ولقي شدّة وهوانا. فأقبل على التنعم والتلذّذ، إلى أن هلك أبوه يزدجرد وبهرام غائب.
فتعاقد قوم من العظماء ألّا يملّكوا أحدا من نسل يزدجرد، وأظهروا: أنّ ولد يزدجرد لا يحتملون الملك، وليس فيهم نجيب غير بهرام، وبهرام لم يتأدّب بأدب الفرس، وإنّما أدبه أدب العرب، وأخلاقه أخلاقهم، لنشئه في ما بينهم وبين أظهرهم، واجتمعت كلمة العامّة معهم على صرف الملك عن بهرام إلى رجل من عترة أردشير بن بابك يقال له:
كسرى فملّكوه، وانتهى هلاك يزدجرد وما كان من تمليكهم كسرى إلى بهرام. فدعا بالمنذر وبالنعمان ابنه وناس من علية العرب. فذكّرهم إحسان والده إليهم وإنعامه عليهم مع فظاظته وشدّته على الفرس، وأخبرهم بموت والده وما كان من الفرس من تمليك غيره، ومنّاهم من نفسه ووعدهم بما أنسوا به. فقال المنذر:
« لا يهولنّك ذلك حتى ألطف للحيلة. » ثم إنّ المنذر جهّز عشرة آلاف من فرسان العرب مع ابنه إلى طيسبون وبهأردشير مدينتي الملك، وأمره أن يعسكر قريبا منهما، وأن يغير على ما والاهما، وإن تحرّك أحد لقتاله قاتله. وأذن له في الأسر والسبي، ونهاه عن لقتل.
فسار النعمان حتى نزل قريبا من المدينتين، ووجّه طلائعه إليهما واستعظم قتال الفرس. فاجتمع رأى العظماء وأهل البيوتات على إنفاذ حواى على تأدية رسالة - وحواى هذا صاحب رسائل يزدجرد - إلى المنذر ويستكفونه أمر النعمان ابنه، ويخوّفونه من عقبى جنايته عليه.
فلمّا ورد حواى على المنذر قال له: « الق الملك بهرام. » ووجّه معه من يوصله إليه. فلمّا دخل عليه راعه منظر بهرام وما رأى من وسامته. فكلّمه بهرام ووعده ومنّاه وردّه إلى المنذر، ورسم له أن يجيب عمّا كتب إليه.
فقال المنذر لحواى: « قد تدبّرت ما جئتني به، وقرأت الكتاب ولست صاحب النعمان، وإنّما صاحبه الملك بهرام، وهو الذي وجّهه إلى ناحيتكم، ورسم له ما هو لا محالة متمثّلة، لأنّ الملك صار له بعد أبيه، ولا حظّ لغيره فيه. » فلمّا سمع حواى مقالته، وتذكّر ما عاين من بهاء بهرام وروائه وحسن كلامه، علم أنّ جميع من يشاور في صرف الملك عنه مخصوم محجوج. فقال للمنذر:
« إني لست محيرا جوابا، ولكن سر - إن رأيت - إلى محلّة الملوك فيجتمع إليك من بها من العظماء وأهل البيوتات، وأت في الأمر ما يجمل، فانّهم لن يخالفوك في شيء مما تشير به. » فردّ المنذر حواى، واستعدّ وسار بعده بيوم مع بهرام في ثلاثين ألف رجل من فرسان العرب وذوي البأس والنجدة منهم إلى مدينتي الملك. فلمّا وردهما، جمع الناس وجلس بهرام على منبر من ذهب مكلّل بالجوهر، وجلس المنذر عن يمينه، وتكلّم عظماء الفرس، وفرشوا للمنذر بكلامهم فظاظة يزدجرد كانت وسوء سيرته، وأنّه أخرب الأرض وأكثر القتل ظلما حتى قلّ الناس. وذكروا أمورا فظيعة، وذكروا أنّهم إنّما تعاقدوا على صرف الملك عن ولد يزدجرد لذلك. وسألوا المنذر ألّا يجبرهم في أمر الملك على ما يكرهونه.
فقال المنذر لبهرام:
« أنت أولى بإجابة القوم. » فقال بهرام:
« إني لست أكذّبكم في شيء مما نسبتم إلى يزدجرد لما استقرّ عندي من ذلك. ولقد كنت منكرا سوء هديه متنكّبا طريقته، ولم أزل أسأل الله أن يفضى بالملك إليّ فأصلح كلّ ما أفسد، وأرأب ما صدع، وسأعيد الأمور بمشيئة الله إلى أتمّ ما كانت عليه في وقت من الأوقات انتظاما، وأعمر البلاد، وأرفّه الرعيّة، وأوسع لهم، وأوطّئ جانبي، وأدرّ أرزاق الجنود وأهل الطاعة، وأسدّ الثغور، وأنفى أهل الفساد. فإن أتت لملكى سنة ولم أف لكم بهذه الأمور التي عددت عليكم، تبرّأت من الملك طائعا، وأشهد الله بذلك وملائكته وموبذان موبذ. » فسمع أكثر الناس ورضوا، وتكلّمت طائفة كان رأيها مع كسرى.
فقال بهرام:
« فإني على ما ضمنته لكم، واستيجابى للملك، وأنّه حقّ لي. قد رضيت أن يوضع التاج والزينة بين أسدين مشبلين، فمن تناوله فهو الملك. »
-
بهرام يتناول التاج والزينة من بين أسدين مشبلين
فلمّا سمع القوم هذه المقالة، مع ما وعد من نفسه، سكنوا، وأظهروا الاستبشار والرضاية، وقالوا:
« إنّا إن تمّمنا صرف الملك عن بهرام، لم نأمن هلاك الفرس على يده بمن يرى رأيه ولكثرة من استجاش من العرب. وقد عرض علينا ما لم يدعه إليه أحد، لولا ثقته ببطشه وجرأته. فإن يكن على ما وصف به نفسه، فليس الرأي إلّا تسليم الملك إليه والسمع والطاعة، وإن يهلك ضعفا وعجزا فنحن برءاء منه، آمنون لشرّه وغائلته. » فتفرّقوا على هذا الرأي، وجلس بهرام من الغد في مثل مجلسه بالأمس، وحضر من كان يحادّه فقال:
« إمّا أن تجيبوني عمّا تكلّمت به أمس، وإمّا أن تسكتوا باخعين لي بالطاعة. » فقال القوم: « قد رضينا بحكمك، وأن يوضع التاج والزينة بين الأسدين كما ذكرت بحيث رسمت، وتنازعاهما أنت وكسرى. » فأتى بالتاج والزينة، وتولّى موبذان موبذ الذي كان يعقد التاج على رأس كلّ ملك يملك، فوضعهما ناحية، وجاء إصبهبذ مع ثقات القوم بأسدين ضاريين مجوّعين مشبلين. فوقف أحدهما عن جانب الموضع الذي وضع فيه التاج والزينة، والآخر بحذائه، وأرخى وثاقهما.
ثم قال بهرام لكسرى:
« دونك التاج والزينة! » فقال كسرى:
« أنت أولى بالبدء مني، لأنّك تطلب الملك بوراثة، وأنا فيه دخيل. »
ولم يكره بهرام قوله لثقته بنفسه، وحمل جرزا وتوجّه نحو التاج والزينة.
فقال له موبذان موبذ:
« استماتتك في هذا الأمر الذي تقدم عليه هو تطوع منك، لا عن رأيي، ولا عن رأى أحد من الفرس، ونحن برءاء إلى الله من إتلافك نفسك. » فقال بهرام:
« نعم أنتم برءاء، ولا وزر عليكم. » ثم أسرع نحو الأسدين. فلمّا رأى موبذان موبذ جدّه، هتف به وقال:
« بح بذنوبك وتب منها، ثم أقدم إن كنت لا محالة مقدما. » فباح بهرام بما سلف من ذنوبه، ثم مشى نحو الأسدين، فبذر أحدهما، فلمّا دنا من بهرام، وثب وثبة، فإذا هو على ظهر الأسد، وعصر جنبي الأسد بفخذيه حتى أثخنه، فجعل يضرب على رأسه بالجرز، ثم قرب من الأسد الآخر. فلمّا تمكّن منه قبض على أذنيه وعركهما بكلتي يديه، ولم يزل يضرب رأسه برأس الأسد الذي كان ركب ظهره، حتى دمغهما، ثم قتلهما ضربا على رأسهما بالجرز، وذلك كلّه بمشهد من جميع من حضر ذلك الموضع وبمرأى من كسرى. فتناول بهرام التاج والزينة، وكان كسرى أوّل من هتف به وقال:
« عمّرك الله بهرام، الذي يسمع له من حوله ويطيع، ورزقه الله ملك أقاليم الأرض السبعة. » ثم هتف الناس وجميع من حضر ذلك المجلس، وقالوا:
« أذعنّا للملك بهرام ورضينا به ملكا. » وكثر الدعاء والضجيج.
ولقي الرؤساء المنذر بعد ذلك وسألوه أن يكلّم بهرام في التغمّد لاساءتهم والصفح عنهم. فسأله المنذر وأسعفه الملك. ثم جلس بهرام - وهو ابن عشرين سنة - سبعة أيّام متوالية للجند والرعيّة، يعدهم الخير من نفسه ويحضهم على تقوى الله وطاعته، وغبر زمانا يحسن السيرة ويعمر البلاد ويدرّ الأرزاق.
ثم آثر اللهو على ذلك، وكثرت خلواته بأصحاب الملاهي والجواري، حتى كثرت ملامة رعيّته إيّاه على ذلك، وطمع من حوله من الملوك في استباحة بلاده والغلبة على بلاده.
خاقان يغزو بهرام
وكان أوّل من سبق إلى مكاثرته ومغالبته خاقان ملك الترك. فإنّه غزاه في مائتين وخمسين ألفا من الأتراك. فبلغ الفرس إقبال خاقان في هذا الجمع العظيم فهالهم وتعاظمهم، ودخل إليه من عظمائهم قوم من أهل الرأي فقالوا:
« أيّها الملك، قد أزفك من بائقة هذا العدوّ ما يشغلك عمّا أنت فيه من اللهو والتلذّذ، فتأهّب له، كي لا يلحقك منه أمر يلزمك فيه مسبّة وعار. » فكان بهرام لثقته بنفسه ورأيه، يجيب القوم: بأن الله ربّنا قوى ونحن أولياؤه، ثم يقبل على المثابرة واللزوم لما فيه من اللهو والصيد.
حيلة بهرام جور على خاقان
إلى أن أظهر ذات يوم التجهّز إلى آذربيجان لينسك في بيت نارها ويتوجّه منها إلى أرمينية ويطلب الصيد في آجامها، ويلهو في مسيره، في سبعة رهط من العلماء وأهل البيوتات وثلاثمائة رجل من رابطته، ذوي بأس ونجدة. واستخلف أخا له يقال له: « نرسى »، على ما كان يدبّر من ملكه. فلم يشكّ الناس حين بلغهم مسير بهرام في من سار بهم، واستخلافه أخاه على ما استخلف، في أنّ ذلك هرب من عدوّه، وإسلام لملكه. وتوامروا في إنفاذ وفد إلى خاقان، والإقرار له بالخراج، ومخافة منه، لاستباحة بلادهم، واصطلامه مقاتلتهم ووجوههم، إن هم لم يفعلوا ذلك ويبادروا إليه. فبلغ خاقان الذي أجمع عليه الفرس من الانقياد والخضوع. فأمنهم وتودّع وترك كثيرا من الجدّ والاستعداد، وآثر جنده أيضا ذلك. وأتى بهرام عين له من جهة خاقان، فأخبره بحاله، وحال جنده وفتورهم عن الجدّ الذي كانوا عليه.
فسار بهرام في العدّة الذين كانوا معه، فبيّت خاقان وقتله بيده، وانهزم من سلم من القتل منهم، وخلّفوا عسكرهم وأثقالهم. فأمعن بهرام في طلبهم يقتلهم، ويحوى الغنائم ويسبى الذراريّ، وانصرف هو وجنده سالمين، وظفر بتاج خاقان وإكليله، وبخع له أهل البلاد المتاخمة لما غلب عليه، بالطاعة. وسألوه أن يحدّ لهم حدّا بينه وبينهم فلا يتعدّوه.
ثم بعث قائدا له إلى ما وراء النهر، فأثخنهم وأقروا له بالعبوديّة وأداء الجزية.
وانصرف بهرام بالغنائم العظيمة والتاج والإكليل وما فيهما من الياقوت الأحمر وسائر الجواهر فنحلها بيت النار بآذربيجان.
ورفع الخراج عن الناس ثلاث سنين، وقسم في الفقراء مالا عظيما، وفي البيوتات وأهل الأحساب عشرين ألف ألف درهم.
وكتب كتبا إلى الآفاق يذكر فيها أنّ الخبر كان ورد عليه بورود خاقان بلاده وأنه مجّد الله وتوكّل عليه، وسار في سبعة رهط من أهل البيوتات، وثلاثمائة فارس من نخبة رابطته على طريق آذربيجان، وجبل القبق، حتى نفذ إلى براري خوارزم ومفاوزها، وأبلاه الله أحسن بلاء، وذكر في الكتاب ما وضعه عن الناس من الخراج، وهذا الكتاب كان بليغا، والفرس يحفظونه.
ويقال: إنّ بهرام ترك من حقّ بيت المال من الخراج سبعين ألف ألف درهم بقسط تلك السنة، وكان هذا مقدار ما بقي منه، ثم [ أمر بترك ] الخراج ثلاث سنين أخر.
قصده الهند والروم والسند والسودان
ثم إنّ بهرام لما انصرف من غزوه خاقان مظفّرا قصد الهند، فيحكى له حكايات عظيمة وأمور كبار تولّاها، وغلب عليها، وزوّجه ملك الهند ابنته ونحله الديبل ومكران وما يليها، فضمّها بهرام إلى أرض الفرس، وحمل خراجها إلى بهرام.
ثم أغزى بهرام « مهرنرسى » إلى بلاد الروم في أربعين ألف مقاتل، وأمره أن يقصد عظيمها ويناظره في أمر الإتاوة وغيرها. فتوجّه مهرنرسى في تلك العدّة، ودخل قسطنطينية، ومقامه مشهور هناك، فهادنه ملك الروم، وانصرف بجميع ما أراد بهرام - وكان مهرنرسى هذا من ولد بهمن بن اسفندياذ بن بشتاسف، وربما خفّف اسمه، فقيل: « نرسى» - وبلغ مبلغا، وكلّ ذلك بهيبة بهرام وما تمكّن له في قلوب الملوك وأهل الأطراف والجند من جودة الرأي وحسن التدبير والشجاعة ونفاذ العزيمة، وقلّة الاتّكال على غيره.
وذكر أنّ بهرام بعد فراغه من أمر خاقان وأمر ملوك الروم والسند، مضى إلى بلاد السودان من ناحية اليمن، فأوقع بهم، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وسبى منهم خلقا، وانصرف إلى مملكته.
ارتطام بهرام في سبخة
وهلك بعد ذلك في « ماه » وذلك أنه توجّه إليها للصيد فشدّ على عير وأمعن في طلبه فارتطم في ماء في سبخة وغرق هناك. فسارت والدته إلى ذلك الموضع بأموال عظيمة، فأقامت قريبة منها، وأمرت بإنفاق تلك الأموال على من يخرجه. فنقلوا طينا عظيما وحمأة كثيرة، وجمعوا منه إكاما عظاما، ولم يقدروا على جثة بهرام. وكان ملكه ثلاثا وعشرين سنة.
ثم ملك بعده:
-
يزدجرد بن بهرام جور
فكان يسير بسيرة أبيه ولم يزل قامعا لعدوّه رؤوفا برعيّته وجنوده. وكان له ابنان: أحدهما يسمّى هرمز، والآخر فيروز. فغلب هرمز على الملك بعد أبيه يزدجرد، وهرب فيروز منه ولحق ببلاد الهياطلة، وأخبر ملكها بقصّته وقصّة أخيه هرمز، وأنّه أولى بالملك منه، وسأله أن يمدّه بجيش يقاتل بهم أخاه. فأبى عليه ملك الهياطلة وقال:
« سأعلم علمه، ثم أمدّك إن كنت صادقا. » فلما عرف ملك الهياطلة أنّ هرمز ملك ظلوم غشوم، قال:
« إن الجور لا يرضاه الله، ولا يصلح عليه الملك، ولا تقوم به سياسة، ولا يحترف الناس في ملك الملك الجائر إلّا بالجور، وفي هذا هلاك الناس وخراب الأرض. » فأمدّ فيروز، ودفع إليه الطالقان. فأقبل فيروز من عنده بجيش طخارستان وطوائف خراسان، وسار إلى أخيه هرمز بن يزدجرد وهو بالريّ، وكانت أمّهما واحدة، وكانت بالمدائن تدبّر ما يليها من الملك، فظفر فيروز بأخيه، فحبسه وأظهر العدل وحسن السيرة، وكان يتديّن، إلّا أنّه كان محارفا مشؤوما على رعيته، وقحط الناس في زمانه سبع سنين، فأحسن فيها إلى الناس، وقسم ما في بيوت الأموال وكفّ عن الجباية، وساسهم أحسن سياسة.
ويقال: إنّ الأنهار غارت في مدّة هذه السبع السنين، وكذلك القنيّ والعيون، وقحلت الأشجار والغياض، وتماوتت الوحوش والطيور، وجاعت الأنعام والدوابّ، حتى كانت لا تطيق أن تحمل حمولة، وعمّ أهل البلاد الجهد والمجاعة.
حسن سياسة من فيروز
فبلغ من حسن سياسة فيروز لذلك الأمر أن كتب إلى جميع أهل رعيّته: أنّه لا خراج عليكم ولا جزية ولا سخرة، وأنّه قد ملّكهم أنفسهم وأمرهم بالسعي فيما يقوتهم ويصلحهم. ثم كتب إليهم في إخراج الهوى والطعام والمطامير لكلّ من كان يملك شيئا من ذلك مما يقوت الناس، والتآسى فيه، وترك الاستيثار به، وأن يكون حال أهل الفقر والغنى وأهل الشرف والضعة في التآسى واحدة، وأخبرهم أنّه إن بلغه أن إنسيّا مات جوعا، عاقب أهل تلك المدينة أو القرية أو الموضع الذي يموت فيه ذلك الإنسى، ونكّل بهم أشدّ النكال.
ويقال: إنّه لم يهلك في تلك اللزبة والمجاعة أحد من رعيّته إلّا رجل من رستاق كورة أردشير خرّة.
ثم إنّ فيروز لما حييت بلاده، وأغاثه الله بالمطر، وعادت المياه، وصلحت الأشجار، واستوسق له الملك، أثخن في الأعداء وقهرهم، وبنى مدنا:
إحداها بالريّ، والأخرى بين جرجان وصول، والأخرى بناحية آذربيجان.
ثم سار بجنوده نحو خراسان مريدا حرب أخشنواز ملك الهياطلة، لأشياء كانت في نفسه، ولأنّ هؤلاء القوم كانوا يأتون الذكران ويرتكبون الفواحش، فتأوّل بها وسار إليهم. فلما بلغ أخشنواز خبره اشتدّ منه رعبه وعلم أن لا طاقة له به.
حيلة تمت لملك الهياطلة على فيروز
فكان مما تمّ له على فيروز من الحيلة حتى قهره وقتله وقتل عامّة من كان معه: أنّ رجلا من أصحاب أخشنواز، لما علم أنّ ملكه قد بعل، وأنه قد أشرف على الهلاك هو وأهل بلاده، تنصّح إليه وقال:
« إني رجل كبير السنّ قريب الأجل، وقد فديت الملك وأهل مملكته بنفسي فاقطع يديّ ورجليّ وأظهر في جسمي وجنبي آثار السياط والعقوبات، وألقنى في طريق فيروز، وأحسن إلى ولدي وعيالي بعدي، فإني أكفيك أمر فيروز. » ففعل ذلك أخشنواز بذلك الرجل، وألقاه في طريق فيروز. فلمّا مرّ به أنكر حاله ورأى شيئا فظيعا. فسأله عن أمره، فأخبره: أنّ أخشنواز فعل به ذلك، لأنّه قال له: « لا قوام لك بالملك فيروز وجنوده »، وأشار عليه بالانقياد له والعبودة.
فرقّ له فيروز، ورحمه، وأمر بحمله معه، فأعلمه على وجه النصح، أو في ما زعم، أنه يدلّه على طريق قريب مختصر لم يدخل أحد منه قطّ إلى أخشنواز على طريق المفازة، وسأله أن يشتفى له منه. فاغترّ فيروز بذلك منه وأخذ الأقطع بالقوم في الطريق الذي ذكره له، فلم يزل يقطع بهم مفازة بعد مفازة.
فلما شكوا عطشا أعلمهم أنّهم قد قربوا من الماء ومن قطع المفازة، حتى بلغ بهم موضعا علم أنهم لا يقدرون فيه على تقدّم ولا تأخر، بيّن لهم أمره.
فقال أصحاب فيروز لفيروز:
« قد كنّا حذّرناك، أيّها الملك، فلم تحذر، فأمّا الآن فلا بدّ من المضيّ قدما، فإنّه لا سبيل إلى الرجوع، فلعلّك توافى القوم على الحالات كلّها. » فمضوا لوجوههم وقتل العطش أكثرهم، وصار فيروز بمن نجا معه إلى عدوّهم. فلمّا أشرفوا عليهم - وهم بأسوأ حال من الضرّ والضعف - دعوا أخشنواز إلى الصلح، على أن يخلّى سبيلهم حتى ينصرفوا إلى بلادهم، على أن يجعل له فيروز عهد الله وميثاقه ألّا يغزوهم ولا يروم أرضهم ولا يبعث إليه جندا يقاتلونهم، ويجعل بين المملكتين حدّا لا يجوزه. فرضي أخشنواز بذلك، وكتب له كتابا مختوما وأشهد له على نفسه شهودا، ثم خلّى سبيله وانصرف. فلما صار إلى مملكته حمله الأنف على معاودة أخشنواز.
عاقبة غدره
فكان من عاقبة غدره: أنّه غزاه بعد أن نهاه وزراؤه وخاصّته عن ذلك، لما فيه من نقض العهد، فلم يقبل منهم وأبي إلّا ركوب رأيه. وكان في من نهاه عن ذلك رجل يخصّه ويجتبى رأيه يقال له: مربوذ. فلمّا رأي لجاجته، كتب ما دار بينهما في صحيفة، وسأله الختم عليها. ومضى فيروز لوجهه نحو بلاد أخشنواز.
فلمّا بلغ فيروز منارة كان بناها بهرام جور في ما بين تخوم بلاد خراسان وبلاد الترك - لئلّا يجوزها الترك إلى خراسان، لميثاق كان بين الترك والفرس على ترك الفريقين التعدّى لها، وكان فيروز عاهد أخشنواز أن لا يجاوزها إلى بلاد الهياطلة - أمر فيروز فصمد فيها خمسون فيلا وثلاثمائة رجل، فجرّت أمامه جرّا واتّبعها، وزعم أنّه يريد بذلك الوفاء، وترك مجاوزة ما عاهد عليه.
فلمّا بلغ أخشنواز ذلك من فعل فيروز، أرسل إليه يقول له:
« إنّ الله عز وجل لا يخادع ولا يماكر، فانته عمّا انتهى عنه أسلافك، ولا تقدم على ما لم يقدموا عليه ».
فلم يحفل فيروز لقوله، ولم يكترث برسالته، وجعل يستطعم محاربة أخشنواز ويدعوه إليها، وجعل أخشنواز يمتنع من محاربته ويتكرّهها، لأنّ جلّ محاربة الترك إنّما هو بالخداع والمكر والمكائد.
ثم إنّ أخشنواز أمر فحفر خلف عسكره خندق عرضه عشرة أذرع وعمقه عشرون ذراعا، وغمّى بخشب ضعاف، وألقى عليه التراب، ثم ارتحل في جنده ومضى غير بعيد. فبلغ فيروز رحلة أخشنواز بجنده من معسكره، فلم يشكّ أنّ ذلك هزيمة منهم وأنّه قد انكشف وهرب. فأمر بضرب الطبول، وركب في جنده في طلب أخشنواز وأصحابه وأغذّوا السير. وكان مسلكهم على ذلك الخندق. فلمّا بلغوه اقتحموه على عماية، فتردّى فيها فيروز وعامّة جنده، وهلكوا من آخرهم. وعطف أخشنواز إلى عسكر فيروز واحتوى على كلّ شيء فيه، وأسر موبذان موبذ، وصارت فيروز دخت بنت فيروز في من صار في يده من نساء فيروز.
ثم قام بالملك بعد فيروز بن يزدجرد، ابنه:
بلاش بن فيروز بن يزدجرد بن بهرام جور
وكان حسن السيرة، حريصا على العمارة. وبلغ من حسن نظره أنّه كان لا يبلغه أنّ بيتا خرب وجلا أهله عنه، إلّا عاقب صاحب القرية التي فيها ذلك البيت، على تركه إنعاشهم وسدّ فاقتهم، حتى لا يضطروا إلى الجلاء عن أوطانهم.
ثم ملك قباذ بن فيروز أخو بلاش
وكان صار إلى خاقان يستنصره على أخيه بلاش ويذكر أنّه أحقّ بالملك منه.
فبقى هناك أربع سنين، ثم جهّزه خاقان. فلمّا عاد وبلغ نيسابور بلغه موت أخيه بلاش. وكان في وقت اجتيازه تزوّج ابنة رجل من الأساورة متنكّرا، وواقعها، فحملت بأنوشروان. ولما عاد في هذا الوقت الذي ذكرناه، سأل عن الجارية، فأتى بها وبابنه أنوشروان. فتبرّك به وبها. ولما بلغ حدود فارس والأهواز بنى مدينة أرجان، وبنى حلوان، وبنى قباذ خرّة، وعدة مدن أخر.
-
من آرائه الجيدة
فكان من آرائه الجيّدة وعزائمه النافذة، قبضه على خاله « سوخرا ». وكان سبب ذلك أنّ فيروز لما جرى عليه ما جرى من الهياطلة كان سوخرا يخلفه على مدينة الملك بالمدائن. فجمع جموعا كثيرة من الفرس، وقصد أخشنواز ملك الهياطلة وحاربه وانتقم منه وتحكّم عليه. وكان وقع في يده دفاتر الديوان الذي صحب فيروز. فتقاضى بجميع ما كان في خزائنه وخزائن قوّاده وأهله، وطلب الوجوه من الأسارى الذين بقوا في يد أخشنواز. ولم يزل يحارب أخشنواز ويكيده ويبلغ منه ما يتحكّم به عليه، حتى استنقذ من يده عامّة الفرس، وأكثر ما احتوى عليه من خزائن فيروز.
فكان له أثر حسن عند الفرس وعند ابني فيروز، أعنى: بلاش وقباذ. فعظّموه ورفعوا منزلته إلى حيث ليس بينه وبين الملك إلّا مرتبة واحدة. فتولّى سياسة الأمر بحنكة وتجربة، واستوى على الأمر، ومال إليه الناس واستخفّوا بقباذ، وتهاونوا به. فلم يحتمل قباذ ذلك، وكتب إلى سابور الرازي - الذي يقال للبيت الذي هو منه مهران، وكان اصبهبذ البلاد - في القدوم عليه في من قبله من الجند، فقدم بهم سابور، فواضعه قتال خاله سوخرا، وأمره فيه بأمره، على لطف وكتمان شديد خفيّ. فغدا سابور على قباذ، فوجد عنده سوخرا جالسا. فمشى نحو قباذ مجاوزا له، وتغفّل سوخرا. فلم يأبه سوخرا لإرب سابور، حتى ألقى وهقا كان معه في عنقه، ثم اجتذبه، فأخرجه، وأوثقه، واستودعه السجن. فحينئذ ضربت الفرس المثل بأن قالوا:
« نقصت ريح سوخرا، وهبّت ريح مهران ».
ثم قتل قباذ سوخرا. فكان هذا رأيا تمّ على سكون، ولم يضطرب فيه أمر.
سوء تدبير قباذ عند ظهور مزدك وزوال ملكه
وكان ممّا أساء فيه التدبير والرأي حتى اجتمعت كلمة موبذان موبذ وجماعة الفرس على حبسه وإزالة ملكه عنه. أنّه اتّبع رجلا يقال له « مزدك »، مع أصحاب له يقال لهم: « العدليّة ».
قالوا: « إنّ الله جعل الأرزاق في الأرض مبسوطة ليقسمها عباده بينهم بالتآسى، ولكن الناس تظالموا. »
وزعموا: أنّهم يأخذون للفقراء من الأغنياء ويردّون من المكثرين على المقلّين، وأنّه من كان عنده فضل في المال والقوت، أو النساء والأمتعة، فليس هو أولى به من غيره.
فافترص السفلة ذلك واغتنموه، وكانفوا مزدك وأصحابه حتى قوى أمرهم.
فكانوا يدخلون على الرجل في داره، فيغلبونه على ماله ونسائه، فلا يستطيعون الامتناع منهم. وقوّاهم قبول الملك رأيهم، ودخوله معهم. فلم يلبثوا إلّا قليلا حتى صار الرجل لا يعرف أباه، ولا الأب ولده، ولا يملك أحد شيئا ممّا يتّسع به.
وصيّروا قباذ في مكان لا يصل إليه غيرهم فيه. فأجمعت الفرس - حين رأوا فساد الملك - على تمليك أخيه جاماسف بن فيروز.
وقد حكى أيضا: أنّ المزدكيّة هم الذين أجلسوا جاماسف ليكون الملك من قبلهم لا منّة لغيرهم عليهم، إلّا أنّ الحكاية الأولى أشبه بالحقّ.
ذكر حيلة تمت لأخت قباذ حتى أخرجته من الحبس
ثم إنّ أختا لقباذ أتت الحبس الذي كان فيه قباذ. فحاولت الدخول إليه، فمنعها الموكّل الذي كان ثقة عليه، وطمع أن يفضحها بذلك السبب وألقى طمعه فيها.
فأخبرته أنّها غير مخالفة له في شيء مما يهواه منها. فأذن لها حتى دخلت السجن وأقامت عند قباذ يوما. ثم أمرت فلفّ قباذ في بساط، وحمل على عاتق غلام قويّ ضابط كان معه في الحبس. فلمّا مرّ الغلام بوالي الحبس، سأله عمّا يحمله. فأفحم، فاضطرب. فلحقته أخت قباذ فأخبرته أنّه فراش كانت افرشته في عراكها، وأنّها إنّما خرجت لتتطهر وتنصرف. فصدّقها ولم يمس البساط، ولم يدن منه استقذارا له على مذهبهم، وخلّى عن الغلام الحامل لقباذ. فمضى به، وخرجت في أثره، وهرب قباذ، فلحق بأرض الهياطلة، ليستمدّ ملكها فيحارب من يخالفه.
فيقال: إنّه نزل في مسيره ب « أبرشهر » على رجل من عظمائها. فتزوّج ابنة له معصرا، وإنّها أمّ كسرى أنوشروان وإنّ نكاحه لأم أنوشروان في سفره هذا. ثم إنّ قباذ رجع من سفره هذا بابنه أنوشروان. وغلب أخاه جاماسف بعد أن ملك اخوه ستّ سنين. ثم غزا الروم وافتتح آمد وبنى مدنا منها: أرجان وغيرها، وملّك ابنه كسرى أنوشروان وأعطاه خاتمه.
وهلك قباذ وكان ملكه بسنى ملك أخيه ثلاثا وأربعين سنة.
سبب هلاك قباذ
وكان سبب هلاكه سوء رأيه، وفساد عقيدته، وضعف ملكه. وذلك أنّه لمّا التقى الحارث بن عمرو بن حجر الكندي والنعمان بن المنذر بن إمرئ القيس، قتله، وأفلت المنذر بن النعمان الأكبر، وملك الحارث بن عمرو الكندي ما كان يملك النعمان. فبعث قباذ بن فيروز ملك فارس إلى الحارث بن عمرو الكندي أنّه:
« قد كان بيننا وبين الملك الذي كان قبلك عهد وإني أحبّ لقاءك ». وكان قباذ زنديقا يظهر الخير، ويكره سفك الدماء، ويدارى أعداءه في ما يكره من سفك الدماء، وكثرت الأهواء في زمانه واستضعفه الناس.
فخرج إليه الحارث بن عمرو في عدد وعدّة، حتى التقيا بقنطرة الفيّوم. فأمر قباذ بطبق من تمر، فنزع نواه، وأمر بطبق آخر، فجعل فيه تمر بنواه. ثم وضعا بين أيديهما، وجعل الذي فيه النوى بين يدي الحارث بن عمرو، والذي لا نوى فيه بين يدي الملك قباذ. فكان الحارث يأكل التمر ويلقى النوى، والملك يأكل التمر ولا يحتاج إلى إلقاء النوى.
فقال الحارث: « ما لك لا تأكل كما آكل؟ » فقال الحارث: « إنّما يأكل النوى إبلنا وغنمنا. » وعلم أنّ قباذ يهزأ به. ثم افترقا على الصلح وعلى أن لا يتجاوز الحارث وأصحابه الفرات.
إلّا أنّ الحارث استضعفه وطمع فيه، فأمر أصحابه أن يعبروا الفرات ويغيروا على قرى السواد. فأتى قباذ الصريخ وهو بالمدائن، فقال:
« هذا من تحت كنف ملكهم ».
ثم أرسل إلى الحارث بن عمرو: أنّ لصوصا من العرب قد أغاروا على السواد وأنه يحبّ لقاءه.
فلقيه، فقال قباذ كالعاتب:
« لقد صنعت صنيعا ما صنعه أحد قبلك. » فطمع الحارث في لين كلامه فقال:
« ما علمت ولا شعرت، ولا أستطيع ضبط لصوص العرب، وما كلّ العرب تحت طاعتي، وما أتمكّن منهم إلّا بالمال والجنود. » فقال له قباذ: « فما الذي تريد؟ » قال: « أريد أن تطعمني من السواد ما أتّخذ به سلاحا. » فأمر له بما يلي جانب الغرب من أسفل الفرات وهي ستّة طساسيج.
فأرسل الحارث بن عمرو الكندي إلى تبّع وهو باليمن:
« إني قد طمعت في ملك الأعاجم، وقد أخذت منه ستّة طساسيج، فأجمع الجنود وأقبل، فانّه ليس دون ملكهم شيء، لأنّ الملك عليهم لا يأكل اللحم، ولا يستحلّ هراقة الدماء، وله دين يمنعه من ضبط الملك، فبادر بعدّتك وجندك. » فجمع تبّع الجنود، وسار حتى نزل الحيرة، وقرب من الفرات، فآذاه البقّ، فأمر الحارث بن عمرو أن يشقّ له نهرا إلى النجف، ففعل وهو نهر الحيرة، فنزل عليه، ووجّه ابن أخيه شمرا ذا الجناح إلى قباذ. فقاتله، فهزمه شمر، حتى لحق بالريّ، ثم أدركه بها فقتله.
ذكر ما تم لتبع وابن أخيه شمر وابنه حسان بعد احتوائهم على مملكة الفرس
ثم إنّ تبّعا أمضى شمرا ذا الجناح إلى خراسان، ووجّه ابنه حسّان إلى السغد وقال:
« أيّكما سبق إلى الصين فهو عليها. » وكان كلّ واحد منهما في جيش عظيم يقال: إنهما كانا ستمائة ألف وأربعين ألفا. وبعث ابن أخيه الآخر واسمه: « يعفر » إلى الروم.
فأمّا يعفر فإنّه سار حتى أتى قسطنطينية. فأعطوه الطاعة والإتاوة. ثم مضى إلى روميّة فحاصرها. ثم أصابهم جوع، ووقع فيهم طاعون فرقّوا. وعلم الروم بذلك، فوثبوا عليهم فلم يفلت منهم أحد.
وأمّا شمر ذو الجناح فانّه سار حتى انتهى إلى سمرقند، فحصرها، فلم يظفر منها بشيء. فلمّا رأى ذلك، أطاف بالحرس حتى أخذ رجلا من أهلها، فاستمال بقلبه، ثم سأله عن المدينة وملكها.
فقال: « أمّا ملكها فأحمق الناس ليس له همّ إلّا الشرب والأكل والجماع، ولكن له بنت هي التي تقضى أمر الناس. » فمنّاه ووعده حتى طابت نفسه. ثم بعث معه هديّة إليها وقال:
« أخبرها أنّى إنّما جئت من أرض العرب للذي بلغني من عقلها، لتنكحنى نفسها، فأصيب منها غلاما يملك العرب والعجم، وأنّى لم أجئ التماس المال، وأنّ معي من المال أربعة آلاف تابوت ذهبا وفضّة هاهنا، وأنا أدفعها إليها وأمضى إلى الصين، فإن كانت لي الأرض، كانت امرأتى، وإن هلكت كان المال لها. » فلمّا انتهت رسالته إليها قالت:
-
« قد أجبته، فليبعث بالمال. » فأرسل إليها بأربعة آلاف تابوت، وفي كلّ تابوت رجلان. وكان لسمرقند أربعة أبواب، على كلّ باب منها أربعة آلاف رجل. وجعل شمر العلامة بينه وبينهم أن يضرب لهم بالجلجل. وتقدّم في ذلك إلى رسله الذين وجّه معهم. فلمّا صاروا في المدينة ضرب لهم بالجلجل. فخرجوا، فأخذوا بالأبواب ونهد شمر في الناس فدخل المدينة، وقتل أهلها وحوى ما فيها.
ثم سار إلى الصين. فلقى زحوف الترك فهزمهم، وانتهى إلى الصين.
فوجد حسّان [ بن ] تبّع قد كان سبقه إليها ثلاث سنين. فأقاما بها - في بعض الروايات - حتى ماتا، وكان مقامهما إحدى وعشرين سنة. وفي بعض الروايات - وهو المجمع عليه -: أنّ شمرا وحسّانا انصرفا في الطريق التي كانا أخذا فيه، حتى قدما على تبّع بما حازا من الأموال بالصين وصنوف الجوهر والطيب والسبي، ثم انصرفوا جميعا إلى بلادهم. وذلك أنّه كانت همّة ملوك العرب الغزو والغنيمة ولم يطمعوا في الملك الثابت. وكان أحدهم إذا ملأ يده من الغنائم وأرضى جنده وظفروا بما في نفوسهم، انكفأوا إلى بلادهم.
وكانت وفاة تبع باليمن ولم يخرج أحد من ملوك اليمن بعده غازيا إلى شيء من البلاد. وكان ملكه مائة وإحدى وعشرين سنة.
وأمّا في الرواية الأخرى: فإنّه أقام تبّع وواطأ ابن أخيه شمرا وابنه حسّانا أن يملكا الصين، ويحملا إليه الغنائم، ونصب بينه وبينهم المنار. فكان إذا حدث حدث أوقدوا النار، فأتى الخبر في ليلة. وكان جعل آية ما بينه وبينهم [ أنه ]:
« إن أنا أوقدت نارين من عندي فهو هلاك يعفر، وإن أوقدت ثلاثا فهو هلاك تبّع. وإن كانت من عندهم نار فهو هلاك حسّان، وإن كانت نارين فهو هلاكهما ».
فمكثوا بذلك. ثم إنه أوقد نارين فكان هلاك يعفر، ثم أوقد ثلاثا فكان هلاك تبّع.
وقد ذكر بعض الرواة: أنّ الذي سار إلى المشرق من التبابعة، تبّع الآخر وهو:
تبّع تبان أسعد أبو بكر بن مليكيكرب بن زيد بن عمرو ذي الأذعار وهو أبو حسّان.
وقام بالملك بعد قباذ ابنه كسرى أنوشروان
فاستقبل الأمر بجدّ وسياسة وحزم. وكان جيّد الرأي، كثير النظر، صائب التدبير، طويل الفكر ثم الاستشارة. فجدّد سيرة أردشير، ونظر في عهده، وأخذ نفسه به، وأدّب به رعيته وبطانته، وبحث عن سياسات الأمم، واستصلح لنفسه منها ما رضيه، ونظر في تدابير أسلافه المستحسنة فاقتدى بها.
وكان أوّل ما بدأ به أن أبطل ملّة زرداشت الثاني الذي كان من أهل فسّا، وكان ممّن دعا إليها مزدك بن فامارد، وكان ممّا آمن به الناس - لما زيّنه لهم وحثّهم عليه - التآسى في أموالهم وأهاليهم. وذكر أنّ ذلك من البرّ الذي يرضاه الله ويثيب عليه أحسن الثواب، وأنّه لو لم يكن الذي أمرهم به من الدين، لكان مكرمة في الفعال ورضى في التفاوض. فحضّ السفلة بذلك على الأشراف واختلط أجناس اللؤماء بعناصر الكرماء، وسهّل سبيل الظلمة إلى الظلم، والعهّار إلى قضاء نهمتهم وإلى الوصول إلى الكرائم. فشمل الناس بلاء عظيم.
فلما أبطل الملك أنوشروان ملّة هذين، وقتل عليه بشرا كثيرا، وسفك من الدماء ما لا يحصى كثرة ممن لا ينتهى، وقتل قوما من المانوية وثبت ملة المجوسية القديمة، كتب في ذلك كتبا بليغة إلى أصحاب الولايات والاصبهبذين، وقوّى الملك بعد ضعفه بإدامة النظر، وهجر الملاذ وترك اللهو إلّا في أوقات، حتى نظّم أموره وقوّى جنوده بالأسلحة والكراع، وعمر البلاد، وحفظ الأموال، وفرّق منها ما لا يسع حفظه من الأرزاق والصلات الموضوعة مواضعها، وسدّ الثغور، وردّ كثيرا من الأطراف التي غلب عليها الأمم بعلل وأسباب شتّى، منها: السّند، والرّخج، وزابلستان، وطخارستان، ودروستان وغيرها. وقتل أمّة يقال لها: البافرز واستبقى منهم من فرّقهم واستعبدهم واستعان بهم في حروبه. وأسرت له أمّة يقال لهم: صول، وقدم بهم عليه، فقتلهم واستبقى ثمانين رجلا من كماتهم، وعمل أعمالا عظيمة منها: بنيانه الحصون والآطام والمعاقل لأهل بلاده، يكون حرزا لهم يلجأون إليها من عدوّ إن دهمهم.
من ثمرة أعماله
فكان من ثمرة هذه الأعمال: أنّ خاقان - واسمه سنحوا - كان في ذلك الوقت أمنع الترك وأشجعهم. وهو الذي قاتل « ورز » ملك الهياطلة، غير هائب كثرة الهياطلة ومنعتهم، وبأسهم. فقتل ورز وعامّة جنده، وغنم أموالهم واحتوى على بلادهم إلّا ما كان كسرى غلب عليه منها. وأقبل في جموعه من أمم استمالهم، وهم: أبجر، وبنجر، وبلنجر. وبلغت عدّة الجميع مائة ألف وعشرة آلاف مقاتل أنجاد.
فأرسل إلى كسرى يتوعّده ويطلب منه أموالا، وأنّه إن لم يجعل بالبعثة إليه ما سأله، وطئ بلاده وناجزه. فلم يحفل كسرى به ولم يجبه إلى ما سأل، لتحصينه نواحيه لا سيما ناحية صول التي أقبل منها خاقان، ولمناعة السبل والفجاج، ولمعرفته بمقدرته على ضبط ثغر أرمينية. فأقدم خاقان على ناحية صول من نواحي جرجان، فرأى من الحصون والرجال الذين أعدّهم كسرى ما لا حيلة له فيه، فانصرف خائبا.
فأما تدبيره للمزدكية ورده المظالم وما دبر في أمر النساء المغلوبات على أنفسهن وتدابيره الأخرى
فإنّه ضرب أعناق رؤسائهم، وقسم أموالهم في أهل الحاجة، وقتل جماعة كثيرة ممن كان دخل على الناس في أموالهم وأهاليهم ممن عرف، وردّ الأموال إلى أربابها، وأمر بكل مولود اختلف فيه، أن يلحق بمن هو في سيما ذلك منهم إذا لم يعرف أبوه، وأن يعطى نصيبا من مال الرجل الذي يسند إليه، إن قبله الرجل، وبكلّ امرأة غلبت على نفسها أن يؤخذ الغالب لها حتى يغرم لها مهرها ويرضى أهلها، ثم تخيّر المرأة بين الاقامة عليه وبين تزويج غيره، إلّا أن يكون لها زوج أوّل فتردّ إليه. وأمر بكل من كان أضرّ برجل في ماله، أو ركب أحدا بمظلمة أن يؤخذ منه الحقّ ثم يعاقب الظالم بعد ذلك بقدر جرمه. أمر بعيال ذوي الأحساب الذين مات قيّمهم فكتبوا له، فأنكح بناتهم الأكفاء، وجعل جهازهم من بيت المال، وأنكح بنيهم من بيوتات الأشراف، وأغناهم وأمرهم بملازمة بابه ليستعان بهم في أعماله. وخير نساء والده أن يقمن مع نسائه فيواسين ويصيّرن في الإجراء أمثالهن، أو تبتغى لهن أكفاؤهن من البعولة. وأمر بكرى الأنهار وحفر القنيّ وإسلاف [ أصحاب ] العمارات وتقويتهم. وأمر بإعادة كلّ جسر أو قنطرة خرّبت أن تردّ إلى أحسن ما كانت عليه. وأمر بتسهيل سبل الناس، وبنى في الطرق القصور والحصون، وتخيّر الحكام والعمّال وتقدّم إلى من ولّى منهم أبلغ التقدّم، وتقدّم بكتب سير أردشير ووصاياه، فاقتدى بها وحمل الناس عليها.
فتوح أنوشروان
فلما انتظمت له هذه الأمور واستوسق ملكه ووثق بجنده وقوّته، سار نحو أنطاكية فافتتحها وأمر أن تصوّر له المدينة على ذرعها وطرقها وعدّة منازلها، وأن يبنى على صورتها له مدينة إلى جانب المدائن، فبنيت المدينة المعروفة بالروميّة.
ثم حمل أهل أنطاكية حتى أسكنهم إيّاها. فلمّا دخلوا باب المدينة مضى أهل كلّ بيت منهم إلى ما يشبه منازلهم التي كانوا فيها بأنطاكية. ثم قصد لمدينة هرقل فافتتحها، ثم الاسكندرية، وأذعن له قيصر، وحمل إليه الفدية.
ثم انصرف من الروم وأخذ نحو الخزر، فأدرك فيهم تبله، وما كانوا وتروه به في رعيّته، ثم نحو عدن، فسكر هناك ناحية من البحر بين جبلين بالصخور وعمد الحديد. ثم سار إلى الهياطلة مطالبا لهم بدم فيروز، بعد أن صاهر خاقان واستعان به. فأتاهم، فقتل ملكهم، واستأصل أهل بيته، وتجاوز بلخ وما وراءها، وأنزل جنوده فرغانة. ثم انصرف إلى المدائن، وبعث قوما إلى الحبشة في جند من الديلم. فقتلوا مسروقا الحبشي باليمن. وأقام مظفّرا منصورا يهابه جميع أمرائهم، ويحضر بابه وفود الترك والصين والخزر ونظرائهم. وكان مكرما للعلماء. وقد كان غزا برجان. ثم رجع فبنى الباب والأبواب.
وفي زمانه ولد عبد الله أبو النبي http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png. والنبي أيضا http://upload.wikimedia.org/wikipedi...8%A7%D9%85.png وملك ثماني وأربعين سنة. أمّا عبد الله بن عبد المطلب فانّه ولد لأربع وعشرين سنة من ملكه. وبعث إلى المنذر بن النعمان - وأمّه ماء السماء امرأة من اليمن - فملّكه الحيرة وما كان يليه آل الحارث بن عمرو، وردّ الأمر إلى نصابه.
-
تدابير أنوشروان لاستغزار الأموال وتثميرها
ومن أحسن ما دبّره أنوشروان في استغزار الأموال وتثميرها أنّه بعد فراغه من الثغور وملوك الأطراف، وتوظيفه الوظائف على أقاصى الملوك من الترك والخزر والهند وغيرهم، وبيعه مدن الشام ومصر والروم على ملك الروم بأموال عظيمة، وإلزامه جزية يحملها في كلّ سنة على ألّا يغزو بلاده، نظر في الخراج وأبواب المال التي كان يستأديها الملوك قبله من بلاده. فإذا رسوم الناس كانت جارية على الثلث من الارتفاع خراجا، ومن بعض الكور الربع، ومن بعضها الخمس، ومن بعضها السدس، على حسب شربها وعمارتها، ومن جزية الجماجم شيئا معلوما.
وكان الملك قباذ بن فيروز تقدّم - في آخر ملكه - بمسح الأرض سهلها وجبلها، ليصحّ الخراج عليها، فمسحت. غير أنّ قباذ هلك قبل أن يستحكم له أمر تلك المساحة. فلمّا ملك أنوشروان أمر باستتمامها وإحصاء النخل والزيتون وغير ذلك، والجماجم. ثم أمر الكتّاب فأخرجوا جمل ذلك غير مفصّلة، وأذن للناس إذنا عامّا، وأمر كاتب خراجه أن يقرأ عليهم الجمل المستخرجة من أصناف الغلّات وعدد النخل والزيتون والجماجم. فقرأ ذلك عليهم.
ثم قال لهم كسرى:
« إنّا رأينا أن نضع على ما أحصى من جربان هذه المساحة ومن النخل والزيتون والجماجم وضائع، ونأمر بإنجامها في السنة في ثلاثة أنجم. ونجمع في بيوت أموالنا من الأموال ما لو أتانا عن ثغر من الثغور، أو طرف من الأطراف، فتق أو شيء نكرهه واحتجنا إلى تداركه أو حسمه ببذلنا فيه مالا، كانت الأموال عندنا معدّة موجودة، ولم نرد استيناف اجتبائها على تلك الحال. فما ترون في ما رأينا من ذلك وأجمعنا عليه؟ » فلم يشر عليه أحد منهم بمشورة ولم ينبس بكلمة. فكرر كسرى هذا القول عليهم ثلاث مرات.
فقام رجل من عرضهم وقال لكسرى:
« أتضع أيّها الملك - عمّرك الله خالدا - من هذا الخراج على الفاني من كرم يموت، وزرع يهيج، ونهر يغيض، وعين أو قناة ينقطع ماؤها؟ » فقال له كسرى: « يا ذا الكفلة المشؤوم! من أيّ طبقات الناس أنت؟ » قال: « أنا رجل من الكتّاب. » فقال كسرى: « اضربوه بالدويّ حتى يموت. » فضربوه بها الكتّاب خاصّة تبرّيا منه إلى كسرى من رأيه وما جاء منه حتى قتلوه.
وقال الناس:
« نحن راضون أيّها الملك بما أنت ملزمنا من خراج. » وإنّ كسرى اختار رجالا من أهل الرأي والنصيحة. فأمرهم بالنظر في أصناف ما ارتفع إليه من المساحة وعدد النخل والزيتون ورؤوس الجزية، ووضع الوضائع على ذلك بقدر ما يرون أنّ فيه صلاح الرعية ورفاغة معايشهم، ورفع ذلك إليه.
فتكلّم كل امرئ منهم بمبلغ رأيه في ذلك وفي قدر الوضائع، وأداروا الأمر بينهم، فاجتمعت كلمتهم على وضع الخراج على ما يعصم الناس والبهائم وهو: الحنطة، والشعير، والأرز، والكرم، والرطاب، والنخل، والزيتون.
وكان الذي وضعوا على كل جريب أرض من مزارع الحنطة والشعير درهما، وعلى كل جريب كرم ثمانية دراهم، وعلى كلّ جريب أرض رطاب سبعة دراهم، وعلى كلّ أربع نخلات فارسية درهما، وعلى كلّ ست نخلات دقل مثل ذلك، وعلى كلّ ستّة أصول زيتون مثل ذلك. ولم يضعوا إلّا على كلّ نخل في حديقة، أو مجتمع غير شاذّ، وتركوا ما سوى ذلك من الغلّات السبع.
فقوى الناس في معايشهم، وألزموا الناس الجزية ما خلا أهل البيوتات، والعظماء، والمقاتلة، والهرابذة، والكتّاب، ومن كان في خدمة الملك. وصيّروها على طبقات:
اثنى عشر درهما، وثمانية، وستّة، وأربعة، على قدر إكثار الرجل وإقلاله. ولم يلزموا الجزية من كان أتى له من السنين دون العشرين، أو فوق الخمسين.
عمر يقتدي بوضائع كسرى
ورفعوا هذه الوضائع إلى كسرى. فرضيها، وأمر بإمضائها، والاجتباء عليها في ثلاثة أنجم كلّ سنة، وسمّاها « أبراسيار » - وتأويله: الأمر المتراضى به - وهي الوضائع التي اقتدى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بها حين افتتح بلاد الفرس، وأمر باجتباء الناس من أهل الذمّة عليها. إلّا أنّه وضع على كلّ جريب غامر على قدر احتماله مثل الذي وضع على الأرض المزروعة، وزاد على كلّ جريب أرض - مزارع حنطة أو شعير - قفيزا من حنطة إلى القفيزين، ورزق منه الجند. ولم يخالف بالعراق خاصّة وضائع كسرى على جربان الأرض وعلى النخل والزيتون والجماجم، وألغى ما كان كسرى ألغاه في معايش الناس.
ذكر قطعة من سيرة أنوشروان وسياساته كتبتها على ما حكاه أنوشروان نفسه في كتاب عمله في سيرته وما ساس به مملكته
وقرأت فيما كتب أنوشروان من سيرة نفسه قال:
رجل اخترط السيف وأراد الوثوب علينا
« كنت يوما جالسا بالدّسكرة وأنا سائر إلى همذان لنصيف هناك وقد أعدّ طعام للرسل الذين بالباب من قبل خاقان، والهياطلة، والصين، وقيصر، وبغبور، إذ دخل رجل من الأساورة مخترطا سيفه حتى وصل إلى الستر. فقطع الستر في ثلاثة أماكن، وأراد الدخول حيث نحن، والوثوب علينا. فأشار عليّ بعض خدمي أن أخرج إليه بسيفي. فعلمت أنّه إن كان إنّما هو رجل واحد، فسوف يحال بيننا وبينه، وإن كانوا جماعة فانّ سيفي لا يغنى شيئا، فلم أخف ولم أتحرّك من مكاني. فأخذه بعض الحرس، فإذا هو رجل رازي من حشمنا وخاصتنا فلم يشكّوا أنّ من هو على رأيه كثير، فسألونى ألّا أجلس ولا أحضر الشرب في جماعة حتى أستبين الأمر. فلم أجبهم إلى ذلك لئلّا يرى الرسل مني جبنا، فخرجت لشربى، فلمّا فرغنا هدّدت الرازي بقطع اليمين والعقوبات، وسألت أن يصدقني عن الذي حمله على ذلك، وأنّه إن صدقنى لم تنله عقوبة بعد ذلك. فذكر أنّ قوما وضعوا من قبل أنفسهم كتبا وكلاما، وذكروا أنّه من عند الله، أشاروا عليه بذلك وأخبروه أن قتله - إن قتلني - يدخله الجنّة. فلمّا فحصت عن ذلك وجدته حقّا، فأمرت بتخلية الرازي وبردّ ما أخذ منه من المال، وتقدّمت بضرب رقاب أولئك الذين انتحلوا الدين، وأشاروا به عليه حتى لم أدع منهم أحدا. » وقال أنوشروان:
استحلال قتلي
« إني لمّا أحضرت القوم الذين اختلفوا في الدين وجمعتهم للنظر فيما يقولونه، بلغ من جرأتهم وخبثهم وقوّة شياطينهم أن لم يبالوا بالقتل والموت في إظهار [ دينهم ] الخبيث، حتى إني سألت أفضلهم رجلا، على رؤوس الناس، عن استحلاله قتلى فقال:
« نعم! أستحلّ قتلك وقتل من لا يطاوعنا على ديننا. » « فلم آمر بقتله حتى إذا حضر وقت الغذاء، أمرت أن يحتبس للغداء، وأرسلت إليه بظرف من الطعام، وأمرت الرسول أن يبلّغه عني: أنّ بقائى أنفع له ممّا ذكر. فأجاب رسولي:
« أنّ ذلك حقّ، ولكن سألنى الملك أن أصدقه ذات نفسي ولا أكتمه
شيئا مما أدين به، وإنّما أدين بما أخذته من مؤدّبى. » وقال أنوشروان:
تصدقت على مساكين الروم
« لمّا غدر بي قيصر وغزوته فذلّ وطلب الصلح وأنفذ إليّ بمال وأقرّ بالخراج والفدية، تصدّقت على مساكين الروم وضعفاء مزارعيها مما بعث إليّ قصير بعشرة آلاف دينار، وذلك في ما وطئته من أرض الروم دون غيرها. » وقال:
تخفيف الخراج لعمارة الأراضي
« لما هممت بتصفّح أمر الرعية بنفسي، ورفع البلاء والظلم عنهم، وما ينوبهم من ثقل الخراج - فإنّ فيه مع الأجر تزيين المملكة، وغناهم، وقدرة الوالي على ما يجب أن يستخرج منهم، إن هو احتاج إلى ذلك، وقد كان في آبائنا من يرى أنّ وضع الخراج عنهم للسنة والسنتين والتخفيف أحيانا، ممّا يقوّيهم على عمارة أرضيهم - فجمعت العمال ومن يؤدّى الخراج، فرأيت من تخليطهم ما لم أر له حيلة إلّا التعديل والمقاطعة على بلدة بلدة، وكورة كورة، ورستاق رستاق، وقرية قرية، ورجل رجل، واستعملت عليهم أهل الثقة والأمانة في نفسي، وجعلت في كلّ بلد مع كلّ عامل أمناء يحفظون عليه، وولّيت قاضى كلّ كورة النظر في أهل كورته، وأمرت أهل الخراج أن يرفعوا ما يحتاجون إلى رفعه إلينا، إلى القاضي الذي ولّيته أمر كورهم، حتى لا يقدر العامل أن يزيد شيئا، وأن يؤدّوا الخراج بمشهد من القاضي، وأن يعطى به البراءة، وأن يرفع خراج من هلك منهم، ولا يراد الخراج ممن لم يدرك من الأحداث، وأن يرفع القاضي وكاتب الكورة وأمين أهل البلد والعامل، محاسبتهم إلى ديواننا، وفرّقت الكتب بذلك. » وقال:
-
ما رفع إلينا موبذان موبذ
« رفع إلينا موبذان موبذ: أنّ قوما سمّاهم من ذوي الشرف - بعضهم بالباب كان شاهدا وبعضهم ببلاد أخر - دينهم مخالف لما ورثنا عن نبّينا وعلمائنا، وأنّهم يتكلّمون بدينهم سرّا ويدعون إليه الناس، وأنّ ذلك مفسدة للملك، حيث لا تقوم الرعيّة على هوى واحد: فيحرّمون جميعهم ما يحرّم الملك ويستحلّون ما يستحلّ الملك في دينه، فإنّ ذلك إذا اجتمع للملك، قوى جنده لأجل الموافقة بينهم وبين الملك، فاستظهر على قتال الأعداء.
فأحضرت أولئك المختلفين في الأهواء [ ثمّ أمرت ] أن يخاصموا حتى يقفوا على الحقّ ويقرّروا به، وأمرت أن يقصوا عن مدينتي وعن بلادي ومملكتي، وبتتبّع كلّ من هو على هواهم، فيفعل به ذلك. » وقال:
ما سألته الترك ومسيرنا إلى باب صول
« إنّ الترك الذين في ناحية الشمال، كتبوا إلينا بما قد أصابهم من الحاجة، وأنهم لا يجدون بدّا - إن لم نعطهم شيئا - من أن يغزونا، وسألوا خصالا، أحدها: أن نتّخذهم في جندنا ونجري عليهم ما يعيشون به، وأن نعطيهم من أرض الكنج وبلنجر وتلك الناحية، ما يتعيّشون منه. فرأيت أن أسير في ذلك الطريق إلى باب صول، وأحببت أن تعرف الملوك من قبلنا هناك نشاطنا للأسفار وقوّتنا عليها متى هممنا، وأن يروا ما رأوا من هيبة الملوك، وكثرة الجنود، وتمام العدّة، وكمال السلاح ما يقوون به على أعدائهم ويعرفون به قوّة من خلفهم إن هم احتاجوا إليه، وأحببنا - بمسيرنا - أن يجرى لهم على أيدينا الجوائز والحملان والقرب من المجلس واللطف في الكلام، ليزيدهم ذلك مودّة لنا، ورغبة فينا، وحرصا على قتال أعدائنا. وأحببت أيضا التعهّد لحصونهم، وأن أسأل أهل الخراج عن أمرهم في مسيرنا، فسرت في طريق همذان وآذربيجان. فلمّا بلغت باب الصول ومدينة فيروز خسره، رمّمت تلك المدائن العتيقة والحدود، وأمرت ببناء حصون أخر.
« فلمّا بلغ خاقان الخزر نزولنا هناك، تخوّف أن نغزوه. فكتب:
أنّه لم يزل - منذ ملكت - يحبّ موادعتى، وأنّه يرى الدخول في طاعتي سعادة، ورأى بعض قوّاده لما شاهد حاله تركه، فأتانا في ألفين من أصحابه، فقبلناه، وأنزلناه مع أساورتنا في تلك الناحية، وأجريت عليه وعلى أصحابه الرزق، وأمرت لهم بحصن هناك، وأمرت بمصلّى لأهل ديننا، وجعلت فيه موبذا وقوما نسّاكا، وأمرتهم أن يعلّموا من دخل في طاعتنا من الترك، ما في طاعة الولاة من المنفعة العاجلة في الدنيا، والثواب الآجل في الأخرى، وأن يحثّوهم على المودّة والصحّة والعدل والنصيحة ومجاهدة العدوّ، وأن يعلّموا أحداثهم رأينا ومذهبنا. وأقمت لهم في تلك التخوم الأسواق وأصلحت طرقهم، وقوّمت السكك، ونظرنا فيما اجتمع لنا هناك من الخيل والرجال، فإذا بحيث لو كان في وسط فارس، لكان منزلنا بها فاضلا. » قال:
تجديد النظر في أمر المملكة
« ولمّا أتى لملكنا ثمان وعشرون سنة جدّدت النظر في أمر المملكة والعدل على الرعية، والنظر في أمرهم وإحصاء مظالمهم وإنصافهم، وأمرت موبذ كلّ [ ثغر ] ومدينة وبلد وجند بإنهاء ذلك إليّ، وأمرت بعرض الجند من كان منهم بالباب، بمشهد مني، ومن غاب في الثغور والأطراف، بمشهد القائد وباذوسبان والقاضي وأمين من قبلنا، وأمرت بجمع أهل كور الخراج في كلّ ناحية من مملكتي إلى مصرها، مع القائد وقاضى البلد والكاتب والأمين، وسرّحت من قبلي من عرفت صحّته وأمانته ونسكه وعلمه، ومن جرّبت ذلك منه إلى كلّ مصر ومدينة، حيث أولئك [ الغلمان و ] العمال وأهل الأرض، ليجمعوا بينهم وبين أهل أرضيهم وبين وضيعهم وشريفهم، وأن يرفع الأمر كلّه على حقّه وصدقه: [ فما ] نفذ فيه لهم أمر - لو صحّ فيه القضاء ورضى به أهله - فرغوا منه هنالك، وما أشكل عليهم رفعوه إليّ. وبلغ اهتمامي بتفقّد ذلك ما لولا الذي أدارى من الأعداء والثغور، لباشرت أمر الخراج والرعيّة بنفسي قرية قرية، حتى أتعهّدها وأكلّم رجلا رجلا من أهل مملكتي، غير أنّى تخوّفت أن يضيع بذلك السبب أمر هو أعظم منه، والأمر الذي لا يغنى فيه غنائى ولا يقدر على إحكامه غيري، ولا يكفينيه كاف، مع الذي في الشخوص إلى قرية قرية، ومن المؤونة على الرعيّة من جندنا، ومن لا نجد بدّا من إشخاصه معنا. وكرهنا أيضا إشخاصهم إلينا، مع تخوّفنا أن يشغل أهل الخراج عن عمارة أرضيهم، أو يكون فيهم من يدخل عليه في ذلك مؤونة في تكلف السير إلى بابنا، وقد ضيّع قراه وأنهاره وما لا يجد بدّا من تعهّده في السنة كلّها في أوقات العمارة.
ففعلنا ذلك بهم، ووكّلنا موبذان موبذ وكتبنا به الكتب وسرّحنا من وثقنا به ورجونا أن يجرى مجرانا، وشخّصنا وقلّدناه ذلك. » قال:
جلوسنا مع أهل الكور للفحص عن الرعية وأمناء الخراج
« ولمّا آمن الله جميع أهل مملكتنا من الأعداء. فلم يبق منهم إلّا نحو من ألفى رجل من الديلم الذين عسر افتتاح حصنهم لصعوبة الجبال عليها، لم نجد شيئا أنفع لمملكتنا من أن نفحص من الرعيّة وأولئك الأمناء الذين وصّيناهم بإنصاف أهل الخراج، وكان بلغنا أنّ أولئك الأمناء لم يبالغوا على قدر رأينا في ذلك، فأمرت بالكتب إلى قاضى كورة كورة: أن يجمع أهل الكورة بغير علم عاملهم وأولى أمرهم، فيسألهم عن مظالمهم وما استخرج منهم، ويفحص عن ذلك بمجهود رأيه، ويبالغ فيه، ويكتب حال رجل رجل منهم، ويختم عليه بخاتمه وخاتم الرضا من أهل تلك الكورة، ويبعث به إليّ، ويسرّح ممن يجتمع رأى أهل الكورة عليه بالرضا نفرا، وإن أحبّوا أن يكون في من يشخص، بعض سفلتهم أيضا، فعل ذلك.
« فلمّا حضروا جلست للناس وأذنت بمشهد من عظماء أرضنا وملوكهم، وقضاتهم وأحرارهم وأشرافهم، ونظرت في تلك الكتب والمظالم. فأيّة مظلمة كانت من العمّال ومن وكلائنا، أو من وكلاء وكلائنا، ونسائنا، وأهل بيتنا، حططنا عنهم بغير بيّنة، لعلمنا بضعف أهل الخراج عنهم وظلم أهل القوّة من السلطان لهم، وأية مظلمة كانت لبعضهم من بعض ووضحت لنا، أمرت بإنصافهم قبل البراح، وما أشكل، أو وجب الفحص عنه، بشهود البلد وقاضيها، سرّحت معه أمينا من الكتّاب، وأمينا من فقهاء ديننا، وأمينا ممن وثقنا به من خدمنا وحاشيتنا، فأحكمت ذلك إحكاما وثيقا، ولم يجعل الله لذوي قرابتنا وخدمنا وحاشيتنا منزلة عندنا دون الحقّ والعدل، فإنّ من شأن قرابة الملك وحاشيته أن يستطيلوا بعزّة وقوّة. فإذا أهمل السلطان أمرهم هلك من حاوروه إلّا أن تكون فيهم متأدّب بأدب ملكه، محافظ على دينه، شفيق على رعيّته، وأولئك قليل. فدعانا الذي اطّلعنا عليه من ظلم أولئك، إلى أن لا نطلب البيّنة عليهم في ما ادّعى قبلهم، ولم نرد ظلم أحد ممن كان عزيزا بنا، ومنيعا بمكانه ومنزلته عندنا، فانّ الحق واسع للضعفاء والأقوياء، والفقراء والأغنياء، ولكنّا لمّا أشكلت الأمور في ذلك علينا، كان الحمل على خواصّنا وخدمنا، أحبّ إلينا من أن نحمل على ضعفاء الناس ومساكينهم وأهل الفاقة والحاجة منهم.
وعلمنا أنّ أولئك الضعفاء لا يقدرون على ظلم من حولنا وعلمنا مع ذلك أنّ [ الذين ] أعدينا عليهم من خاصّتنا يرجعون من نعمتنا وكرامتنا إلى ما لا يرجع إليه أولئك الضغفاء.
ولعمري، إنّ أحبّ خواصّنا إلينا، وأبرّ خدمنا في أنفسنا، الذين يحفظون سيرتنا في الرعيّة، ويرحمون أهل الفاقة والمسكنة، وينصفونهم، فإنّه قد ظلمنا من ظلمهم، وجار علينا من جار عليهم، وأراد تعطيل ذمّتنا التي هي حرزهم وملجأهم. » قال:
ما كتبه إلينا أربعة أصناف من ترك الخزر
« ثم كتب إلينا على رأس سبع وثلاثين سنة من ملكنا أربعة أصناف من الترك من ناحية الخزر، ولكلّ صنف منهم ملك، يذكرون ما دخل عليهم من الحاجة، وما لهم من الحظّ في عبودتنا، وسألوا أن نأذن لهم في القدوم بأصحابهم لخدمتنا والعمل بما نأمرهم به، ولا نحقد عليهم ما سلف منهم قبل ملكنا، وأن ننزلهم منزلة سائر عبيدنا، فإنّا سنرى في كلّ ما نأمرهم به من قتال وغيره، كأفضل ما نرى من أهل نصيحتنا.
« فرأيت في قبولي إيّاهم عدّة منافع، منها: جلدهم وبأسهم، ومنها: أنّى تخوّفت أن تحملهم الحاجة على إتيان قيصر أو بعض الملوك فيقووا بهم علينا. وقد كان في ما سلف يستأجر قيصر منهم لقتال ملوك ناحيتنا بأغلى الأجرة، فكان لهم في ذلك القتال بعض الشوكة بسبب أولئك الأتراك، ولأنّ الترك ليس عندهم لذّة الحياة، فهو الذي يجرّيهم مع شقاء معيشتهم على الموت.
فكتبت إليهم: أنّا نقبل من دخل في طاعتنا ولا نبخل على أحد بما عندنا. وكتبت إلى مرزبان الباب آمره أن يدخلهم أوّلا فأولا.
« فكتب إليّ أنّه: قد أتاه منهم خمسون ألفا بنسائهم وأولادهم وعيالاتهم، وأتاه من رؤسائهم ثلاثة آلاف بأهل بيتهم ونسائهم وأولادهم وعيالاتهم.
« ولمّا بلغني ذلك أحببت أن أقرّبهم إليّ، ليعرفوا إحسانى إليهم في ما أكرمهم به وأعطيهم، وليطمئنّوا إلى قوّادنا حتى إذا أردنا تسريحهم مع بعض قوّادنا، كان كلّ واحد بصاحبه واثقا. فشخصت إلى آذربيجان. فلما نزلت آذربيجان أذنت لهم في القدوم، وأتانى عند ذلك طرائف من هدايا قيصر، وأتانى رسول خاقان الأكبر ورسول صاحب خوارزم، ورسول ملك الهند، والداور، وكابل شاه، وصاحب سرنديب، وصاحب كله، وكثير من الرسل، وتسعة وعشرون ملكا في يوم واحد، وانتهيت إلى أولئك الأتراك الثلاثة والخمسين الألف، فأمرت أن يصفّفوا هناك، وركبت لذلك، فكان يومئذ من أصحابي، ومن قدم عليّ، ومن دخل في طاعتي وعبودتى، من لم يسعهم مرج كان طوله نحو عشرة فراسخ.
فحمدت الله كثيرا، وأمرت أن يصنّف أولئك الأتراك في أهل بيوتاتهم على سبع مراتب ورأّست عليهم منهم، وأقطعتهم، وكسوت أصحابهم، وأجريت عليهم الأرزاق، وأمرت لهم بالمياه والأرضين، وأسكنت بعضهم مع قائد لي ببرجان، وبعضهم مع قائد لي باللّان، وبعضهم بآذربيجان، وقسمتهم في كلّ ما احتجنا إليه من الثغور، وضممتهم إلى المرزبان. فلم أزل أرى من مناصحتهم واجتهادهم في ما نوجههم له، ما يسرّنا في جميع المدائن والثغور وغيرها. »
-
خاقان الأكبر يعتذر إلي ويسأل التجاوز
« وكتب إليّ خاقان الأكبر يعتذر إليّ من بعض غدراته، ويسأل المراجعة والتجاوز، وذكر في كتابه ورسالته: إنّ الذي حمله على عداوتي وغزو أرضى من لم ينظر له، وناشدني الله أن أتجاوز عنه، ويوثّق لي بما أطمئن إليه، وذكر أنّ قيصر قد أرسل إليه، وزعم أنّه يستأذننى في قبول رسله، وأنّه لا يعمل في قبول رسل أحد إلّا بما أمرته، ولا يجاوز أمري، ولا يرغب في الأموال ولا في المودّات لأحد إلّا برضاي. وكان دسيس لي في الترك كاتبني بندم خاقان وندم أصحابه على غدره وعداوته إيّاي.
« فأجبته: إني لعمري لا أبالى أبطبيعة نفسك وغريزتك غدرت بنا، أم أطعت غيرك في غدرك بنا، وما ذنبك في طاعة من أطعت في ذلك إلّا كذنبك في ما فعلته برأى نفسك، وإنّك قد استحققت أشدّ العقوبة. - وكتبت: - إني لا أظنّ شيئا مما وجب بيني وبينكم إلّا وقد كنت صنعته، ولا أظنّ شيئا من الوثيقة بقي لكم إلّا وقد وثّقت لنا به قبل اليوم ثم غدرتم، فكيف نطمئنّ إليك ونثق بقولك، ولسنا نأمنك على مثل ما فعلت من الغدر ونقض العهد والكذب في اليمين؟ وذكرت أنّ رسل قيصر عندك، ووقفنا على استيذانك إيّانا فيهم، وإني لست أنهاك عن مودّة أحد. وكرهت أن يرى أنّى أتخوّف مصادقته وأهاب ذلك منه، وأحببت أن أعلمه أنّى لا أبالى بشيء ممّا يجرى بينهما، « ثم سرّحت لمرمّة المدائن والحصون التي بخراسان وجمع الأطعمة والأعلاف إليها ما يحتاج إليه الجند، وأمرتهم أن يكونوا على استعداد وحذر، ولا يكون من غفلتهم ما كان في المرّة الأولى وهم على حال الصلح. » قال:
المقاتلة وأهل العمارة سواء
« وكان شكرى لله تعالى لمّا وهب لي وأعطاني متّصلا بنعمه الأول التي وهبها لي في أوّل خلقه إيّاى، فإنّما الشكر والنعم عدلان ككفّتى الميزان، أيّهما رجح بصاحبه احتاج الأخفّ إلى أن يزاد فيه حتى يعادل صاحبه. فإذا كانت النعم كثيرة والشكر قليلا، انقطع الحمل وهلك ظهر الحامل، وإذا كان ذلك مستويا استمرّ الحامل. فكثير النعم يحتاج صاحبها إلى كثير الشكر، وكثير الشكر يجلب كثير النعم. ولمّا وجدت الشكر بعضه بالقول، وبعضه بالعمل، نظرت في أحبّ الأعمال إليه، فوجدته الشيء الذي به أقام السماوات والأرض، وأرسى به الجبال، وأجرى به الأنهار، وبرأ به البريّة، وذلك الحقّ والعدل فلزمته، ورأيت ثمرة الحقّ والعدل عمارة البلدان التي بها معاش الناس والدوابّ والطير وسكّان الأرض.
« ولمّا نظرت في ذلك، وجدت المقاتلة أجراء لأهل العمارة، ووجدت أيضا أهل العمارة أجراء للمقاتلة. وأمّا المقاتلة فإنّهم يطلبون أجورهم من أهل الخراج وسكّان البلدان لمدافعتهم عنهم، ومجاهدتهم من ورائهم. فحقّ على أهل العمارة أن يوفوهم أجورهم. فإنّ عمارتهم تتمّ بهم، وإن أبطأوا عليهم بذلك أوهنوهم، فقوى عدوّهم. فرأيت من الحقّ على أهل الخراج ألّا يكون لهم من عمارتهم إلّا ما أقام معايشهم، وعمروا به بلدانهم. ورأيت أن لا أجتاحهم وأستفرغ ذات أيديهم للخزائن والمقاتلة، فإني إذا فعلت ذلك ظلمت المقاتلة مع ظلم أهل الخراج، وذلك أنّه إذا فسد العامر فسد المعمور، وذاك أهل الأرض والأرض، فإنّه إذا لم يكن لأهل الخراج ما يعيشهم ويعمرون به بلادهم، هلكت المقاتلة الذين قوّتهم بعمارة الأرض وأهل العمارة. فلا عمارة للأرض إلّا بفضل ما في يد أهل الخراج، فمن الإحسان إلى المقاتلة، والإكرام لهم أن أرفق بأهل الخراج وأعمر بلادهم وأدع لهم فضلا في معايشهم.
فأهل الأرض وذوو الخراج أيدى المقاتلة والجند، وقوّتهم، والمقاتلة أيضا أيدى أهل الخراج وقوّتهم.
« ولقد فكّرت وميّزت ذلك جهدي وطاقتي، فما رأيت أن أفضّل هؤلاء على أولئك ولا أولئك على هؤلاء، إذ وجدتهما كاليدين المتعاونتين، وكالرِجلين المترافدتين. ولعمري ما أعفى أهل الخراج من الظلم من أضرّ بالمقاتلة، ولا كفّ الظلم عن المقاتلة من تعدّى على أهل الخراج، ولولا سفهاء الأساورة لأبقوا على الخراج والبلاد إبقاء الرجل ضيعته التي منها معيشته وحياته وقوّته. ولولا جهّال أهل الخراج لكفّوا عن أنفسهم بعض ما يحتاجون إليه من المعايش إيثارا للمقاتلة على أنفسهم. » قال:
أقبلنا بعد ذلك على السير والسنن
« ولمّا فرغنا من إصلاح العامّة والخاصّة بهذين الركنين من أهل الخراج والمقاتلة، وكان ذلك ثمرة العدل والحقّ الذي به دبّر الله العظيم خلائقه، وشكرت الله على نعمه في أداء حقّه على مواهبه، وأحكمنا أمور المقاتلة وأهل الخراج ببسط العدل، أقبلنا بعد ذلك على السير والسنن. ثم بدأنا بالأعظم فالأعظم نفعا لنا والأكبر فالأكبر عائدة على جندنا ورعيّتنا. ونظرنا في سير آبائنا من لدن بشتاسف، إلى ملك قباذ أقرب آبائنا منّا، ثم لم نترك صلاحا في شيء إلّا أخذناه، ولا فسادا إلّا أعرضنا عنه، ولم يدعنا إلى قبول ما لا خير فيه من السنن حبّ الآباء، ولكنّا آثرنا حبّ الله وشكره وطاعته.
« ولمّا فرغنا من النظر في سير آبائنا - وبدأنا بهم وكانوا أحقّ بذلك، فلم ندع حقّا إلّا أكثرناه، ووجدنا الحقّ أقرب القرابة - نظرنا في سير أهل الروم والهند، فاصطفينا محمودها، وجعلنا عيار ذلك عقولنا، وميّزناه بأحلامنا، فأخذنا من جميع ذلك ما زيّن سلطاننا، وجعلناه سنّة وعادة، ولم تنازعنا أنفسنا إلى ما تميل إليه أهواؤنا، وأعلمناهم ذلك وأخبرناهم به، وكتبنا إليهم بما كرهنا لهم من السير ونهيناهم عنه، وتقدمنا إليهم فيه، غير أنّا لم نكره أحدا على غير دينه وملّته ولم نحسدهم ما قبلنا، ولا مع ذلك أنفنا من تعلّم ما عندهم، فإنّ الإقرار بمعرفة الحق والعلم، والإتّباع له، من أعظم ما تزيّنت به الملوك، ومن أعظم المضرّة على الملوك الأنفة من التعلّم، والحميّة من طلب العلم، ولا يكون عالما من لا يتعلّم.
« ولمّا استقصيت ما عند هاتين الأمّتين من حكمة التدبير والسياسة، وصلت بين مكارم أسلافى، وما أحدثته برأيي، وأخذت به نفسي، وقبلته عن الملوك الذين لم يكونوا منّا وثبتّ على الأمر الذي نلت به الظفر والخير. ورفضت سائر الأمم، لأنّى لم أجد عندهم رأيا ولا عقولا، ولا أحلاما، ووجدتهم أصحاب بغى وحسد وكلب وحرص وشحّ وسوء تدبير وجهالة ولؤم عهد وقلّة مكافأة. وهذه أمور لا تصلح عليها ولاية، ولا تتمّ بها نعمة. »
وقرأت مع هذه السيرة في آخر هذا الكتاب، الذي كتبه أنوشروان في سيرة نفسه، أنّ أنوشروان لمّا فرغ من أمور المملكة وهذّبها، جمع إليه الأساورة مع القوّاد والعظماء والمرازبة والنسّاك والموابذة وأماثل الناس معهم، فخطبهم فقال:
خطبة أنوشروان
« أيّها الناس! أحضرونى فهمكم، وأرعونى أسماعكم، وناصحونى أنفسكم، فانّى لم أزل واضعا سيفي على عنقي - منذ وليت عليكم - غرضا للسيوف والأسنّة، كل ذلك للمدافعة عنكم والإبقاء عليكم، وإصلاح بلادكم مرة بأقصى المشرق، وتارة في آخر المغرب، وأخرى في ناحية الجنوب، ومثلها في جانب الشمال.
ونقلت الذين اتهمتهم إلى غير بلادهم، ووضعت الوضائع في بلدان الترك، وأقمت بيوت النيران بقسطنطينية، ولم أزل أصعد جبلا شامخا وأنزل عنه، وأطأ حزونه بعد سهولة، وأصبر على المخمصة والمخافة، وأكابد البرد والحرّ، وأركب هول البحر وخطر المفازة، إرادة هذا الأمر الذي قد أتمّه الله لكم من الإثخان في الأعداء، والتمكين في البلاد، والسعة في المعاش ودرك العزّ، وبلاغ ما نلتم. فقد أصبحتم بحمد الله ونعمته على الشرف الأعلى من النعمة والفضل الأكبر من الكرامة والأمن، وقد هزم الله أعداءكم وقتلهم. فهم بين مقتول هالك، وحيّ مطيع لكم سامع.
« وقد بقي لكم عدوّ عددهم قليل، وبأسهم شديد، وشوكتهم عظيمة، وهؤلاء الذين بقوا، أخوف عندي عليكم، وأحرى أن يهزموكم ويغلبوكم، من الذين غلبتموهم من أعدائكم أصحاب السيوف والرماح والخيول. فإن أنتم - أيّها الناس - غلبتم عدوّكم هذا الثاني غلبتكم لعدوّكم الذين قاتلتم وحاصرتم، فقد تمّ الظفر والنصر، وتمّت فيكم القوّة وتمّ لكم العزّ، وتمّت عليكم النعمة، وتمّ لكم الفضل، وتمّ لكم الاجتماع والألفة والنصيحة والسلامة. وإن كنتم قصّرتم ووهنتم، وظفر هذا العدو بكم، فإنّ الظفر الذي كان منكم على عدوّكم بالمغرب والمشرق وفي الجنوب والشمال، لم يكن ظفرا منكم. فاطلبوا أن تقتلوا من هذا العدوّ الباقي مثل الذي قتلتم من ذلك العدوّ الماضي، وليكن جدّكم في هذا واجتهادكم واحتشادكم أكبر وأجلّ وأحزم وأعزم وأصحّ وأسدّ. فإنّ أحقّ الأعداء بالاستعداد له أعظمهم مكيدة وأشدّهم شوكة، وليس الذي كنتم تخافون من عدوّكم الذي قاتلتم، بقريب من هؤلاء الذين آمركم بقتالهم الآن. فاطلبوه، وصلوا ظفرا بظفر، ونصرا بنصر، وقوّة بقوّة، وتأييدا بتأييد، وحزما وعزما بحزم وعزم، وجهادا بجهاد. فإنّ ذلك اجتماع صلاحكم، وتمام النعمة عليكم، والزيادة في الكرامة من الله لكم، والفوز برضوانه في الآخرة.
« ثم اعلموا أنّ عدوّكم من الترك والروم والهند وسائر الأمم، لم يكونوا ليبلغوا منكم - إن ظهروا عليكم وغلبوكم - مثل الذي يبلغ هذا العدوّ منكم، إن غلبكم وظهر عليكم، فإنّ بأس هذا العدوّ أشدّ، وكيده أكبر، وأمره أخوف من ذلك العدوّ.
« يا أيّها الناس، إني قد نصبت لكم كما رأيتم، ولقيت ما قد علمتم بالسيف والرمح والمفاوز والبحار والسهولة والجبال أقارع عدوّا عدوّا، وأكالب جندا جندا، وأكابد ملكا ملكا، لم أتضرع إليكم هذا التضرع في قتال أولئك الجنود والملوك، ولم أسألكم هذه المسألة في طلب الجدّ والاجتهاد والاحتفال والاحتشاد، وإنّما فعلت هذا اليوم لعظم خطره، وشدّة شوكته ومخافة صولته بكم، وإن أنا - أيّها الناس - لم أغلب هذا العدوّ وأنفه عنكم، فقد أبقيت فيكم أكبر الأعداء، ونفيت عنكم أضعفها. فأعينونى على نفى هذا العدوّ المخوف عليكم، القريب الدار منكم. فأنشدكم الله - أيّها الناس - لمّا أعنتمونى عليه حتى أنفيه عنكم وأخرجه من بين أظهركم، فيتمّ بلائي عندكم، وبلاء الله فيكم عندي، وتتمّ النعمة عليّ وعليكم، والكرامة من الله لي ولكم، ويتمّ هذا العزّ والنصر وهذا الشرف والتمكين، وهذا الثروة والمنزلة.
« يا أيّها الناس! إني تفكّرت بعد فراغي من كتابي هذا وما وصفت من نعمة الله علينا في الأمر الذي، لما غلب « دارا » الملوك والأمم، وقهرها واستولى على بلادها، ثم لما لم يحكم أمر هذا العدو، هلك [ بسببه ] وهلكت جنوده، بعد السلامة والظفر والنصر والغلبة. وذلك أنّه لم يرض بالأمر الذي تمّ له به الملك، واشتدّ به له السلطان وقوى به على الأعداء، وتمّت عليه به النعمة، وفاضت عليه من وجوه الدنيا كلّها الكرامة، حتى احتيل له بوجوه النميمة: البغي، فدعا البغي، والحسد، فتقوّى به وتمكّن، ودعا الحسد بعض أهل الفقر لأهل الغنى، وأهل الخمول لأهل الشرف. ثم أتاهم الإسكندر على ذلك من تفرق الأهواء، واختلاف الأمور، وظهور البغضاء، وقوة العداوة فيما بينهم، والفساد منهم. ثم ارتفع ذلك إلى أن قتله صاحب حرسه وأمينه على دمه، للذي شمل قلوب العامّة من الشرّ والضغينة، وثبت فيها من العداوة والفرقة، فكفى الإسكندر مؤنة نفسه. وقد اتّعظت بذلك اليوم فذكرته.
« يا أيّها الناس! فلا أسمعنّ في هذه النعمة تفرّقا ولا بغيا ولا حسدا ظاهرا ولا وشاية ولا سعاية، فإنّ الله قد طهّر من ذلك أخلاقنا وملكنا وأكرم عنه ولايتنا. وما نلت ما نلته - بنعمة ربنا وحمده - بشيء من هذه الأمور الخبيثة التي نفتها العلماء، وعافتها الحكماء، ولكني نلت هذه الرتب بالصحّة والسلامة، والحبّ للرعيّة، والوفاء والعدل والاستقامة والتؤدة. وإنّما تركنا أن نأخذ عن هذه الأمم التي سميناها أعني: من الترك والبربر والزنج والجبال وغيرهم مثل ما أخذنا عن الهند والروم، لظهور هذه الأخلاق فيهم وغلبتها عليهم. ولم تصلح أمّة قطّ ولا ملكها على ظهور هذه الأخلاق فيها. وإنّ أول ما أنا ناف وتارك من هذه الأمور، هذه الأخلاق التي هي أعدى أعداءكم.
« أيّها الناس! إنّ فيما بسط الله علينا بالسلامة والعافية والاستصلاح، غنى لنا عمّا نطلب بهذه الأخلاق المردية المشؤومة.
فاكفوني في ذلك أنفسكم فإنّ قهر هذه الأعداء أحبّ إليّ وخير لكم من قهر أعدائكم من الترك والروم. فامّا أنا - يا أيّها الناس - فقد طبت نفسا بترك هذه الأمور ومحقها وقمعها ونفيها عنكم، لا حاجة لي بما فيها، ولا بالذي عليّ منها، فطيبوا أنفسا بالذي طبت به نفسا منكم.
« يا أيها الناس! إني قد أحببت أن أنفى عنكم عدوّكم الباطن والظاهر، فأمّا الظاهر منهما، فإنّا بحمد الله ونعمته، قد نفيناه وأعاننا الله عليه وخضد لنا شوكته، وأحسنتم فيه وأجملتم وآسيتم وأجهدتم. فافعلوا في هذا العدوّ كما فعلتم في ذلك العدوّ، واعملوا فيه كالذي عملتم في ذلك، واحفظوا عنى ما أوصيكم به، فانّى شفيق عليكم ناصح لكم.
« أيّها الناس! من أحيى هذه الأمور فينا، فقد أفسد بلاءه عندنا بقتاله من كان يقاتلنا من أعدائنا، فإنّ هذه أكثر مضرّة وأشدّ شوكة وأعظم بليّة وأضر تبعة. اعلموا أنّ خيركم - يا أيّها الناس! - من جمع إلى بلاءه السالف عندنا، المعونة لنا على نفسه في هذا الغابر.
واعلموا أنّ من غلبه هذا غلب عليه ذاك، ومن غلب هذا فقد قهر ذاك. وذلك أن بالسلامة، والألفة، والمودّة، والاجتماع، والتناصح منكم يكون العزّ والقدرة والسلطان، ومع التحاسد، والبغي، والنميمة، والتشتّت، يكون ذهاب العزّ وانقطاع القوّة، وهلاك الدنيا والآخرة. فعليكم بما أمرناكم به، واحذروا ما نهيناكم عنه، ولا قوّة إلّا بالله. عليكم بمواساة أهل الفاقة وضيافة السائلة. وأكرموا جوار من جاوركم، وأحسنوا صحبة من دخل من الأمم فيكم، فإنّهم في ذمّتى. لا تجبهوهم ولا تظلموهم، ولا تسلّطوا عليهم، ولا تحرجوهم، فإنّ الإحراج يدعو إلى المعصية، ولكن اصبروا لهم على بعض الأذى، واحفظوا أمانتكم وعهدكم، واحفظوا ما عهدت إليكم من هذه الأخلاق. فإنّا لم نر سلطانا قطّ ولا أمّة هلكوا إلّا بترك هذه الأخلاق، ولا صلحوا إلّا معها. وبالله ثقتنا في الأمور كلّها. » ثم هلك أنوشروان بعد ثمان وأربعين سنة من ملكه، وملك أبنه:
هرمز بن أنوشروان
وكانت أمّه بنت خاقان الأكبر، وكان كثير الأدب، حسن النيّة في الإحسان إلى الضعفاء والمساكين، إلّا أنّه كان يحمل على الأشراف، فعادوه وأبغضوه، فعلم بذلك منهم، فكان في نفسه منهم مثل ما في أنفسهم منه.
-
من سيرته المرتضاة
وكان من سيرته المرتضاة: أنّه تحرّى الخير والعدل على الرعيّة، وتشدّد على العظماء المستطيلين على الضعفاء، وبلغ من عدله أنّه كان يسير إلى ال « ماه » ليصيف هناك، فأمر فنودي في مسيره ذلك في مواضع الحروث أن يتحامى، ولا يسير فيها الراكب لئلّا يضرّوا بأحد ووكّل بتعهّد ما يجرى في عسكره، ومعاقبة من تعدّى أمره، وتغريمه عوضا لصاحب الحرث.
وكان ابنه كسرى في عسكره، فعار مركب من مراكبه، ووقع في محرثة من المحارث التي كانت على طريقه، فرتع فيها، وأفسد منها. فأخذ ذلك المركب، ورفع إلى الرجل الذي وكّله هرمز بمعاقبة من أفسد هو أو دابّته شيئا من المحارث وتغريمه، ولم يقدر الرجل على إنفاذ أمر هرمز في كسرى ابنه، ولا أحد من حشمه. فرفع ما رأى من إفساد ذلك المركب إلى هرمز، فأمره أن يجدع أذنيه، ويبتّر ذنبه، ويغرّم كسرى. فخرج الرجل لإنقاذ الأمر. فدسّ له كسرى رهطا من العظماء ليسألوه التغبيب في أمره، فلقوه وكلّموه في ذلك، فلم يجب إليه، فسألوه أن يؤخّر ما أمر به هرمز في المركب حتى يكلّموه. فأمر بالكفّ عنه، ففعل. فلقى أولئك الرهط هرمز، وأعلموه أنّ بذلك [ المركب ] الذي عار، زعارة، وأنّه أخذ للوقت. وسألوه أن يأمر بالكفّ عن جدعه وتبتيره لما فيه من سوء الطيرة. فلم يجبهم إلى ما سألوه، وأمر بالمركب، فجدع أذناه وبتّر ذنبه وغرّم كسرى كما يغرّم غيره في هذا الحد، ثم ارتحل.
وأيضا: ركب ذات يوم في أوان إيناع الكرم إلى ساباط المدائن وكان ممرّه على بساتين وكروم. فاظّلع بعض أساورته في كرم، فرأى فيه حصرما فأصاب منها عناقيد، ودفعها إلى غلامه وقال:
« اذهب بها إلى المنزل، واطبخها بلحم، واتخذ منها مرقة، فانّها نافعة في هذا الإبّان. » فأتاه حافظ ذلك الكرم، فلزمه وصرخ. فبلغ اشفاق الرجل من عقوبة هرمز على تناوله من ذلك الكرم، أن دفع إلى حافظ الكرم منطقة محلّاة بذهب كانت عليه، عوضا له من الحصرم الذي رزأه من كرمه، وافتدى بها نفسه، ورأى أنّ قبض الحافظ إيّاها منه، وتخليته عنه، منّة من بها عليه.
فهذه كانت سيرة هرمز في العدل والضبط والهيبة، وكان مظفّرا منصورا لا يمدّ يده إلى شيء إلّا وأتاه، وكان مع ذلك أديبا، داهيا، إلّا عرقا قد نزعه أخواله من الترك. فكان لذلك مقصيا للأشراف وأهل البيوتات والعلماء.
وقيل: إنّه قتل ثلاثة عشر ألف رجل وستمائة رجل. ولم يكن [ له رأى ] إلّا في [ تألّف ] السفلة واستصلاحهم. وحبس خلقا من العظماء، وحطّ مراتب خلق، وقصّر بالأساورة، [ ففسدت ] عليه نيات جنده من الكبراء، [ واتصل ] ذلك بما جناه على بهرام شوبين مما سنحكيه. فكان ذلك سبب هلاكه.
ذكر سوء اختياره جنده وبهرام جوبين حتى هلك
خرج على هرمز خوارج منها: « شابة ملك الترك الأعظم في ثلاثمائة ألف مقاتل. وصار إلى باذغيس، وذلك بعد إحدى عشر سنة من ملكه، وخرج عليه ملك الروم في ثمانين ألف مقاتل قاصدا له، وخرج عليه ملك الخزر حتى صار إلى باب الأبواب، وخرج عليه من العرب خلق نزلوا في شاطئ الفرات، وشنّوا الغارة على أهل السواد واجترأ عليه أعداؤه، وغزوا بلاده.
فأمّا شابة ملك الترك فإنّه أرسل إلى هرمز وإلى عظماء الفرس يؤذنهم بإقباله ويقول:
« رمّوا لي قناطر أنهار وأودية أجتاز عليها إلى بلادكم، واعقدوا القناطر على كلّ نهر لا قنطرة له، وافعلوا ذلك في الأنهار والأودية التي عليها مسلكي من بلادكم إلى بلاد الروم، فإني مجمع على المسير إليها من بلادكم.
فاستفظع هرمز ما ورد عليه من ذلك، فشاور فيه، فأجمع له على قصد ملك الترك وصرف العناية إليه. فوجّه إليه رجلا من أهل الريّ يقال له: بهرام بن بهرام جشنس ويعرف ب « جوبين ». فاختار بهرام من الجند اثنى عشر ألف رجل على عينيه من الكهول دون الشباب، وكانت عدّة من يشتمل عليه الديوان سبعين ألف مقاتل.
فمضى بهرام بجدّ وإغذاذ، حتى حاز هراة وباذغيس، ولم يشعر شابة ببهرام حتى نزل بالقرب منه معسكرا. فجرت بينهما حروب ورسائل، إلى أن قتل بهرام شابة برمية رماها إيّاه، فاستباح عسكره، وأقام موضعه، فوافاه برموذة بن شابة، وكان يعدل بأبيه، فحاربه، فهزمه، وحصره في بعض الحصون، ثم ألحّ عليه حتى استسلم له، فوجّهه أسيرا إلى هرمز، وغنم كنوزا عظيمة.
فيقال: إنّه حمل إلى هرمز من الأموال والجواهر والأوانى وسائر الأمتعة ممّا غنمه وقر مائتين وخمسين ألف بعير في مدّة تلك الأيّام. فشكره هرمز على ذلك، إلّا أنّه أراد منه أن يتقدّم بمن معه إلى بلاد الترك، وكاتبه في ذلك، فلم ير بهرام ذلك صوابا. ثم خاف بهرام سطوة هرمز، وحكى له: أنّ الملك يستقلّ ما حمله إليه من الغنائم في جنب ما وصل إليه وأنّه يقول في مجالسه:
« بهرام قد ترفّه، واستطاب الدعة ».
وبلغ ذلك الجند، فخافوا مثل خوفه.
فيقال: إنّ بهرام جمع ذات يوم وجوه عسكره، فأجلسهم على مراتبهم، ثم خرج عليهم في زيّ النساء، وبيده مغزل وقطن، حتى جلس في موضعه، وحمل لكلّ واحد من أولئك القوم مغزل وقطن، فوضع بين أيديهم، فامتعضوا من ذلك وأنكروه. فقال بهرام:
« إنّ كتاب الملك ورد عليّ بذلك، ولا بدّ من امتثال أمره إن كنتم طائعين. » فأظهروا أنفة وحميّة، وخلعوا هرمز، وأظهروا أنّ ابنه أبرويز أصلح للملك منه، وساعدهم على ذلك خلق كثير ممّن كان بحضرة هرمز.
وأنفذ هرمز جيشا كثيفا مع آذينجشنس لمحاربة بهرام، وأشفق أبرويز من الحديث وخاف سطوة بهرام، فهرب إلى آذربيجان. فاجتمع إليه هناك عدّة من المرازبة والإصفهبذين، فأعطوه بيعتهم. ولم يظهر أبرويز شيئا، وأقام بمكانه إلى أن بلغه قتل آذينجشنس الموجّه لمحاربة بهرام جوبين، وانفضاض الجمع الذي معه، واضطراب أمر أبيه هرمز.
وكتبت إليه أخت آذينجشنس - وكانت تربه - تخبره بضعف أبيه هرمز، وأعلمته أنّ العظماء والوجوه قد أجمعوا على خلعه، وأعلمته أنّ جوبين - إن سبقه إلى المدائن - احتوى على الملك. ولمتلبث العظماء بذلك أن وثبت على هرمز وفيهم بندويه وبسطام خالا أبرويز. فخلعوه وسملوا عينيه وتركوه تحرّجا من قتله. فلمّا بلغ ذلك أبرويز، بادر بمن معه إلى المدائن وسبق إليها بهرام جوبين، وتتوّج وجمع إليه الوجوه والأشراف، وجلس لهم على سريره، ومنّاهم ووعدهم وقال:
« إنّ هرمز كان لهم قاضيا عادلا، ومن نيّتنا البرّ والإحسان، فعليكم بالسمع والطاعة. » فاستبشر له الناس، ودعوا له.
فلمّا كان اليوم الثاني، أتى أباه، فسجد له وقال:
« عمّرك الله أيّها الملك، إنّك تعلم أنّى بريء مما آتاه إليك المنافقون، وإنّما هربت خوفا منك. » فصدّقه هرمز وقال له:
« يا بنيّ! لي إليك حاجتان، فأسعفنى بهما: إحداهما أن تنتقم ممّن عاون على خلعى والسمل لعيني، ولا تأخذك بهم رأفة، والأخرى أن تؤنسني كلّ يوم بثلاثة نفر لهم أصالة رأى، وتأذن لهم في [ الوصول ] إليّ. »
فتواضع له أبرويز وقال:
« عمّرك الله أيّها الملك، إنّ المارق بهرام قد أظلّنا ومعه الشجاعة والنجدة، ولسنا نقدر أن نمدّ يدا إلى من أتى إليك ما أتى، فإنّهم وجوه أصحابك. ولكن إن أدالنى الله من المنافق، فأنا خليفتك وطوع أمرك. »
-
ذكر الحيلة التي تمت لأبرويز حتى أفلت من بهرام بعد ظفره به ورجوعه بعد ذلك وقتله إياه ببلاد الترك واستيلائه على الملك
إنّ أبرويز خرج إلى النهروان لما وردها بهرام، وواقفه وجعل النهر بينه وبينه، ودار بينهما كلام كثير، كلّ ذلك يدور على استصلاح بهرام، فلا يردّ عليه بهرام إلّا ما يسوءه، حتى يئس منه وأجمع على حربه. ولهما أخبار كثيرة وأحاديث طويلة آخرها: أن أبرويز ضعف عنه بعد أن قتل بيده ثلثة نفر من الأتراك كانوا وثّقوا بهرام من أبرويز، وضمن لهم عليه مالا عظيما، وكان هؤلاء الثلاثة من أشدّ الأتراك وأعظمهم أجساما وشجاعة. ثم رأى أبرويز من أصحابه فتورا وحرّض أصحابه فتبيّن منهم فشلا. فصار إلى أبيه وشاوره، فرأي له المصير إلى ملك الروم فأحرز نساءه وشخص في عدّة يسيرة فيهم: بندويه، وبسطام، وكردى أخو بهرام. لأنّ كردى هذا كان ماقتا لأخيه، معاديا له، شديد الطاعة والنصيحة لأبرويز. فلمّا خرجوا، من المدائن خاف القوم من بهرام وأشفقوا أن يردّ هرمز إلى الملك، ويكاتب ملك الروم عن هرمز في ردّهم فيتلفوا. فأعلموا أبرويز ذلك واستأذنوا في إتلاف هرمز فلم يحر جوابا. فانصرف بندويه وبسطام وطائفة معهما إلى هرمز حتى أتلفوه خنقا، ثم رجعوا إلى كسرى وقالوا:
« سر على خير طائر. » فحثّوا دوابّهم، وصاروا إلى الفرات، فقطعوه، وأخذوا طريق المفازة، بدلالة رجل يقال له: خرشيذان، وصاروا إلى بعض الديارات في أطراف العمارة. فلمّا أوطنوا الراحة، لحقتهم خيل بهرام. فلمّا نذروا بهم، أنبه بندويه أبرويز من نومه وقال له:
« احتل لنفسك، فإنّ القوم قد أظلّوك. » فقال كسرى: « ما عندي حيلة. » فقال بندويه: « فإني سأحتال لك بأن أبذل نفسي دونك. » قال: « وكيف ذلك؟ » قال: تدفع إليّ بزّتك وزينتك لأعلوا الدير وتنجو أنت ومن معك من وراء الدير، فإنّ القوم إذا وصلوا إليّ ورأوا هيئتك عليّ، اشتغلوا عن غيري وطاولتهم حتى تفوتهم. » ففعلوا ذلك وبادروهم حتى تواروا بالجبل. ثم وافاهم خيل بهرام وعليهم قائد له يقال له: بهرام بن سياوش. فاطّلع عليهم بندويه من فوق الدير وعليه بزّة أبرويز، وأوهمه أنّه هو، وسأله أن ينظره إلى غد ليصير في يده سلما، ويصير به إلى بهرام جوبين. فأمسك عنه وحفظ الدير بالحرس ليلته.
فلمّا أصبح اطّلع عليه في بزّته وحليته وقال:
« إنّ عليّ وعلى أصحابي بقيّة شغل من استعداد لصلوات وعبادات، فأمهلنا. »
ولم يزل يدافع حتى مضى عامّة النهار. وأمعن أبرويز وعلم أنّه قد فاتهم. ففتح الباب حينئذ، وأعلم بهرام بأمره. فانصرف به إلى جوبين، فحبسه في يد بهرام بن سياوش.
فأمّا بهرام جوبين فإنّه دخل المدائن، وجلس على سرير الملك، وجمع العظماء، فخطبهم وذمّ أبرويز، ودار بينهم كلام. فكان كلّهم منصرفا عنه إلّا أن بهرام تتوّج وانقاد له الناس خوفا.
ثم إنّ بهرام بن سياوش واطأ بندويه على الفتك بجوبين وظهر جوبين على ذلك فقتله، وأفلت بندويه ولحق آذريبجان. وسار أبرويز حتى أتى أنطاكية، وكاتب ملك الروم منها وراسله بجماعة ممّن كان معه، وسأله نصرته، فأجابه إلى ذلك وانساقت الأمور بالمقادير، إلى أن زوّجه ابنته مريم وحملها إليه، وبعث إليه ب « تياذوس » أخيه ومعه ستّون ألف مقاتل، عليهم رجل يقال له:
سرجس يتولّى تدبير أمرهم، ورجل آخر يقال له: « الكميّ » - كان يعدل بألف رجل - معظّم في الروم، وسأله ترك الإتاوة التي كان آباؤه يسألونها ملوك الروم، إذا هو ملّك. فاغتبط بهم أبرويز، وأراحهم خمسة أيّام، ثم عرضهم وعرّف عليهم العرفاء، وفي القوم تياذوس، وسرجس، والكميّ الذي وصفناه، وسار بهم حتى نزل من آذربيجان في صحراء تدعى الدنق، فوافاه هناك بندويه ورجل من إصبهبذى الناحية - ويقال له: موسيل - في أربعين ألف مقاتل وانفضّ إليه الناس بالخيل من إصبهان وخراسان وفارس، وانتهى إلى بهرام مكانه بصحراء الدنق، فشخص نحوه من المدائن، فجرت بينهما حرب شديدة قتل فيها الكميّ الرومي بضربة ضربه بها بعض الفرس على رأسه، فقدّ رأسه ويده، وعار فرسه بنصف بدنه الباقي إلى معركة أبرويز ومعسكره، فاستضحك أبرويز، وعظم ذلك على الروم حتى كثر الكلام فيه، وعوتب أبرويز، وقيل له:
« هذا جزاؤنا منك، يقتل كميّنا وواحد عصره في طاعتك، وبين يديك، فتضحك؟ » فاعتذر بأن قال:
« إني والله ما ضحكت لما تكرهون. ولقد شقّ عليّ أن فقدت مثله أكثر ممّا شقّ عليكم، ولكني رأيتكم تستصغرون شأن بهرام جوبين، وتنكرون هربي منه، فذكرت ذلك من قولكم الآن، وعلمت أنكم برؤيتكم هذه الضربة وأثرها على هذا الكميّ تعذروننى وتعلمون يقينا أنّ هربي إنّما كان من أمثال هؤلاء القوم الذين هذا مبلغ نكايتهم في الأبطال. » ويقال: إنّ أبرويز حارب بهرام منفردا عن العسكر بأربعة عشر رجلا منهم كردى أخو بهرام، وبندويه وبسطام حربا شديدة وصل فيها بعضهم إلى بعض، والمجوس تحكى حكايات عظيمة لا فائدة في ذكرها مع امتناعها، وجملتها: أنّ أبرويز استظهر استظهارا أيس معه بهرام جوبين، وعلم أنّه لا حيلة له فيه، فانحاز عنه نحو خراسان، ثم صار إلى الترك، وصار أبرويز إلى المدائن بعد أن فرّق في الجنود من الروم أموالا عظيمة وصرفهم إلى ملك الروم.
ولبث بهرام في الترك مكرّما عند الملك، حتى احتال عليه أبرويز بتوجيه رجل يقال له هرمز: إلى الترك بجوهر نفيس وغيره، حتى احتال لخاتون امرأة الملك، ولاطفها بذلك الجوهر وغيره من الهدايا حتى دسّت لبهرام من قتله. فاغتمّ خاقان لموته، وأرسل إلى أخته كردية وامرأته يعلمها بلوغ الحادث ببهرام منه، ويسأل أن يتزوّجها وطلّق امرأته خاتون بهذا السبب، فأجابته كردية جوابا ليّنا، وضمّت من كان مع أخيها من المقاتلة إليها، وخرجت بهم من بلاد الترك إلى حدود مملكة فارس فأتّبعها ملك الترك أخاه بطرا في اثنى عشر ألف فارس.
فيقال: إنّ كردية قاتلت، وقتلت بطرا بيدها، ومضت لوجهها، حتى تلقّتها خيول الفرس من الحدود. وكتبت إلى أخيها كردى، فأخذ لها أمانا من أبرويز. فلمّا قدمت عليه اغتبط بها، وتزوّج بها أبرويز.
-
ذكر سوء سياسة اتفق على أبرويز في جنده حتى ظهر الروم عليه
لم يزل أبرويز يلاطف ملك الروم. الذي كان نصره، ويهاديه، إلى أن وثبت الروم عليه في شيء أنكروه منه، فقتلوه وملّكوا غيره. فبلغ ذلك أبرويز، فامتعض، وأخذته الحفيظة، فآوى ابن الملك المقتول اللاجئ إليه، وتوّجه، وملّكه على الروم، ووجّه معه جنودا كثيفة مع شهر براز، فدوّخ بهم البلاد، وملك صاحب كسرى بيت المقدس، وأخذ خشبة الصليب، وبعث بها إلى كسرى في أربع وعشرين سنة من ملكه. ثم احتوى على مصر، والإسكندرية، وبلاد نوبة، وبعث مفاتيح مدينة الإسكندرية إلى كسرى في سنة ثمان وعشرين من ملكه. وقصد قسطنطينية، فأناخ على ضفّة الخليج القريب منها، وخيّم هناك. فأمر كسرى فخرّب بلاد الروم، غضبا مما انتهكوا من ملكهم وانتقاما له، ولم يخضع لابن ملكهم المقتول أحد، ولا منحوا الطاعة، غير أنّهم قتلوا الملك الذي ملّكوه بعد أبيه المسمّى فوقا لما ظهر من فجوره وسوء تدبيره، وملّكوا عليهم رجلا يقال له: هرقل. فلمّا رأى هرقل عظيم ما فيه بلاد الروم من تخريب جنود فارس إيّاها، وقتلهم مقاتلتهم، وسبيهم ذراريّهم، واستباحتهم أموالهم، تضرّع إلى الله، وأكثر الدعاء والإبتهال.
فيقال: إنّه رأى في منامه رجلا ضخم الجثّة رفيع المجلس، عليه [ بزّة، قائما في ناحية عنه ]، فدخل عليهما داخل، فألقى ذلك الرجل عن مجلسه وقال لهرقل:
« إني قد سلّمته في يدك. » فلم يقصص رؤياه تلك في يقظته على أحد حتى توالت عليه أمثاله. فرأى بعض لياليه: كأنّ رجلا دخل عليهما وبيده سلسلة طويلة، فألقاها في عنق صاحبه، أعنى صاحب المجلس الرفيع عليه، ثم دفعه إليه وقال له:
« ها قد دفعت إليك كسرى برمّته. » فلمّا تتابعت هذه الأحلام، قصّها على عظماء الروم وذوي العلم منهم، فأشاروا عليه أن يغزوه. فاستعدّ هرقل، واستخلف ابنه على مدينة قسطنطينية، وأخذ عن الطريق الذي فيه شهريار صاحب كسرى، وسار حتى وغل في بلاد أرمينية، ونزل نصيبين سنة، وقد كان صاحب ذلك الثغر من قبل كسرى قد استدعى لموجدة كانت من كسرى عليه. وأمّا شهربراز فقد كانت كتب كسرى ترد عليه في الجثوم على الموضع الذي هو به [ وترك البراح منه ]. ثم بلغ كسرى تساقط هرقل في جنوده إلى نصيبين. فوجّه لمحاربة هرقل رجلا من قوّاده يقال له: راهزاذ، في اثنى عشر ألف رجل من الأنجاد، وأمره أن يقيم بنينوى - وهي التي تدعى الآن الموصل - على شاطئ دجلة، ويمنع الروم أن يجوزوها.
وكان كسرى بلغه خبر هرقل، وأنّه مغذّ، وهو يومئذ مقيم بدسكرة الملك. فنفذ راهزاذ لأمر كسرى، وعسكر حيث أمره. فقطع هرقل دجلة في موضع آخر، إلى الناحية التي كان فيها جند فارس. فأذكى راهزاذ العيون عليه، فانصرفوا إليه، فأخبروه أنّه في سبعين ألف مقاتل، فأيقن راهزاذ ومن معه من الجند، أنّهم عاجزون عن مناهضته. فكتب إلى كسرى غير مرّة دهم هرقل إياه بمن لا طاقة له ولمن معه بهم، لكثرتهم وحسن عدّتهم. كل ذلك يجيبه كسرى بأنّه إن عجز عن الروم فلن يعجز عن استقتالهم وبذل دمائهم في طاعته.
فلمّا تتابعت على راهزاذ جوابات كسرى بذلك، عبّى جنده وناهض الروم بهم. فقتلت الروم راهزاذ وستة آلاف رجل، وانهزمت بقيّتهم وهربوا على وجوههم. وبلغ كسرى قتل الروم راهزاذ وما نال هرقل من الظفر، فهدّه ذلك، وانحاز من دسكرة الملك إلى المدائن، وتحصّن بها لعجزه كان عن محاربة هرقل، وسار هرقل حتى كان قريبا من المدائن. فلما تساقط إلى كسرى خبره واستعدّ لقتاله انصرف إلى أرض الروم. وكتب كسرى إلى قوّاد الجند الذين انهزموا، يأمرهم أن يدلّوه على كلّ رجل منهم ومن أصحابه، ممن فشل في تلك الحرب ولم يرابط مركزه فيها، فأمر بأن يعاقب بحسب ما استوجب. فأحوجهم بهذا الكتاب إلى الخلاف عليه وطلب الحيل لنجاة أنفسهم منه. وكتب إلى شهربراز يأمره بالقدوم عليه ويستعجله في ذلك، ويصف له ما نال هرقل منه ومن بلاده.
وقد حكى: أنّ كسرى عرف امرأة في فارس لا تلد إلّا الملوك الأبطال، فدعاها وقال:
« إني أريد أن أبعث إلى الروم جيشا، وأستعمل عليهم رجلا من بنيك، فأشيرى عليّ: أيّهم أستعمل؟ » فوصفت أولادها فقالت:
« هذا فرّخان أنفذ من سنان، وهذا شهربراز أحكم من كذا، وهذا فلان أروغ من كذا. » فاستعمل شهربراز. فسار إلى الروم، فظهر عليهم وهزمهم وخرّب مدائنهم.
فلمّا ظهرت فارس على الروم، جلس فرّخان يشرب، فقال لأصحابه:
« لقد رأيت كأنى جالس على سرير كسرى. » فبلغت كسرى، وكتب إلى شهربراز:
« إذا أتاك كتابي هذا، فابعث إليّ برأس فرّخان. » فكتب إليه:
« أيّها الملك، إنّك لن تجد مثل فرّخان، فانّ له نكاية في العدوّ وصوتا، فلا تفعل. » فكتب إليه:
« إنّ في رجال فارس خلفا منه، فعجّل عليّ برأسه. » فراجعه، فغضب كسرى ولم يجبه، وبعث بريدا إلى أهل فارس:
« إني قد نزعت عنكم شهربراز، واستعملت عليكم فرّخان. » ثم دفع إلى البريد صحيفة صغيرة وقال:
« إذا ولى فرّخان الملك، وانقاد له أخوه، فأعطه. » فلما قرأ شهر براز الكتاب قال:
« سمعا وطاعة. » ونزل عن السرير، وجلس فرّخان، ودفع الصحيفة إليه، فقال:
« ايتوني بشهربراز. » فقدّمه ليضرب عنقه، فقال:
« لا تعجل، حتى أكتب وصيتي. » قال: « افعل! » فدعا بسفط وأعطاه ثلاث صحائف، وقال:
« كلّ هذا راجعت فيك كسرى وأنت أردت أن تقتلني بكتاب واحد! » فردّ الملك على أخيه.
فكتب شهربراز إلى قيصر ملك الروم:
« إنّ لي حاجة لا تحملها البرد ولا تبلّغها الصحف. فالقنى، ولا تلقني إلّا في خمسين روميا، فإني أيضا ألقاك في خمسين فارسيا. » فأقبل قيصر في خمسمائة روميّ، وجعل يضع العيون بين يديه في الطريق، وخاف أن يكون قد مكر به حتى أتاه عيونه أنه: ليس معه إلّا خمسون رجلا. ثم بسط لهما، والتقيا في قبّة ديباج ضربت لهما، واجتمعا ومع كلّ واحد منهما سكّين، ودعوا ترجمانا بينهما.
-
فقال شهربراز:
« إنّ الذين خرّبوا مدينتك، وبلغوا منك ومن جندك ما بلغوا أنا وأخي بشجاعتنا وكيدنا، وإنّ كسرى حسدنا، فأراد أن أقتل أخي فأبيت، ثم أمر أخي أن يقتلني. فقد خلعناه جميعا، فنحن نقاتله معك. » قال: « قد أصبتما ووفّقتما. » ثم أشار أحدهما إلى صاحبه: أنّ السرّ إنّما يكون بين اثنين، فإذا جاوز اثنين فشا.
قال صاحبه: « أجل! » فقاما جميعا إلى الترجمان بسكّينهما، فقتلاه! واتّفقا على قتال كسرى.
فمما اتفق في أيام كسرى من الحوادث التي تستفاد منها تجربة ما كان من يوم ذي قار وحرب العرب والفرس
وكان سبب ذلك قتل النعمان بن المنذر اللخمي، قتله كسرى لأسباب نذكر جملها إن شاء الله:
كان عديّ بن زيد العباديّ وابنه زيد بن عديّ سبب ولاية النعمان وسبب هلاكه جميعا.
قتل النعمان بن المنذر وأسبابه
وذلك أنّ عديّا وأخويه - وهما: عمار، وعمرو، ويعرف عمار ب « أبيّ »، وعمرو ب « سميّ» - كانوا في خدمة الأكاسرة، ولهم من جهتهم قطائع. وكان قابوس الأكبر عمّ النعمان وإخوته، بعث إلى كسرى أبرويز بعديّ بن زيد وأخويه، ليكونوا في كتّابه يترجمون له.
فلمّا مات المنذر بن المنذر ترك من أولاده اثنى عشر رجلا، وهم الأشاهب، سمّوا بذلك لجمالهم، وفيهم يقول الأعشى:
فبنو المنذر الأشاهب بالحيرة ** يمشون غدوة كالسيوف
فجعل المنذر ابنه النعمان في حجر عديّ، وجعل ابنه الأسود في حجر رجل يقال له: عديّ بن أوس بن مرينا. وبنو مرينا قوم لهم شرف وهم من لخم، وبنو المنذر الباقون، وهم عشرة، مستقلّون بأنفسهم.
وكان المنذر جعل على أمره كلّه، إياس بن قبيصة الطائي، فكان في مكانه أشهرا يدبّر أمر العرب كلّه. وطلب كسرى من يملّكه على العرب، فدعا عديّ بن زيد فقال له:
« من بقي من بنى المنذر، وما هم، وهل فيهم خير؟ » فقال: « بقيتهم من ولد هذا الميت - يعنى المنذر بن المنذر - وهم رجال نجباء. » فكتب إليهم، فقدموا عليه، فأنزلهم على عديّ بن زيد. فكان عديّ يفضّل اخوة النعمان عليه في النزل، ويريهم أنّه لا يرجوه، ويخلو بهم رجلا رجلا، ويقول لهم:
« إن سألكم الملك: أتكفونني العرب؟ فقولوا: نكفيكهم إلّا النعمان. » وقال للنعمان:
« إن سألك الملك عن إخوتك، فقل: إن عجزت عنهم فإني عن غيره أعجز. » وكان عديّ بن أوس بن مرينا داهية أريبا. فكان يوصى الأسود بن المنذر ويقول له:
« قد عرفت أنّى لك راج، وأنّ طلبتي ورغبتي إليك أن تخالف عديّ بن زيد في ما يشير به عليك، فإنّه والله لا ينصح لك أبدا. » فلم يلتفت الأسود إلى قوله. فلمّا أمر كسرى عديّ بن زيد أن يدخلهم عليه، جعل يدخلهم رجلا رجلا فيكلّمه. فكان الملك كسرى يرى رجالا قلّ ما رأى مثلهم. فإذا سألهم:
« هل تكفوننى ما كنتم تلون؟ » قالوا: « نكفيك العرب إلّا النعمان. » فلمّا دخل النعمان عليه، رأى رجلا دميما قصيرا أحمر، فكلّمه، وقال:
« أتستطيع أن تكفيني العرب؟ » قال: « نعم. » قال: « وكيف تصنع بإخوتك؟ » قال: « أيّها الملك، إن عجزت عنهم، فأنا عن غيرهم أعجز. » فملّكه، وكساه، وألبسه تاجا قيمته ستّون ألف درهم فيه اللؤلؤ، والذهب. فلمّا خرج وهو ملك على العرب، قال عديّ بن أوس بن مرينا للأسود:
« دونك، فإنّك خالفت الرأي. » ثم إنّ عديّ بن زيد صنع طعاما في بيعة، وأرسل إلى ابن مرينا أن: ائتنى مع من أحببت، فإنّ لي حاجة. فأتاه في ناس، فتغدّوا في البيعة غداءهم المعدّ، وشربوا. فقال عديّ بن زيد لعديّ بن أوس:
« يا عديّ! إنّ أحقّ من عرف الحقّ ثم لم يلم عليه، من كان مثلك. إني عرفت أنّ صاحبك الأسود بن المنذر كان أحبّ إليك من أن يملك من صاحبي النعمان، فلا تلمني على شيء كنت على مثله، وأنا أحبّ ألّا تحقد عليّ شيئا لو قدرت عليه ركبته، وأحبّ أن تعطيني من نفسك ما أعطيك من نفسي، فإنّ نصيبي من هذا الأمر ليس بأوفر من نصيبك. » فقام عديّ بن زيد إلى البيعة، فحلف ألّا يهجوه، ولا يبغيه غائلة أبدا، ولا يزوى عنه خيرا. فلمّا فرغ عديّ بن زيد، قام ابن مرينا فحلف على مثل يمينه ألّا يزال يهجوه أبدا، ويبغيه الغوائل ما بقي.
وخرج النعمان حتى نزل منزله بالحيرة، وافترق العديّان على وحشة كما ذكرت.
-
حيلة لعدي بن أوس على عدي بن زيد
فقال عديّ بن مرينا للأسود:
« وإذا لم تظفر، فلا تعجز أن تطلب بثأرك من هذا المعدّى الذي عمل بك ما عمل. فقد كنت أخبرك أنّ معدّا لا ينام مكرها، وأمرت أن تخالفه فعصيتني. » قال: « فما تريد؟ » قال: « أريد أن لا تأتيك فائدة من مائك وأرضك إلّا عرضتها عليّ. » ففعل. وكان ابن مرينا كثير المال واسع الضيعة. فلم يمرّ به يوم إلّا بعث فيه إلى النعمان هديّة أو تحفة. فلمّا توالى ذلك وكثر عند النعمان هدايا ابن مرينا صار من أكرم الناس عليه، وكان لا يقضى في ملكه شيئا إلّا بأمر ابن مرينا، وكان إذا ذكر عديّ بن زيد عنده أحسن ابن مرينا الثناء عليه، وذكر فضله وقال:
« إنّه لا يصلح المعديّ إلّا أن يكون فيه مكر وخديعة. » فلمّا رأى من يطيف بالنعمان منزلة ابن مرينا عنده، لزموه وتابعوه، فجعل يقول لمن يثق به من أصحابه:
« إذا رأيتمونى أذكر عديّ بن زيد عند الملك بخير، فقولوا: إنّه لكما يقول، ولكنّه لا يسلم عليه أحد، وإنّه يقول: إنّ الملك - يعنى النعمان - إنّما هو عامله، وإنّه هو الذي ولّاه ما ولّاه. » ولم يزالوا بهذا وأشباهه، حتى أضغنوه عليه. ثم إنّهم كتبوا كتابا عن عديّ إلى قهرمان كان له، ودسّوا له حتى أخذ الكتاب، وأتى به النعمان، فقرأه وأغضبه.
فأرسل إلى عديّ بن زيد:
« عزمت عليك إلّا زرتنى، فإني قد اشتقت إليك. » وهو عند كسرى.
فاستأذن كسرى، فأذن له. فلمّا أتاه، لم ينظر إليه، حتى حبس في محبس لا يدخل عليه فيه أحد. فجعل عديّ بن زيد يقول الشعر، ويبلغه النعمان، وكان أوّل ما قاله في السجن:
ليت شعري عن الهمام ويأتي ** ك بخبر الأنباء عطف السّؤال
وقال أشعارا كثيرة، وكان كلما قال عديّ من الشعر شيئا بلغ النعمان وسمعه، فندم على حبسه إيّاه، وعلم أنّه كيد فيه. فكان يرسل إليه، ويعده ويمنّيه، ويفرق أن يرسله فيبغيه الغوائل. فلمّا طال سجن عديّ وأعياه التضرّع إلى النعمان بالأشعار التي يستعطفه فيها مرّة ويخبره فيها بما كيد به مرّة، ومرّة يذكّره بالموت، ويخبره بهلاك من هلك قبله، كتب إلى أخيه أبيّ وهو مع كسرى:
أبلّغ أبيّا على نأيه ** فهل ينفع المرء ما قد علم
بأنّ أخاك شقيق الفؤا ** د كنت به واثقا ما سلم
لدى ملك موثق في الحدي ** د إمّا بحقّ وإمّا ظلم
فلا أعرفنك كذات الغلا ** م ما لم تجد عارما تعترم
فأرضك أرضك إن تأتنا ** تنم نومة ليس فيها حلم
فكتب إليه أخوه:
إن يكن خانك الزّمان فلا عا ** جز قوم ولا ألفّ ضعيف
ويمين الإله لو أنّ جأوا ** ء طحونا تضيء فيها السيوف
ذات رزّ مجتابة غمرة المو ** ت صحيح سربالها مكفوف
كنت في حميها لجئتك أسعى ** فاعلمن لو سمعت إذ تستضيف
إن تفتني والله ألف جزوعا ** لا يعفّيك ما يصوت الخريف
فلعمري لئن جزعت عليه ** لجزوع على الصّديق أسوف
ولعمري لئن ملكت عزائى ** لقليل شرواك في ما أطوف
كسرى يكتب في إرسال عدي وعدي يقتل
ويقال: إنّ عديّا لما كاتب أبيّا، قام أبيّ، فدخل على كسرى، فكلّمه، فكتب له وبعث معه رجلا، وأذن له في المسير لاستنقاذ أخيه. فكتب خليفة النعمان المقيم بباب الملك إليه أنّه: قد كتب إليك في أمر عديّ. فأتاه أعداء عديّ من غسّان، فأشاروا على النعمان بقتل عديّ.
وقالوا: « افرغ منه الساعة. » فأبى عليهم، وجاء الرجل، وكان تقدّم أخو عديّ إليه فرشاه، وأمره أن يبدأ بعديّ. فدخل عليه وهو محبوس وكان قال له:
« ابدأ بالدخول إليه في الحبس فانظر ما يأمرك به. » فلمّا دخل الرسول على عديّ قال له:
« إني قد جئتك بإرسالك فما عندك؟ » قال: « عندي الذي تحبّ. » ووعده، وسأله ألّا يخرج من عنده، وقال:
« أعطنى الكتاب حتى أرسل به أنا، فإنّك إن خرجت من عندي، قتلت. » فقال الرسول: « لا أستطيع إلّا أن آتى النعمان بالكتاب فأوصله بنفسي إليه. »
فانطلق مخبر، فأتى النعمان، فقال:
« إنّ رسول كسرى قد دخل على عديّ وهو ذاهب به، وإن فعل لم يستبق منّا أحدا، ولم تنج أنت ولا غيرك. » فبعث إليه النعمان بأعدائه، فغمّوه حتى مات، ثم دفنوه.
ودخل الرسول على النعمان بالكتاب.
فقال: « نعم وكرامة وسمعا وطاعة. » وبعث إلى الرسول بأربعة آلاف مثقال ذهبا، وجارية، وقال له:
« إذا أصبحت فادخل عليه وأخرجه أنت بنفسك. » فلما أصبح ركب، فدخل السجن، فقال له الحرس:
« إنّه قد مات منذ أيام، فلم نجترئ على أن نخبر الملك النعمان فرقا منه، لعلمنا بكراهيته لذلك. » فرجع الرسول إلى النعمان فقال:
« إني كنت بدأت به، فدخلت إليه وهو حيّ. » فقال النعمان: « يبعثك الملك إليّ فتدخل إليه قبلي! كذبت ولكنّك أردت الرشوة والخبث. » وتهدّده. ثم إنه استدعاه بعد ذلك، وزاده جائزة وكسوة، وأكرمه واستوثق منه أن لا يخبر الملك، إلّا أنّه قد مات قبل أن يقدم عليه. فرجع الرسول إلى كسرى، فقال:
« إنه مات قبل أن أدخل عليه. »
-
زيد بن عدي يخلف أباه عند كسرى
وندم النعمان على قتل عديّ ندامة شديدة، واجترأ أعداء عديّ على النعمان، وهابهم النعمان هيبة شديدة، فخرج النعمان في بعض صيده ذات يوم، فلقى ابنا لعديّ يقال له: زيد. فلمّا رآه عرف شبهه، فقال:
« من أنت؟ » فقال: « أنا زيد بن عديّ بن زيد. » فكلّمه، فإذا غلام ظريف، ففرح به فرحا شديدا، وقرّبه، واعتذر إليه من أمر أبيه، ثم جهّزه وكتب إلى كسرى:
« إنّ عديّا كان ممّن أعين به الملك في نصحه ولبّه، فأصابه ما لا بدّ منه وانقضت مدّته وانقطع أجله، ولم يصب به أحد أشدّ من مصيبتي، وأمّا الملك فلم يكن ليفقد رجلا من عبيده إلّا جعل الله له منه خلفا لما عظم الله من ملكه وشأنه، وقد أدرك له ابن ليس دونه وقد سرّحته إلى الملك. فإن رأى أن يجعله مكان أبيه ويصرف عمّه إلى عمل آخر فعل. » فكان هو الذي يلي ما يكتب إلى أرض العرب وخاصّة الملك، وكانت له من العرب وظيفة في كلّ سنة من الأفراس المهارة، ومن الكمأة الرطبة واليابسة، والأقط، والأدم، وسائر تجارات العرب. وكذلك كان عديّ بن زيد له هذه الرسوم.
فلمّا وقع عند الملك هذا الموقع سأل عن النعمان، فأحسن الثناء عليه، فمكث سنوات بمنزلة أبيه، وأعجب به كسرى وكان يكثر الدخول إليه.
فرصة انتهزها زيد
فلمّا كان بعض دخلاته على كسرى جرى حديث النساء، وطلب الملك امرأة لها صفات ونعوت مكتوبة عند الملوك. وكان من رسم الملوك أن يطلب لهم جارية تجمع تلك النعوت في ممالكهم، فكتبت تلك الصفة. فدخل زيد على كسرى فكلّمه في ما دخل فيه، ثم قال:
« إني رأيت الملك كتب في نسوة يطلبن له، فقرأت الصفة، وأنا خبير بآل المنذر، وعند عبدك النعمان من بناته وبنات عمّه وأهله أكثر من عشرين امرأة على هذه الصفة. » قال: « فكتب فيهنّ. » فقال: « أيّها الملك، إنّ شرّ شيء في العرب وفي النعمان أنهم يتكرّمون - زعموا في أنفسهم - عن العجم. فأنا أكره أن يغيّبهنّ، وإن قدمت أنا عليه على معرفتي، لم يقدر على تغييبهنّ، فابعثني وابعث معي رجلا يفقه العربية. » فبعث معه رجلا جلدا حصيفا، فخرج به زيد، فجعل يكرم ذلك الرجل ويلطفه حتى بلغ الحيرة. فلمّا دخل عليه، أعظم الملك وقال:
« إنّه قد احتاج إلى نساء لأهله وولده، وأراد كرامتك وبعث إليك.
فقال: « وما هؤلاء النسوة؟ » فقال: « هذه صفتهنّ قد جئنا بها. »
صفة جارية أهداها المنذر الأكبر إلى أنوشروان
وكانت الصفة أنّ المنذر الأكبر أهدى إلى أنوشروان جارية كان أصابها لمّا أغار على الحارث الأكبر الغسانيّ ابن أبي شمر، فكتب إلى أنوشروان يصفها له:
« هي معتدلة الخلق، نقيّة اللون والثغر، بيضاء، قمراء، وطفاء، دعجاء حوراء، عيناء، قنواء، شمّاء، زجّاء، برجاء، أسيلة الخدّ [ شهيّة المقبّل ] جثلة الشعر، عظيمة الهامة، بعيدة مهوى القرط، عيطاء، عريضة الصدر، كاعب الثدي، ضخمة مشاشة المنكب والعضد، حسنة المعصم، لطيفة الكفّ، سبطة البنان، لطيفة طيّ البطن، خميصة الخصر، غرثى الوشاح، رداح القبل، رابية الكفل، مفعمة الساق، لفّاء الفخذين، ريّا الروادف، ضخمة المأكمتين، عظيمة الركبة، مشبعة الخلخال، لطيفة الكعب والقدم، قطوف المشي، مكسال الضحى، بضّة المتجرّد، شموع للسيّد، ليست بخنساء ولا سعفاء ذليلة الأنف، عزيزة النفس، لم تغذ في بؤس، حييّة، وزينة، حليمة، ركينة، كريمة الخال، تقتصر بنسب أبيها دون فصيلتها، وبفصيلتها دون جماع قبيلتها، قد أحكمتها التجارب في الأدب، فرأيها رأى أهل الشرف، وعملها عمل أهل الحاجة، صناع الكفّين، قطيعة اللسان، رهوة الصوت، تزين البيت وتشين العدوّ، إن أردتها اشتهت، وإن تركتها انتهت، تحملق عيناها، وتحمرّ وجنتاها، وتذبذب شفتاها وتبادرك الوثبة ».
فقبلها أنوشروان، وأمر بإثبات هذه الصفة في ديوانه، فلم يزالوا يتوارثونها حتى أفضى ذلك إلى كسرى بن هرمز.
فقرأ عليه زيد هذه الصفة، فشقّ عليه، فقال لزيد وللرسول:
« أما في عين السواد وفارس ما تبلغون به حاجتكم! » فقال الرسول لزيد: « ما العين؟ » فقال: « البقر. » فقال زيد للنعمان: « إنّما أراد كرامتك، ولو علم أنّه يشقّ عليك لم يكتب به إليك. » فأنزلهما يومين، ثم كتب إلى كسرى:
« إنّ الذي طلب الملك ليس عندي. » وقال لزيد:
« اعذرنى عنده. » فلما رجعا إلى كسرى، قال زيد للرسول الذي جاء معه:
- أصدق الملك، الذي سمعت منه، فإني سأحدّثه بحديثك، ولا أخالفك فيه. » فلمّا دخلا على كسرى قال زيد: « هذا كتابه. » فقرأه عليه.
فقال كسرى: « فأين ما كنت خبّرتنى به؟ » فقال: « قد كنت أخبرتك بضنّهم بنسائهم على غيرهم، وإنّ ذلك من شقائهم:
اختيارهم الجوع والعرى على الشبع والرياش، واختيارهم السّموم والرياح على طيب أرضك هذه، حتى إنّهم ليسمّونها السجن، فسل هذا الرسول معي عن الذي قال، فإني أكره أن أحكى للملك قوله أو أردّ عليه ألفاظه. » فقال للرسول: « ما قال؟ » قال: « انّه قال - أيّها الملك -: أما في بقر السواد ما يكفيه حتى يطلب ما عندنا؟ » فعرف الغضب في وجهه، ووقع في قلبه منه ما وقع، ولكنّه قال:
« ربّ عبد قد قال هذا، فصار أمره إلى التباب. »
-
كسرى يدعو النعمان وهو يحمل السلاح
وشاع هذا الكلام، فبلغ النعمان وسكت كسرى على ذلك أشهرا، وجعل النعمان يستعدّ ويتوقّع حتى أتاه كتابه أن:
« أقبل، فإنّ للملك إليك حاجة. » فانطلق حين أتاه كتابه، فحمل سلاحه وما قوى عليه، ثم لحق بجبلي طيّء، وكانت عنده فرعة بنت سعد بن حارثة بن لأم وقد ولدت له رجلا وكانت عنده أيضا زينب بنت أوس بن حارثة. فأراد النعمان طيّئا على أن يدخلوه ويمنعوه، فأبوا ذلك وقالوا:
« لولا صهرك لقاتلناك، فإنّه لا حاجة لنا في معاداة كسرى. » فأقبل ليس أحد من الناس يقبله، حتى نزل بذي قار، في بنى شيبان سرّا، فلقى هانئ بن قبيصة بن هانئ بن مسعود، وكان سيّدا منيعا، وكان كسرى قد أطعم قيس بن مسعود الأبلّة. فكره النعمان لذلك أن يدفع إليه أهله، وعلم أنّ هانئا مانعه ممّا يمنع منه نفسه، فأودعه سلاحه، وتوجّه بنفسه إلى كسرى، فلقى زيد بن عديّ على قنطرة ساباط.
فقال: « انج نعيم! » فقال: « أنت يا زيد فعلت هذا، أما والله لئن انفلتّ لأفعلنّ بك ولأصنعنّ. » فقال له زيد: « امض نعيم! فقد - والله - وضعت لك عنده آخيّة لا يقلعها المهر الأرن.
فلما بلغ كسرى أنه بالباب، بعث إليه، فقيّده، وأنفذه إلى خانقين، فلم يزل في السجن حتى وقع الطاعون، فمات فيه، والناس يظنّون أنّه مات بساباط، لبيت قاله الأعشى. والصحيح ما قلناه.
إياس وما أدى إلى يوم ذي قار
وأمر كسرى إياس بن قبيصة الطائي أن يضمّ ما كان النعمان ينظر فيه، ويجمع ماله ويبعث به إليه. فبعث إياس إلى هانئ أن:
« أرسل ما استودعك النعمان من السلاح وغيره. » وكان ثمانمائة درع. فأبى هانئ أن يسلّم خفارته.
فلمّا منعها هانئ غضب كسرى، وأظهر أنّه يستأصل بكر بن وائل وعنده يومئذ النعمان بن زرعة التغلبي - وهو يحبّ هلاك بكر بن وائل - فقال لكسرى:
« يا خير الملوك، أدلّك على غرّة بكر بن وائل؟ » قال: « نعم. » قال: « أمهلها حتى تقيظ، فإنّهم يجتمعون إلى مآلهم يقال له: ذو قار، فيتساقطون عليه تساقط الفراش في النار، فتأخذهم كيف شئت، وأنا أكفيكهم. » فترجم له، فأقرّهم، حتى إذا قاظوا جاءت بكر بن وائل، فنزلت حنو ذي قار، وهو على ليلة من ذي قار. فأرسل إليهم كسرى النعمان بن زرعة أن: اختاروا واحدا من ثلاث خصال. فنزل النعمان على هانئ وقال:
« أنا رسول الملك إليكم، أخيّركم في ثلاث خصال: إمّا أن تعطوا بأيديكم فيحكم الملك فيكم بما شاء، وإمّا أن تدعوا الديار، وإمّا أن تأذنوا بحرب. » فتآمروا، فولّوا أمورهم حنظلة بن ثعلبة بن سيّار العجلى، وكانوا يتيمّنون به، فقال:
« لا أرى إلّا القتال، لأنّكم إن أعطيتم بأيديكم، قتلتم، وسبيت ذراريكم، وإن هربتم قتلكم العطش، وتلقّاكم تميم فتهلككم، فآذنوا الملك بحرب. » فبعث الملك كسرى إلى إياس، وإلى الهامرز التستري، وكان مسلحه بالقطقطانية وإلى جلابزين وكان مسلحه ببارق. وكتب إلى قيس بن مسعود بن قيس بن خالد بن ذي الجدّين - وكان كسرى استعمله على طفّ سفوان - أن يوافوا إياسا، فإذا اجتمعوا، فإياس على الناس. وجاءت الفرس ومعها الجنود والفيول عليها الأساورة، وقد بعث النبي http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png.
فقال http://upload.wikimedia.org/wikipedi...8%A7%D9%85.png:
« اليوم انتصفت العرب من العجم. » فحفظ ذلك اليوم، فإذا هو يوم الوقعة.
رأي جيد رآه قيس بن مسعود لهانئ
لمّا دنت جيوش الفرس بمن معهم انسلّ قيس بن مسعود ليلا، فأتى هانئا فقال:
« أعط قومك سلاح النعمان فيقووا، فإن هلكوا كان تبعا لنفوسهم وكنت قد أخذت بالحزم، وإن ظفروا ردّوه عليك. » ففعل، وقسم الدروع والسلاح في ذوي القوى والجلد من قومه، فلمّا دنا الجمع من بكر بن وائل، قال لهم هانئ:
« يا معشر بكر، إنّه لا طاقة لكم بجنود كسرى ومن معهم من العرب، فاركبوا الفلاة. » فتسارع الناس إلى ذلك، فوثب حنظلة بن ثعلبة بن سيّار. فقال:
« إنّما أراد نجاتنا، فلم يزد على أن ألقانا في الهلكة. » فردّ الناس، وقطع وضن الهوادج لئلّا تستطيع بكر أن تسوق نساءها إن هربوا، فسمّى: « مقطّع الوضن. » فضرب حنظلة على نفسه قبّة ببطحاء ذي قار، وآلى: لا يفرّ حتى تفرّ القبّة.
فمضى من مضى من الناس ورجع أكثرهم، واستقرى ماء لنصف شهر. فأتتهم العجم، فقاتلتهم بالحنو، فجزعت العجم من العطش، ولم تقم لمحاصرتهم فهربت إلى الجبابات فتبعتهم بكر وعجل أوائل بكر، فتقدّمت عجل، وأبلت يومئذ بلاء حسنا، واضطمّت عليهم جنود العجم، فقال الناس: هلكت عجل. ثم حملت بكر، فوجدت عجلا ثابتة تقاتل، وامرأة تقول:
-
إن يظفروا يجوّزوا فينا الغرل ** إيها فداء لكم بنى عجل
وتقول أيضا:
إن تهزموا نعانق ** ونفرش النّمارق
أو تهربوا نفارق ** فراق غير وامق
فقاتلوهم بالجبابات يوما، فعطش العجم، فمالوا إلى بطحاء ذي قار.
فأرسلت إياد إلى بكر سرّا - وكانوا مع إياس عونا على بكر -:
« أيّ الأمرين أعجب إليكم: أن نطير تحت ليلتنا فنذهب، أو نقيم، ونفرّ حين تتلاقون؟ » قالوا: « بل تقيمون، فإذا التقى القوم انهزمتم بهم. » فصبّحتهم بكر بن وائل والظعن واقفة يذمرن الرجال على القتل. فقال يزيد بن حمار السكوني وكان حليفا لبنى شيبان:
« يا بنى شيبان، أطيعونى واكمنوا لهم كمينا. » ففعلوا، فكمنوا في مكان من ذي قار يسمّى إلى اليوم « الخبء. » فاجتلدوا على ميمنة إياس بن قبيصة وفيها الهامرز، وعلى ميسرته وفيها الجلابزين، وعلى ميمنة هانئ بن قبيصة رئيس بكر يزيد بن مسهر الشيبانى، وعلى ميسرته حنظلة بن ثعلبة بن سيّار العجلى وحنظلة يرتجز ويقول:
قد شاع أشياعكم فجدّوا ** ما علّتى وأنا شيخ جلد
والقوس فيها وتر عردّ ** مثل ذراع البكر أو أشدّ
ثم صيّروا الأمر بعد هانئ إلى حنظلة. فمال إلى مارية ابنته وهي أمّ عشرة نفر، فقطع وضينها، فوقعت على الأرض، وقطع وضن النساء، فوقعن على الأرض.
ونادت بنت القرين الشيبانيّة حين وقعت النساء إلى الأرض:
ويها بنى شيبان صفّا بعد صفّ ** إن تهزموا يصبّغوا فينا القلف
فقطع سبعمائة من بنى شيبان أيدى أقبيتهم من قبل مناكبهم، لتخفّ أيديهم بالضرب، فجالدوهم، ونادى الهامرز لمّا رأى جدّ القوم وثباتهم للحرب وصبرهم للموت:
« مرد ومرد! » فقال برد بن حارثة اليشكري: « ما يقول؟ » قال: « يدعو إلى البراز ويقول: رجل ورجل. » فقال: « وأبيكم لقد أنصف. » وبرز له برد، فلم يلبث برد أن تمكّن من الهامرز فقتله، ونادى حنظلة بن ثعلبة:
« يا قوم، لا تقفوا لهم فيستغرقكم النشّاب. »
فحملت ميسرة بكر - وعليها حنظلة - على ميمنة الجيش، وقد قتل الهامرز رئيسهم، قتله برد، وحملت ميمنة بكر - وعليها يزيد بن مسهر - على ميسرة الجيش، وعليهم الجلابزين، وخرج الكمين من خبء ذي قار من ورائهم [ وعليهم ] يزيد بن حمار، فشدّوا على قلب الجيش، وفيهم إياس بن قبيصة وولّت إياد منهزمة كما وعدتهم. وانهزمت الفرس واتّبعوهم يسعون، لم ينظروا إلى سلب ولا إلى شيء حتى تعارفوا « بأدم» - موضع قريب من ذي قار - فوجد ثلاثون فارسا، من عجل ومن سائر بكر ستون فارسا وقتلوا جلابزين، قتله حنظلة بن ثعلبة، وذلّت الفرس بعد ذلك، وذلّ أمرهم.
ذكر حيلة لأبرويز على ملك الروم
كان أبرويز وجّه رجلا من جلّة أصحابه في جيش جرّار إلى بلاد الروم فنكا فيهم، وبلغ منهم، وفتح الشامات وبلغ الدرب في آثارهم فعظم أمره وخافه أبرويز. فكاتبه بكتابين أمره في أحدهما أن يستخلف على جيشه من يثق به ويقبل إليه، ويأمره في الآخر أن يقيم بموضعه، فإنّه لما تدبّر أمره وأجال الرأي، لم يجد من يسدّ مسدّه، ولم يأمن الخلل، إن غاب عن موضعه، وأرسل بالكتابين رسولا من ثقاته وقال له:
« أوصل الكتاب الأول بالأمر بالقدوم، فإن خفّ لذلك فهو ما أردت، وإن كره وتثاقل عن الطاعة، فاسكت عليه أيّاما، ثم أعلمه أنّ الكتاب الثاني ورد عليك، وأوصله إليه ليقيم بموضعه. » فخرج رسول كسرى حتى ورد على صاحب الجيش ببلاد الشام، فأوصل الكتاب إليه، فلمّا قرأه قال:
« إمّا أن يكون كسرى قد تغيّر لي وكره موضعي، أو يكون قد اختلط عقله بصرف مثلي وأنا في بحر العدوّ. » فدعا الأصحاب وقرأ عليهم الكتاب فأنكروه. فلمّا كان بعد ثلاثة أيّام، أوصل الكتاب الثاني بالمقام، وأوهمه أنّ رسولا ورد به، فلمّا قرأه قال: « هذا تخليط. » ولم يقع منه موقعا، ودسّ إلى ملك الروم من ناظره في إيقاع صلح بينهما، على أن يخلّى الطريق لملك الروم، حتى يدخل بلاد العراق على غرّة من كسرى، وعلى أنّ لملك الروم ما تغلّب عليه من دون العراق، وللفارسي ما وراء ذلك إلى بلاد فارس.
فأجابه ملك الروم إلى ذلك وتنحّى الفارسي عنه في ناحية من الجزيرة، وأخذ أفواه الطرق، فلم يعلم كسرى حتى ورد خبر ملك الروم من ناحية قرقيسياء، وكسرى غير معدّ، وجنده متفرّقون في أعماله. فوثب من سريره مع قراءة الخبر وقال:
« هذا وقت حيلة لا وقت شدّة. » وجعل ينكت في الأرض مليّا. ثم دعا برقّ، وكتب فيه كتابا صغيرا بخطّ دقيق إلى صاحبه بالجزيرة يقول فيه:
« قد علمت ما كنت أمرتك به من مواصلة صاحب الروم، وإطماعه في نفسك وتخلية الطريق له حتى إذا تولّج في بلادنا أخذته من أمامه وأخذته أنت ومن ندبناه لذلك من خلفه، فيكون ذلك بواره، وقد تمّ في هذا الوقت ما دبّرناه، وميعادك في الإيقاع به يوم كذا! » ثم دعا راهبا كان في دير بجانب مدينته وقال له: « أيّ جار كنت لك؟ » قال: « أفضل جار. » قال: « قد بدت لنا إليك حاجة. » قال الراهب: « الملك أجلّ من أن يكون له حاجة إلى مثلي، ولكن عندي بذل نفسي في الذي يأمر به الملك. » قال كسرى: « تحمل لي كتابا إلى فلان صاحبي؟ » قال: « نعم. » قال كسرى: « فإنّك تجتاز بأصحابك النصارى، فأخفه. » قال: « نعم. » فلمّا ولّى عنه الراهب قال له كسرى:
« أعلمت ما في الكتاب؟ » قال: « لا. » قال: « فلا تحمله حتى تعلم ما فيه. » فلمّا قرأه أدخله في جيبه ثم مضى.
فلمّا صار في عسكر الروم ونظر إلى الصلبان والقسيسين وضجيجهم بالتقديس والصلوات احترق قلبه لهم وأشفق ممّا خاف أن يقع بهم. وقال في نفسه:
« أنا شرّ الناس إن حملت بيدي حتف النصرانية، وهلاك هؤلاء الخلق. » فصاح: « أنا لم يحمّلنى كسرى رسالة ولا معي كتاب. » فأخذوه ووجدوا الكتاب معه.
وقد كان كسرى وجّه رسولا قبل ذلك اختصر الطريق حتى مرّ بعسكر الروم وكأنّه رسول إلى كسرى من صاحبه الذي طابق ملك الروم ومعه كتاب فيه:
« إنّ الملك كان قد أمرنى بمقاربة ملك الروم وأن أختدعه وأخلّى له الطريق، فيأخذه الملك من أمامه، وآخذه أنا من خلفه وقد فعلت ذلك، فرأى الملك في إعلامى وقت خروجه إليه. » فأخذ ملك الروم الرسول وقرأ الكتاب وقال:
« قد عجبت أن يكون هذا الفارسي أدهن على كسرى. » ووافاه أبرويز في من أمكنه من جنده، فوجد ملك الروم قد ولّى هاربا، فاتّبعه يقتل ويأسر من أدرك، وبلغ صاحب كسرى هزيمة الروم، فأحبّ أن يجلّى نفسه ويستر ذنبه لما فاته ما دبّر، فخرج خلف الروم الهاربين، فلم يسلم منهم إلّا القليل
-
ذكر سبب هلاك أبرويز وقتله
كان سبب هلاك أبرويز وقتله تجبّره، واحتقاره العظماء، وعتوّه. وذاك أنّه استخفّ بما لا يستخفّ به الملك الحازم. وكان قد جمع من المال ما لم يجمعه أحد من الملوك، وبلغت خيله قسطنطينية وإفريقية، وكانت له اثنتا عشرة ألف امرأة وجارية، وألف فيل إلّا فيل واحد، وخمسون ألف دابّة، ومن الجواهر، والآلات والأوانى ما يليق بذلك. وأمر أن يحصى ما اجتبى من خراج بلاده وسائر أبواب المال سنة ثماني عشرة من ملكه. فرفع إليه: أنّ الذي اجتبى في تلك السنة من الخراج وسائر الأبواب ستمائة ألف ألف درهم. وأمر فحوّل إلى بيت مال بنى بمدينة طيسبون، من ضرب فيروز بن يزدجرد وقباذ بن فيروز اثنتا عشرة ألف بدرة في أنواع من الجواهر والكسيّ وغير ذلك. فعتا واستهان بالناس والأحرار.
وبلغ من جرأته أنّه أمر رجلا كان على حرس بابه الخاصّة يقال له: زاذانفروخ، أن يقتل كلّ مقيّد في سجن من سجونه. فأحصوا، فبلغوا ستّة وثلاثين ألفا. فلم يقدم زاذانفروخ على قتلهم، وتقدّم بالتوقّف عمّا أمر به كسرى وأعدّ عللا له في ما أمر به فيهم.
فكان هذا أحد ما كسب به كسرى عداوة أهل مملكته.
والثاني: احتقاره إيّاهم واستخفافه بعظمائهم.
والثالث: أنّه سلّط علجا يقال له « الفرّخان زاذ » عليهم، حتى استخرج بقايا الخراج بعنف وعذاب، وكان ضمن من ذلك مالا عظيما، فسلّطه على الناس.
والرابع: إجماعه على قتل الفلّ الذين انصرفوا إليه من قبل هرقل.
فمضى قوم من العظماء إلى عقر بابل وفيه شيرى بن أبرويز مع إخوته بها، وقد وكّل بهم مؤدّبون وأساورة يحولون بينهم وبين براح ذلك الموضع، فأقبلوا به، ودخلوا مدينة بهرسير ليلا. فخلّى عمّن كان في سجونها وأخرج من كان فيها، واجتمع إليه الفلّ الذين كانوا عملوا بأمر كسرى بقتلهم. فنادوا:
« قباذ شاهنشاه »، وصاروا حين أصبحوا إلى رحبة كسرى، فهرب الحرس من قصر أبرويز، وانحاز كسرى بنفسه إلى باغ له قريب من قصره يدعى: « باغ الهندوان » فارّا.
فأخذ وحبس خارجا عن دار المملكة في دار رجل يقال له: مارسفند. إلى ان قتل، بعد حديث طويل ومراسلات بينه وبين شيرى بمواطأة العظماء، وبعد تقريع كثير وتوبيخ على ما كان منه في أشياء عدّدوها عليه. فأجاب عن الكلّ بجوابات مقنعة صحيحة لم نذكرها لخروجها عما بنينا عليه غرض هذا الكتاب.
وكان هلاكه بعد ثمان وثلاثين سنة، ولمضيّ اثنين وثلاثين سنة وخمسة عشر يوما من ملكه، هاجر النبي http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png من مكّة إلى المدينة.
وخلّف في بيت المال يوم قتل من الورق أربعمائة ألف بدرة، سوى الكنوز والذخائر والجواهر وآلات الملك، وفي تلك الكنوز « كنزباذ آورد ».
ثم ملك شيرويه بن أبرويز.
ذكر عاقبة شيرويه بن أبرويز
قتل شيرويه أباه، وقتل سبعة عشر أخا له ذوي آداب وشجاعة، بمشورة وزرائه، فابتلى بالأسقام، وانتقض عليه بدنه، فلم يلتذّ بشيء من لذّات الدنيا، وجزع بعد قتل إخوته جزعا شديدا، وكان يبكى إلى أن رمى بالتاج عن رأسه، وعاش ما عاش مهموما حزينا مدنفا. وكان الطاعون فشا في أيّامه، فأهلك أكثر الفرس. وكان ملكه ثمانية أشهر.
ثم ملك أردشير بن شيرويه
وكان طفلا، وقيل: إنّه كان ابن سبع سنين، لأنّه لم يوجد غيره من أهل بيت المملكة، وحضنه رجل يقال له: مهاذر جشنس، فأحسن سياسة الملك فبلغ من إحكامه ذلك أنه: لم يحسّ بحداثة أردشير سوى أنّه غلط في أمر شهربراز المقيم بثغر الروم.
ذكر غلطه في ذلك واستهانته بأمره حتى كان سبب هلاكه
كان شهربراز في جند ضمّهم إليه كسرى، وكان كسرى وشيرويه لا يزالان يكتبان إليه في الأمر يهمّهما ويستشيرانه. فلمّا لم يشاوره عظماء الفرس في تمليك أردشير، ولم يكاتبه أيضا مهاذرجشنس، تعنّت الفرس، وتبغّى عليهم، وبسط يده، وجعله سببا للطّمع في الملك، واستطال، واحتقر أردشير لحداثة سنّه، ودعا الناس إلى التشاور في الملك. ثم أقبل بجنده وقد عمد مهاذرجشنس، فحصّن سور مدينة طيسبون وأبوابها، وحوّل أردشير ومن بقي من نسل الملوك ونسائهم، وما كان في بيت مال أردشير من مال وخزائن وكراع، إلى مدينة طيسبون.
فلما ورد شهربراز أناخ إلى جانب مدينة طيسبون، وحاصر من فيها، ونصب المجانيق عليها، فلم يصل إليها. فلمّا رأى عجزه عن افتتاحها أتاها من قبل المكيدة، فلم يزل يخدع رجلا يقال له: نيوخسرو، ورجلا كان اصبهبذ نيمروزكان، حتى فتحا له باب المدينة، فدخلها، وأخذ جماعة من الرؤساء، فقتلهم، واستصفى أموالهم، وقتل أردشير بن شيرويه. وكان ملكه سنة وستة أشهر.
ثم ملك شهربراز
ولم يكن من أهل بيت المملكة ودعا نفسه ملكا، ولمّا جلس على سرير الملك ضرب عليه بطنه، وبلغ من شدّة ذلك عليه أنّه لم يقدر على إتيان الخلاء، فدعا بالطّست، فوضع أمام ذلك السرير، ومدّ في وجهه ما ستره، فتبّرز في الطّست! ثم امتعض رجل يقال له « بسفرّوخ » وأخوين له، من قتل شهربراز أردشير بن شيرويه، وغلبته على الملك، فتحالفوا على قتله. وكان من السنّة إذا ركب الملك أن يقف له حرسه سماطين عليهم الدروع، والبيض، والترسة، والسيوف، وبأيديهم الرماح، فإذا حاذاهم الملك وضع كل رجل منهم ترسه على قربوس سرجه، ثم وضع جبهته عليه كهيئة السجود. وإنّ شهربراز ركب بعد أن ملك بأيام، فوقف له بسفرّوخ، ثم طعنه أخواه، فسقط عن دابته، فشدّوا في رجله حبلا وجرّوه إقبالا وإدبارا ساعة، وساعدهم قوم من العظماء وقتلوا عدّة عاونوا في الفتك بأردشير، وملّكوا بوران بنت كسرى. وكان جميع ما ملك شهربراز أربعين يوما.
وملكت بوران بنت كسرى أبرويز
فأحسنت السيرة، وبسطت العدل، وأمرت برمّ القناطر والجسور وإعادة العمارات، ووضعت بقايا الخراج، وكتبت إلى الناس عامّة كتبا تعلمهم ما هي عليه
من الإحسان، وأنّها ترجو أن يريهم الله من الرفاهة والاستقامة بمكانها، ومن العدل وحفظ الثغور ما يعلمون به أنه ليس ببطش الرجال تدوّخ البلاد، ولا ببأسهم تستباح العساكر، ولا بمكائدهم ينال الظفر، وتطفأ النوائر، ولكنّ ذلك كلّه بالله عز وجل، وحسن النيّة، واستقامة التدبير. وأمرت بالمناصحة وحسن الطاعة، وردّت خشبة الصليب على ملك الروم. وكان ملكها سنة وأربعة أشهر.
ثم ملك بعدها رجل يقال له جشنسبنده
وكان ملكه أقلّ من شهر، ولم يظهر له أثر تستفاد منه تجربة.
-
ثم ملكت آزرمى دخت ابنة كسرى أبرويز
كانت آزرمى دخت من أجمل نساء دهرها، وكان عظيم فارس يومئذ « فرّخ هرمز » إصهبذ خراسان، وأرسل إليها: يسألها أن تزوّجه نفسها، فأرسلت إليه:
« إنّ التزويج للملكة غير جائز، وقد علمت أنّ إربك فيما ذهبت إليه، قضاء حاجتك مني، فصر إليّ ليلة كذا وكذا. » ففعل [ فرّخ هرمز ]، وركب إليها في تلك الليلة، وتقدّمت آزرمى دخت إلى صاحب حرسها أن يترصّده في الليلة التي تواعدا الالتقاء فيها، حتى يقتله. فنفذ صاحب حرسها لأمرها، وأمر به فجرّ برجله، وطرح في رحبة دار المملكة. فلمّا أصبح الناس ورأوه، علموا أنّه لم يقتل إلّا لعظيمة. فأمرت بجثّته فغيّبت.
وكان رستم بن فرّخ هرمز هذا عظيم البأس قويّا في نفسه وهو رستم صاحب القادسية الذي تولّى قتال العرب من قبل يزدجرد في ما بعد، وسنحكي خبره هناك. فلمّا بلغه ما صنع بأبيه، أقبل في جند عظيم، حتى نزلوا المدائن، وسمل عيني آزرمى دخت، وقتلها، وكان ملكها ستة أشهر. واختلف فيمن ملك بعد آزرمى دخت، فقيل: أتى برجل من عقب أردشير بن بابك، كان ينزل الأهواز يقال له:
كسرى بن مهرجشنس
فلبس التاج وقتل بعد أيّام. ويقال: بل كان رجلا يسكن ميسان يقال له:
فيروز
فلملّكوه كرها، وكان ضخم الرأس. فلما توّج قال:
« ما أضيق هذا التاج! » فتطيّر العظماء من افتتاح كلامه بالضيق، وقتلوه. ثم أتى برجل من أولاد كسرى كان لجأ إلى موضع من المغرب قريب من نصيبين يقال له: « حصن الحجارة » حين قتل شيرويه بن كسرى، يقال له:
فرخ باذخسرو
فانقاد له الناس طوعا زمنا يسيرا، ثم استعصوا عليه وخالفوه وكان ملكه ستة أشهر، وكان أهل إصطخر ظفروا بيزدجرد بن شهريار بن أبرويز بإصطخر، قد هرب إليها حين قتل شيرويه إخوته، فلمّا بلغ عظماء إصطخر أنّ من بالمدائن خالفوا فرّخ زادخسرو، أتوا بيزدجرد بيت نار يدعى: « بيت نار أردشير »، فتوّجوه هناك وملّكوه وكان حدثا. ثم أقبلوا به إلى المدائن، وقتلوا « خرّهداد خسرو » بحيل احتالوها له وساغ الملك ليزدجرد.
ملك يزدجرد بن شهريار بن أبرويز
فملك يزدجرد. غير أنّ ملكه كان عند ملك آبائه كالخيال وكالحلم، وكانت العظماء والوزراء يدبّرون ملكه لحداثة سنّه، وكان أشدّهم نباهة في وزرائه وأذكاهم رئيس الخول. وضعف أمر مملكة فارس، واجترأ عليه أعداؤه من كلّ وجوه، وتطرّفوا بلاده، وأخربوا منها، وغزت العرب بلاده بعد أن مضى من ملكه ثلاث أو أربع سنين، وكان عمره كلّه إلى أن قتل بمرو عشرين سنة.
وله أحاديث وسير، سنذكرها بعد فراغنا من الأحوال التي تمّت من جهة الرأي والتدبير في أيام النبي http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png والخلفاء من بعده، إلى أن يتصل بذكر يزدجرد، وما كان منه.
عصر النبي (ص) والخلفاء الراشدين
مما جرى في غزوات الرسول ص من تدابيره البشرية في غزوة الخندق
فممّا جرى في غزوات رسول الله ص من التدابير البشرية والحيل الإنسانية ما كان منه ص في غزوة الخندق. وذلك أنّ النبي http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png لمّا أجلى اليهود من بنى النضير عن ديارهم، اجتمع رؤساؤهم، وفيهم سلام بن أبي الحقيق وحييّ بن أخطب وغيرهما، فقدموا مكّة، ودعوهم إلى حرب رسول الله http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png وحزّبوا الأحزاب التي ذكرها الله تعالى وطمعوا في استيصال النبي http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png فنشطت قريش لذلك، وتذكّروا أحقادهم ببدر، فخرجوا وقائدهم أبو سفيان بن حرب. وخرجت غطفان وقائدهم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر، وبنو فزارة وغيرهم من الأحزاب.
فأشار سلمان على رسول الله http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png لمّا رآه يهمّ بالمقام بالمدينة، ويدبّر أن يتركهم حتى يردوا، ثم يحاربهم على المدينة وفي طرقها، أن يخندق. ففعل ذلك، ووردت قريش بعددها وعدّتها، ووردت الأحزاب، وكثر الناس والأعداء على رسول الله http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png وكان قد وادع بنى قريظة وهم أصحاب حصون بالمدينة، وصاحب عقدهم وعهدهم كعب بن أسد القرظيّ.
احتيال حيي بن أخطب لكعب بن أسد
فاحتال حييّ بن أخطب لكعب بن أسد، حتى وصل إلى حصنه، فأغلق كعب دونه باب الحصن، وقال: « بيني وبين محمّد عقد، ولن أنقض ما بيني وبينه. » قال: « افتح الباب أكلّمك. » فقال: « ما أنا بفاعل. » فقال: « والله إن أغلقت دوني الباب إلّا على جشيشتك أن آكل معك منها. » فأحفظ الرجل حتى فتح له. فقال: « ويحك يا كعب! جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنختهم بالمدينة. وجئتك بغطفان على قادتها وسادتها، وقد عاهدوني ألّا يبرحوا حتى يستأصلوا محمدا ومن معه. » فتأبّى كعب، ولم يزل به، يفتله في الذروة والغارب، حتى أعطاه عهدا من الله وميثاقا أن يكون معه. ونقض كعب ما بينه وبين رسول الله ص وبرئ مما كان عليه له.
فلما صحّ عند رسول الله ص ذلك، ضاق ذرعا وخشي أن يفتّ ذلك في أعضاد المسلمين. فعظم البلاء، واشتدّ الخوف، وأتاهم عدوّهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتى ظنّ المؤمنون كلّ ظنّ ونجم النفاق من المؤمنين، وكثر الخوض.
ما كان من نعيم بن مسعود من تخذيل وخداع
وأقام رسول الله http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png وأصحابه في ما وصف الله من الخوف والشدّة، لتظاهر الأعداء عليهم، وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم، حتى أتاه نعيم بن مسعود بن عامر بن أنيف بن ثعلبة الغطفاني مسلما، فقال: « يا رسول الله، إني قد أسلمت وإنّ قومي لم يعلموا بإسلامى، فأمرنى بما شئت، أنته إليه. » فقال رسول الله http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png: « إنّما أنت رجل واحد فينا، وإنّما غناؤك أن تخذّل عنّا ما استطعت، وعليك بالخداع، فإنّ الحرب خدعة. » فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بنى قريظة وكان نديما لهم، فقال: « يا بنى قريظة، قد عرفتم ودّى إيّاكم وخاصّة ما بيني وبينكم. » قالوا: « صدقت، لست عندنا بمتّهم. » فقال لهم: « إنّ قريشا وغطفان ومن التفّ معهم، جاءوا لحرب محمد، فإن ظاهرتموهم عليه، فليسوا [ كهيئتكم ]، وذاك أنّ البلد بلدكم، به أموالكم وأولادكم ونساؤكم، لا تقدرون أن تتحوّلوا إلى غيره. فأمّا قريش وغطفان فإنّ أموالهم وأبناءهم ونساءهم ببلاد غير بلادكم، فإن رأوا نهزة وغنيمة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم، وخلّوا بينكم وبين الرجل، والرجل ببلادكم لا طاقة لكم به إن خلا بكم فلا تقاتلوا القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم، على أن يقاتلوا معكم محمدا حتى يناجزوه. » قالوا: « لقد أشرت علينا برأى ونصح. » ثم خرج حتى أتى قريشا. فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه: يا معشر قريش! قد عرفتم ودّى إيّاكم وفراقي محمدا، وقد بلغني أمر رأيت حقّا عليّ أن أبلغكم، نصحا لكم، فاكتموا عليّ. » قالوا: « نفعل. » قال: « اعلموا أنّ معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا بينهم وبين محمد وقد أرسلوا إليه أن قد ندمنا على ما صنعنا، فهل يرضيك عنّا أن نأخذ من القبيلتين: من قريش وغطفان، رجالا من أشرافهم وكبرائهم ونعطيكم فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من بقي منهم. فإن بعثت إليك يهود يلتمسون منكم رهنا من رجالكم، فلا تدفعوا إليهم رجلا واحدا. » فوقع ذلك من القوم.
وخرج حتى أتى غطفان. فقال: « يا معشر غطفان! أنتم أصلى وعشيرتي، وأحبّ الناس إليّ، ولا أراكم تتّهمونى. » قالوا: « صدقت. » قال: « فاكتموا عليّ. » قالوا: « نفعل. » ثم قال لهم مثل ما قال لقريش، وحذّرهم مثل ما حذّرهص
-
اتفاق جيد
فكان من الاتّفاق الجيّد أن أرسل بعد ذلك أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى بنى قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان. فقال لهم: « إنّا لسنا بدار مقام، وقد هلك الخفّ والحافر، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا ونفرغ ممّا بيننا وبينه. »
فأرسلوا إليه: « إنّ اليوم السبت - وكان اتّفق ذلك - وهو يوم لا نعمل فيه شيئا، ومع ذلك فلسنا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمدا، فإنّا نخشى - إن ضرستكم الحرب واشتدّ عليكم القتال - أن تشمّروا إلى بلادكم، وتتركونا والرجل في بلدنا، ولا طاقة لنا بذلك من محمد. » فلمّا رجعت الرسل بالذي قالت بنو قريظة، قالت قريش وغطفان: « والله إنّ الذي حدّثكم نعيم بن مسعود لحقّ. » فأرسلوا إلى بن قريظة: « إنّا والله ما ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا. فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا. »
فقالت بنو قريظة حين أدّت إليهم الرسل: « إنّ الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحقّ. ما يريد القوم إلّا أن يقاتلوا. فإن وجدوا فرصة انتهزوها، وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم، وخلّوا بينكم وبين الرجل. »
فأرسلوا إلى القوم: « إنّا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا. » وتخاذل القوم. واتّهم بعضهم بعضا، وذلك في زمن شات وليال باردة كثيرة الرياح تطرح أبنيتهم، وتكفأ قدورهم. وضاق ذرع القوم وبلغ رسول الله http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png اختلاف القوم وما هم فيه من الجهد. فدعا حذيفة بن اليمان، فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلا. فذهب حذيفة بن اليمان، حتى دخل في القوم. قال حذيفة: فذهبت فرأيت من الرياح أمرا هائلا لا يقرّ لهم نارا ولا بناء.
فقام أبو سفيان ابن حرب، فقال: « يا معشر قريش، لينظر امرؤ جليسه. » قال: فبادرت وأخذت بيد الرجل الذي إلى جانبي، فقلت: « من أنت؟ » قال: « أنا فلان بن فلان. » ثم قال أبو سفيان: « إنكم يا قوم ما أصبحتم بدار مقام. لقد هلك الكراع والخفّ، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم ما نكره، ولقينا من الجهد والشدّة وهذه الريح ما ترون. فارتحلوا، فإني مرتحل. » ثم قام إلى جمله، وقام الناس معه. وسمعت غطفان بما فعلت قريش، فانصرفوا إلى بلادهم، وتفرّق ذلك الجمع من غير قتال، إلّا ما كان من عدّة يسيرة اتّفقوا على الهجوم على الخندق، يحكى أن فيهم عمرو بن عبد ودّ، فقتلوا. أما عمرو فقتله عليّ بن أبي طالب مبارزة لما اقتحم عليه الخندق. وانتقض ذلك الجمع والتدبير كلّه.
ومن ذلك ما كان يوم حنين وفيه ذكر لدريد بن الصّمّة وبعض آرائه
ومن ذلك أنّه لما افتتح رسول الله http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png مكّة، وأقام خمسة عشر يوما، جاءت هوازن وثقيف لمحاربته، فنزلوا بحنين. وذاك أنّهم كانوا قبل ذلك قد جمعوا له حين سمعوا بمخرجه من المدينة، وظنّوا أنه يريدهم. فلمّا قصد مكّة أقبلوا عامدين إليه، ومعهم الأموال والنساء والصبيان، ورئيس هوازن يومئذ مالك بن عوف. وأقبلت معهم ثقيف، ونصر، وجشم. ولم يشهد معهم من هوازن كعب ولا كلاب. وفي جشم دريد بن الصمّة [ وهو ] شيخ كبير، لا شيء فيه إلّا أنّهم يتيمّنون برأيه ومعرفته بالحرب ودربته بها.
فلما نزل بأوطاس، اجتمع الناس إلى رئيسهم مالك بن عوف وفيهم دريد بن الصمّة يقاد به وهو في شجار له. فقال: « بأيّ واد أنتم؟ » قالوا: « بأوطاس. » قال: « نعم، مجال الخيل، لا حزن ضرس، ولا سهل دهس. ما لي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، ويعار الشاء، وبكاء الصغير؟ » فقالوا له: « ساق مالك بن عوف مع الناس أبناءهم، ونساءهم، وأموالهم. » فقال: « أين مالك؟ » فدعى له، فقال: « يا مالك، إنّك قد أصبحت رئيس قومك، وإنّ هذا يوم له ما بعده من الأيام، ما لي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار الشاء؟ » قال: « سقت مع الناس أبناءهم، ونساءهم، وأموالهم. » قال: « ولم؟ » قال: « أردت أن أجعل خلف كلّ رجل أهله وولده وماله، ليقاتل عنهم. » قال: فأنقض به. ثم قال: « راعى ضأن والله. ويحك! هل يردّ المنهرم شيء؟ إنّها إن كانت لك، لم ينفعك إلّا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك، فضحت في أهلك ومالك. ما فعلت كعب وكلاب؟ » قالوا: « لم يشهدها منهم أحد. » قال: « غاب الجدّ والحدّ، لو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب ولا كلاب. فمن شهدها منكم؟ »
قالوا: « عمرو بن عامر، وعوف بن عامر. » قال: « [ ذانك ] الجذعان من بنى عامر لا ينفعان ولا يضرّان. يا مالك إنّك لن تصنع بتقديم البيضة، بيضة هوازن، إلى نحور الخيل شيئا، ارفعهم إلى متمنع بلادهم وعليا قومهم، ثم الق هؤلاء الصبّاء على متون الخيل، فإن كانت لك، لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك قد أحرزت أهلك ومالك. » قال: [ والله لا أفعل ذلك، إنّك قد كبرت وكبر علمك ]، والله لتطيعنّى يا معشر هوازن، أو لأتّكئنّ على سيفي هذا حتى يخرج من ظهري ».
وكره أن يكون فيها لدريد ذكر ورأي.
فقال دريد: « هذا يوم لم أشهده ولم يفتني. »
يا ليتني فيها جذع ** أخبّ فيها وأضع
أقود وطفاء الزّمع ** كأنّها شاة صدع
وكان دريد رئيس قومه بنى جشم وسيّدهم وأوسطهم مع شجاعته ودربته وتجاربه، ولكن السنّ أدركته حتى فنى.
ثم قال مالك للناس: « إذا رأيتم القوم فاكسروا جفون سيوفكم، وشدّوا شدّة رجل واحد عليهم. » فلمّا استقبل خيل رسول الله http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png- وكان يومئذ اثنى عشر ألفا، منهم عشرة آلاف فتحوا مكة، وألفان ممن أسلم وانضاف إليهم بوادي حنين - انحدروا في واد من أودية تهامة أجوف، إنّما ينحدرون فيه انحدارا، وذلك في عماية من الصبح، وكان القوم قد سبقوا إلى الوادي، فكمنوا في شعابه وأحنائه ومضايقه، وتهيّئوا وأعدّوا. فما راع خيل رسول الله http://upload.wikimedia.org/wikipedi...8%A7%D9%85.png وهم منحطّون، إلّا الكتائب، قد شدّت عليهم، فانشمروا لا يلوى أحد على أحد.
وانحاز رسول الله http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png ذات اليمين وصاح: « أيّها الناس، أين؟ هلمّوا إليّ، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله. » وبقي مع النبي http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png نفر من أهل بيته، فيهم عليّ بن أبي طالب، والعباس، وابنه الفضل، وجماعة من المهاجرين.
فقال رسول الله http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png للعباس: « اصرخ: يا معشر الأنصار، يا أصحاب السمرة. » فأجابوه من كل ناحية وحملوا على الناس فكانت إيّاها. وقتل عليّ بن أبي طالب http://upload.wikimedia.org/wikipedi...8%A7%D9%85.png صاحب الراية، وقتل خيل مالك بن عوف كلّ مقتلة، وغنم المسلمون تلك الأموال، وسبوا النساء والأولاد، وقتل دريد. وكان عدّة السبي يومئذ من هوازن ستّة آلاف من النساء والأولاد.
-
فلمّا قدمت وفود هوازن على النبي http://upload.wikimedia.org/wikipedi...8%A7%D9%85.png مسلمين، أعتق لهم أبناءهم ونساءهم كلّهم، في حديث طويل.
ومن ذلك ما كان بعد ظهور العنسي الكذاب
ومن ذلك: أنّه لما ظهر الأسود العنسي الكذّاب متنبّئا باليمن وحضرموت وصنعاء، حاربه شهر بن باذام، وكان رسول الله http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png استخلفه بعد أبيه باذام على الأبناء وعلى بعض أعمال أبيه. فهزمه الأسود، وفرّق الأبناء عنه، وظفر به بعد، فقتله وغلب على صنعاء، وهرب عمّال رسول الله http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png وجعل أمر الأسود الكذّاب يعلو ويستطير استطارة الحريق.
وكان جعل عمرو بن معديكرب خليفته في مذحج بعد أن ارتدّ عمرو، وجعل أمر جنده إلى قيس بن عبد يغوث، وأسند أمر الأبناء إلى فيروز الديلمي ودادويه، وكان شهر قد تزوّج بنت عمّ فيروز، وكانت جميلة، فلمّا قتل شهر تزوّج بها الأسود.
فأنفذ رسول الله http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png إلى فيروز، وإلى جشنس، وغيره من الأبناء يأمرهم بالقيام على دينهم، وأن ينهضوا في الحرب والعمل في الأسود، إما غيلة وإمّا مصادمة. فألقى كتاب رسول الله http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png إلى أصحابه، تغيّر الأسود لقيس بن عبد يغوث.
فقال أصحاب رسول الله http://upload.wikimedia.org/wikipedi...8%A7%D9%85.png: « إنّ قيسا يخاف على دمه، وهو لأوّل دعوة، فهلمّ ندعوه. » فاجتمعوا لذلك ثم دعوه، وأبثّوه أمرهم، وأبلغوه عن النبي http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png وكأنّما وقعوا عليه من السماء، لأنّه كان في غمّ وضيق بأمره، فأجابهم إلى ما أحبّوا.
ثم إنّ عامر بن شهر بن باذام اعترض في قوم منهم: ذو مرّان، وذو الكلاع، وذو ظليم. فكاتبوا أصحاب النبي http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png وبذلوا لهم النصر.
وكان النبي http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png قد كاتبهم، فكان أصحاب النبي في سرّ قد اتّفقوا عليه، فأجابوا القوم بالتوقّف. وذاك أنّ الأمر كان استتبّ للأسود واستفحل، فهابوه هيبة شديدة.
ثم إنّه دخل جشنس الديلمي على آزاذ - وهي امرأة الأسود التي خلف عليها شهر بن باذام - فقال: « يا ابنة عمّ، قد عرفت بلاء هذا الرجل عند قومك. قتل زوجك وطأطأ في قومك القتل، وسفك بالإباحة دماء من بقي منهم، وفضح النساء، فهل عندك ممالأة عليه؟ » فقالت: « وعلى أيّ أمره؟ » قال جشنس: فقلت: « إخراجه. » فقالت: « أو قتله؟ » قلت: « أو قتله. » قالت: « نعم. والله، ما خلق الله شخصا أبغض إليّ منه، ما ينتهى عن حرمة لله. فإذا عزمتم فأعلمونى أخبركم بمأتى هذا الأمر. » قال جشنس:
فأخرج فإذا فيروز وداذويه ينتظرانى، وإذا قيس قد دعاه الأسود، فدخل إليه في عشرة من مذحج وهمدان.
فقال له الأسود: « يا قيس! ألم أفعل بك، ألم أصنع؟ » يعتدّ عليه بنعمته.
فقال: « بلى. »
قال: « فإنّه يقول - يعنى الشيطان الذي معه -: « إنّ قيسا على الغدر بك، إيه، يا سوءة، يا سوءة، إلّا تقطع من قيس يده، يقطع قنّتك العليا. » حتى ظنّ أنه قاتله. فقال: « كذبك وذي الخمار، فإمّا قتلتني، فإنّها موتة مريحة أهون عليّ من موتات أموت بها كلّ يوم، خوفا وفرقا، وإمّا صدّقتنى. فوالله لأنت أهيب وأجلّ في نفسي، من أن أحدّثها بغدر لك. » فرقّ له، وأخرجه.
قال: فخرج قيس علينا وطوانا، غير أنّه قال: « اعملوا عملكم. » ثم خرج الأسود علينا، فقمنا مثولا بين يديه بالباب، فقال: « يا فيروز، أحقّ ما بلغني عنك؟ - وهيّأ له الحربة - لقد هممت أن أنحرك. » فقال فيروز: « اخترتنا أيّها الملك لصهرك، وفضّلتنا على الأبناء، ولو لم تكن نبيا ما بعنا نصيبك ونصيبنا منك بشيء، فكيف وقد اجتمع لنا بك أمر آخرة وأولى، لا تقبلنّ علينا أمثال ما يبلغك، فإنّا بحيث تحبّ. » ثم ذبح الأسود مائة من بين بقرة وبعير غير محبّسة ولا معقّلة، بحربته، وقال لفيروز: « اقسم هذه، فأنت أعلم بمن هاهنا. » قال فيروز: ففعلت هذا ولحقته قبل أن يصل إلى داره، فإذا رجل يسعى إليه بي، فأستمع له وهو يقول: « أنا قاتله غدا وأصحابه، فاغد عليّ. » ثم التفت فإذا هو بفيروز، فقال: « مه؟ » قال: « قد قسمتها كما أمرتنى. » قال: « أحسنت ».
وضرب دابّته ودخل. فرجع فيروز إلى أصحابه، فأخبرهم بالخبر.
قال جشنس:
-
فأرسلنا إلى قيس فجاءنا. فاجتمع ملؤهم أن أعود إلى المرأة فأخبرها بعزيمتنا لتشير علينا برأيها. فأتيت المرأة وقلت: « ما عندك؟ » قالت: « هو متحرّز محترس، وليس من القصر شيء إلّا والحرس محيطون به غير هذا البيت، فإنّ ظهره إلى مكان كذا وكذا من الطريق، فإذا أمسيتم فانقبوا عليه، فإنّكم من دون الحرس، وليس دون قتله شيء. » وقالت: « إنّكم ستجدون فيه سلاحا وسراجا وهو علامة لكم. » فخرجت من عندها وتلقّانى الأسود خارجا من بعض منازله، فقال: « ما أدخلك عليّ؟ » ووجأ رأسى حتى سقطت، وكان شديدا، وصاحت المرأة - فأدهشته عني، ولولا ذلك لقتلني - وقالت: « ابن عمّى جاءني زائرا، فقصّرت بي. » فقال: « اسكتي لا أبا لك! فقد وهبته لك. » فتحاملت وأتيت أصحابي فقلت: « النجاء، الهرب. » وأخبرتهم الخبر. فإنّا على ذلك حيارى إذا جاءني رسولها يقول: « لا تدعنّ ما فارقتك عليه، فإني لم أزل به حتى اطمأن واعتذر. » فقلنا لفيروز: « ايتها وتثبّت، فأمّا أنا فلا سبيل لي إلى الدخول بعد النهى. » ففعل. وكان فيروز أفطن منّا، فلما أخبرته الخبر قال: « وكيف ننقب على بيوت مبطّنة الأبواب؟ ينبغي لنا أن نقلع بطانة الباب. » فدخلا، فاقتلعا البطانة، ثم أغلقاه وجلسا عندها كالزائر. فدخل عليها فاستخفّته غيرة، وأخبرته برضاع وقرابة مثلها محرّم. فصاح به وأخرجه وجاء بالخبر. فلمّا أمسينا عملنا في أمرنا وقد كنّا واطأنا أشياعنا، ولكن عجّلنا عن مراسلتهم. فنقبنا البيت من خارج، ثم دخلناه، وفيه سراج تحت جفنة، واتّقينا بفيروز لأنّه كان أنجدنا وأشدّنا، فقلنا: « انظر ما ذا ترى وأين موضعه؟ » فدخل ونحن بينه وبين الحرس الذين معه في مقصورته. فلمّا دنا من باب البيت سمع غطيطا شديدا، فإذا المرأة جالسة. فلمّا قام على الباب فتح عينيه فقال أيضا: « ما لي ومالك يا فيروز! » فخشي أن يرجع لأخذ السلاح وإعلامنا فنهلك وتهلك المرأة. فعاجله - وكان مثل الجمل - فأخذ برأسه فدقّ [ عنقه ] ووضع ركبته في ظهره فدقّه، ثم قام ليخرج. فأخذت بثوبه وهي ترى أنّه لم يقتله، وقالت: « أين تدعني؟ » قال: « لا بأس، أخبر أصحابي وأعود معهم. » فأتانا وقمنا معه فأردنا حزّ رأسه. فتحرّك واضطرب فلم نضبطه، فقلت: « اجلسوا على صدره. » فجلس الاثنان على صدره وأخذت المرأة بشعره، وسمعنا بربرة، فألجمته بميلاة، وأمرّ الشفرة على حلقه، فخار كأشدّ خوار من ثور سمعته قطّ. فابتدر الحرس الباب وهم حول المقصورة: « ما هذا، ما هذا؟ » فقالت المرأة: « النّبي يوحى إليه، اهدأوا! » [ فخمد ]. ثم سهرنا ليلتنا ونحن نأتمر: كيف نخبر أشياعنا ليس غيرنا ثلاثتنا: أنا وفيروز وقيس. فأجمعنا على النداء بشعارنا الذي بيننا وبين أشياعنا، ثم ننادي الأذان. فلما طلع الفجر فعلنا ذلك، فتجمّع الحرس فناديتهم: « أشهد أنّ محمدا رسول الله وأنّ عبهلة كذّاب. » وألقينا إليهم برأسه، وخلصت صنعاء والجند، وأعزّ الله الإسلام، وتنافسنا الإمارة، وتراجع أصحاب رسول الله http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png إلى أعمالهم فاصطلحوا على معاذ، فكان يصلّى بنا. وكتبنا إلى رسول الله http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png بالخبر، وذلك في حياته فقدمت رسلنا وقد مات النبي http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png صبيحة الليلة التي فتكنا فيها بالأسود فأجابنا أبو بكر رضي الله عنه.
أسماء كتاب النبي http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png
كان عليّ بن أبي طالب وعثمان بن عفّان يكتبان الوحى، فإن غابا كتبه أبيّ بن كعب وزيد بن ثابت، فإن لم يشهد هؤلاء كتبه سائر الكتّاب، وهم: عمر بن الخطّاب، وطلحة، وخالد بن سعيد، ويزيد بن أبي سفيان، والعلاء الحضرمي، وأبو سلمة بن عبد الأشهل، وعبد الله بن أبي سرح، وحويطب بن عبد العزّى، وأبو سفيان بن حرب، ومعاوية، وعثمان، وأبان: ابنا سعيد، وحاطب بن عمرو، وجهيم بن الصلت.
وكان خالد بن سعيد بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان يكتبان بين يديه في حوائجه. وكان المغيرة بن شعبة والحصين بن نمير يكتبان بين الناس وينوبان عن خالد ومعاوية، إذا غابا. وكان عبد الله بن الأرقم ربما كتب إلى الملوك عن النبي http://upload.wikimedia.org/wikipedi...8%A7%D9%85.png. وكان زيد بن ثابت مع ما يكتبه من الوحى، يكتب إلى الملوك، وكان يحسن بالفارسية وبالرومية وبالحبشية. وكان حنظلة بن الربيع خليفة كلّ كاتب من كتّاب النبي http://upload.wikimedia.org/wikipedi...8%A7%D9%85.png غاب عن عمله، فغلب عليه اسم الكاتب من بينهم. وكان النبي http://upload.wikimedia.org/wikipedi...8%A7%D9%85.png يضع عنده خاتمه، وقال له: « الزمني وأذكرني بكلّ شيء لثالثة. » فكان لا يأتى على مال ولا حاجة ثلاثة أيام إلّا ذكّره به، فلا يبيت http://upload.wikimedia.org/wikipedi...8%A7%D9%85.png وعنده منه شيء. فأمّا عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فإنّه ارتدّ بعد كتابته للنبي http://upload.wikimedia.org/wikipedi...8%A7%D9%85.png. وكان يتكلّم، فسمعه رجل من الأنصار، فحلف بالله: لئن أمكنه الله منه ليضربنّه بالسيف. فلمّا كان يوم فتح مكة، جاء به عثمان - وكان بينهما رضاع - فقال: « يا رسول الله، هذا عبد الله، أقبل تائبا. » فأعرض عنه، والأنصاري حاضر بيده السيف. فأعاد عليه عثمان القول، فأعرض عنه. فلمّا أعاد الثالثة مدّ http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png يده، فبايعه وقال للأنصاري: « لقد تلوّمت أن توفّى بنذرك. » فقال: « فهلّا أومضت إليّ؟ » فقال: « إنّه لا ينبغي للنبي أن يومض. »
مما حدث في خلافة أبي بكر
-
ومن صرامة الرأي وحصافته ما كان من أبي بكر رضي الله عنه.
وذلك أنّه لمّا مات النبي http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png ارتدّت العرب واضطرمت الأرض واشتغل الناس بالمرتدّين وتروخى عن مسيلمة وطليحة. فاستغلظ أمرهما وارتدّت من كل قبيلة عامّة وخاصّة إلّا قريشا وثقيفا. فتشدّد أبو بكر وكان فيه لين، إلّا أنّه حزم وحصف وخالف الناس، وكانوا أشاروا عليه بالمقاومة. وذلك أنّ أسامة بن زيد كان غائبا بالجيش الذي جهّزه رسول الله http://upload.wikimedia.org/wikipedi...8%A7%D9%85.png معه إلى حيث قتل فيه أبوه زيد، وكان أهل المدينة في قلّة، وكان طليحة قد قوى بأسد وغطفان وطيّء. فبعثوا وفودا إلى أبي بكر - رضي الله عنه - من كلّ قبيلة، ونزلوا على وجوه الناس على أن يقيموا الصلاة ولا يؤتوا الزكاة، فجرّد أبو بكر العزيمة وقال: « لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه. » فرجعوا فأخبروا عشائرهم بقلّة من أهل المدينة وأطمعوهم فيها.
فكان من حصافة أبي بكر أن جعل على أنقاب المدينة بعد خروج الوفد عليّا والزبير وطلحة ونفرا معهم. وأخذ أهل المدينة بحضور المسجد، وقال لهم: « إنّ الأرض كافرة، وقد رأى وفدهم منكم قلّة، وإنّكم لا تدرون أليلا تؤتون، أم نهارا؟ وأدناهم منكم على بريد وقد كان القوم يأملون أن نوادعهم، ونقبل منهم وقد أبينا عليهم، ونبذنا إليهم فاستعدّوا وأعدّوا. » فما لبثوا إلّا ثلاثا حتى طرقوا المدينة غارّة مع الليل وخلّفوا ردءا لهم بذي حسى، فوافوا الأنقاب وعليها المقاتلة ودونهم أقوام يدرجون.
فنهنهوهم وأرسلوا إلى أبي بكر بالخبر. فخرج أبو بكر في أهل المسجد على النواضح إليهم فانهزموا واتّبعهم المسلمون على إبلهم حتى بلغوا ذا حسى. فخرج عليهم الردء بأنحاء قد نفخوها وجعلوا فيها الحبال، ثم دهدهوها بأرجلهم في وجوه الإبل فتدهده كل نحى في طوله فنفرت الإبل إبل المسلمين وهم عليها، ولا تنفر من شيء نفارها من الأنحاء. فعاجت بهم ما يملكونها حتى دخلت بهم المدينة، إلّا أنّه لم يصرع مسلم ولم يصب، وظنّ القوم بالمسلمين الوهن فبعثوا إلى الناس بالخبر فقدموا عليهم أعمارا.
وبات أبو بكر ليلته يتهيّأ، فعبّى الناس، ثم خرج في تعبئته من أعجاز ليلته يمشى، فما طلع الفجر إلّا وهم مع العدوّ في صعيد واحد. فما سمعوا لأحد من المسلمين همسا ولا حسّا حتى وضعوا فيهم السيوف. فما ذرّ قرن الشمس حتى ولّوهم الأدبار وغلبوهم على عامّة ظهرهم، وقتل رئيسهم حبال وكان صاحب طليحة، واتبعهم أبو بكر - فكان أول فتح - فلما بلغ ذا القصة وضع بها النعمان بن مقرّن في عدد، ورجع إلى المدينة، فذلّ المشركون وعزّ المسلمون بوقعة أبي بكر - رضي الله عنه - فوثب بنو ذبيان وعبس على من فيهم من المسلمين فقتلوهم كلّ قتلة، وفعل من وراءهم فعلهم. فحلف أبو بكر ليقتلنّ في كل قبيلة قتلة من قتلوا وليزيدنّ وليفعلنّ وليصنعنّ.
فوفى بذلك، فازداد المسلمون ثباتا على دينهم وتفرّق أمر المشركين، وطرقت المدينة صدقات صفوان والزبرقان وعديّ. فاستبشر لذلك أبو بكر والمسلمون، وذلك لستّين يوما من خروج أسامة.
ثم قدم أسامة واستخلفه أبو بكر على المدينة وقال له ولجنده: « أريحوا واستريحوا. » ثم خرج بنفسه مع الذين كانوا على الأنقاب، فقال له المسلمون: « ننشدك الله أن تعرّض نفسك، فإنّك إن تصب لم يكن للناس نظام. ومقامك أشدّ على العدوّ. فابعث رجلا إن أصيب أمّرت آخر. » فقال: « لا والله حتى أواسيكم بنفسي. » فخرج في تعبئته إلى ذي القصة والنعمان وأصحابه على ما كانوا عليه، حتى نزل على أهل الربذة بالأبرق. فاقتتلوا، فهزم القوم وأخذ الحطيئة أسيرا، وطارت عبس وبنو بكر. فأقام أبو بكر على الأبرق أيّاما وقد غلب بنى ذبيان على البلاد، وقال:
« حرام على بنى ذبيان البلاد أن يطأوها بعد أن غنّمناها الله. »
فلمّا غلب أهل الردّة ودخلوا فيما خرجوا منه، جاءت بنو ثعلبة ومن كان ينازلهم. فمنعوا منها فأتوه في المدينة فقالوا:
« علام نمنع من لزوم بلادنا؟ » فقال: « كذبتم، ليست لكم ببلاد. »
عقد أحد عشر لواء لمحاربة أهل الردة
ثم حمى بلاد الربذة كلّها لصدقات المسلمين وجاءت الصدقات الكثيرة. فلمّا أراح أسامة وجنوده ظهورهم وجمّوا، عقد أبو بكر أحد عشر لواء وقطع عليها البعوث: عقد لخالد بن الوليد وأمره بطليحة بن خويلد، فإذا فرغ منه سار إلى مالك بن نويرة بالبطاح إن قام له، وعقد لعكرمة بن أبي جهل وأمره بمسيلمة، وعقد للمهاجر بن أبي أمية وأمره بجنود الأسود العنسي ومعونة الأبناء على قيس بن المكشوح ومن أعانه من اليمن عليهم، ثم يمضى إلى كندة بحضرموت، وعقد لخالد بن سعيد بن العاص وكان قدم من اليمن، وترك عمله، ولعمرو بن العاص إلى جمّاع قضاعة ووديعة والحارث، ولحذيفة بن محصن، وأمره بأهل دبا، ولعرفجة بن هرثمة، وأمره بمهرة، ولشرحبيل بن حسنة على قضاعة، ولطريفة بن حاجز، وأمره ببني سليم وهوازن، ولسويد بن مقرّن وأمره بتهامة اليمن، وللعلاء بن الحضرمي، وأمره بالبحرين.
ففصل الأمر من ذي القصّة وقد كتب لهم عهدهم، فلحق بكلّ أمير جنده.
-
وكتب إلى جميع المرتدّة كتبا بليغة بالإعذار والإنذار والترغيب والترهيب، ونفذت الرسل أمام الجنود بالكتب ونفذ خالد إلى طليحة، فهزمه وفضّ خيله.
وكان طليحة ارتدّ في حياة رسول الله http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png وادعى النبوّة. فوجه النبي http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png ضرار بن الأزور عاملا على بنى أسد وأمرهم بالقيام في ذلك على كلّ من ارتدّ فأشجوا طليحة وأخافوا ونقص أمره، حتى لم يبق إلّا أخذه سلما. سوى أنّه كان ضرب ضربة بالجراز، فنبا عنه. فشاعت في الناس وأتى المسلمين - وهم على ذلك - موت نبيهم. وقال ناس: « إنّ السلاح لا يعمل في طليحة. » فقوي أمره ونقص أمر المسلمين لذلك، حتى إنّهم قالوا عرفنا ذلك في أنفسنا يوم ورد علينا الخبر بوفاة رسول الله http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png.
وقام عيينة بن حصين بنصره، وقام في غطفان فقال: « ما أعرف حدود غطفان منذ انقطع ما بيننا وبين بنى أسد، وإني مجدّد الحلف الذي كان بيننا في الجاهلية، ومتابع طليحة، والله لأن نتبع نبيا من الحليفين أحبّ إلينا من أن نتبع نبيا من قريش. » وقد مات رسول الله http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png وبقي طليحة، فطابقوه على رأيه. فلمّا قوى أمر طليحة واستفحل، هرب ضرار وأصحاب النبي http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png وطاروا كلّ مطار.
قال ضرار بن الأزور: « فما رأيت أحدا - ليس رسول الله - أملأ لحرب شعواء من أبي بكر، لجعلنا نخبره ولكأنّما نخبره بما له، لا عليه. »
صرامة عمر وحصافته في هذا الوقت
ومما ظهر من عمر - رضي الله عنه - في هذا الوقت صرامة وحصافة: أنّ عمرو بن العاص كان بعمان. فلمّا مات رسول الله http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png أقبل حتى انتهى إلى البحرين، وسار في بنى تميم، وفي بنى عامر، حتى قدم المدينة، فأطافت به قريش وسألوه. فأخبرهم أنّ العساكر معسكرة من دبا إلى حيث انتهيت إليكم. وأخبرهم من اضطراب الإسلام وقوّة الأعداء ما كسرهم. فتفرّقوا وتحلّقوا حلقا. وأقبل عمر بن الخطاب يريد التسليم على عمرو. فمرّ بحلقة وهم في شيء مما سمعوا من عمرو، وفي تلك الحلقة عثمان وعليّ وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد. فلمّا دنا عمر منهم سكتوا.
فقال عمر: « فيم أنتم؟ » فلم يخبروه، فقال: « ما أعلمني بالذي خلوتم له. » فغضب طلحة وقال: « يا ابن الخطاب أتخبرنا بالغيب؟ » فقال: « لا يعلم الغيب إلّا الله، ولكن أظنّ أنكم قلتم: ما أخوفنا على قريش، من العرب وأخلقهم ألّا يقرّوا بهذا الأمر. » قالوا: « صدقت. » قال: « فلا تخافوا هذه المنزلة. أنا والله منكم على العرب أخوف مني عليكم من العرب، والله لو تدخلون معاشر قريش جحرا لدخلته العرب في آثاركم. فاتقوا الله فيهم. » ثم مضى عمر إلى أبي بكر واجتمع مع عمرو.
إسلام طليحة بعد ارتداده وادعائه النبوة
فأمّا طليحة، فإنّه لما هزم أصحابه، هرب حتى نزل على كعب على النقع.
فأسلم، ولم يزل مقيما في كلب حتى مات أبو بكر. وإنّما أسلم هنالك حتى بلغه أنّ أسدا وغطفان وعامرا قد أسلموا. فلمّا مات أبو بكر، أتى عمر للبيعة، فقال له عمر: « أنت قاتل عكاشة وثابت، والله لا أحبّك أبدا. » فقال يا أمير المؤمنين، ما تنقم عليّ من رجلين أكرمهما الله بيدي ولم يهنّى بأيديهما. » فبايعه عمر. ثم قال له خريم: « ما بقي من كهانتك؟ » قال: « نفخة أو نفختان بالكير. » ثم رجع إلى دار قومه، وأقام بها حتى خرج إلى العراق.
ولما أعطى أهل بزاخة من أسد وغطفان وطيئ بأيديهم على الإسلام، لم يقبل خالد من أحد منهم ولا من هوازن وسليم، إلّا على أن يأتوا بالذين حرقوا ومثّلوا وعدوا على أهل الإسلام في حال ردّتهم. فأتوه بهم، فقتل منهم إلّا قرّة بن هبيرة ونفرا معه أو ثقتهم، ومثّل بالذين مثّلوا بالمسلمين، وأحرقهم بالنيران، ورضخهم بالحجارة، ورمى بهم من الجبال، ونكّسهم في الآبار، وخرق بعضهم بالنبال، وكتب بخبرهم وما صنع، إلى أبي بكر.
فكتب إليه أبو بكر:
« ليزدك الله ما أنعم به عليك خيرا، فاتق الله، ولا تظفرنّ بأحد قتل المسلمين إلّا قتلته ونكلت به غيره، وإن كنت أحييت ممّن حادّ الله وضادّه فاقتله. » فأقام خالد شهرا على بزاخة يصعّد ويصوّب ويرجع في طلب القوم، فمنهم من يحرق، ومنهم من يرضخه، ومنهم من يرمى به من الجبل.
مكيدة للفجاءة تمت عليه
وقدم الفجاءة بن إياس بن عبد ياليل على أبي بكر، فقال:
« أعنّى بسلاح، ومرني بما شئت، ومن شئت من أهل البادية. » فأعطاه سلاحا، وأمَره أمْره، فخالفه، وخرج، ونزل الجواء، وبعث نجبة بن أبي الميثاء، وأمره بالمسلمين، فشنّها غارة على كلّ مسلم في سليم وهوازن، وبلغ ذلك أبا بكر، فأرسل إليه من حاربه بالجواء حربا شديدا، فقتل نجبة، وهرب الفجاءة، فلحقه من أسره وبعث به إلى أبي بكر، فأوقد له في مصلّى المدينة حطب كثير، ثم رمى به في النار مقموطا.
-
قتل مسيلمة في حديقة الموت ومكيدة لمجاعة على خالد
ومن وجوه المكائد في الحرب أنّ خالدا لما مضى نحو اليمامة قاصدا مسيلمة، فضرب [ بها ] عسكره، خرج أهل اليمامة مع المسيلمة. ثم التقى الناس، ولم تلقهم حرب قطّ مثلها من حرب العرب. فاقتتل الناس قتالا شديدا حتى انهزم المسلمون، وخاضوا إلى فسطاط خالد، فزال خالد عنه، وأسلم امرأته أمّ تميم، فرعبلوا الفسطاط بالسيوف.
ثم إنّ المسلمين تداعوا وتبرّأوا إلى الله ممن انهزم، وجالدوا حتى قتل زيد بن الخطّاب وعدّة من خيار الناس، وخلصوا إلى محكّم اليمامة، وكان سيّدا فيهم، فقاتل قتالا شديدا حتى قتل، وزحف المسلمون، واشتدّ القتال. فكانت يومئذ سجالا إنّما يكون مرّة على المسلمين، ومرّة على الكافرين. واستحرّ القتال في المهاجرين والأنصار، وثبت مسيلمة، ودارت رحاهم عليه.
فعرف خالد بن الوليد أنّها لا تركد إلّا بقتل مسيلمة، ولم تحفل بنو حنيفة بقتل من قتل منهم. فبرز خالد حتى إذا كان أمام الصفّ دعا إلى البراز، وانتمى وقال: « أنا ابن الوليد العود، أنا ابن عامر وزيد. » فجعل لا يبرز له أحد إلّا حطّمه وقتله. ودارت عليه رحى المسلمين فطحنت.
ثم دنا خالد من مسيلمة، فدعاه مناديا بأعلى صوته ليطلب غرّته، وذلك لما علم أنّ الحرب لا تزول إلّا بزواله، فأجابه مسيلمة. فعرض عليه أشياء مما يشتهى مسيلمة، ثم قال له: « إن قبلنا النصف، فأيّ الأنصاف تعطينا؟ » فكان إذا همّ بجوابه، أعرض عنه مستشيرا شيطانه، فكان شيطانه ينهاه أن يقبل، فأعرض بوجهه مرّة من ذلك، فركبه خالد فأرهقه، فأدبر، وزالوا، فذمر خالد الناس، وقال: « دونكم لا تقيلوهم. »
فاقتحموا حديقة الموت، فاقتحم الناس عليهم، فقتلوا منهم عشرة آلاف، وقتل مسيلمة. قتله وحشيّ بحربته، وأعانه رجل من الأنصار.
وكان خالد ظفر قبل هذه الوقعة بمجّاعة مع نفر معه كانوا خرجوا في سريّة لهم، وكان ظنّ أنّهم استقبلوه. فلمّا سألهم صدقوه. ولو عرفوا خبره لقالوا: إنّما استقبلناك، فسلموا. فعرضهم على السيف، فقتلهم عن آخرهم إلّا مجّاعة، فإنّه استحياه طمعا في الانتفاع به. فلمّا فرغ من قتل مسيلمة وأخبر به أخرج مجّاعة يرسف في الحديد ليدلّه على مسيلمة، فجعل يكشف له القتلى حتى مرّ بمحكّم اليمامة، وكان وسيما حسنا. فلما رآه خالد قال: « هذا صاحبكم؟ » قال: « لا، هذا والله خير منه وأكرم، هذا محكّم اليمامة. » ثم مضى خالد يكشف له القتلى. فإذا رويجل أصفر أخينس، فقال مجّاعة: « هذا صاحبكم، قد فرغتم منه. » فقال خالد لمجّاعة: « هذا فعل بكم ما فعل. » قال: « قد كان ذلك يا خالد، وإنّه والله ما جاءك إلّا سرعان الخيل، وإن الحصون لمملوءة رجالا، فهلّم أصالحك على قومي. » يقول ذلك لرجل قد نهكته الحرب، وأصيب معه من أشراف الناس من أصيب، فقد رقّ، وأحبّ الدعة والصلح.
فقال: « هلمّ أصالحك. » فصالحه على الصفراء والبيضاء والحلقة ونصف السبي.
ثم قال: « فآتى القوم فأعرض عليهم ما قد صنعت. »
قال: « انطلق إليهم. » فذهب وقال للنساء - وليس في الحصون إلّا النساء والصبيان ومن ليس به طرق من الشيوخ: « البسن الحديد، ثم أشرفن على الحصون، وانشرن شعوركنّ. » ثم كرّ نحو خالد وقال: « أبوا ما صالحتك عليه، ولكن صالحني على ربع السبي لأعزم على القوم. » قال خالد: « قد فعلت. » فسرّحه وقال: « أنتم بالخيار ثلاثا، والله لئن لم تتمّوا ولم تقبلوا، لأنهدنّ إليكم، ثم لا أقبل منكم خصلة أبدا إلّا القتل. » فكان خالد إذا نظر إلى الحصون رآها مملوءة الحيطان بالسلاح والسواد، فيراها رجالا وإنّما هي النساء.
فلمّا رجع مجّاعة إليهم قال: « فأمّا الآن فاقبلوا. » ورجع إلى خالد، وقال: « بعد شرّ ما، قبلوا، اكتب كتابك. » فكتب:
« هذا ما قاضى عليه خالد بن الوليد مجّاعة من مرارة وفلانا وفلانا، قاضاهم على الصفراء، والبيضاء، وربع السبي، والحلقة، والكراع، وحائط من كل قرية ومزرعة، على أن تسلموا، ثم أنتم آمنون بأمان الله ولكم ذمّة خالد بن الوليد، وذمّة أبي بكر خليفة رسول الله http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png وذمم المسلمين على الوفاء. »
فلمّا فرغ خالد بن الوليد من هذه الوقعة والصلح، فتحت الحصون، فإذا ليس فيها إلّا النساء والصبيان! فقال خالد لمجّاعة: « ويحك، خدعتني! » قال: « قومي، ولم أستطع إلّا ما صنعت. » ولمّا فرغ خالد من هذه الوقعة أمره أبو بكر بالمسير إلى العراق، وكان ما كان من أمره مع الفرس، ولم أجد في تلك الحروب والوقعات مع عظمها وشدتها موضع حيلة، ولا موقع تدبير تستفاد منه تجربة إلّا اليسير مما سنذكره، وباقيه كلّه جهاد من القوم ونصر من الله واجتهاد من المسلمين، وخذلان للفرس، وانصرام لمدّتهم، وانقضاء لملكهم.
وكان شرطنا في أول الكتاب ألّا نثبت من الأخبار إلّا ما فيه تدبير نافع للمستقبل، أو حيلة تمّت في حرب، أو غيرها، ليكون معتبرا وأدبا لمن يستأنف من الأمر مثله، فلذلك تركنا إثبات هذه الوقائع، وعلى أنّا سنذكر الجمل التي فيها أدنى تنبيه على موضع فائدة، ولأجل ذلك، تركنا ذكر أكثر مغازي رسول الله http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png ووقعاته، لأنّها كلّها توفيق الله ونصره وخذلان أعدائه، ولا تجربة في هذا، ولا تستفاد منه حيلة، ولا تدبير بشريّ.
-
ومن الآراء السديدة ما كان من خالد بالشام يوم اليرموك
وذلك أنّ خالدا افتتح السواد الذي بينه وبين دجلة، وحاز غربيّ دجلة كلّها بوقائع كثيرة وحروب عظيمة، وشغل الفرس عن أمر الملك. فإنّ أردشير بن شيرى مات وقد كان هلك العظماء وأهل بيت كسرى بما أفناهم شيرى، وبغزوات خالد للعظماء، وتفرّغ أبو بكر للشام، وكان أمر خالدا ألّا يقتحم على الفرس، لأنّ مسالح لهم كانت من وراء المسلمين. فخشي أن يؤتوا من ورائهم، وقد كان المسلمون أشرفوا على الهلاك بالشام لكثرة جنود الروم.
فكتب أبو بكر إلى خالد يأمره أن يستخلف على جنده، ويسير في عدد وافر إلى إخوانه المسلمين بالشام. ولما اهتمّ بأمر الشام كتب إلى عمرو بن العاص، وإلى الوليد بن عقبة، وكانا على عمل من الصدقات. أمّا عمرو فكان على صدقات هذيم وعذرة ومن لفّ لفّها. وأمّا الوليد فكان على النصف من صدقات قضاعة. فكتب أبو بكر إليهما يرغّبهما في الجهاد ويخيّرهما بين أعمالهما وما ندبهما إليه، فكتبا بإيثار الجهاد، فكتب أبو بكر بأن يندبا من يليهما، ويستخلفا على أعمالهما.
ثم ندب أبو بكر من كان اجتمع إليه، وقوّى بهم عمرا، وأمّره على فلسطين وأمره بطريق سمّاها له. وولّى الوليد الأردن، وأمدّه ببعض من كان اجتمع إليه.
ودعا يزيد بن أبي سفيان فأمّره على جند عظيم هم جمهور من انتدب له، وفي جنده سهيل بن عمرو، وأشباهه. واستعمل أبا عبيدة وأمّره على حمص مع جند.
وكان قد قدّم خالد سعيد بن العاص، وأمره أن يأتى تيماء، ويقيم بها، فلا تتجاوزها، وينتدب إليه من حوله ويتقوّى به، حتى تأتيه الجنود. وسمى ليزيد بن أبي سفيان دمشق، ولشرحبيل بن حسنة الأردن.
فتوافى الجند أطراف الشام مع الأمراء الأربعة، وهم سبعة وعشرون ألفا. وأمّر أبو بكر معاوية وشرحبيل على ثلاثة آلاف، وكان عكرمة بن أبي جهل ردءا لهم في ستة آلاف. وكان في ثغر الروم أبو عبيدة، فشجى بالروم وكثروا عليه، فكتب إلى أبي بكر يستمدّ، وأمدّهم بخالد بن الوليد من العراق في عشرة آلاف، فكانوا ستة وأربعين ألفا، وكان قتالهم على تساند: كلّ جند وأميرهم، ولا يجمعهم أمير واحد حتى قدم عليهم خالد بن الوليد من العراق.
تدبير حصيف من خالد
فلمّا قدم خالد، وجد الروم في جمع عظيم وقد استمدوا المستعربة ونصارى العرب ومسالح الفرس، فكانوا في مائتي ألف مقاتل على حنق شديد، وهم يقاتلون بنشاط واجتماع. ورأى المسلمين متساندين يقاتل كل قوم مع أميرهم.
فقال لهم: « هل لكم يا معشر الرؤساء في أمر يعزّ الله به الدين، ولا يدخلكم منه نقيصة ولا مكروه؟ » قالوا: « وما ذلك؟ » قال: « إنّ هذا يوم من أيّام الله، لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي، أخلصوا جهادكم وأريدوا الله بعملكم، فإنّ هذا يوم له ما بعده، ولا تقاتلوا قوما على نظام وتعبئة على تساند وانتشار فإنّ ذلك لا ينبغي ولا يحلّ، وإنّ من وراءكم لو يعلم علمكم، حال بينكم وبين هذا. فاعلموا في ما لم تؤمروا به، بالذي ترون أنه الرأي من واليكم ومحبّته. »
قالوا: « هات ما الرأي؟ » قال: « إنّ أبا بكر لم يبعثنا إلّا وهو يرى أنّا سنتياسر، ولو علم بالذي كان ويكون لقد جمعكم. إنّ الذي أنتم فيه أشدّ على المسلمين ممّا غشيهم، وأنفع للمشركين من أمدادهم. ولقد علمت أنّ الدنيا فرّقت بينكم، فالله الله في دينكم، فقد أفرد كلّ رجل ببلد من البلدان لا ينتقصه منه أن دان لأحد من أمراء الجنود، ولا يزيده أن دانوا له.
إنّ تأمير بعضكم لا ينقصكم عند الله ولا عند خليفة رسول الله، هلمّوا، فإنّ هؤلاء قد تهيّئوا، وهذا يوم له ما بعده، إن رددنا القوم إلى خندقهم اليوم لم نزل نردّهم. وإن هزمونا لم نفلح بعدها. فهلمّوا، فلنتعاور الإمارة، فليكن عليها بعضنا اليوم، والآخر غدا، والآخر بعد غد حتى يتأمّر كلّنا. دعوني ألكم اليوم. » فأمّروه وهم يرون أنّها كخرجاتهم قبل قدوم خالد وأنّ الأمر طويل والإمارة تصل إلى كلّ واحد منهم.
فخرجت الروم في تعبئة لا يكون أحسن منها، ولم ير المسلمون مثلها قطّ.
وخرج خالد في تعبئة لم تعبّ مثلها العرب. وذلك أنّه لمّا رأى كثرة عدد الروم، قال:
« إنّه ليس في التعبئة تعبئة أكثر في رأى العين من الكراديس. فجعل القلب كراديس كثيرة، وأقام فيها أبا عبيدة، وجعل الميمنة كراديس، وعليها عمرو بن العاص، وجعل الميسرة كراديس، وعليها يزيد بن أبي سفيان، وجميعها ستّة وثلاثون كردوسا. وفي الجماعة ألف رجل من أصحاب رسول الله http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png فيهم نحو من مائة من أهل بدر. وكان أبو سفيان يدور ويحرّض الناس.
فقال رجل لخالد: « ما أقلّ المسلمين وأكثر الروم! » فقال خالد: « ما أكثر المسلمين وأقلّ الروم، إنّما تكثر الجنود بالنصر، وتقلّ بالخذلان، لا بعدد الرجال. والله، لوددت أنّ الأشقر براء من توجّيه، وأنّهم أضعفوا في العدد. » وكان فرسه قد حفى في مسيره.
ثم أنشب القتال والتحم الناس وتطارد الفرسان. فإنّهم على ذلك، إذ قدم البريد من المدينة. فأخذته الجنود، وسألوه الخبر. فلم يخبرهم إلّا بسلامة، وأخبرهم عن أمداد، وإنّما جاء بموت أبي بكر وتأمير أبي عبيدة، فأبلغوه خالدا، فأخبره الخبر، وأسرّه إليه، وأخبره بما قال للجند، فقال: « أحسنت، فقف. » وأخذ الكتاب، فجعله في كنانته وخاف - إن أظهر ذلك - أن ينتشر أمر الجند.
وجدّ خالد في القتال، وصلى الناس الأولى والعصر إيماء، وتضعضع الروم، ونهد خالد بالقلب، حتى كان بين خيلهم ورجلهم.
وكان موضعهم الذي اختاروه للقتال واسع المطّرد، وضيّق المهرب. فلمّا وجدت خيلهم مهربا ذهبوا وتركوا رجلهم في مصافّهم، وخرجت خيلهم تشتد بهم في الصحراء. ولما رأى المسلمون خيل الروم توجّهت للهرب، أفرجوا لها ولم يحرجوها. فذهبت متفرّقة في البلاد، وأقبل خالد والمسلمون على الرجل، ففضّوهم. فكأنّما هدم بهم حائط، فاقتحموا في خندقهم فاقتحم عليهم فعمدوا إلى الواقوصة حتى هوى فيها المقترنون وغيرهم، فمن صبر من المقترنين للقتال هوى به من جشعت نفسه، فيهوى الواحد بالعشرة لا يطيقونه، كلّما هوى اثنان كانت البقية أضعف. فتهافت في الواقوصة عشرون ومائة ألف إنسان منهم ثمانون ألف مقترن وأربعون ألف مطلق، سوى من قتل في المعركة من الخيل والرجل، وتجلّل أخو ملك الروم وأشراف من أشرافهم برانسهم وقالوا:
« لا نحبّ أن نرى يوم السوء، إذ لم نستطع أن نرى يوم السرور، وإذ لم نستطع أن نمنع النصرانية. » فأصيبوا في تزمّلهم.
وقد كان عكرمة بن أبي جهل في بعض جولات الروم نزل عن فرسه وقال: « قاتلت عن رسول الله http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png في كلّ موطن وأفرّ اليوم! » ثم نادى: « من يبايع على الموت؟ » فبايعه ضرار بن الأزور في أربعمائة من وجوه الناس والفرسان، فقاتلوا قدّام فسطاط خالد، حتى أثبتوا جميعا جراحا، وقتلوا إلّا من برأ ومنهم ضرار.
وقاتل النساء يومئذ وجرحت جويرية بنت أبي سفيان، وكانت مع زوجها، بعد قتال شديد، وكان الأشتر ممن شهد هذا اليوم - وهو اليرموك - فأبلى بلاءا حسنا.
ولمّا فرغ خالد من حرب القوم نعى إلى الناس أبا بكر وقال: « الحمد لله الذي قضى على أبي بكر الموت، وكان أحبّ إليّ من عمر، والحمد لله الذي ولّى عمرو كان أبغض إليّ من أبي بكر، ثم ألزمني طاعته. » وانتهت الهزيمة إلى هرقل وهو دون حمص، وبلغه قتل أخيه مع الصناديد وعامّة الخيل والرجل، فارتحل وصار الأمر لأبي عبيدة.
-
من عجيب ما ركبه خالد
ومن عجيب ما ركبه خالد بن الوليد في سفرته هذه التي خرج فيها من العراق لمعاونة أبي عبيدة على الروم، أنّه: لمّا هزمت الروم خالد بن سعيد بن العاص، وقتلوا ابنه وقتلوا الجيش الذي معه، واجتمعت الروم باليرموك، قالوا:
« والله لنشغلنّ أبا بكر والعرب في أنفسهم عن تورّد بلادنا. » ثم نزلوا الواقوصة مستعلين.
فبلغ ذلك أبا بكر، فقال: « والله لأنسينّ الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد. » فكتب إليه أن: « سر حتى تأتى جموع المسلمين باليرموك، فانّهم قد شجوا بالروم، وإنّه لم يشج الجموع من الناس بعون الله شجاك، ولم ينزع الشجا من الناس نزعك، فلتهنئك - أبا سليمان - النية والحظوة، فأتمم - تمّم الله لك - ولا يدخلنّك عجب فتخسر وتخذل، وإياك أن تدلّ بعمل، فإنّ الله له المنّ وهو وليّ الجزاء، فاستخلف المثنّى بن الحارثة بالعراق، فإذا فتح الله على المسلمين الشام فارجع إلى عملك بالعراق. » فقال خالد: « كيف لي بطريق أخرج فيه من وراء جموع الناس. » فجمع الأدلّاء وأهل الخيرة، فكلّهم قالوا: « لا نعرف إلّا طريقا لا يحمل جيشا، يأخذه الفذّ والراكب. » ونهوه أن يغرّر بالمسلمين. فعزم عليه، ولم يجبه أحد إلّا رافع بن عميرة على تهيّب شديد. فقام فيهم وقال: « يا قوم لا يخلفنّ هديكم، ولا يضعفنّ يقينكم، واعلموا أنّ المؤونة تأتى على قدر النيّة، والأجر على قدر الحسبة. » فأجابه نفر، وقالوا لخالد: « أنت رجل مصنوع لك، فشأنك. » فطابقوه ونووا، واحتسبوا.
فقال لهم رافع: « تروّوا للشفة لخمس. » فظمّأ كلّ قائد من الإبل الشرف الجلال ما يكتفى به، ثم سقوها العلّ بعد النهل، ثم صرّوا آذان الإبل وكعّموها وخلّوا أدبارها.
ثم ركبوا من قراقر مفوّزين إلى سوى وهي إلى جانبها الآخر ممّا يلي الشام. فلما ساروا يوما افتظّوا لكل من الخيل كروش عشر من تلك الإبل فمزجوا ما في كروشها بما كان من الألبان. ثم سقوا الخيل وشربوا للشفة جرعا، فعلوا ذلك أربعة أيّام. فلمّا نزلوا بسوى وخشي أن يفضحهم حرّ الشمس نادى خالد رافعا: « ما عندك يا رافع؟ » قال: « خير، أدركتم الريّ وأنتم على الماء. » وكان يشجعهم وهو متحيّر به رمد.
ثم قال: « أيها الناس، انظروا عليمين كأنّهما ثديان. » فأتوا عليهما وقالوا: « علمان. » فقام عليهما فقال: « اضربوا يمنة ويسرة لعوسجة كقعدة الرجل. » فقالوا: « لا نرى شيئا. » فقال: « إنّا لله، هلكتم وهلكت معكم، انظروا. » فنظروا فوجدوا جذمها، فقالوا: « جذم، ولا نرى شجرة. » فقال: « احتفروا حيث شئتم. » فاستثاروا أوشالا وأحساء رواء. فقال رافع: « أيها الأمير، ما وردت هذا الماء منذ ثلاثين سنة، وما وردته إلّا مرّة وأنا غلام مع أبي. » فانحاز خالد من سوى على مضيّح بهراء، وإنّهم لغارّون وناس منهم يشربون خمرا لهم في جفنة قد اجتمعوا عليها ومغنّيهم يقول:
ألا علّلانى قبل جيش أبي بكر ** لعلّ منايانا قريب وما ندري
أظنّ خيول المسلمين وخالدا ** سيطرقكم قبل الصّباح من البشر
فهل لكم في السّير قبل قتالهم ** وقبل خروج المعصرات من الخدر
فيزعمون أنّ مغنيهم قتل، وسال دمه في الجفنة عند الغارة. وقال شاعر المسلمين:
لله عينا رافع أنّى اهتدى ** فوّز من قراقر إلى سوى
خمسا إذا ما سارها الجيش بكى ** ما سارها قبلك إنسيّ أرى
فلما انتهى خالد إلى سوى أغار على أهله وقد خلّف ثغور الروم وجنودها ممّا يلي العراق، فصار بينهم وبين اليرموك، ثم صمد لهم الطريق حتى صار إلى دمشق، ثم مرج الصفر. فلقى غسّان وعليهم الحارث بن الأيهم، فانتسف عسكرهم وعيالاتهم وبعث بالأخماس إلى أبي بكر، ثم خرج حتى نزل مياه بصرى، فكانت أوّل مدينة فتحها خالد من الشام بمن معه من جنود العراق، فخرج منها فوافى المسلمين بالواقوصة في عشرة آلاف.
ولما تراءى العسكران بعث القيقلار أخو ملك الروم - وهو صاحب الجيش - رجلا عربيّا من قضاعة وقال له: « ادخل في هؤلاء القوم، فأقم فيهم يوما وليلة، ثم ائتني بخبرهم. » فدخل في الناس رجل عربيّ لا ينكر، فأقام فيهم، ثم أتاه.
فقال: « مه، ما وراءك؟ » قال: « هم رهبان بالليل فرسان بالنهار، لو سرق ابن ملكهم قطعوا يده، ولو زنى رجموه إقامة للحدّ. » فقال القيقلار: « لئن كنت صادقا لبطن الأرض خير من لقاء هؤلاء على ظهرها. »