-
تجارب أمم المجلد الرابع
[ تتمة تجارب العصر العباسي ]
[ تتمة خلافة هارون الرشيد ]
والحمد لله واهب العقل
ثم دخلت سنة إحدى وتسعين ومائة
وفيها قوى رافع بن الليث واشتدّت شوكته
وقد ذكرنا قبل هلاك ابن عليّ بن عيسى: ولمّا قتل ابنه، خرج من بلخ حتى أتى مرو، مخافة أن يصير إليها رافع بن الليث فيستولى عليها. وكان ابنه عيسى دفن في بستان داره ببلخ مالا عظيما قيل: إنّه كان ثلاثين ألف ألف درهم، ولم يعلم بها عليّ بن عيسى ولا اطّلع على ذلك إلّا جارية كانت له.
فلمّا شخص عليّ عن بلخ أطلعت الجارية على ذلك بعض الخدم، وتحدّث به الناس، فاجتمع قراء أهل بلخ ووجوهها فدخلوا البستان وانتهبوه وأباحوه للعامّة وبلغ الرشيد الخبر فقال:
« خرج عليّ عن بلخ عن غير أمري وخلّف مثل هذا المال وهو يزعم أنّه قد أفضى إليّ حلى نساءه فيما أنفق على محاربة رافع. » فعزله عند ذلك وولّى هرثمة بن أعين واستصفى أموال عليّ بن عيسى، فبلغت ثمانين ألف ألف. ووردت خزائنه التي أخذت على الرشيد، فكانت على ألف وخمسمائة بعير.
وكان عليّ بن عيسى قد أذلّ جبابرة أهل خراسان وأشرافهم، حتى خرج منهم مثل الحسن بن مصعب إلى مكّة واستجار بالرشيد من عليّ بن عيسى فأجاره، وأظهر مثل هذا هشام بن فرخسروا، أنّ الفالج قد أصابه حتى أمكنه لزوم منزله. وكانت كتب حمويه وردت على هارون: أنّ رافعا لم يخلع ولا نزع السواد ولا من شايعه، وأنّ غايتهم عزل عليّ بن عيسى الذي سامهم المكروه.
ولمّا عزم الرشيد على عزل عليّ بن عيسى دعا هرثمة بن أعين مستخليا به فقال:
« إني لم أشاور فيك أحدا، ولم أطلعه على سرّى فيك غيرك، وقد اضطرب عليّ ثغر المشرق وأنكر أهل خراسان أمر عليّ بن عيسى إذ خالف عهدي ونبذه وراء ظهره، وقد كتب يستمدّ ويستجيش وأنا كاتب إليه فأخبره أنّى أمدّه بك وأوجّه إليه معك من الأموال والسلاح والقوّة والعدّة ما يطمئن إليه قلبه، وتتطلّع إليه نفسه، وأكتب معك كتابا بخطّى فلا تفضّنّه ولا تطلعنّ فيه حتى تصير إلى مدينة نيسابور، فإذا نزلتها فاعمل بما فيه وامتثله، ولا تجاوزه إن شاء الله.
« وأنا موجّه معك رجاء الخادم بكتاب أكتبه إلى عليّ بن عيسى بخطّى ليتعرّف ما يكون منك ومنه ومورّ عنه أمر عليّ فلا تظهرنّه عليه ولا تعلمنّه ما عزمت عليه فيه وتأهّب للمسير واظهر لخاصّتك وعامتك أنّى أوجّهك مددا لعليّ بن عيسى وعونا له. » ثم كتب إلى عليّ بن عيسى كتابا بخطّه نسخته:
« بسم الله الرحمن الرحيم يا ابن الزانية، رفعت من قدرك ونوّهت باسمك وأوطأت سادة العرب عقبك وجعلت أبناء ملوك العجم خولك، وكان من جزائي أن خالفت عهدي ونبذت وراء ظهرك أمري، حتى عشت في الأرض وظلمت الرعيّة وأسخطت الله عز وجل وخليفته بسوء سيرتك ورداءة طعمتك وظاهر خيانتك. وقد ولّيت هرثمة بن أعين مولاي ثغر خراسان وأمرته أن يشدّد وطأته عليك وعلى ولدك وكتّابك وعمّالك ولا يترك وراء ظهورهم درهما واحدا ولا حقّا لمسلم ولا معاهد إلّا أخذكم به، حتى تردّه إلى أهله، فإن أبيت ذلك وأباه ولدك وعمّالك، فله أن يبسط عليكم العذاب ويصبّ عليكم السياط ويحلّ بكم ما يحلّ بمن نكث وغيّر وبدّل وخالف وظلم وتعدّى وغشم، انتقاما لله بادئا، ولخليفته ثانيا، وللمسلمين والمعاهدين ثالثا فلا تعرّض نفسك للّتى لا سوى لها، واخرج ممّا يلزمك طائعا أو مكرها. » وكتب عهد هرثمة بخطّه:
« هذا ما عهد هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى هرثمة بن أعين حين ولّاه ثغر خراسان وأعماله وخراجه. أمره بتقوى الله وطاعته ورعاية أمر الله وموافقته وأن يجعل لكتاب الله إماما في جميع ما هو بسبيله فيحلّ حلاله ويحرّم حرامه ويقف عند متشابهه ويسأل عنه أولى الفقه في دين الله وأولى العلم بكتاب الله أو يردّه إلى إمامه ليريه الله فيه رأيه ويعزم له على رشده.
« وأمره أن يستوثق من الفاسق عليّ بن عيسى وولده وعمّاله وكتّابه وأن يشدّ عليهم وطأته ويحلّ بهم سطوته ويستخرج منهم كلّ مال يصحّ عليهم من خراج أمير المؤمنين وفيء المسلمين، فإذا استنظف ما عندهم وقبلهم، نظر في حقوق المسلمين والمعاهدين وأخذهم بحقّ كلّ ذي حقّ، حتى يردّوه إليه، فإن ثبت قبلهم حقّ لأمير المؤمنين وحقوق للمسلمين فدافعوا بها أو جحدوها، أن يصبّ عليهم سوط عذاب الله وأليم نقمته، حتى يبلغ بهم الحال التي أن تخطّاها بأدنى أدب، تلفت أنفسهم وبطلت أرواحهم. فإذا خرجوا من حقّ كلّ ذي حقّ أشخصهم كما يشخص العصاة من خشونة الوطأ وخشونة المطعم والمشرب وغلظ الملبس مع الثقات من أصحابه إلى باب أمير المؤمنين إن شاء الله.
« فاعمل يا أبا حاتم بما عهدت إليك فإني آثرت الله وديني على هواى وإرادتى فكن كذلك وعليه فليكن عملك وأمرك ودبّر في أعمال الكور التي تمرّ بها وعمّالها في صعودك بما لا يستوحشون معه إلى أمر يريبهم وظنّ يرعبهم وابسط من آمال أهل ذلك الثغر ومن أمانيهم وعذرهم ثم اعمل بما يرضى الله فيك وخليفته ومن ولّاك الله أمره إن شاء الله.
« هذا عهدي وكتابي بخطّى وأنا أشهد الله وملائكته وحملة عرشه وسكّان سماواته وكفى بالله شهيدا. وكتب أمير المؤمنين بخطّه ولم يحضره إلّا الله وملائكته. » ثم أمر أن تكتب كتب هرثمة إلى عليّ بن عيسى في معاونته وتقويته وتقوية أمره والشدّ على يديه، فكتبت وظهر الأمر بها.
-
ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين ومائة
وفيها شخص هرثمة بن أعين إلى خراسان واليا عليها
وكان ذلك في اليوم السادس من اليوم الذي كتب له الرشيد عهده، وشيّعه الرشيد وأوصاه بما احتاج إليه. فمضى وبعث إلى عليّ بن عيسى في الظاهر أموالا وسلاحا وخلعا وطيبا، حتى إذا نزل نيسابور جمع جماعة من نصحاء أصحابه وأولى السنّ والتجربة منهم فدعا كلّ رجل منهم، سرّا وخلا به، ثم أخذ عليهم العهود والمواثيق أن يكتموا أمره ويطووا سرّه. وولّى كلّ رجل كورة على نحو ما كانت منزلته عنده، وأمر كلّ رجل منهم بعد أن دفع إليه عهده بالمصير إلى عمله الذي ولّاه على أخفى الحالات وأسترها والتشبّه بالمجتازين في ورودهم إلى الوقت الذي سمّاه لهم. ثم مضى حتى إذا صار من مرو على مرحلة، دعا جماعة من ثقات أصحابه وكتب لهم أسماء ولد عليّ بن عيسى وأهل بيته وكتّابه وغيرهم في رقاع، ودفع إلى كلّ رجل منهم رقعة باسم من وكّله بحفظه إذا هو دخل عليه مرو، خوفا من أن يهربوا إذا ظهر أمره.
ثم وجّه إلى عليّ بن عيسى: إن أحبّ الأمير - أكرمه الله - أن يوجّه ثقاته لقبض ما معي من أمواله فعل فإنّه إذا تقدّمنى المال كان أروح لقلبي وأفتّ في عضد أعدائه وأجدر ألّا يشيع به الخبر. وأيضا فإني لا آمن عليه إن خلّفته وراء ظهري أن يطمع فيه بعض من شئموا نفسه أن يقتطع بعضه ويغتنم غفلتنا عند دخول المدينة.
فوجّه عليّ بن عيسى جهابذته وقهارمته لقبض المال وقال هرثمة لخزّانه:
« اشغلوهم هذه الليلة وأعلّوا عليهم بعلّة تقرب من أطماعهم وتزيل الشكّ عن قلوبهم. » ففعلوا وقال لهم الخزّان: حتى نؤامر أبا حاتم في دوابّ المال والبغال.
ثم ارتحل نحو مدينة مرو، فلمّا صار منها على ميلين تلقّاه عليّ بن عيسى في ولده وأهل بيته وقوّاده بأحسن لقاء وآنسه. فلمّا وقعت عين هرثمة عليه، ثنى رجله لينزل عن دابّته فصاح به عليّ:
« والله لئن نزلت لأنزلنّ. » فثبت على سرجه ودنا كلّ واحد من صاحبه فاعتنقا وسارا وعليّ يسأل هرثمة عن أمر الرشيد وحاله وهيأته وحال خاصّته وقوّاده وأنصار دولته، وهرثمة يجيبه حتى إذا صار إلى قنطرة لا يجوزها إلّا فارس. فحبس هرثمة لجام دابّته وقال لعليّ:
« سر على بركة الله. » فقال عليّ:
« لا والله لا أفعل حتى تمضى أنت. »
فقال: « إذا والله لا أمضى وأنت الأمير وأنا الوزير. » فمضى وتبعه هرثمة حتى دخلا مرو، وصار إلى منزل عليّ ورجاء الخادم ما يفارق هرثمة في ليل ولا نهار ولا ركوب ولا جلوس. فدعا عليّ بالغداء فطعما، وأكل رجاء الخادم معهما، وكان عازما ألّا يأكل معهما. فغمزه هرثمة فلمّا رفع الطعام قال له عليّ:
« قد أمرت أن يفرّغ لك قصر على الماشان فإن رأيت أن تصير إليه فعلت. » فقال له هرثمة:
« إنّ معي من الأمور ما لا يحتمل تأخير المناظرة فيها. » ثم أومأ إلى رجاء وقال:
« ادفع الكتاب إليه. » فأخرج رجاء كتاب الرشيد فدفعه إليه وأبلغه رسالته. فلمّا فضّ الكتاب فنظر في أوّل حرف فيه، سقط في يده وعلم أن قد حلّ به ما يحذره. ثم أمر هرثمة بتقييده وتقييد ولده وكتّابه وعمّاله، وقد كان حصّل عنده ثقاته وجهابذته وخزّانه، ووكّل بهم - كما حكينا - قبل دخوله مرو، وكان معه رجل يصحبه وقر قيود وأغلال فلمّا استوثق منه صار إلى المسجد، الجامع فخطب وبسط من آمال الناس وأخبر أنّ أمير المؤمنين ولّاه ثغورهم لمّا انتهى إليه من سوء سيرة الفاسق عليّ بن عيسى، وما أمرنى به وفي أعوانه من كلّ ما سأنتهى إليه، ومن إنصاف العامّة والخاصّة وحملهم على الحقّ، وأمر بقراءة عهده عليهم. فأظهر الناس السرور بذلك وانفسحت آمالهم وعظم رجاؤهم وعلت بالتكبير والتهليل أصواتهم وكثر الدعاء لأمير المؤمنين بالبقاء وحسن الجزاء.
ثم انصرف ودعا بعليّ بن عيسى وولده وعمّاله وكتّابه فقال:
« اكفوني مؤنكم واعفونى من الإقدام بالمكروه عليكم. » ونادى في أصحاب ودائعهم ببراءة الذمّة من رجل كانت لعليّ عنده وديعة، ولأحد من ولده أو كتّابه أو عمّاله فأخفاها ولم يظهر عليها، فأحضره الناس ما كانوا أودعوا إلّا رجلا من أهل مرو، وكان من أبناء المجوس، فإنّه لم يزل يتلطّف للوصول إلى عليّ حتى صار إليه فأسرّ إليه وقال:
« لك عندي مال فإن احتجت إليه حملت إليك أوّلا أوّلا وصبرت للقتل إيثارا للوفاء وطلبا للجميل من الثناء، وإن استغنيت عنه، حبسته عليك حتى ترى فيه رأيك. » فعجب عليّ منه وقال:
« لو اصطنعت مثلك قوما ما طمع فيّ السلطان ولا الشيطان أبدا. » ثم سأل عن قيمة ما عنده. فذكر أنّه أودعه مالا وثيابا ومسكا، وأنّه لا يدرى ما قيمة ذلك، غير أنّ ما أودعه بخطّه وأنّه محفوظ لم يشذّ منه شيء فقال له:
« دعه فإن ظهر عليه، سلّمته ونجوت بنفسك وإن سلمت به رأيت فيه رأيي. » وجزاه الخير وشكر له فعله ذلك أحسن شكر، وكافأه عليه وبرّه. وكان يضرب به المثل وبوفائه. فذكر أنّه لم يشذّ على هرثمة من مال عليّ بن عيسى إلّا ما كان أودعه هذا الرجل، وكان يقال له: العلاء بن ماهيار، فاستنظف هرثمة ما وراء ظهورهم حتى حليّ نسائهم وحتى أنّ الرجل كان يضرب يده إلى مغابن المرأة وأرفاغها، فيطلب فيها ما يظنّ أنها قد سترته.
فلمّا أحكم هذا كلّه وجّهه على بعير لا وطاء تحته، في عنقه سلسلة وفي رجليه قيود ثقال، ما يقدر معها على نهوض واعتمال. ويقال أنّه لمّا فرغ هرثمة من مطالبة عليّ بن عيسى وأولاده، أقامهم لمظالم الناس، وكان إذا برد للرجل عليه حقّ أو على أحد أولاده أو أصحابه قال:
« اخرج للرجل من حقّه وإلّا بسطت عليك العذاب، فيقول عليّ: أصلح الله الأمير أجّلنى يوما أو يومين. فيقول: ذاك إلى صاحب الحقّ، فإن شاء فعل. فيقبل على الرجل فيقول: أترى أن تدعه؟ فإن قال: نعم قال:
فانصرف وعد إليه. فيبعث عليّ إلى العلاء بن ماهيار فيقول: صالح فلانا عني من كذا وكذا على كذا وكذا وعلى ما رأيت فيصالحه ويصلح أمره.
وذكر أنّه قام إلى هرثمة رجل فقال:
« أصلح الله الأمير إنّ هذا الفاجر أخذ مني درقة تبتية لم يملك أحد مثلها، فاشتراها على كره مني ولم أرد بيعها بثلاثة آلاف درهم، فأتيت قهرمانه أطلب ثمنها فلم يعطني، فأقمت حولا أنتظر ركوبه، فلمّا ركب عرضت له وصحت: أيّها الأمير، أنا صاحب الدّرقة ولم آخذ لها ثمنا إلى هذه الغاية. فقذف أمي ولم يعطني حقّى، فخذ لي بحقّى من ماله وقذفه أمي. » فقال: « بيّنة؟ » قال: « جماعة حضروا كلامه. » فأحضرهم فشهدوا على دعواه. فقال هرثمة:
-
« وجب عليك الحدّ. » قال: « ولم؟ » قال: « بقذفك أمّ هذا. » قال: « من فهّمك وعلّمك هذا؟ » قال: « هذا دين المسلمين. » قال: « فأشهد أنّ أمير المؤمنين قد قذفك غير مرّة ولا مرتين وأشهد أنّك قد قذفت بنيك ما لا أحصى، مرّة حاتما ومرّة أعين، فمن يأخذ لهؤلاء بحدودهم منك، ومن يأخذ من مولاك؟ » قال: فالتفت هرثمة إلى صاحب الدرقة فقال:
« أرى لك أن تطالب هذا الشيطان بدرقتك أو ثمنها، وتترك مطالبته بقذف أمّك. »
ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين ومائة
وفيها قدم هارون من الرقّة إلى مدينة السلام في السفن يريد الشخوص إلى خراسان لحرب رافع واستخلف ابنه محمّدا بمدينة السلام واستخلف ابنه القاسم بالرقّة وضمّ إليه خزيمة بن خازم فأشار ذو الرئاستين على المأمون أن يطلب إلى الرشيد في أن يشخصه معه.
ذكر رأي سديد رءاه ذو الرئاستين
قال له: إنّ أمير المؤمنين شاخص لحرب رافع ولا يدرى ما يحدث به وخراسان ولايتك ومحمّد المقدم عليك وإنّ أحسن ما يصنع بك أن يخلعك وهو ابن زبيدة وأخواله بنو هاشم وزبيدة وأموالها [ ردء له. ] فاطلب إليه يشخصك معه فسأله الأذن فأبى فقال له:
« عد إليه وقل: له أنت عليل وإنّما أردت أن أخدمك ولست أكلّفك شيئا من مؤنى. » فأذن له.
ذكر منام عجيب رءاه الرشيد
قال جبرائيل بن بختيشوع: كنت مع الرشيد بالرقّة، وكنت أوّل من يدخل عليه في كلّ غداة أتعرّف حاله في ليلته، فإن أنكر شيئا وصفه، وربّما انبسط فحدّثني بما عمله في ليلته ومقدار شربه وجلوسه، ويسألنى عن أخبار العامّة. فدخلت يوما فلم يرفع طرفه إليّ، ورأيته مفكّرا مهموما، فوقفت بين يديه مليّا. فلمّا طال ذلك أقدمت عليه فقلت:
« يا أمير المؤمنين جعلني الله فداءك، ما حالك؟ أعلّة فأخبرني بها فلعلّ عندي دواءها، أو حادث لا يستطاع دفعه فليس إلّا التسليم، والغمّ لا درك فيه أو فتق ورد عليك في ملكك، فلم تخل الملوك من ذلك فتروّح بالمشورة. » قال: « ويحك يا جبرائيل ليس غمّى لشيء ممّا ذكرت، لكن لرؤيا رأيتها في ليلتي هذه قد أفزعتنى وملأت صدري. » قلت: « فرّجت عني يا أمير المؤمنين. » فدنوت وقبّلت رجله وقلت:
« أهذا الغمّ كلّه لرؤيا؟ والرؤيا إنّما تكون من خاطر تقدم أو بخارات رديئة من أطعمة وأخلاط ومن تهاويل السوداء. » قال: « فأقصّها عليك: رأيت كأنّى جالس على سريري هذا، إذ بدت من تحتي ذراع أعرفها وكفّ أعرفها ولا أفهم اسم صاحبها، وفي الكفّ تربة حمراء. فقال لي قائل أسمعه ولا أرى شخصه:
« هذه التربة التي تدفن فيها. » فقلت: « وأين هي؟ » قال: « بطوس. وغابت اليد وانقطع الكلام وانتبهت. » فقلت: « يا سيّدي هذه والله رؤيا بعيدة ملتبسة، أظنّك أخذت مضجعك ففكّرت في أمر خراسان وفي حروبها وما ورد عليك من انتقاض بعضها. » قال: « قد كان ذاك. » قلت: « فذلك الفكر ولّد هذه الرؤيا، ولا تحفل بها جعلني الله فداءك وأتبع هذا الهمّ سرورا يخرجه من قلبك لا يولّد علّة. » قال: فما برحت أطيّب نفسه بضروب من الحيل حتى سلا وانبسط وأمر بإعداد ما يشتهيه وتزيّد في ذلك اليوم في لهوه ومرّت الأيّام فنسي ونسينا تلك الرؤيا.
ثم رحل الرشيد وكان اتهم هرثمة بن أعين فوجّه ابنه المأمون قبل وفاته بثلاث وعشرين ليلة ومعه عبد الله بن مالك ويحيى بن معاذ وأسد بن يزيد بن مزيد وجماعة أمثالهم وابتدأ بهارون المرض وكانت بين هرثمة وأصحاب رافع وقعة فتح فيها بخارى وأسر أخا لرافع يقال له بشير بن الليث فبعث به إلى الرشيد وقد بلغ الرشيد طوس.
قال: فأدخل إليه وهو على سرير في بستان وفي يده مرآة ينظر فيها وهو يقول:
« إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ » وكأنّه كان أنكر شيئا من لونه. ثم رفع رأسه إلى أخي رافع وقال:
« أما والله يا ابن اللخناء إني لأرجو ألّا يفوتني خامل يريد رافعا كما لم تفتني. » فقال له:
« يا أمير المؤمنين قد كنت لك حربا وقد أظفرك الله بي، فافعل ما يحبّ الله من الصلح والعفو، فلعلّ الله أن يليّن قلب رافع إذا علم أنّك قد مننت عليّ. » فغضب وقال:
« لو لم يبق من أجلى إلّا أن أحرّك شفتي بكلمة لقلت: اقتلوه. » ثم دعا بقصّاب فقال له:
« لا تشحذ مديتك، اتركها على حالها وفصّل أعضاء هذا الفاسق وعجّل، لا يحضرنّ أجلى وعضوان من أعضائه في جسمه. » ففصّله حتى جعله أشلاء فقال:
« عدّوا أعضائه. » فإذا هي أربعة عشر عضوا فرفع يديه إلى السماء وقال:
« اللهم كما مكّنتنى من ثأرك وعدوّك فبلغت فيه رضاك، فمكّنى من أخيه. »
ثم أغمى عليه وتفرّق من حضره.
قال جبرائيل: فلمّا أفاق، ذكر تلك الرؤيا فوثب متحاملا يقوم ويسقط فاستمعنا إليه، كلّ يقول:
« يا سيّدي ما حالك وما دهاك؟ » وليس يخطر لأحد منّا تلك الرؤيا ببال فقال:
« يا جبرائيل تذكر رؤياى بالرقّة في طوس؟ هذه طوس، وأحسبها تلك التربة. » ثم رفع رأسه إلى مسرور فقال:
« جئني من تربة هذا البستان. » فمضى مسرور فأتى بالتربة في كفّه حاسرا عن ذراعه. فلمّا نظر إليه قال:
« هذه والله الذراع التي رأيتها في منامي وهذه والله الكفّ بعينها وهذه والله التربة الحمراء ما حرمت شيئا. » وأقبل على البكاء والنحيب. ثم مات بعد ثالثة، ودفن في ذلك البستان.
وتحدّث سهل بن صاعد قال: كنت عند الرشيد في اليوم الذي قبض فيه، مع خواصّه، وجعل يجود بنفسه ويقاسى كرب الموت، فدعا بملحفة فاحتبى بها، فنهضت فقال لي:
« أقعد يا سهل. » فقعدت، وجعل لا يكلّمني والملحفة تنحلّ فيعيد الاحتباء بها. فلمّا طال جلوسي نهضت فقال:
-
« إلى أين يا سهل؟ » فقلت: « يا أمير المؤمنين ما يتسع قلبي أن أراك تعانى، من العلّة ما تعانى فلو اضطجعت يا أمير المؤمنين كان أودع لك. » قال: فضحك ضحك صحيح، ثم قال:
« يا سهل، إني أذكر في هذه الحال قول الشاعر:
وإني لمن قوم كرام تزيدهم ** شماسا وصبرا شدّة الحدثان
وتوفّى ليلة الأحد غرّة جمادى الأولى، فكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنة وشهرين، وكان سنّه سبعا وأربعين سنة وخمسة أشهر وأيّام، وكان جميلا وسيما جعدا قد وخطه الشيب.
ذكر بعض سيرة الرشيد ومستحسن أخباره
ذكر عن يحيى بن خالد أنّه ولّى رجلا بعض أعمال الخراج بالسواد، فدخل إلى الرشيد فودّعه وعنده يحيى وجعفر بن يحيى. فقال الرشيد ليحيى وجعفر:
« أوصياه. » فقال له يحيى: « وفّر واعمر. » وقال له جعفر: « أنصف وانتصف. » فقال له الرشيد: « اعدل واحمل. » وحكى بعض حجبة البيت، قال: لمّا حجّ الرشيد دخل الكعبة وقام على أصابعه وقال:
« يا من يملك حوائج السائلين، ويعلم ضمير الصامتين، فإنّ لكلّ مسألة منك ردّا حاضرا وجوابا عتيدا، ولكلّ صامت منك علم محيط باطن بمواعيدك الصادقة، وأياديك الفاضلة، ورحمتك الواسعة، صلّ على محمد وآله، واغفر لنا ذنوبنا وكفّر عنّا سيئاتنا، يا من لا تضرّه الذنوب ولا تخفى عليه العيوب ولا تنقصه مغفرة الخطايا. يا من خشعت له الأصوات بألوان اللغات، يسألونك الحاجات، إنّ من حاجتي إليك أن تغفر لي إذا توفّيتنى وصرت في لحدي، وتفرّق عني أهلى وولدي.
اللهم لك الحمد حمدا يفضل كلّ حمد كفضلك على جميع الخلق. اللهم صلّ على محمّد صلاة تكون له رضى، وصلّ على محمد صلاة تكون له حرزا، واجزه عنّا الجزاء الأوفى. اللهم أحينا سعداء وتوفّنا شهداء واجعلنا سعداء مرزوقين ولا تجعلنا أشقياء محرومين. » وذكر الفضل بن الربيع أنّ الرشيد أمره أن يحضر ابن السمّاك ليعظه قال: وأحضرته واستأذنته في الدخول إليه فقال:
« أدخله. » فلّما دخل قال له:
« عظني. » قال: « يا أمير المؤمنين، اتقّ الله وحده لا شريك له واعلم أنّك موقوف غدا بين يدي ربّك، ثم مصروف إلى إحدى منزلتين لا ثالث لهما: جنّة أو نار. » فبكى هارون حتى اخضلّت لحيته.
فأقبل الفضل على ابن السمّاك فقال:
« سبحان الله وهل يتخالج أحدا شكّ أنّ أمير المؤمنين مصروف إلى الجنّة، إن شاء الله، لقيامه بحقّ الله وعدله في عباده وفعله. » قال: فلم يحفل بذلك ابن السمّاك ولم يلتفت إليه، وأقبل على الرشيد فقال:
« يا أمير المؤمنين إنّ هذا - يعنى الفضل بن الربيع - ليس والله معك ولا عندك في ذلك اليوم، فاتّق الله وانظر لنفسك. » قال: فبكى هارون حتى أشفقنا عليه، وافحم الفضل فلم ينطق بحرف.
واستدعاه يوما آخر، فبينا هو عنده إذ استسقى الرشيد ماء فلمّا حمل إليه وأهوى بالاناء إلى فيه، قال له ابن السمّاك:
« على رسلك يا أمير المؤمنين، بقرابتك من رسول الله http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png، لو منعت هذه الشربة بكم كنت تشترى؟ » قال: « بنصف ملكي. » قال: « اشرب هنّأك الله. » فلمّا شربها قال:
« فأسألك بقرابتك من رسول الله http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png لو منعت خروجها من بدنك بما ذا كنت تشتريها؟ » قال: « بجميع ملكي. » قال ابن السمّاك:
« إن ملكا قيمته شربة ماء لجدير أن لا ينافس فيه. »
فبكى هارون حتى أشار الفضل إلى ابن السمّاك بالانصراف، فانصرف.
وذكر بعضهم أنّهم كانوا مع الرشيد بالرقّة، فخرج يوما إلى الصيد، فعرض له رجل من النسّاك، فقال:
« يا هارون اتق الله. » فقال لإبراهيم بن عثمان بن نهيك:
« خذ هذا الرجل إليك حتى أنصرف. » فلمّا رجع دعا بغذائه، ثم أمر أن يطعم الرجل من خاصّ طعامه.
فلمّا أكل وشرب دعا به فقال:
« يا هذا أنصفنى في المخاطبة والمسألة. » قال: « ذاك أقلّ ما تحبّ. » قال: « فأخبرني أنا شرّ وأخبث أم فرعون؟ » قال: « بل فرعون. » قال، قال:
« أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى. » وقال: « ما عَلِمْتُ لَكُمْ من إِلهٍ غَيْرِي. » قال: « صدقت. » قال: « فأخبرني، فمن خير، أنت أم موسى بن عمران؟ » قال: « موسى بن عمران كليم الله وصفيّه اصطنعه لنفسه وائتمنه على خلقه. »
قال: « صدقت أفما تعلم أنّه لمّا بعثه الله وأخاه إلى فرعون قال لهما:
فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا. فذكر المفسرون أنّه أمرهما أن يكنّياه، وهذا وهو في عتوّه وجبريّته على ما قد علمت، وأنا بهذه الحال الذي علمت، أؤدّى أكثر فرائض الله عليّ ولا أعبد أحدا سواه أقف عند أكثر حدوده وأمره ونهيه، فوعظتني بأغلظ الألفاظ وأبشعها وأخشن الكلام وأفظعه، فلا بأدب الله تأدّبت ولا بأخلاق الصالحين أخذت، فما كان يؤمنك أن أسطو بك، فإذا أنت قد عرضت نفسك لما كنت عنه غنيّا. » فقال له الزاهد:
« أخطأت يا أمير المؤمنين وأنا أستغفر الله. » قال: « غفر الله لك. » وأمر له بعشرين ألف درهم، فأبى أن يأخذها وقال:
« لا حاجة لي في المال، أنا رجل سائح. » فقال هرثمة وزجره:
« تردّ على أمير المؤمنين، يا جاهل، صلته؟ » فقال الرشيد:
« أمسك عنه. » ثم قال له:
« لم نعطك هذا المال لحاجتك إليه، ولكن من عادتنا ألّا يخاطب أحد الخليفة ليس من أوليائه ولا من أعدائه، إلّا وصله ومنحه، فاقبل من صلتنا ما شئت وضعها حيث أحببت. » فأخذ من المال ألفى درهم وفرّقها على الحجّاب ومن حضر بالباب.
وحكى أنّ الرشيد قال يوما لابنه القاسم وقد دخل عليه:
« ليت للمأمون بعض لحمك هذا. » فقال: ببعض حظّه.
وقال يوما للقاسم قبل البيعة له:
« قد أوصيت بك الأمين والمأمون. » قال: « أما أنت يا أمير المؤمنين، فقد تولّيت النظر لهما، ووكّلت النظر لي إلى غيرك. » ومات هارون وفي بيت المال تسعمائة ألف ألف آلاف ونيّف.
خلافة الأمين
وكتب حمّويه مولى المهدي صاحب البريد بطوس إلى سلام مولاه وخليفته ببغداد على البريد وعلى الاخبار، يعلمه وفاة الرشيد. فدخل على محمد فعزّاه وهنّأه بالخلافة، وكان أوّل الناس فعل ذلك. ثم قدم عليه رجاء الخصّى يوم الأربعاء لأربع عشرة خلت من جمادى الآخرة وكان أنفذه صالح بن الرشيد، فانتقل محمد من قصره بالخلد إلى قصر أبي جعفر بالمدينة، وأمر الناس بالحضور ليوم الجمعة، فحضروا وصلّى بهم، ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ونعى الرشيد وعزّى نفسه والناس، ووعدهم خيرا وبسط الأمان للأسود والأبيض، وبايعه جلّة أهل بيته وخاصّته ومواليه وقوّاده.
ثم دخل ووكّل ببيعته على من بقي منهم عمّه سليمان بن أبي جعفر.
-
بدء الخلاف بين الأمين والمأمون
وفي هذه السنة كان بدأ الخلاف بين الأمين والمأمون وعزم كلّ واحد منهما بالخلاف على صاحبه فيما كان والدهما هارون أخذ عليهم العمل به في الكتاب الذي ذكرناه أنّه كان كتب بينهما.
ذكر السبب الذي أوجب اختلافهما
كان الرشيد جدّد حين شخص إلى خراسان البيعة للمأمون على القوّاد الذين معه وأشهد من معه من القوّاد وسائر الناس غيرهم أنّ جميع من معه من القوّاد والجند مضمومون إلى المأمون وأنّ جميع ما معه من مال وسلاح وآلة وغير ذلك للمأمون. فلمّا بلغ محمدا الأمين أنّ أباه قد اشتدّت علّته وأنّه لمآبه، بعث من يأتيه بخبره في كلّ يوم وأرسل بكر بن المعتمر وكتب معه كتبا وجعلها في قوائم صناديق منقورة وألبسها جلود البقر وقال:
« لا يظهرنّ أمير المؤمنين ولا أحد ممّن في عسكره على شيء من أمرك وما توجّهت فيه ولا على ما معك ولو قتلت، حتى يموت أمير المؤمنين، فإذا مات فادفع إلى كلّ إنسان منهم كتابه. » فلمّا قدم بكر بن المعتمر طوس بلغ هارون قدومه فدعا به فسأله:
« ما أقدمك؟ » قال: « بعثني محمد لأعلم له علم خبرك وآتيه به. » قال: « فهل معك كتاب؟ » قال: « لا. »
فأمر بما معه، ففتّش فلم يصيبوا معه شيئا. فتهدّده بالضرب فلم يقرّ بشيء، فأمر به فحبس وقيّد. فلمّا كان في الليلة التي مات فيها هارون أمر الفضل بن الربيع أن يصير إلى محبس بكر بن المعتمر فيقرّره، فإن أقرّ وإلّا ضرب عنقه، فصار إليه يقرّره فلم يقرّ بشيء. ثم غشى على هارون فصاح النساء فأمسك الفضل عن قتله وصار إلى هارون ليحضره، ثم أفاق وهو ضعيف قد شغل عن بكر وعن غيره لحسّ الموت، ثم غشى عليه غشية ظنّوا أنّها هي، وارتفعت الصيحة فأرسل بكر بن المعتمر برقعة منه إلى الفضل بن الربيع يسأله ألّا يعجلوا بأمر، ويعلمه أنّ معه أشياء يحتاجون إلى علمها.
وكان بكر محبوسا عند حسين الخادم.
فلمّا توفّى هارون دعا الفضل ببكر في الوقت والساعة فسأله عمّا عنده فأنكر أن يكون عنده، شيء وخشي على نفسه من أن يكون هارون حيّا، حتى صحّ عنده موت هارون، وأدخله عليه فأخبره أنّ عنده كتبا من أمير المؤمنين محمد وأنّه لا يجوز له إخراجها وهو على حاله من قيوده وحبسه.
فأطلقه الفضل فأتاهم بالكتب في قوائم المطابخ المجلّدة بجلود البقر، فدفع إلى كلّ إنسان منهم كتابه. وكان في تلك الكتب كتاب من محمد بن هارون إلى الحسين الخادم بخطّه يأمره بتخلية سبيل بكر بن المعتمر وإطلاقه، فدفعه إليه، وكتاب إلى المأمون، فاحتبس كتاب المأمون عنده لغيبته بمرو، وأرسلوا إلى صالح بن الرشيد وكان مع أبيه بطوس وكان أكبر من يحضره هارون من ولده، فأتاهم في تلك الساعة فسألهم عن أبيه هارون فأعلموه.
فجزع جزعا شديدا، ثم دفعوا كتاب أخيه الذي جاء به بكر وكان الذين حضروا وفاة هارون هم الذين ولوا غسله وتجهيزه وصلّى عليه ابنه صالح.
ولمّا قرأ الذين وردت عليهم كتب محمد بطوس من القوّاد والجند وأولاد هارون فتشاوروا في اللحاق بمحمد وأحبّوه لأجل أهاليهم ومنازلهم.
وقال الفضل بن الربيع:
« لا أدع ملكا حاضرا لآخر لا ندري ما يكون من أمره. » وأمر الناس الناس بالرحيل.
فوافقهم ذلك وسرّوا به وتركوا العهود التي أخذت عليهم للمأمون.
فانتهى الخبر بذلك من أمرهم إلى المأمون بمرو، فجمع من معه من قوّاد أبيه وكان فيهم عبد الله بن مالك، ويحيى بن معاذ وشبيب بن حميد بن قحطبة والعبّاس بن مسيّب بن زهير وهو على شرطته وأيّوب بن أبي سمير، ومعه من أهل بيته عبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح، وذو الرئاستين عنده من أعظم الناس قدرا فشاورهم.
ذكر آراء أشير بها على المأمون في تلك الحال
فأشار عليهم أكثرهم أن يلحقهم بنفسه في ألفى فارس جريدة، فيردّهم، فعمل على ذلك وسمّى له قوما فدخل عليه ذو الرئاستين فقال له:
« إن فعلت ما أشاروا به عليك جعلك هؤلاء هدية إلى محمد، ولكن الرأي أن تكتب إليهم كتابا، وتوجّه إليهم رسول فتذكّرهم البيعة، وتسألهم الوفاء وتحذّرهم الحنث، وما يلزمهم في ذلك في الدين والدنيا. » وقال: قلت له:
« إنّ كتابك ورسلك تقوم مقامك، فتستبرئ ما عند القوم وتوجّه سهل بن صاعد - وكان على قهرمته - فإنّه يأملك ويرجو أن ينال أمله فلن يألوك نصحا، وتوجّه نوفلا الخادم مولى موسى أمير المؤمنين. »
وكان عاقلا. فكتب كتابا ووجّههما فلحقاهم بنيسابور قد رحلوا ثلاث مراحل. قال سهل بن صاعد: فأوصلت إلى الفضل بن الربيع كتابه فقال:
« إنّما أنا واحد منهم. » قال سهل: فشدّ عليّ عبد الرحمن بن جبلة الأبناوى بالرمح. فأمرّه على جبيني ثم قال لي:
« قل لصاحبك والله لو كنت حاضرا لوضعت الرمح في فيك. هذا جوابي. » قال ذو الرئاستين: فقلت للمأمون:
« أعداء قد استرحت منهم ولكن افهم عني ما أقول لك إنّ هذه الدولة لم تكن قطّ أعزّ منها أيّام المنصور أبي جعفر، فخرج عليهم المقنّع وهو يدّعى الربوبية، وقال بعضهم طلب بدم أبي مسلم، فتضعضع له بخروجه من بخراسان، ثم كفاه الله المؤونة، ثم خرج بعده يوسف البرم، وهو عند بعض المسلمين كافر، فكفاه الله المؤونة، ثم خرج اشادشنس يدعو إلى الكفر، فسار المهدي من الريّ إلى نيسابور، فكفوا المؤونة، ولكن ما أصنع أكثر عليك، أخبرني كيف رأيت الناس حين ورد عليهم خبر رافع. » قال: « رأيتهم اضطربوا اضطرابا شديدا. » قلت: « فكيف بك وأنت نازل في أخوالك وبيعتك في أعناقهم كيف يكون اضطراب أهل بغداد، اصبر فأنا أضمن لك الخلافة. » قال: « قد فعلت وجعلت الأمر إليك فقم به. » قال: فقلت:
« والله لأصدقنّك أنّ عبد الله بن مالك ويحيى بن معاذ ومن سمّينا من الرؤساء إن قاموا لك بالأمر كانوا أنفع لك مني برئاستهم المشهورة، ولما عندهم من القوّة على الحرب. فمن قام بالأمر كنت خادما له حتى يصير إلى محبّتك وترى رأيك فيّ. » قال: « نعم. » فلقيتهم في منازلهم، وذكّرتهم البيعة التي في أعناقهم وما يجب عليهم من الوفاء، فتكرّهه الكلّ وقال بعضهم:
« هذا لا يحلّ، أخرج. » وقال بعضهم:
« من يدخل بين أمير المؤمنين وأخيه؟ » فجئت فأخبرته فقال:
« قم بالأمر. » قال: قلت:
« قد قرأت القرآن وسمعت الأحاديث وتفقّهت في الدين، فالرأي أن تبعث إلى من بالحضرة من الفقهاء فتدعوهم إلى الحقّ والعمل به وإحياء السنّة وتقعد على اللبود وتردّ المظالم. » ففعلنا وبعثنا إلى الفقهاء وأكرمنا القوّاد وأبناء الملوك. فكنّا نقول للتميميّ:
-
نقيمك مقام موسى بن كعب، وللربعى: نقيمك مقام أبي داود خالد بن إبراهيم، ونقول لليماني: نقيمك مقام قحطبة ومالك بن الهيثم، حتى استملنا قلوب الرؤساء والملوك وحططنا عن خراسان ربع الخراج، فحسن موقع ذاك وسرّوا به، وقالوا:
« ابن أختنا وابن عمّ النبي http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png. » قال: فكان شغلنا بهذا وأشباهه.
فأمّا الأمين فإنّه اشتغل باللعب وأمر ببناء حول قصر أبي جعفر في المدينة للصوالجة واللعب، وأخذنا نحن في الجدّ، ورأى المأمون أن يهادي أخاه، فبعث له بهدايا وتواترت كتب المأمون إلى محمد بالتعظيم وإهداء طرف خراسان.
ودخلت سنة أربع وتسعين ومائة
وفي هذه السنة عزل محمد الأمين أخاه القاسم عن جميع ما كان أبوه هارون ولّاه من عمل الشام وقنّسرين والعواصم والثغور، وولّى مكانه خزيمة بن خازم، وأمره بالمقام بمدينة السلام.
وفيها أمر محمد بالدعاء لابنه موسى على المنابر بالأمرة.
وفيها تنكّر كلّ واحد من محمد الأمين وعبد الله المأمون لصاحبه وظهر الفساد بينهما.
سبب ظهور الفساد بين الأمين والمأمون
وكان السبب في ذلك أنّ الفضل بن الربيع فكّر بعد مقدمه إلى العراق ناكثا للعهود التي كان الرشيد أخذ بها عليه لابنه المأمون، فعلم أنّ الخلافة إن أفضت إلى المأمون يوما من الدهر وهو حيّ لم يبق عليه، وكان في ظفره به عطبه. فسعى في حثّ محمد على خلعه وصرف ولاية العهد من بعده إلى ابنه موسى، ولم يكن ذلك من رأى محمد ولا عزمه. فأدخل معه في الرأي عليّ بن عيسى بن ماهان والسندي وغيرهما، فصغّروا شأن عبد الله المأمون عند الأمين، وقال له الفضل:
« يا أمير المؤمنين اخلع عبد الله والقاسم، فإنّ البيعة كانت لك متقدّمة وإنّما أدخلا فيها بعدك. »
وعلم المأمون أنّ عزل الأمين للقاسم وأخيه وإقدامه مدينة السلام وأمره للدعاء لابنه موسى بالأمرة ومكاتبته الأمصار بذلك، تدبير عليه في خلعه.
فقطع البريد عن محمد وأسقط اسمه من الطّرز ودور الضرب.
وكان رافع بن الليث بن نصر بن سيّار لمّا انتهى إليه حسن سياسة المأمون وسيرته في رعيّته، بعث في طلب الأمان لنفسه، وكان هرثمة يجاريه. فلمّا طلب الأمان سارع هرثمة إليه وخرج رافع فلحق بالمأمون وهرثمة بعد مقيم بسمرقند فأكرم المأمون رافعا، وكان مع هرثمة في حصار رافع طاهر بن الحسين. ثم استأذن هرثمة المأمون في القدوم عليه، فأذن له فتلقّاه الناس، وولّاه المأمون الحرس، فأنكر ذلك الأمين وكتب إلى العبّاس بن عبد الله بن مالك - وكان عامل المأمون على الريّ وهو آخر حدّه من خراسان -، يأمره أن يبعث إليه بغرائب غروس الريّ، وأراد امتحانه. فبعث إليه بما أمره وكتم ذلك المأمون وذا الرئاستين، فبلغ ذلك المأمون فعزله.
ثم وجّه الأمين إلى المأمون ثلاثة أنفس رسلا: أحدهم العباس بن موسى بن عيسى، والآخر صالح صاحب المصلّى، والثالث محمد بن عيسى بن نهيك وكتب معهم كتابا فبلغ الخبر بذلك ذا الرئاستين فوجّه رسولا وكتب إلى صاحب الريّ: أن استقبلهم بالعدّة والسلاح الظاهر. وكتب إلى والى قومس ونيسابور وسرخس بمثل ذلك، ففعلوا. ثم وردت الرسل مرو وقد أعدّ لهم من السلاح وضروب العدد والعتاد.
ثم صاروا إلى المأمون فأبلغوه رسالة محمد بمسألته تقديم موسى على نفسه ويذكر أنّه سمّاه الناطق بالحقّ، فردّ المأمون ذلك وأباه. فقال العبّاس بن موسى بن عيسى:
« ما عليك أيّها الأمير من ذلك فهذا جدّى عيسى بن موسى قد خلع نفسه فما ضرّه ذلك ولا طاب عيشه إلّا بعد الخلع. » قال: فصاح عليه ذو الرئاستين قال:
« اسكت فإنّ جدّك كان في أيديهم أسيرا، وهذا بين شيعته وأخواله وعشيرته. » قال ذو الرئاستين: فأعجبنى ما رأيت من ذكاء العبّاس بن موسى، فخلوت به وقلت:
« يذهب عليك في فهمك وذكائك أن تأخذ بحظّك من الإمام. » قال: وسمّى المأمون في ذلك اليوم: الإمام ولم يسمّ بالخلافة، وإنّما سمّى بذلك لما جاءه من خلع محمد له. قال: فقال لي العبّاس:
« وقد سمّيتموه: الإمام. » قال: قلت:
« قد يكون إمام المسجد والقبيلة فإن وفيتم لم يضرّكم اسمه، وإن غدرتم فهو ذاك. » ثم قلت للعباس:
« لك عندي ولاية الموسم، فلا ولاية أشرف منها، ولك من مواضع الأموال بمصر ما شئت. » قال: فما برح حتى أخذت عليه البيعة للمأمون بالخلافة. فكان بعد ذلك يكتب إلينا بالأخبار، ويشير علينا بالرأي.
ومضى القوم منصرفين إلى محمد فأخبروه بامتناعه. وألحّ الفضل بن الربيع وعليّ بن عيسى على محمد في البيعة لابنه وخلع المأمون.
وبذل الفضل الأموال حتى بايع لابنه موسى، وسمّاه: الناطق بالحقّ، وأحضنه عليّ بن عيسى وولّاه العراق وأسقط ذكر عبد الله المأمون والقاسم المؤتمن من المنابر، ووجّه رسولا إلى مكّة فأخذ من الحجبة الكتابين اللذين كان هارون اكتتبهما وجعلهما في الكعبة، وتكلّم في ذلك الحجبة فلم يحفل بهم وخافوا على أنفسهم، ومزّق الكتابين وأبطلهما.
وكان محمد الأمين كتب إلى المأمون قبل المكاشفة يسأله أن يتجاوز ويتجافى له عن كور من كور خراسان سمّاها له وأن يوجّه العمّال من قبل محمد وأن يحتمل رجلا من قبله يوليه البريد عليه ليكتب إليه بخبره. فلمّا ورد على المأمون الكتاب بذلك كبر عليه واشتدّ، فبعث إلى الفضل بن سهل وإلى أخيه الحسن فشاورهما فأحجما وقالا:
« الأمر مخطر ولك شيعة وبطانة وأهل ولاء. وكان يقال: شاور في طلب الرأي من تثق بنصيحته وتألّف العدوّ فيما لا اكتتام له بمشاورته. »
ذكر آراء الناس فيما شاورهم فيه المأمون
ثم أحضر المأمون الخاصّة من الرؤساء والأعلام وقرأ عليهم الكتاب فقالوا جميعا:
« أيّها الأمير، شاورت في أمر خطير معضل، فاجعل لبديهتنا حظّا من الرويّة. » قال المأمون:
« هو الحزم. » وأجّلهم ثلثا:
ثم اجتمعوا فقال أحدهم:
« إنّك أيّها الأمير قد حملت على كرهين، ولست أرى خطأ تعجّل مكروه أوّلهما مخافة مكروه آخرهما. » وقال آخر:
« إذا كان الأمر مخطرا فإعطاؤك من نازعك طرفا من بغيته أمثل من أن تصير بالمنع إلى مكاشفته. » وقال آخر:
« كان يقال: إذا كان علم الأمور مغيّبا عنك، فخذ ما أمكنك من هدنة يومك، فإنّك لا تأمن أن يكون فساد يومك راجعا بفساد غدك. » وقال آخر:
« لئن خيفت للبذل عاقبة، إنّ أشدّ منها ما يبعث الإباء من الفرقة. » وقال آخر:
-
« لا أرى مفارقة منزلة السلامة فلعلّى أعطى معها العافية. » فقال الحسن بن سهل:
« قد وجب حقّكم باجتهادكم وإن كنتم معذورين، فإنّ رأيي مخالف لرأيكم. » فقال له المأمون:
« فناظرهم. » قال: « لذلك ما كان الاجتماع. » وأقبل عليهم الحسن فقال:
« هل تعلمون أنّ محمدا تجاوز إلى طلب شيء ليس له بحق؟ » فقالوا: « نعم ويحتمل ذاك لما يخاف من ضرر منعه. »
قال: « فهل تثقون بأن يكفّ إذا أعطيناه ما سأل، فلا يتجاوز بالطلب إلى غيرها؟ » قالوا: « لا، ولعلّ سلامة تقع من دون ما نخاف ونتوقّع. » قال: « فإن تجاوز بعدها بالمسألة، أفما ترونه قد توهّن بما بذل من نفسه فيها. » قالوا: « ندفع بمحذور الآجل محذور العاجل. » قال: « فإنّ الحكماء قبلنا قالوا: استصلح عاقبة أمرك باحتمال ما عرض في مكروه يومك ولا تلتمس هدنة يومك بإخطار أدخلته على نفسك في غدك. » فأقبل المأمون على الفضل وقال:
« ما تقول فيما اختلفوا فيه؟ » قال: « هل يؤمن محمد أن يكون طالبك بفضل قوّتك، ليستظهر بها غدا على مخالفتك، وهل يصير الخازم إلى فضله من عاجل الدعة بخطر يتعرّض له في العاقبة؟ بل إنّما أشار الحكماء بحمل ثقل عاجل، فيما يرجون به صلاح عواقب أمورهم. » فقال المأمون:
« بإيثار دعة العاجل صار من صار إلى فساد العاقبة في أمر دنيا وأمر آخرة. » قال القوم:
« قد قلنا بمبلغ الرأي والله للأمير بالتوفيق. » فقال: « اكتب يا فضل إليه:
« قد بلغني كتاب أمير المؤمنين يسأل التجافي عن مواضع سمّاها، ممّا أثبته الرشيد في العقد لي، وجعل أمره إليّ وما أمر رآه أمير المؤمنين مما يتجاوز، غير أنّ الذي جعل إليّ الطرف الذي أنا به كان غير ظنين في النظر لعامّته ولا جاهل بما أسند إليّ من أمره. ولو لم يكن ذلك مثبتا بالعهود والمواثيق المأخوذة ثم، كنت على الحال التي أنا عليها من إشراف عدوّ مخوف الشوكة وعامّة لا تتألف عن هضمة، وأجناد لا تستتبع طاعتها إلّا بالأموال وطرف من الإفضال، لكان في نظر أمير المؤمنين لعامّته وما يجب من لمّ أطرافه ما يوجب عليه أن يقسم له كثيرا من عنايته، وأن يستصلحه ببذل كثير من ماله، فكيف بمسألة ما أوجبه الحقّ. وإني لأعلم أنّ أمير المؤمنين لو علم من الحال ما علمت لم يطلع بمسألة ما كتب بمسألته إليّ، ثم أنا على ثقة من القبول بعد البيان، إن شاء الله. » واستشار أيضا محمد أصحابه فيما همّ به.
ذكر آراء أشير بها على محمد الأمين
قال يحيى بن سلم وقد دعاه الأمين واستشاره:
« يا أمير المؤمنين كيف بذاك مع تأكيد الرشيد بيعته وأخذه الأيمان والمواثيق في الكتب؟ » فقال محمد:
« إنّ رأى الرشيد كانت فلتة من الخطأ شبّه عليه جعفر بن يحيى بسحره، فغرس لنا غرسا مكروها لا ينفعنا ما نحن فيه [ معه ] إلّا بقطعه، ولا تستقيم لنا الأمور ولا تصلح إلّا باجتثاثه والراحة منه. » فقال: « أمّا إذا كان رأى أمير المؤمنين خلعه فلا تجاهره فيستكبرها الناس وتستشنعها العامّة، ولكن تستدعى الجند بعد الجند والقائد بعد القائد، وتؤنسه بالألطاف والهدايا، وتفرّق ثقاته ومن معه وترغّبهم بالأموال وتستميلهم بالأطماع. فإذا وهنت قوّته ولم تبق له منّة أمرته بالقدوم عليك، فإن قدم صار إلى الذي تريد منه وإن أبي كنت قد تناولته وقد كلّ حدّه وهيض جناحه. » قال محمد:
« فأقطع أمرا كصريمة. أنت مهذار خطيب، ولست بذي رأى مصيب، فزل عن هذا الرأي إلى رأى الشيخ الموفّق والوزير الناصح، قم فالحق بمدادك وأقلامك. » فقال يحيى:
« غضب يشوبه صدق وتجلبه نصيحة، أحبّ إليّ من رضا يخلطه جهل ويحمله جهل. » وبعث الفضل إلى أحد من رضى عقله ورأيه فاستشاره، فعظّم الرجل عليه أمر البيعة للمأمون، وقبّح الغدر والنكث. فقال الفضل:
« صدقت، ولكن عبد الله أحدث الحدث الذي وجب به نقض ما عقده الرشيد وأمير المؤمنين يرى اليوم لنفسه ولرعيّته ما لم يره الرشيد يومئذ. » فقال: « أفتثبت الحجّة عند عامّة الناس بهذا الحدث الذي أحدثه المأمون كما تثبت الحجّة له بمأخوذ عهده؟ » قال: « لا. » قال: « أفحدث هذا الحدث عندكم ممّا يوجب نقض عهدكم ولم يكن حدث ولا كان معلوما. » قال: « نعم. » فقال الرجل ورفع صوته:
« تالله ما رأيت كاليوم رأى رجل يشاور في دفع ملك في يده بالحجّة، ثم يصير إلى مطالبته بالعناد والمغالبة. » قال: فأطرق الفضل مليّا ثم قال:
-
« صدقتني الرأي، ولكن أخبرني إن نحن أغمضنا في قالة العامّة، ووجدنا مساعدين من شيعتنا وأجنادنا، فما القول؟ » قال: « أصلحك الله، وهل أجنادك إلّا من عامّتك في أخذ بيعتهم وتمكّن برهان الحقّ في قلوبهم، أفليسوا وإن أعطوا ظاهر طاعتهم مع ما تأكّد من وثائق العهد في معارفهم وعليهم بباطن أمورهم. » قال: « فإن أعطونا الطاعة فما يضرّنا من ضمائرهم. » قال: « لا طاعة دون ما ثبت من البصائر. » قال: « ترغّبهم بتشريف حظوظهم؟ » قال: « إذا يصيروا إلى التثقّل، ثم إلى خذلانك عند حاجتك إلى مناصحتهم. » قال: « فما ظنّك بأجناد عبد الله؟ » قال: « قوم على بصيرة من أمورهم لتقدّم بيعتهم. » قال: « فما ظنّك بعامّته؟ » قال: « قوم كانوا في بلوى عظيمة من تحيّف ولاتهم في أموالهم وأنفسهم صاروا به إلى الأمنة في المال والرفاغة في المعيشة، فهم يدافعون عن نعمة حادثة لهم، ويتذكّرون بليّة لا يأمنون العودة في مثلها. » قال: « ما أراك أبقيت لنا موضع رأى في اعتزالك أجنادنا، ثم أشدّ من ذلك ما قلت به من وهنة أجنادنا وقوّة أجناده وما تسخو نفس أمير المؤمنين بترك ما يعرف من حقّه، ولا نفسي بالهدنة مع ما أقدمت عليه في أمره، وربّما أقبلت الأمور مشرقة بالمخافة، ثم تكشّفت عن الفلج والدرك في العاقبة. » وتفرّقا.
ذكر الحزم والجد الذي أخذ فيه المأمون حتى بلغ به ما أراد
أذكى العيون، وأقام الحرس على رأس الحدّ، فلا يجوز رسول من العراق حتى يوجّهوه مع ثقات من الأمناء، ولا يدعه يستعلم خبرا ولا يستتبع بالرغبة ولا بالرهبة أحدا ولا يبلغ أحدا قولا ولا كتابا فحصّن أهل خراسان من أن يستمالوا برغبة أو أن تودع قلوبهم رهبة. ثم وضع على مراصد الطرقات ثقات من الأحراس لا يجوز عليهم إلّا من لا تدخله الظنّة في أمره ممّن أتى بجواز في مخرجه إلى دار مآبه، أو تاجر معروف مأمون في نفسه ودينه ومنع الأشابات من جواز السبل والقطع بالمتاجر، والوغول في البلدان في هيأة الطارئة والسابلة، وفتّشت الكتب فكانت ترد من قبل محمد الرسل والجماعات، فإذا صاروا إلى حدّ الريّ وجدوا تدبيرا مؤيّدا وعقدا مستحصدا، وأخذتهم الأحراس من جوانبهم فحصّنوا في حال ظعنهم وإقامتهم من أن يخبروا أو يستخبروا، وكتب بخبرهم من مكانهم، فيجيء الإذن في حملهم، فيحملون محروسين لا خبر يصل إليهم، ولا غيرهم يتطلّع خبرا من عندهم حتى يصيروا إلى باب المأمون.
وذكر سهل بن هارون، أنّ المأمون قال يوما لذي الرئاستين:
« إنّ ولدي وأهلى ومالي الذي أفرده لي الرشيد بحضرة محمد وهو مائة ألف ألف وأنا إليها محتاج وهي قبله فما ترى في ذلك؟ » فقال له ذو الرئاستين:
« إن أنت كتبت كتاب عزمة فمنعك، صار إلى خلع عهده. فإن فعل، حملك ولو بالكره على محاربته، وأنا أكره أن تكون المستفتح باب الفرقة ما أرتجه الله دونك، ولكن تكتب كتاب طالب بحقّك وتوجيه أهلك على ما لا يوجب عليه المنع نكثا لعهدك، فإن أطاع فنعمة وعافية، وإن أباها لم تكن بعثت على نفسك حربا ومشاقّة. » قال: « فاكتب إليه كما ترى. » فكتب عنه:
كتاب كتبه ذو الرياستين عن المأمون إلى الأمين
« أمّا بعد فإنّ نظر أمير المؤمنين للعامّة نظر من لا يقتصر على إعطاء النصفة من نفسه حتى يتجاوزها إليهم ببرّه وصلته وإذا كان ذلك رأيه في عامّته فأحر بأن يكون على مجاوزة ذلك لصنوه وقسيم نسبه. وقد تعلم يا أمير المؤمنين حالا أنا عليها من ثغور حللت بين لهواتها وأجناد لا تزال موفية بتسرّعها وبنكث آرائها وبقلة الخراج قبلي، والأهل والولد والمال قبل أمير المؤمنين، وما للأهل - وإن كانوا في كفاية - من برّ أمير المؤمنين وكان لهم والدا - بدّ من الإشراف والنزوع إلى كنفى، وما لي بالمال من القوّة والظهير على لمّ شعثي، وقد وجّهت لحمل العيال وحمل ذلك المال فرأى أمير المؤمنين في إجازة فلان إلى الرّقّة في حمل ذلك المال والأمر بمعونته عليه غير مخرج له فيه إلى ضيقة تقع بمخالفته، أو حامل له على رأى يكون على غير موافقته، إن شاء الله. » فكتب إليه محمد في الجواب:
جواب الأمين
« أمّا بعد، فقد بلغني كتابك بما ذكرت ممّا عليه رأى أمير المؤمنين في عامّته، فضلا عمّا يوجب من حقّ ذي حرمته وخليط نفسه، ومحلّك من لهوات ثغور، وحاجتك لمحلّك بينها إلى فضلة من المال لتأييد أمرك. والمال الذي سمّى لك من مال الله عز وجل وما ينكر أمير المؤمنين حقوق أقربيه وذوي نسبه، وما ذاك بداع أمير المؤمنين إلى ترك الاستظهار لدينه وعامّته، وبه إلى ذلك الذي ذكرت حاجة في تحصين أمور المسلمين، وكان أولى به إجراؤه على فرائضه وردّه في مواضع حقّه، وليس بخارج من نفعك ما عاد بنفع العامّة من رعيّتك.
« وأمّا ما ذكرت من حمل أهلك فإنّ يدي المشرفة على أمرهم، وإن كنت بالمحلّ الذي أنت به من حقّ القرابة ولم أر من حملهم على سفرهم مثل الذي عرّضتهم له بالسفر من شهم وإن أر ذلك من ذي قبل، أوجّههم إليك مع الثقة من رسلي، إن شاء الله. » ولمّا ورد الكتاب على المأمون قال:
« لطّ دون حقّنا يريد أن يوهن بالمنع قوّتنا ثم يتمكّن من الفرصة في مخالفتنا. »
كتاب المأمون إلى أعيان العسكر ببغداد
ورأى المأمون والفضل أن يختارا رجلا يكتب معه إلى أعيان العسكر ببغداد، فإن أحدث الأمين للمأمون خلعا صار إلى التلطّف، لعلم أحوال أهلها بالكتب التي معه وإن لم يفعل من ذلك كنس في خفية وأمسك عن إيصالها وكان نسخة الكتاب:
« أمّا بعد فإنّ أمر المؤمنين كأعضاء البدن تحدث العلّة في بعضها فيكون كره ذلك مؤلما لجميعها، وكذلك الحدث في المسلمين يكون في بعضهم فيصل كره ذلك إلى سائرهم، للذي يجمعهم من شريعة دينهم ويلزمهم من حرمة آخرتهم. ثم ذلك من الأئمة أعظم للمكان الذي به الأئمة من سائر أممهم. وقد كان من الخبر ما لا أحسبه إلّا سيعرب عن مغبّته ويسفر عمّا استتر من وجهه. وما اختلف مختلفان فكان أحدهما مع أمر الله، إلّا كان أولى بمعونة المسلمين وموالاتهم في ذات الله وأنت - يرحمك الله - من الأمر بمرأى ومسمع، وبحيث إن قلت أذن لقولك وإن لم تجد للقول مساغا فأمسكت عن مخوف، اقتدى فيه بك، ولن يضيع على الله ثواب الإحسان مع ما يجب علينا من حقّك بالإحسان ولحظّ حاز لك النصيبين أو أحدهما أمثل من الإشراف لأحد الحظّين مع التعرّض لعدمهما. فاكتب إليّ برأيك وأعلم ذلك رسولي ليؤدّيه عنك، إن شاء الله. » فوافق قدوم هذا الرسول بغداد ما أمر به من الكفّ عن الدعاء للمأمون في الخطبة، وكان الرسول بمحلّ الثقة من كلّ من كتب إليه. فلمّا أوصلها كان منهم من أمسك عن الجواب وأعرب للرسول عمّا في نفسه، ومنهم من أجاب عن كتابه. فكان نسخة كتاب أحدهم:
-
« أمّا بعد فقد بلغني كتابك، وللحقّ برهان يدلّ على نفسه، تثبت به الحجّة على كلّ من صار إلى مفارقته، وكفى غبنا بإضاعة حظّ من حظّ العاقبة لمأمول حظّ من عاجله، وأبين في الغبن إضاعة عاقبة مع التعرّض للنكبة والوقائع. ولى من العلم بمواضع حظّى ما أرجو أن يحسن معه النظر لنفسي، ويضع عني مؤونة استزادتى. » وكتب الرسول الذي توجّه بهذه الكتب إلى بغداد إلى المأمون وذي الرئاستين:
« أمّا بعد، فإني وافيت البلدة وقد أعلن خليطك بتنكيره، وقدّم علما من اعتراضه ومفارقته، وأمسك عمّا يجب ذكره وتوفيته بحضرته، ودفعت كتبك فوجدت أكثر الناس ولاة السرائر وبغاة العلانية، ووجدت المسرفين بالرغبة لا يحوطون غيرها ولا يبالون ما احتملوا فيها والمنازع مختلج الرأي لا يجد دافعا منه عن همّه، ولا داعيا إلى لزوم حجّة في عامّه، والملحّون بأنفسهم يحبّون تمام الحدث ليسلموا من متهدم حدثهم، والقوم على جدّ، فلا تجعلوا للتوانى في أمركم نصيبا والسلام. » فلمّا جاء الخبر إلى المأمون موافقا لسائر ما ورد عليه من الكتب، قد شهد بعضها لبعض، قال لذي الرئاستين:
« أمور قد كان الرأي أخبر عن غيبها. ثم هذه طوالع تخبر عن أواخرها، وكفانا أن نكون مع الحقّ ولعلّ كرها يسوق خيارا. » ثم أشخص طاهر بن الحسين، وضمّ إليه ثقات قوّاده وأجناده، فسار طاهر مغذّا لا يلوى على شيء حتى ورد الريّ، فنزلها ووكّل بأطرافه ووضع مسالحه وبثّ عيونه وطلائعه.
ودخلت سنة خمس وتسعين ومائة
مبادرات من الأمين والمأمون
وفيها عقد الأمين لابنه موسى على جميع ما استخلف عليه، وجعل صاحب أمره عليّ بن عيسى بن ماهان، وأسقط ما كان ضرب باسم أخيه المأمون بخراسان من الدنانير والدراهم في سنة أربع وتسعين، لأنّ المأمون أمر ألّا يثبت فيها اسم محمد، ونهى محمد عن الدعاء على المنابر كلّها في عمله للمأمون والقاسم، وأمر بالدعاء له، ثم من بعده لابنه موسى، وابنه موسى يومئذ طفل صغير وسمّاه: الناطق بالحقّ. وجميع ما فعل من ذلك كان عن رأى الفضل بن الربيع وبكر بن المعتمر. وبلغ المأمون ذلك، فتسمّى بإمام المؤمنين، وكوتب بذلك.
وعقد محمد الأمين لعليّ بن عيسى بن ماهان على كور الجبل كلّها:
نهاوند وهمذان وقم وإصبهان، حربها وخراجها، وضمّ إليه جماعة من القوّاد، وأمر لهم بمائتي ألف دينار، ولولده بخمسين ألف دينار، وأعطاه للجند مالا عظيما، وأمر له من السيوف المحلّاة، بألفي سيف وسبعة ألف ثوب للخلع، وأحضر محمد أهل بيته ومواليه وقوّاده المقصورة بالشمّاسيّة، وصلّى الجمعة ودخل وأجلس ابنه موسى في المحراب ومعه الفضل بن الربيع وجميع من أحضر، فقرئ على جماعتهم كتاب من محمد يعلمهم رأيه فيه، وحقّه عليهم وما سبق له من البيعة مفردا، وما أحدث عبد الله من التسمّى بالإمامة، والدعاء إلى نفسه، وقطع البريد، وقطع ذكره من دور الضرب والطرز، وأنّ ذلك ليس له، وحثّهم على الطاعة والتمسّك ببيعته.
وتكلّم سعيد بن الفضل الخطيب قائما، فصدّق ما في الكتاب وتكلّم بمثله. ثم تكلّم الفضل بن الربيع وهو جالس. فأبلغ في القول وأكثر، وذكر أنّه لا حقّ لأحد في الإمامة والخلافة إلّا لأمير المؤمنين محمد الأمين، وقال في آخر كلامه:
« إنّ الأمير موسى بن أمير المؤمنين قد أمر لكم، يا معشر أهل خراسان، من صلب ماله بثلاثة آلاف درهم يقسّم بينكم. » وانصرف الناس.
شخوص علي بن عيسى بن ماهان لحرب المأمون
وفي هذه السنة شخص علي بن عيسى بن ماهان إلى الحرب وتوجّه إلى الريّ. فذكر الفضل بن إسحاق أنّ عليّ بن عيسى توجّه لحرب المأمون يوم الجمعة عشيّا لست بقين من جمادى الآخرة سنة خمس وتسعين إلى معسكره بنهر بين وكان معه زهاء أربعين ألف رجل ومعه قيد فضّة ليقيّد به المأمون بزعمه، وشيّعه أمير المؤمنين محمد الأمين إلى النهروان، فعرض الجند وأقام يومه بالنهروان، ثم انصرف إلى مدينة السلام. وأقام عليّ بن عيسى بالنهروان ثلاثة أيام، ثم شخص واعد السير حتى نزل همذان وكان كاتب من كان بها وبغيرها بالانضمام إلى عليّ بن عيسى. ثم عقد لعبد الله بن جبلة الأبناوي وهو الذي طعن رسول المأمون يوم أنفذه خلف الفضل بن الربيع إلى نيسابور، وتكلّم ما كتبناه على الدينور، وأمره بالمسير في أصحابه ووجّه معه ألفي ألف درهم إلى عليّ بن عيسى سوى ثلاثة آلاف درهم حملت إليه قبل ذلك، فسار عليّ بن عيسى من همذان إلى الريّ قبل ورد عبد الرحمن بن جبلة عليه، فسار على تعبئة، ولقيه طاهر بن الحسين في أقلّ من أربعة آلاف.
وكان استأمن إلى عليّ بن عيسى من عسكر طاهر ثلاثة أنفس يتقرّبون إليه. فسألهم، من هم ومن أيّ البلدان هم، فأخبره أحدهم أنّه كان من جند أبيه عيسى الذي قتله رافع.
قال: « فأنت من جندي؟ » فأمر به فضرب مائتي سوط واستخفّ بالرجلين وانتهى الخبر إلى أصحاب طاهر فازدادوا جدّا في محاربته ونفورا منه.
وأقبل عليّ بن عيسى في جيشه فامتلأت الصحراء بياضا وصفرة من السلاح والذهب، وجعل على ميمنته الحسين بن عليّ، على ميسرته القاسم بن عيسى بن إدريس.
قال أحمد بن هشام، وكان إذا ذاك على شرطة طاهر: فما لبثا أن هزمونا حتى دخلوا العسكر فخرج إليهم الأتباع والساسة، فهزموهم. فقال طاهر لمّا رأى عسكر عليّ بن عيسى:
« هذا ما لا قبل لنا له، ولكن نجعلها خارجية. » فقصد قصد القلب في سبعمائة رجل من الخوارزمية انتخبهم.
مقتل علي بن عيسى بيميني طاهر
قال أحمد بن هشام: فقلت لطاهر:
« ألا تذكّر عليّ بن عيسى البيعة التي أخذها هو علينا للمأمون، خاصّة معاشر أهل خراسان؟ »
فقال: « بلى. » فعلّقنا ذلك على رمح، وقمت بين الصفّين وقلت:
« الأمان، لا ترمونا ولا نرميكم. » فقال عليّ بن عيسى:
« لك ذلك. » فقلت: « يا عليّ بن عيسى ألا تتّقى الله، أليس هذه نسخة البيعة التي أخذتها أنت خاصّة علينا؟ اتق الله فقد بلغت باب قبرك. » فصاح عليّ بن عيسى
-
« يا أهل خراسان من جاء به، فله ألف درهم. » قال: وكان معي قوم بخارية فزنّوه، فقالوا:
« نقتلك ونأخذ مالك. » وبرز من عسكر عليّ بن عيسى العباس بن الليث مولى المهدي، فشدّ عليه طاهر وجمع يديه على مقبض السيف فضربه فصرعه. وشدّ داود سياه على عليّ بن عيسى، فصرعه وهو لا يعرفه. فقال داود:
« تازى ايشان كشتم. » فعرفه رجل يعرف بطاهر الصغير بن الناجي فقال:
« أنت عليّ بن عيسى؟ » فقال: « نعم أنا عليّ بن عيسى. » وظنّ أنّه يهاب فلا يقدم عليه، فشدّ عليه فذبحه بسيفه وكانت ضربة طاهر هي الفتح فسمّى يومئذ: ذا اليمينين، لأنّه أخذ السيف بيديه جميعا.
التسليم على المأمون بالخلافة
ولمّا بشّر طاهر بن الحسين بقتل عليّ بن عيسى أعتق من كان بحضرته من غلمانه شكرا ثم جاءوا بعليّ بن عيسى وقد شدّ الأعوان يديه إلى رجليه وحمل على خشبة مدهق كما يحمل الحمار الميّت فأمر به فلفّ في لبد وألقى في بئر.
وكتب بالبشارة إلى ذي الرئاستين فسارت الخريطة، وبين مرو وذلك الموضع نحو من خمسين ومائتي فرسخ، ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد ووردت عليهم يوم الأحد. ولمّا ورد الكتاب بالفتح على ذي الرئاستين فضّه فإذا فيه:
« أطال الله بقاءك وكبت أعداءك وجعل من يشنأك فداءك. كتابي إليك، ورأس عليّ بن عيسى بين يديّ، وخاتمه في اصبعى، والحمد لله ربّ العالمين. » فدخل به على المأمون حتى قرأه، فأمر بإحضار أهل بيته وقوّاده ووجوه الناس فدخلوا، فسلّموا عليه بالخلافة، ثم ورد رأس عليّ يوم الثلاثاء وطيف به في خراسان.
فحكى عن واحد أنّه لمّا جاء نعيّ عليّ بن عيسى إلى محمد بن زبيدة، كان في وقته ذلك على الشطّ يصيد السمك مع خادمه كوثر، فقال للذي أخبره:
« ويلك دعني فإنّ كوثرا قد اصطاد سمكتين وأنا بعد ما صدت شيئا. » ولمّا نهض من مجلسه ذلك، بعث إلى الفضل ومحمد فأنفذ إلى وكيل المأمون ببغداد وقيّمه في أهله وولده فأخذا منه المائة ألف الدرهم التي كان الرشيد وصل بها المأمون، وقبض ضياعه وغلّاته، ووجّه عبد الرحمن بن جبله الأبناوى بالعدة والقوّة فنزل همذان.
ذكر الحيلة التي احتال بها ذو الرئاستين حتى اختار محمد لحربه علي بن عيسى دون غيره
كانت كتب ذي الرئاستين ترد إلى دسيسة الذي كان الفضل بن الربيع يشاوره في أمره: إن أبي القوم إلّا عزمة الخلاف، فالطف لأن يجعلوا أمره لعليّ بن عيسى. وإنّما خصّ عليّا بذلك لسوء أثره في أهل خراسان، واجتماع رأيهم على ما كرهه وأنّ العامّة ترى حربه.
فلمّا شاور الفضل ذلك الرجل الذي كان يشاوره قال عليّ بن عيسى:
« إن فعل فلم ترمهم بمثله في بعد صوته وسخائه ومكانه من بلاد خراسان في طول ولايته عليهم وكثرة صنائعه فيهم. ثم هو شيخ الدعوة. » فاجتمعوا على توجيه عليّ، فكان من أمره ما كان.
وروى أنّ الأمين لمّا عزم على خلع المأمون أشار عليه نصحاؤه أن يكاتبه ويسأله القدوم عليه، فإنّ ذلك أبلغ وأحرى أن يبلغ فيما يوجب طاعته واجابته فكتب إليه:
كتاب الأمين إلى المأمون
« من عبد الله الأمين محمد أمير المؤمنين إلى عبد الله بن هارون أمير المؤمنين أمّا بعد، فإنّ أمير المؤمنين ردّا في أمرك والموضع الذي أنت فيه من ثغرك وما يؤمّل في قربك من المعاونة والمكانفة على ما حمله الله وقلّده من أمور عباده وبلاده، فكّر فيما كان أمير المؤمنين الرشيد أوجب لك من الولاية، وأمر به من إفرادك بها وإقرارك على ما صيّر إليك منها.
فرجا أمير المؤمنين ألّا يدخل عليه وكف في دينه ولا نكث في يمينه، إذ كان إشخاصه إيّاك فيما يعود على المسلمين نفعه ويصل إلى عامّتهم صلاحه وفضله. وعلم أمير المؤمنين أنّ مكانك بالقرب منه أسدّ للثغور وأصلح للجنود وأدّر للفيء وأردّ على العامّة من مقامك ببلاد خراسان منقطعا عن أهل بيتك مغيّبا عن أمير المؤمنين وما يحبّ الاستمتاع به من رأيك وتدبيرك. وقد رأى أمير المؤمنين أن يولى ابنه موسى فيما يقلّده من خلافتك ما يحدث إليه من أمرك ونهيك، فاقدم على أمير المؤمنين على بركة الله وعونه بأبسط أمل وأفسح رجاء وأحمد أثر وأنفذ بصيرة، فإنّك أولى من استعان به أمير المؤمنين على أموره، واحتمل عنه النصب فيما فيه صلاح لأهل ملّته وذمّته، والسلام. » ودفع الكتاب إلى العبّاس بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن عليّ - وإلى عيسى بن جعفر بن أبي جعفر، وإلى محمد بن عيسى بن نهيك وإلى صالح صاحب المصلّى، وأمرهم أن يخرجوا إلى المأمون وألّا يدعوا وجها من الرفق، إلّا بلغوه وسهّلوا الأمر عليه، فيه وحمل معهم من الألطاف والهدايا والبرّ شيئا كثيرا وذلك في سنة أربع وتسعين ومائة.
فتوجّهوا بكتابه، فلمّا وصلوا إلى عبد الله أذن لهم، فدفعوا إليه كتاب محمد وما كان بعث معهم من الأموال والهدايا. ثم تكلّم العبّاس بن موسى بن عيسى فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
-
كلام العباس عند المأمون
« أيّها الأمير، إنّ أخاك قد تحمّل من الخلافة ثقلا عظيما، ومن النظر في أمور الناس عبءا جليلا، وقد صدقت نيّته في الخير فاعتوره الوزراء والأعوان والكفاة على العدل، وقليل ما يأنس بأهل بيته، وأنت أخوه وشقيقه وقد فزع إليك في أموره وأمّلك للمؤازرة والمكانفة، ولسنا نستبطئك في برّه اتهاما لنظرك له، ولا نحضّك على طاعته تخوّفا لخلافك عليه وفي قدومك عليه أنس عظيم له، وصلاح لدولته وسلطانه. فأجب أيّها الأمير دعوة أخيك وآثر طاعته وأعنه على ما استعان بك من أمره، فإنّ في ذلك قضاء الحق وصلة الرحم وعزّ الخلافة، عزم الله على الرشد في أموره وجعل له الخيرة في عواقب رأيه. » وتكلّم عيسى بن جعفر بكلام قريب المعنى من هذا الكلام، وكذلك محمد بن عيسى بن نهيك وصالح صاحب المصلّى. فلمّا قضوا كلامهم وسكتوا، تكلّم المأمون فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
كلام المأمون
« إنّكم عرّفتمونى من حقّ أمير المؤمنين - أبقاه الله - ما لا أنكره، ودعوتموني من البرّ والإحسان والمؤازرة والمعونة إلى ما أوثره ولا أدفعه، وأنا بالطاعة لأمير المؤمنين خليق وعلى المسارعة إلى ما سرّه ووافقه حريص، وفي الرؤية تبيان الرأي وفي إعمال الرأي يصحّ الاعتزام، والأمر الذي دعاني إليه أمير المؤمنين أمر لا أتأخّر عنه تثبّطا ومدافعة، ولا أتقدّم عليه اعتسافا وعجلة، وأنا في ثغر من ثغور المسلمين كلب عدوّه، شديدة شوكته، فإن أهملت أمره لم آمن دخول المكروه والضرر على الجند والرعيّة، وإن أقمت عليه لم آمن فوت ما أحبّ من معونة أمير المؤمنين وإيثار طاعته، وانصرفوا حتى أنظر في أمري ويصحّ الرأي فيما أعتزم عليه من مسيري إن شاء الله. »
ذكر مشاورة المأمون أصحابه وما أشار به الفضل بن سهل
ولمّا انصرف القوم تعاظم المأمون ما ورد عليه وأكبره ودعا الفضل بن سهل وقال:
« ما عندك من الرأي؟ » قال: « أرى أن تتمسّك بموضعك، وألّا تمكّن من نفسك، ولا تجعل عليك سبيلا وأنت تجد من ذلك بدّا. »
قال: « وكيف يمكنني التمسّك بموضعي مع كثرة جنود محمد وعظم خزائنه وكثرة أمواله، مع ما فرّق في أهل بغداد من صلاته، وإنّما الناس مائلون مع الذهب والفضّة، منقادون لهما، لا يرغبون في وفاء بعهد ولا أمانة. » فقال الفضل:
« إذا وقعت التهمة حقّ الاحتراس. وأنا متخوّف عليك من محمد ومن شرهه إلى ما في يديك، ولأن يكون في جندك وعزّك مقيما بين ظهرانيّ أهل ولايتك أحرى، فإن دهمك منه أمر حددت له وناجزته وكايدته فإمّا أعطاك الله الظفر عليه وإمّا متّ محافظا متكرّما غير ملق يديك ولا ممكّن عدوّك من الاحتكام في دينك. » قال المأمون:
« لو كان أتانى ذلك وأنا في قوّة من أمري وصلاح من الأمور، لكان خطبه يسيرا والاحتيال في دفعه ممكنا ولكنّه أتانى بعد انتشار خراسان واضطراب عامرها وغامرها ومفارقة جبغويه الطاعة والتواء خاقان وتهيّؤ ملك كابل للغارة على ما يليه من بلاد خراسان وامتناع ملك ابراز بنده بالضريبة وما لي بواحدة من هذه يد وأنا أعلم أنّ محمدا لم يطلب قدومى إلّا لشرّ يريده بي وما أرى إلّا تخلية ما أنا فيه واللحاق بخاقان ملك الترك والاستجارة به فبالحرى أن آمن على نفسي وامتنع ممّن أراد قهري والغدر بي. »
فقال له الفضل:
« أيّها الأمير إنّ عاقبة الغدر شديدة ومغبّة الظلم والبغي غير مأمون شرّها وربّ مستذلّ قد عاد عزيزا ومقهور عاد مستطيلا وليس النصر بالكثرة وجرح الموت أيسر من جرح الذلّ والضيم فأمّا جبغويه وخاقان فاكتب إليهما وولّهما بلادهما وعدهما التقوية لهما على محاربة الملوك، وأمّا ملك كابل فابعث إليه بعض طرف خراسان وهاده وسله الموادعة تجده حريصا على ذلك، وأمّا ملك ابراز بنده فسلّم له ضريبته في هذه السنة وصيّرها صلة منك له وصلته بها. ثم اجمع إليك أطرافك واضمم إليك من شذّ من جندك، ثم اضرب الخيل بالخيل والرجال، بالرجال فإن ظفرت فذاك، وإلّا كنت على اللحاق بخاقان قادرا. » فقال المأمون:
« أنا أعمل في هذا وغيره بما ترى. » وفرّق الكتب وأرسل إلى أولئك العصاة، فأذعنوا ورضوا وكتب إلى قوّاده وجنوده في الأطراف فأقدمهم عليه، وكتب إلى طاهر بن الحسين وكان يومئذ بالريّ عاملا من قبل المأمون أن يضبط ناحيته ويجمع إليه أطرافه ويكون على حذر من جيش إن طرقه أو عدوّ إن هجم عليه.
وكان الفضل نظر في النجوم وكان جيد المعرفة بأحكامها، فرأى الغلبة لعبد الله، فوطّن نفسه على محاربة محمد الأمين ومناجزته.
كتاب من المأمون إلى الأمين
فلمّا فرغ المأمون ممّا ذكرناه كتب إلى محمد:
« لعبد الله محمد الأمين أمير المؤمنين من عبد الله بن هارون. أمّا بعد، فقد وصل إليّ كتاب أمير المؤمنين وإنّما أنا عامل من عمّال أمير المؤمنين وعون من أعوانه أمرنى الرشيد صلوات الله عليه بلزوم هذا الثغر ومكايدة من كاد أهله من عدوّ أمير المؤمنين، ولعمري أنّ مقامي به أردّ على أمير المؤمنين وأعظم غناء عن المسلمين من الشخوص إلى أمير المؤمنين وإن كنت مغتبطا بقربه مسرورا بمشاهدة نعم الله عليه. فإن رأى أمير المؤمنين أن يقرّنى على عملي ويعفيني من الشخوص إليه فعل، إن شاء الله. » ثم دعا العبّاس بن موسى بن عيسى وعيسى بن جعفر وصالحا فدفع الكتاب إليهم وأحسن صلتهم وجوائزهم وحمل إلى محمد ما تهيّأ له من الألطاف الموجودة بخراسان وسألهم أن يحسّنوا أمره عنده ويقوموا بعذره.
كلام زبيدة لعلي بن عيسى في المأمون
فلمّا يئس محمد الأمين من انقياد عبد الله له، ندب له عليّ بن عيسى في خمسين ألف فارس وراجل، ومكّنه من بيوت الأموال والسلاح. فلمّا أراد عليّ الشخوص إلى خراسان، ركب إلى باب زبيدة أمّ جعفر، فودّعها، فقالت:
« يا عليّ، إنّ أمير المؤمنين، وإن كان ولدي، إليه تناهت شفقتي وعليه تكامل حذري فإني على عبد الله متعطفة مشفقة لما يحدث عليه من مكروه وأذى وإنّما ابنى ملك نافس أخاه في سلطانه وعازّه على ما في يده، والكريم يأكل لحمه ويمنعه غيره. فاعرف لعبد الله حقّ ولادته وأخوّته، ولا تجبهه بالكلام، فلست بنظير له، ولا تقتسره اقتسار العبيد ولا توهنه بقيد ولا غلّ، ولا تمنع منه جارية ولا غلاما ولا خادما ولا تعنف عليه في السير ولا تساوه في المسير، ولا تركب قبله، ولا تستقلّ على دابّتك، حتى تأخذ بركابه، وإن شتمك فاحتمل منه، وإن سفه عليك فلا ترادّه. » ثم دفعت إليه قيدا من فضّة وقالت:
« إذا صار في يدك فقيّده بهذا القيد. » فقال لها:
« سأقبل قولك وأعمل بطاعتك. » فلمّا ركب عليّ بن عيسى إلى معسكره بالنهروان وخرج معه محمد يشيّعه وحشدت الأسواق والصنّاع والفعلة بلغ عسكره فرسخا بفساطيطه وأبنيته وأثقاله. فذكر مشايخ أهل بغداد أنّهم لم يروا عسكرا قطّ كان أكثر رجالا وأفره كراعا وأظهر سلاحا وأتمّ عدّة وأكمل هيئة من عسكره.
فذكر أنّ منجّمه أتاه فقال:
« أصلح الله الأمير لو انتظرت بمسيرك صلاح القمر فإنّ النحوس غالبة عليه. » فقال: « إنّا لا ندري فساد القمر من صلاحه، غير أنّه من نازلنا نازلناه ومن وادعنا وادعناه ومن قاتلنا لم يكن عندنا إلّا إرواء السيف من دمه. إنا لا نعتدّ بفساد القمر ما وطّنّا أنفسنا على صدق اللقاء. »
-
ثم سار عليّ بن عيسى مستهينا بمن يلقاه فإذا لقيته القوافل من خراسان سألها عن الأخبار فيقولون له: طاهر مقيم بالريّ يعرض أصحابه ويرمّ آلته فيضحك ثم يقول لأصحابه:
« وما طاهر والله ما بينكم وبين أن ينقصف انقصاف الشجر من الريح العاصف إلّا أن يبلغه عبورنا عقبة همذان وهل مثل طاهر يتولّى الجيوش ويلقى الحروب وهل تقوى السخال على نطاح الكباش أو تصير الثعالب على لقاء الأسد. » ثم أمر أصحابه بطيّ المنازل والمسير، وقال لأصحابه:
« إنّ نهاية القوم الريّ، فلو قد صيّرناها وراء ظهورنا فتّ ذلك في أعضادهم وانتشر نظامهم وتفرّقت جماعتهم. » ثم أنفذ الكتب إلى ملوك الديلم وأهدى إليها التيجان والأسورة والسيوف المحلّاة بالذهب ووعدها الصلات والجوائز وأمرهم أن يقطعوا طريق خراسان ويمنعوا من أراد الوصول إلى طاهر من المدد فأجابوه إلى ذلك وسار حتى صار في أوّل بلاد الريّ وأتاه صاحب مقدّمته فقال:
« لو كنت - أبقى الله الأمير - أذكيت العيون وبعثت الطلائع وارتدت موضعا تعسكر فيه وتتّخذ خندقا كان أبلغ في الرأي وآنس للجند. » فقال: « لا، ليس مثل طاهر ومن معه استعدّ له بالمكائد والتحفّظ إنّ حال طاهر تؤول إلى أحد أمرين: إمّا أن يتحصّن بالريّ فيبيّته أهلها فيكفونا مؤونته أو يخلّيها ويدبر راجعا أو قد قربت منه. » وأتاه يحيى بن عليّ فقال:
« أيّها الأمير اجمع عسكرك فإنّه متفرّق، واحذر البيات فإنّ العساكر لا تساس بالتواني والحروب لا تدبّر بالاغترار ولا تقل المحارب لي طاهر.
فالشرارة الخفيّة ربّما صارت ضراما والثلمة من السيل ربّما تهون بها فصارت بحرا عظيما وقد قربت عساكرنا من طاهر، فلو كان رأيه الهرب لما كان يتأخّر إلى يومه هذا. » قال: « اسكت فإنّ طاهرا ليس في هذا الموضع الذي ترى وإنّما تتحفّظ الرجال إذا لقيت أقرانها وتستعدّ المناوئ لها أكفاؤها ونظراؤها. »
استشارة طاهر
واستشار طاهر أصحابه لمّا قرب منه عليّ، فأشاروا عليه أن يقيم بمدينة الريّ ويدافع القتال ما قدر عليه إلى أن يأتيه من خراسان المدد من الخيل ومن يتولّى الحرب دونه وقالوا:
« مقامك بمدينة الريّ أرفق بك وبأصحابك وأقدر لهم على الميرة وأكنّ من البرد وأقوى لك على المماطلة والمطاولة إلى أن يأتيك مدد. » فقال طاهر:
« إنّ الرأي ليس ما رأيتم. إنّ أهل الريّ لعليّ هائبون ومن معرّته متّقون، ولست آمن إن حاصرنا أن يدعو أهلها خوفه إلى الوثوب بنا ومعاونته على قتالنا، مع أنّه لم يكن قوم قطّ زوحموا في ديارهم وتورّد عليهم إلّا وهنوا وذلّوا واجترأ عليهم عدوّهم. وما الرأي إلّا أن نصيّر مدينة الريّ وراء ظهورنا فإن أعطانا الله الظفر وإلّا عوّلنا عليها، فقاتلنا في سككها وتحصّنّا بمنعتها إلى أن يأتينا مدد من خراسان. » فقالوا: « الرأي ما رأيت. » فنادى طاهر في أصحابه فخرجوا فعسكروا على خمسة فراسخ من الريّ، وأتاه محمد بن العلاء فقال له:
« أيّها الأمير، إنّ جندك قد هابوا هذا الجيش وامتلأت قلوبهم خوفا ورعبا منه. فلو أقمت حتى تشامّهم أصحابك ودافعت بالقتال إلى أن يأنسوا بهم ويعرفوا وجه المأخذ في قتالهم. » فقال: « إني لا أوتى من تجربة وحزم، وإنّ أصحابي قليل والقوم عظيم سوادهم كثير عددهم. فإن دافعت بالقتال وأخّرت المناجزة لم آمن أن يطّلعوا على قلّتنا وعورتنا وأن يستميلوا من معي برغبة أو رهبة فينفضّ عني أصحابي ويخذلني أهل الحفاظ والصبر ولكن ألفّ الرجال بالرجال وألحم الخيل بالخيل واعتمد على الطاعة والوفاء وأصبر، فإن يرزق الله الظفر والفلج فذلك الذي نريد ونرجو، وإن تكن الأخرى فلست بأوّل من قاتل فقتل وما عند الله أجزل وأفضل. » وقال عليّ بن عيسى لأصحابه:
« بادروا القوم، فإن عددهم قليل ولو قد زحفتم إليهم لم يصبروا على حرارة السيوف ووقع السهام وطعن الرماح. » وعبّأ جنده ميمنة وميسرة وقلبا وصيّرها كثيفة عظيمة، ثم نصب عشر رايات في كلّ راية ألف رجل. وقدّم الرايات راية راية وصيّر بين كلّ راية وراية غلوة وأمر أمراءها إذا قاتلت الراية الأولى فصبرت وجمّت وطال بها القتال، أن تقدّم التي تليها وتتأخّر التي قاتلت، حتى ترجع إليها أنفسها وتستريح وتنشط للمحاربة والمعاودة.
ثم صيّر أصحاب الدروع والجواشن والخبرة أمام الرايات. ووقف في القلب في غرر أصحابه أهل البأس والحفاظ والنجدة منهم، وكتّب طاهر بن الحسين كتائبه وجعلهم كراديس صفوفا، وجعل يمرّ بقائد قائد وجماعة جماعة ويقول:
« يا أولياء الله ويا أهل الوفاء، إنّكم لستم كهؤلاء الذين ترون من أهل الغدر والنكث. إنّ هؤلاء ضيّعوا ما حفظتم ونكثوا الأيمان التي رعيتم. فلو قد غضضتم الأبصار وثبّتم الأقدام لأنجزتم لله وعده، وفتح عليكم أبواب عزّه ونصره. فجالدوا طواغيت الفتنة ويعاسيب النار، وادفعوا بحقّكم باطلهم. فإنّما هي ساعة حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين. » وقلق قلقا شديدا وحرص حرصا عظيما وجعل يقول:
« يا أهل الوفاء والصدق والصبر، الصبر الصبر، الحفاظ الحفاظ. » فهو على ذلك حتى وثب أهل الريّ فأغلقوا أبواب المدينة فنادى طاهر:
« يا أولياء الله اشتغلوا بمن أمامكم عمّن خلفكم فإنّه لا ينجيكم إلّا الجدّ والصدق. » ثم كان من أمرهم ما حكيناه قبل.
ولمّا ورد الخبر بغداد بقتل عليّ بن عيسى كثرت الأراجيف ومشى القوّاد بعضهم إلى بعض فقالوا:
« إنّ عليّا قد قتل ولسنا نشكّ أنّ محمدا سيحتاج إلى الرجال واصطناع الصنائع وإنّما ترفع الرجال رؤوسها في وقت البأس. فليأمر كلّ رجل منكم جنده بالشغب وطلب الأرزاق والجوائز، فلعلّنا نصيب في هذه الحرّة منه ما يصلحنا ويصلح جندنا. » فاتّفق رأيهم على ذلك وأصبحوا بباب الجسر، فكبّروا وطلبوا الأرزاق وبلغ الخبر عبد الله بن خازم، فركب في أصحابه وفي جماعة كثيرة من قوّاد العرب فتراموا بالنشّاب والحجارة واقتتلوا قتالا يسيرا، وسمع محمد الضجّة والتكبير، فأرسل من يأتيه بالخبر فأعلمه أنّ الجند قد اجتمعوا وشغبوا لطلب أرزاقهم قال:
-
-
« فهل يطلبون شيئا غير ذلك؟ » قال: « لا. » قال: « فما أهون ما طلبوا. إرجع إلى عبد الله بن خازم فمره أن ينصرف ويواقف الناس على أن يبذل لهم أرزاقهم. » فواقفهم على أرزاق أربعة أشهر ورفع من كان دون الثمانين إلى الثمانين وأمر للقوّاد والخواصّ بالصلات والجوائز.
توجيه عبد الرحمن إلى همدان لحرب طاهر
وفي هذه السنة وجّه محمد المخلوع عبد الرحمن بن جبلة الأبناوى إلى همذان لحرب طاهر، وانتخب عشرين ألف رجل من الأبناء فضمّهم إليه وحمل معه الأموال وقوّاه بالسلاح والخيل وأجازه بجوائز وولّاه ما بين حلوان إلى ما غلب عليه من أرض خراسان، وأمره أن يسبق طاهر إلى همذان ويخندق عليه ويجمع إليه آلة الحرب، وبسط يده وتقدّم إليه في التحفّظ والاحتراز وترك ما عمل به عليّ من الاغترار والتضجيع. فتوجّه عبد الرحمن حتى نزل همذان فضبط طرقها وحصّن سورها وأبوابها وسدّ ثلمها وحشر إليها الأسواق والصنّاع وجمع فيها الآلات والمير واستعدّ للقاء طاهر ومحاربته.
وقد كان يحيى بن عليّ بن عيسى لمّا قتل أبوه أقام بين الريّ وهمذان وكان لا يمرّ به أحد من فلّ أبيه إلّا احتبسه. وكان يرى أنّ محمدا يولّيه مكان أبيه ويوجّه إليه الخيل والرجال. وكتب إلى محمد يستمدّه ويستنجده فأجابه محمد يعلمه توجيهه عبد الرحمن بن جبلة الأبناوى ويأمره بالانضمام إليه فيمن تبعه. ولمّا بلغ طاهرا خبر عبد الرحمن توجّه إليه، فلمّا قرب من يحيى، قال يحيى لأصحابه:
« هذا طاهر صاحبكم بالأمس، ولست آمن إن لقيته بمن معي أن يصدعنا صدعا يدخل وهنه على من خلفنا، ويعتلّ عبد الرحمن بذلك ويقلّدنى به العار والعجز عند أمير المؤمنين. فإن أنا استنجدته لم آمن أن يمسك عنا، ضنّا برجاله وإبقاء عليهم. والرأي أن نتزاحف إلى مدينة همذان فنعسكر قريبا من عبد الرحمن فإن نحن استعنّاه قرب منّا عونه وإن احتاج إلينا أعنّاه وقاتلنا معه. » قالوا: « الرأي ما رأيت. » فانصرف نحو همذان. فلمّا قرب منها خذله أصحابه وتفرّقوا عنه وأشرف طاهر على مدينة همذان ونادى عبد الرحمن في أصحابه، فخرجوا على تعبئة، فصادف طاهرا، فاقتتلوا قتالا شديدا، وصبر الفريقان وكثر القتلى والجرحى فيهم. ثم إنّ عبد الرحمن انهزم ودخل همذان وأقام بها أيّاما حتى اندمل جراح أصحابه، وقووا ثم أمر بالاستعداد وزحف إلى طاهر. فلمّا رأى طاهر أعلامه وأوائل خيله قال لأصحابه:
« إنّ عبد الرحمن يتراءى لنا حتى نقرب منه ثم يقاتلنا، فإن هزمناه بادر إلى المدينة فدخلها وقاتلكم على خندقها وامتنع بسورها، وإن هزمنا اتسع له المجال. فهلمّوا نقف له حتى يقرب منّا ويبعد من خندقه. » فوقف طاهر مكانه وظنّ عبد الرحمن أنّ الهيبة بطّأت به عن لقائه والنفوذ إليه. فبادر قتاله فاقتتلوا قتالا شديدا وصبر أصحاب طاهر فجعل عبد الرحمن يقول:
« يا معشر الأبناء يا أبناء الموت وألفاف السيوف، إنّهم العجم وليسوا بأصحاب مطاولة ولا صبر، فاصبروا لهم فداكم أبي وأمي. » وقاتل ببدنه قتالا شديدا وحمل حملات منكرات، فلا يزول أحد من أصحاب طاهر. ثم إنّ صاحبا لطاهر حمل على أصحاب عبد الرحمن فقتل صاحب علمه وزحمهم أصحاب طاهر زحمة شديدة، فولّوا، ووضعوا فيهم السيوف حتى دخلوا همدان يقتلونهم ويأسرونهم. وأقام طاهر على باب المدينة محاصرا. فكان يخرج عبد الرحمن ويقاتل على أبواب المدينة ويرمى أصحابه من فوق السور، حتى اشتدّ بهم الحصار وتأذّى بهم أهل المدينة وتبرّموا بالحرب والقتال، وقطع طاهر عنهم المادّة من كلّ وجه.
فهلك أصحاب عبد الرحمن وتخوّفوا أن يثب بهم أهل همذان فأرسل عبد الرحمن إلى طاهر وسأله الأمان ولمن معه فآمنه طاهر ووفى له.
واعتزل عبد الرحمن في من كان معه من أصحابه وأصحاب يحيى، وطرد طاهر عمّال محمد عن قزوين وسائر كور الجبال.
وفي هذه السنة قتل عبد الرحمن بن جبلة الأبناوى بأسدآباذ.
ذكر السبب في مقتله
لمّا وجّه محمد عبد الرحمن الأبناوى إلى همذان أتبعه بعبد الله وأحمد ابني الحرشي في خيل عظيمة وأمرهما أن ينزلا قصر اللصوص وأن يسمعا ويطيعا لعبد الرحمن ويكونا مددا له إن احتاج إليهما. فلمّا خرج عبد الرحمن إلى طاهر في الأمان كان يرى طاهرا وأصحابه أنّه مسالم لهم راض بعهودهم.
ذكر غفلة من طاهر وإضاعة حزم
ثم اغترّهم وهم آمنون. فركب في أصحابه ولم يشعر طاهر وأصحابه حتى هجموا عليهم فوضعوا فيهم السيوف والنشّاب فثبت لهم رجّالة طاهر بالتراس والسيوف، وجثوا على الركب فقاتلوه كأشدّ ما يكون من القتال. ولم تزل الرجّالة تدافعهم إلى أن أخذت الفرسان عدّتها وصدقوهم القتال. فاقتتلوا قتالا منكرا حتى تكسّرت السيوف وتقصّفت الرماح وهرب معظم أصحاب عبد الرحمن فترجّل هو في ناس من أصحابه فقاتل حتى قتل وقتل من أصحابه مقتلة عظيمة، واستبيح عسكره، وانتهى من أفلت من أصحابه إلى عسكر عبد الله وأحمد ابني الحرشي. فدخلهم الوهن والفشل وامتلأت قلوبهم خوفا ورعبا. فولّوا منهزمين لا يلوون على شيء حتى صاروا إلى بغداد.
وأقبل طاهر قد خلت له البلاد يحوز بلدة بلدة وكورة كورة، حتى نزل بقرية من قرى حلوان يقال لها: شلاشان، فخندق بها وحصّن عسكره.
ثم دخلت سنة ست وتسعين ومائة
ثم إنّ محمدا ندب أسد بن يزيد بن مزيد فاشتط عليه في طلب الأموال فحبسه، وندب عمّه أحمد بن مزيد وعبد الله بن حميد بن قحطبة إلى حلوان لحرب طاهر.
ذكر الخبر عن حبس أسد وسببه
قال أسد بن يزيد بن مزيد: بعث إليّ الفضل بن الربيع بعد مقتل عبد الرحمن بن جبلة، فأتيته، فلمّا دخلت إليه وجدته قاعدا في صحن داره وفي يده رقعة قد قرأها وقد احمرّت عيناه واشتدّ غضبه وهو يقول:
« ينام نوم الظربان وينتبه انتباه الذئب، همّه بطنه وفرجه تخاتل الرعاء والكلاب ترصده، ولا يفكّر في زوال نعمة ولا يروّى في إمضاء رأى ولا مكيدة، قد ألهته كأسه وشغله قدحه، فهو يجرى في لهوه والأيّام توضع في هلاكه. » ثم وصف عبد الله وتيقّظه، وتمثّل بشعر للبعيث، ثم التفت إليّ فقال:
« أبا الحارث أنا وإيّاك نجري إلى غاية إن قصّرنا عنها ذممنا وإن اجتهدنا في بلوغها انقطعنا، وإنّما نحن شعب من أصل إن قوى قوينا وإن ضعف ضعفنا. إنّ هذا الرجل قد ألقى بيده إلقاء الأمة الوكعاء، يشاور النساء ويعوّل على الرؤيا، وقد أمكن مسامعه من أهل اللهو والخسارة فهم يعدونه الظفر ويمنّونه عقب الأيام. والهلاك أسرع إليه من السيل إلى قيعان الرمل، وقد خشيت أن نهلك بهلاكه وأنت فارس العرب وابن فارسها فزع إليك في لقاء هذا
-
الرجل وأطمعه في ما قبلك أمران: أحدهما صدق طاعتك والآخر شدّة بأسك. وقد أمرنى بإزاحة علّتك وبسط يدك في ما أحببت، غير أنّ الإقتصاد رأس النصيحة ومفتاح اليمن والبركة، فأنجز حوائجك وعجّل المبادرة إلى عدوّك، فإني أرجو أن يولّيك الله شرف هذا الفتح ويلمّ بك شعث هذه الخلافة والدولة. » فقلت: « أنا لطاعة أمير المؤمنين - أعزّه الله - وطاعتك مقدم، وعلى كلّ ما دخل به الوهن والذلّ على عدوّكما حريص، غير أنّ المحارب لا يعمل بالغرور ولا يفتتح أمره بالتقصير، وإنّما ملاك المحارب الجنود وملاك الجنود المال وقد ملأ أمير المؤمنين أيدى من شهده من العسكر، وتابع لهم الأرزاق والصلات، فإن سرت بأصحابي وقلوبهم متطلّعة إلى من خلفهم من إخوانهم، لم انتفع بهم في لقاء من أمامى، وقد فضّل أهل السلام على أهل الحرب وجاز بأهل الدعة والحفض منازل أهل النصب والمشقّة، والذي أسأل، أن يؤمر لي بما يقيمنى ويقيم أصحابي الذين تخرجونهم معي بما لا يتطلّعون معه إلى ما خلفهم. » قال: « وما هو؟ » قلت: « رزق سنة يطلق لأصحابي ويحمل معهم رزق سنة ويخصّ من لا خاصّة له من أهل الغناء والبلاء، واحمل ألف رجل من أصحابي الذين معي على الخيل ولا أسأل عن محاسبة ما افتتحت من المدن والكور. » فقال: « قد اشتططت ولا بدّ من مناظرة أمير المؤمنين. » ثم ركب وركبت معه ودخل قبلي، ثم أذن لي فدخلت فما دار بيني وبين محمد إلّا كلمتان حتى غضب وأمر بحبسي. فذكر بعض خاصّة محمد أنّ أسدا اقترح على محمد أن يسلّم إليه ولدي عبد الله المأمون حتى يكونا أسيرين في يدي، فإن أعطاني الطاعة وألقى بيده وإلّا عملت فيهما بحكمي فقال محمد:
« أنت أعرابيّ مجنون تدعو إلى الخرق والتخليط وتقترح فوق قدرك. » وأمر به فحبس.
ثم قال محمد:
« هل في بيت هذا من يقوم مقامه؟ فإني أكره أن أستفسدهم مع سابقتهم وما تقدّم من طاعتهم ونصيحتهم. » قالوا: « نعم فيهم أحمد بن مزيد عمّه وهو أحسنهم طريقة وأصلحهم نيّة وله مع هذا بأس ونجدة وبصر بسياسة الجنود ومباشرة الحروب. » فأنفذ إليه محمد يزيدا فأقدمه عليه. قال أحمد: فلمّا دخلت بغداد بدأت بالفضل بن الربيع، فقلت أسلّم عليه وأستعين بمنزلته ومحضره عند محمد.
فلمّا أذن لي دخلت وإذا عنده عبد الله بن حميد بن قحطبة وهو يريده على الشخوص إلى طاهر وعبد الله يشتطّ عليه في طلب المال والسلاح والإكثار من الرجال. فلمّا رآني رحّب بي وأخذ بيدي فرفعني حتى صيّرنى معه على صدر المجلس، ثم أقبل على عبد الله يمازحه ويداعبه، فتبسّم في وجهه ثم قال:
إنّا وجدنا لكم إذ رثّ حبلكم ** من آل شيبان أمّا دونكم وأبا
الأكثرون إذا عدّ الحصى عددا ** والأقربون إلينا منكم نسبا
فقال عبد الله:
« إنّهم لكذاك وإنّ فيهم لسدّ الخلل ونكء العدوّ. » ثم أقبل عليّ الفضل فقال:
« إنّ أمير المؤمنين أجرى ذكرك، فوصفتك له بحسن الطاعة وفضل النصيحة والشدّة على أهل المعصية، فأحبّ اصطناعك والتنويه بك وأن يرفعك إلى منزلة لم يبلغها أحد من أهل بيتك. » ثم التفت إلى خادمه وقال:
« مر بإسراج دوابّى. » فلم ألبث أن أسرجت له ومضى ومضيت معه حتى دخلنا على محمد وهو في صحن داره على سرير ساج، فلم يزل يدنيني حتى كدت ألاصقه، فقال:
« إنّه قد كثر عليّ تخليط ابن أخيك وطال خلافه عليّ حتى أوحشنى ذلك منه، وولّد في قلبي التهمة له وصيّرنى بسوء مذهبه وحنث طاعته إلى أن تناولته من الأدب والحبس بما لم أكن أحبّ تناوله به، وقد ووصفت لي بخير ونسبت إلى جميل، وأحببت أن أرفع قدرك وأعلى منزلتك وأقدّمك على أهل بيتك وأولّيك جهاد هذه الفئة الباغية وأعرّضك الأجر والثواب في قتالهم ولقائهم، فانظر كيف تكون، وصحّح نيّتك وأعن أمير المؤمنين على اصطناعك وتشريفك. » فقلت: « سأبذل في طاعة أمير المؤمنين - أعزه الله - مهجتي وأبلغ في جهاد عدوّه أفضل ما أمله عندي ورجاه من غنائى وكفايتي، إن شاء الله. » فقال: « يا فضل، ادفع إليه دفاتر أصحاب أسد، واضمم إليه من شهد العسكر من رجال الجزيرة والأعراب. » وقال لي:
« اكمش على أمرك وعجّل المسير إلى عدوّك. » فخرجت، فانتخبت الرجال، فبلغت عدّة من صحّحت اسمه عشرين ألف رجل. ثم توجّهت بهم إلى حلوان.
وكان محمد وصّاه فقال:
« إيّاك والبغي، فإنّه عقال النصر ولا تقدّم رجلا إلّا باستخارة، ولا تشهر سيفا إلّا بعد إعذار، وأحسن صحابة من معك وطالعنى بأخبارك في كلّ يوم ولا تخاطر بنفسك طلب الزلفة عندي ولا تستبقها في ما تتخوّف رجوعها عليّ، وكن لعبد الله بن حميد أخا مصافيا، أحسن صحبته ومعاشرته ولا تخذله إن استنصرك، ولا تبطئ عليه إن استصرخك، ولتكن أيديكما واحدة وكلمتكما متفقة. » ثم قال:
« سل حوائجك وعجّل السراح إلى عدوّك. » فدعا له أحمد وقال:
« يا أمير المؤمنين تكثّر الدعاء لي ولا تقبل فيّ قول باغ ولا ترفضني قبل المعرفة بموضع قدمي، ولا تنقض عليّ ما استجمع من رأى، ومن عليّ بالصفح عن ابن أخي. » قال: « ذلك لك. » ثم بعث إلى أسد فحلّ قيوده وخلّى سبيله.
فخرج أحمد بن مزيد في عشرين ألف رجل [ من العرب، وعبد الله بن حميد في عشرين ألف رجل ] من الأبناء وقد وصّيا بالتوادّ والتحابّ، فتوجّها حتى نزلا قريبا من حلوان بموضع يقال له: خانقين، وأقام طاهر بموضعه وخندق عليه.
ذكر ما احتال به طاهر عليهما حتى اختلفا
ثم إنّ طاهرا دسّ إليهما قوما، فكانوا يأتون العسكرين جميعا بالأخبار الباطلة والأراجيف الكاذبة بأنّ محمدا قد وضع العطاء لأصحابه وقد أمر لهم من الأرزاق بكذا وكذا، ولم يزل يحتال في وقوع الاختلاف والشغب بينهم حتى اختلفوا، وقاتل بعضهم بعضا، فأخلوا خانقين ورجعوا عنها من غير أن يلقوا طاهرا.
وتقدّم طاهر حتى نزل حلوان، فلم يلبث طاهر بعد دخوله حلوان إلّا يسيرا حتى أتاه هرثمة بن أعين بكتاب المأمون والفضل بن سهل يأمرانه بتسليم ما حوى من المدن والكور إليه والتوجّه إلى الأهواز وفتحها. فسلّم ذلك إليه وأقام هرثمة بحلوان فحصّنها ووضع مسالحه ومراصده في طرقها وجبالها. وتوجّه طاهر إلى الأهواز.
المأمون يتسمى أمير المؤمنين
-
وفي هذه السنة لمّا انتهى إلى المأمون قتل عليّ بن عيسى، تسمّى بأمير المؤمنين وسلّم عليه الفضل بذلك، وصحّ عنده الخبر بقتل طاهر عبد الرحمن بن جبلة الأبناوى وغلبته على عسكره، فدعا الفضل بن سهل وعقد له على المشرق من جبل همذان إلى جبل سقنان والتبّت طولا ومن بحر فارس إلى بحر الديلم [ وجرجان ] عرضا وجعل له عمّاله ثلاثة آلاف وعقد له لواء على سنان ذي شعبتين وسمّاه ذا الرئاستين.
الأمين يولى عبد الملك الشام
وفي هذه السنة ولّى محمد الأمين عبد الملك بن صالح بن عليّ الشام.
والسبب في ذلك
وكان السبب في ذلك أنّ طاهرا لمّا قوى واستعلى أمره وهزم قوّاد محمد وجيوشه، دخل عبد الملك بن صالح على محمد وقد كان عبد الملك محبوسا في حبس الرشيد، فأطلقه محمد، وكان عبد الملك يشكر ذلك لمحمد، ويوجب به على نفسه طاعته ومحبّته، فقال:
« يا أمير المؤمنين. »
ذكر الرأي الذي أشار به عبد الملك
إني أرى الناس قد طمعوا فيك وأهل العسكر قد اغتمزوا بذلك، وقد بذلت سماحتك فإن أتممت على عادتك أفسدتهم وأبطرتهم، وإن كففت يدك عن العطاء أسخطتهم وأغضبتهم، وليس تملك الجنود بالإمساك ولا تبقى بيوت المال على الإنفاق والسرف، ومع هذا فإنّ جندك قد أرعبتهم الهزائم وأضعفتهم الحروب وامتلأت قلوبهم هيبة لعدوّهم ونكولا عن لقائهم، فإن سيّرتهم إلى طاهر غلب بقليل من معه كثيرهم وهزم بقوّة نيّته ضعف نياتهم، وأهل الشام قوم قد ضرّستهم الحروب وأدّبتهم الشدائد، وجلّهم منقاد لي مسارع إلى طاعتي، فإن وجّهنى أمير المؤمنين اتخذت له منهم جندا تعظم نكايتهم في عدوّه. » فقال محمد: « فإني مولّيك ومقوّمك بما سألت من مال وعدّة، فعجّل الشخوص إلى ما هناك واعمل عملا يظهر أثره واحمد بركة نظرك فيه. » فولّاه الشام واستحثّه استحثاثا شديدا ووجّه معه كثيفا من الجند.
فلمّا قدم عبد الملك الرقّة أرسل كتبه ورسله إلى رؤساء أجناد الشام ووجوه الجزيرة، فلم يبق أحد ممّن يرجى ويذكر بأسه وغناؤه إلّا وعده وبسط أمله. فقدموا عليه رئيس بعد رئيس وفوج بعد فوج فأجازهم وخلع على كلّ من قصده ووصله، وأتاه زواقيل الشام والأعراب من كلّ فجّ، فاجتمعوا وكثروا.
ذكر اتفاق سيء
واتّفق أنّ بعض جند خراسان نظر إلى دابّة كانت أخذت منه في وقعة سليمان بن أبي جعفر تحت بعض الزواقيل، فتعلّق بها وتصايحا، واجتمعت جماعة من الزواقيل والجند، فأعان كلّ فريق منهم صاحبه وتضاربوا بالأيدى ومشى الأبناء بعضهم إلى بعض وقالوا:
« إن صبرنا لهم ركبونا بمثل هذا كلّ يوم. » واستعدّوا، وأتوا الزواقيل وهم غارّون، فوضعوا فيهم السيوف وذبحوهم في رحالهم، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وتنادى الزواقيل، فركبوا ونشبت الحرب، وبلغ عبد الملك فأنفذ رسولا يأمرهم بالكفّ ووضع السلاح، فرموه بالحجارة وأبلغ عبد الملك من قتل من الزواقيل وأنّهم خلق كثير مطرّحون وكان مريضا فضرب بيد على يد ثم قال:
« وا ذلّاه، تستضام العرب في دورها وبلادها وتقتل هذه المقتلة. »
فغضب من كان أمسك عن الشرّ وتفاقم الأمر، فنادى الناس وقالوا:
« الهرب أهون من العطب والموت أهون من الذلّ، النفير النفير قبل أن ينقطع الشمل ويفوت المطلب ويعسر المهرب. » وقام رجل من كلب فقال:
شؤبوب حرب خاب من يصلاها ** قد شرّعت فرسانها قناها
فأورد الله لظى قناها ** إن غمرت كلب بها لحاها
ثم نادى:
« يا معشر كلب، إنّها الراية السوداء، والله ما ولّت ولا ذلّ ناصرها، وإنّكم لتعرفون مواقع سيوف خراسان في رقابكم، فاعتزلوا الشرّ قبل أن يعظم، وتخطّوه قبل أن يضطرم.
أيّها الناس شامكم شامكم، داركم داركم، الموت الفلسطيني خير من العيش الجزري، ألا أنّى راجع، فمن أراد الانصراف فلينصرف معي. » وسار معه أهل الشام وأقبلت الزواقيل حتى أضرموا ما كان جمعه التجار من الأعلاف بالنار وتفرّق ذلك العسكر.
ثم اتفق موت عبد الملك بن صالح في تلك الأيّام فلم يبق لذلك الجند أثر.
خلع الأمين ومبايعة المأمون ببغداد
وفي هذه السنة خلع محمد بن هارون الأمين وأخذت البيعة لأخيه عبد الله المأمون ببغداد وحبس محمد في قصر أبي جعفر مع أمّ جعفر بنت جعفر بن أبي جعفر وهي زبيدة.
ذكر السبب في ذلك
لمّا توفّى عبد الملك بن صالح بالرقّة نادى الحسين بن عليّ بن عيسى بن ماهان في الجند، فصيّر الرجّالة في السفن والفرسان في الظهر، ووصلهم وقوّى ضعفاءهم، ثم حملهم حتى أخرجهم من بلاد الجزيرة وذلك في سنة ستّ وتسعين ومائة.
فلمّا وصلوا إلى بغداد تلقّاه الأبناء بالتكرمة والتعظيم، وضربوا له القباب واستقبله الرؤساء وأهل الشرف ودخل منزله في أفضل كرامة وأحسن هيئة.
-
فلمّا كان في جوف الليل بعث إليه محمد يأمره بالركوب إليه، فقال للرسول:
« ما أنا بمغنّ ولا مضحك ولا صاحب خسارة ولا جرى له على يدي مال ولا وليت له ولاية، فلايّ شيء يريدني في هذه الساعة؟ أنصرف، فإذا أصبحت غ*** إليه إن شاء الله. » فانصرف الرسول وأصبح الحسين، فوافى باب الجسر واجتمع إليه الناس، فأمر بإغلاق الباب الذي يخرج منه إلى قصر عبيد الله بن عليّ وباب سوق يحيى. ثم قال:
« يا معشر الأبناء، اسمعوا مني أنّ خلافة الله لا تجاوز بالبطر، ونعمه لا تستصحب بالتجبّر، وأنّ محمدا يريد أن يوقع أديانكم وينكث بيعتكم، وهو صاحب الزواقيل بالأمس، أراد أن ينقل عزّكم، إلى غيركم وبالله لئن طالت به مدّة ليرجعنّ وبال ذلك عليكم. فاقطعوا أثره قبل أن يقطع آثاركم، وضعوا عزّه قبل أن يضع عزّكم، فو الله لا ينصره منكم ناصر إلّا ذلّ ولا يمنعه مانع إلّا قتل، وما لأحد عند الله هوادة ولا راقب على الاستخفاف بعهوده والختر بأيمانه. » ثم أمر الناس بعبور الجسر فعبروا واجتمعت الحربية وأهل الأرباض وتسرّعت إليه خيول محمد فاقتتلوا، وأمر الحسين من كان معه من خواصّ أصحابه بالنزول فنزلوا وصدقوا القتال حتى كشفوهم.
فخلع الحسين محمدا يوم الأحد لإحدى عشرة خلت من رجب سنة ست وتسعين ومائة، وأخذ البيعة لعبد الله المأمون من غد يوم الاثنين إلى الليل وغدا إلى محمد يوم الثلاثاء.
إخراج محمد من قصر الخلد وما جرى على أم جعفر
وقد كان العباس بن موسى الهاشمي قد دخل على محمد، فأخرجه من قصر الخلد إلى قصر أبي جعفر وحبسه هناك، وكذلك فعل بأمّ جعفر.
فأبت أن تخرج فقنّعها بالسوط وسبّها وأغلظ لها في القول، حتى [ أ ] جلست في محفّة وأدخلت مع ابنها، المدينة فلمّا أصبح الناس طلبوا من الحسين الأرزاق وماج الناس بعضهم في بعض فقام محمد بن أبي خالد بباب الشام فقال:
« أيّها الناس والله ما أدري بأيّ سبب تأمّر الحسين بن عليّ علينا وتولّى هذا الأمر دوننا. ما هو بأكبرنا سنّا ولا أكرمنا حسبا ولا أعظمنا غناء وفينا من لا يرضى بالدنيّة ولا ينقاد للمخادعة. وإني أوّل من نقض عهده وأنكر فعله فمن كان رأيه رأيي فليعتزل. » وقام كل رئيس قوم فتكلّم وأنكر خلع محمد وأسره.
وأقبل شيخ كبير على فرس فصاح بالناس:
« اسكتوا. » فسكتوا. فقال:
« أيّها الناس هل تعتدّون على محمد بقطع منه لأرزاقكم؟ » قالوا: « لا. » قال: « فهل قصّر بأحد من رؤسائكم؟ » قالوا: « لا. » قال: « فهل عزل أحدا من قوادكم عن قيادته؟ » قالوا: « لا. » قال: « فما بالكم خذلتموه حتى خلع وأسر؟ أما والله ما قتل قوم خليفتهم إلّا سلّط الله عليهم السيف القاتل والحتف الجارف. انهضوا إلى خليفتكم فادفعوا عنه وقاتلوا من أراد خلعه والفتك به. »
الحربية يناهضون الحسين بن علي ويحررون محمدا من الأسر
ثم نهضت الحربية ونهض معهم عامّة أهل الأرباض في العدّة الحسنة، فقاتلوا الحسين بن عليّ وأصحابه قتالا عظيما شديدا منذ ارتفاع النهار إلى انكسار الشمس، حتى هزموهم وأسروا الحسين بن عليّ. ودخل أسد الحربي على محمد فكسر قيوده وأقعده في مجلس الخلافة. فنظر محمد إلى قوم ليس عليهم لباس الجند ولا عليهم سلاح، فأمرهم حتى أخذوا السلاح من الخزائن قدر حاجتهم وانتهب الغوغاء بذلك السبب سلاحا كثيرا ومتاعا آخر، وأتى بالحسين بن عليّ أسيرا، فلامه محمد ووبّخه وقال:
« ألم أقدّم أباك على الناس وأولّه أعنّة الخيل؟ ألم أملأ يده من الأموال؟
ألم أشرّف أقداركم وأرفعكم على غيركم من القوّاد؟ » قال: « بلى. » قال: « فما استحققت منك أن تخلع طاعتي وتؤلّب الناس عليّ؟ » قال: « خذلان الله يا أمير المؤمنين وأنت أكرم من عفا وصفح وتفضّل. » قال: « فإنّ أمير المؤمنين قد فعل ذلك بك، فعليك بثأر أبيك ومن قتل من أهل بيتك، فقد ولّيتك ذلك. » ثم دعا بخلعة فخلعها عليه وحمله على مراكب وولّاه، وهنّأه الناس. ثم خرج مع نفر من خاصّته ومواليه حتى عبر الجسر ووقف حتى خفّ الناس، ثم قطع الجسر وهرب.
فنادى محمد في الناس فركبوا في طلبه فأدركوه بمسجد كوثر على فرسخ من بغداد في طريق نهر بين فلمّا بصر بالخيل نزل فتحرّم وصلّى ركعتين، ثم حمل عليهم حملات في كلّها يهزمهم ويقتل منهم. ثم عثر به فرسه، فسقط وابتدره الناس طعنا وضربا حتى قتلوه. فقال عليّ بن جبلة الحربي:
ألا قاتل الله الأولى كفروا به ** وفازوا برأس الهرثميّ حسين
لقد أوّدوا منه قناة صليبة ** بشطب يمانيّ ورمح ردين
رجا في خلاف الحقّ عزّا وإمرة ** فألبسه التأميل خفّ حنين
قتل محمد بن يزيد المهلبي
وفي هذه السنة رحل طاهر بن الحسين، حين قدم عليه هرثمة، من حلوان إلى الأهواز، فقتل عامل محمد عليها، وكان عامله محمد بن يزيد بن حاتم المهلّبي.
وكان السبب في ذلك
أنّ محمد بن يزيد المهلّبي جمع جيوشا كبيرة حين توجّه إليه طاهر وأقبل حتى نزل سوق عسكر مكرم وصيّر العمران والماء وراء ظهره. وخاف طاهر أن يعجل إلى أصحابه بجمعهم وسار بتعبئته، فجمع محمد بن يزيد أصحابه وقال:
« ما ترون، أطاول القوم وأماطلهم اللقاء، أم أناجزهم كانت لي أم عليّ؟
فو الله ما أرجع إلى أمير المؤمنين أبدا ولا أنصرف عن الأهواز. » فقالوا: « الرأي أن ترجع إلى الأهواز فتحصّن بها وتغادى طاهرا اللقاء وتراوحه، وتبعث إلى البصرة فتفرض بها الفرض وتستجيش بمن قدرت عليه من قومك. » فقبل ما أشاروا به عليه وتابعه قومه. فرجع إلى سوق الأهواز. فحرص طاهر أن يسبقه إليها قبل أن يتحصّن بها فلم يقدر على ذلك. وسبق محمد بن يزيد إلى المدينة فدخلها وأسند إلى العمران وعبّأ أصحابه ودعا بالأموال فصبّت بين يديه، وقال لأصحابه: « من أراد منكم الجائزة والمنزلة فليعرّفنى أثره. » وقاتل الناس بين يديه حتى ترادّوا ورآهم محمد بن يزيد منهزمين فقال محمد بن يزيد لنفر كانوا معه من مواليه: « ما ترون؟ » قالوا: « في ما ذا؟ » قال: « أرى من معي قد انهزم، ولست آمل رجعتهم ولا آمن خذلان من بقي، وقد عزمت على النزول والقتال حتى يقضى الله ما هو قاض. فمن أراد منكم الانصراف فلينصرف. » فقالوا: « والله ما أنصفناك إذا، أعتقتنا من الرقّ ورفعتنا من الضّعة وأغنيتنا بعد القلّة لننصرك وقت الشدّة ثم نخذلك على هذه الحال؟ بل نتقدّم أمامك ونموت تحت ركابك فلعن الله الدنيا بعدك. » ثم نزلوا فعرقبوا دوابّهم وحملوا على أصحاب طاهر، وكان المتولّى لقتاله قريش بن شبل، فأكثروا فيهم القتل، وانتهى بعض أصحاب قريش إلى محمد بن يزيد فطعنه بالرمح فقتله.
فحكى الهيثم بن عديّ قال: دخل ابن أبي عيينة المهلّبي على طاهر فأنشده قوله:
من آنسته البلاد لم يرم ** منها ومن أوحشته لم يقم
حتى انتهى إلى قوله:
ما ساء ظنّى إلّا لواحدة ** في الصّدر محصورة عن الكلم
فتبسّم طاهر ثم قال:
« أما والله لقد ساءني من ذلك ما ساءك وآلمني منه ما آلمك، ولقد كنت كارها لما كان، غير أنّ الحتف واقع والمنايا نازلة، ولا بدّ من قطع الأواصر والتنكّر للأقارب في تأكيد الخلافة والقيام بحقّ الطاعة. »
قال: فظننّا أنّه يريد محمد بن يزيد [ بن ] حاتم.
وأقام طاهر بالأهواز حتى أنفذ عمّاله إلى كورها، وولّى اليمامة والبحرين وعمان ممّا يلي الأهواز وممّا يلي البصرة، ثم توجّه على طريق البرّ إلى واسط، فجعلت المسالح تقوّض مسلحة مسلحة وعاملا عاملا، كلّما قرب منهم طاهر تركوا أعمالهم وهربوا حتى دخل واسط، ووجّه قائدا من قوّاده يقال له: أحمد بن المهلّب، نحو الكوفة وعليها يومئذ العباس بن موسى الهادي. فلمّا بلغه توجّه خيل طاهر إليه، خلع محمدا وكتب بطاعته وبيعته إلى طاهر. ثم كتب منصور بن المهدي وكان عاملا لمحمد على البصرة إلى طاهر بطاعته. ثم كتب إليه المطّلب بن عبيد الله - وكان بالموصل - بيعته للمأمون وخلعه محمدا، فأقرّهم طاهر على ولاياتهم وأعمالهم وكان طاهر نازلا جرجرايا ولمّا رآها قال:
« نعم موضع العسكر. » وعقد بها جسرا وخندق. فلمّا وردت عليه كتب أهل هذه المدائن بالتسليم سار منها إلى نهر صرصر، وعقد بها جسرا وأخذ أصحاب طاهر المدائن.
فحكى أنّ طاهرا لمّا توجّه إلى المدائن كان فيها خيل كثيرة لمحمد وعليهم البرمكي، قد تحصّن بها والمدد يأتيه في كلّ يوم والصلات والخلع.
-
فلمّا قرب طاهر منها قدّم قريش بن شبل على مقدّمته. فلمّا سمع أصحاب البرمكي طبوله أسرجوا الدوابّ، وأخذ البرمكي في تعبئة الرجال وجعل من في أوائل الناس ينضمّ إلى آخرهم، فيردّهم البرمكي ويسوّى صفوفه، فكلّما سوّى صفّا انتقض عليه. فقال:
« اللهم إنّا نعوذ بك من الخذلان. » ثم التفت إلى صاحب ساقته وقال:
« خلّ سبيل الناس فإني أرى جندا لا خير عندهم. » فركب بعضهم بعضا نحو بغداد ونزل طاهر المدائن وقدّم قريش بن شبل والعباس بن بخار أخذاه إلى درزيجان وكان نصر بن منصور بن نصر بن مالك، وأحمد بن سعيد الحرشي معسكرين بنهر ديالى، فمنعا أصحاب البرمكي من الجواز إلى بغداذ وتقدّم طاهر حتى صار إلى الدّرزيجان حيال نصر وأحمد، ثم سيّر إليهما الرجال في السفن للقتال، فلم يجر بينهم كبير قتال حتى انهزموا، وأخذ طاهر نحو ذات اليسار إلى نهر صرصر فعقد بها جسرا ونزلها.
خلع محمد في مكة والمدينة
وفي هذه السنة خلع داود بن عيسى بن موسى عامل مكّة والمدينة محمدا وبايع المأمون، وأخذ البيعة بهما على الناس، وكتب بذلك إلى طاهر بن الحسين. ثم خرج بنفسه.
ذكر السبب في ذلك
كان سبب ذلك أنّ محمدا كتب إلى داود بن عيسى بخلع عبد الله المأمون والبيعة لابنه موسى، وبعث بجند إلى الكتابين اللذين كتبهما هارون وعلّقهما في الكعبة، فأخذهما. فلمّا بلغه في هذا الوقت غلبة طاهر على البلاد وقتله من قتل، جمع الحجبة حجبة الكعبة، وأهل الشرف والفقهاء، فذكّرهم عهد الرشيد إليهم والمواثيق التي أخذها عند بيت الله الحرام عليهم حين بايع لابنيه: لنكوننّ مع المظلوم منهما على الظالم. ثم قال:
« قد رأيتم محمدا كيف بدأ بالظلم والبغي على أخويه وكيف بايع لابنه وهو طفل رضيع لم يفطم، واستخرج الكتابين من الكعبة غاصبا ظالما فحرّقهما بالنار، وقد رأيت خلعه ومبايعة عبد الله المأمون بالخلافة، إذ كان مظلوما مبغيّا عليه. » فقال القوم بأجمعهم:
« رأينا رأيك. » فوعدهم صلاة الظهر وأرسل إلى فجاج مكّة صائحا يصيح:
« الصلاة جامعة. » فلمّا اجتمع الناس صلّى بهم الظهر، وكان وضع له المنبر بين الركن والمقام، فصعده، وكان داود فصيحا جهيرا فخطب خطبة حسنة ذكّرهم فيها بالشرف والقدمة، وأنّ المسلمين وفود الله إليكم وبكم تأتمّ الناس، ثم ذكّرهم عهد الرشيد وما جرى في الكتابين، وعظّم عليهم الأمر ودعاهم إلى خلع محمد، والبيعة للمأمون، وقال:
« إني قد خلعت محمدا كما خلعت قلنسوتي هذه. - ورمى بها عن رأسه إلى بعض الخدم تحته، وكانت من برد حبرة حمراء مسلسلة وأتى بقلنسوة سوداء هاشمية فلبسها - وقد بايعت لعبد الله المأمون أمير المؤمنين، ألا فقوموا إلى البيعة. »
فصعد إليه من قرب من الوجوه والأشراف رجل رجل إلى وقت العصر، ثم نزل وصلّى بالناس وجلس ناحية وتتابع الناس عليه جماعة جماعة يقرأ كتاب البيعة ويصافحونه.
فعل ذلك أيّاما وكتب إلى ابنه سليمان بن داود وكان خليفته على المدينة يأمره أن يفعل بالمدينة كما فعل هو بمكّة، ثم رحل يريد المأمون بمرو، فمرّ على البصرة، ثم على فارس، ثم على كرمان حتى صار إلى المأمون بمرو، فسرّ به المأمون وتيمّن ببركة مكّة والمدينة، وكتب إليهم كتابا لطيفا يعدهم فيه الخير، وأمر أن يكتب لداود عهدان على مكّة والمدينة وأعمالهما وزيّد ولاية عكّ، وعقد له على ذلك ثلاثة ألوية، وكتب له إلى الري بمعونة خمسمائة ألف درهم.
وورد داود ومن معه بغداد فنزل على طاهر بن الحسين، فأكرمه وقرّبه، ووجّه معه يزيد بن جرير بن يزيد بن خالد بن عبد الله القسري، وعقد له طاهر على ولاية اليمن، وبعث معه خيلا كثيفة، وكان ضمن له يزيد بن جرير أن يستميل قومه وعشيرته من ملوك اليمن حتى يخلعوا محمدا ويبايعوا المأمون، وساروا جميعا. فأقام داود على عمله بمكّة ومضى يزيد بن جرير إلى اليمن، فدعا أهلها إلى البيعة للمأمون وخلع محمد وقرأ عليهم كتاب طاهر وأعلمهم عدل المأمون وإنصافه ووعدهم ومنّاهم، فأجابه أهل اليمن واستبشروا فسار فيهم يزيد بأحسن سيرة وكتب بإجابتهم وبيعتهم.
وفي هذه السنة عقد محمد نحو أربعمائة لواء لقوّاد شتّى، وأمر على جميعهم عليّ بن محمد بن عيسى بن نهيك وأمرهم بالمسير إلى هرثمة بن أعين. فساروا فالتقوا بجللتا فهزمهم هرثمة وأسر عليّ بن محمد بن نهيك وبعث به هرثمة إلى المأمون وزحف هرثمة فنزل النهروان.
استئمان جماعة من أصحاب طاهر إلى محمد
واستأمن إلى محمد جماعة من أصحاب طاهر، ففرّق محمد فيهم مالا عظيما وقوّد منهم جماعة وغلّل لحاهم بالغالية فسمّوا قوّاد الغالية.
وكان سبب استئمان أصحاب طاهر ما كان يبلغهم من عطاء محمد وبذله الأموال والكسى. فخرج من عسكر طاهر نحو من خمسة آلاف رجل من أهل خراسان فسرّ بهم محمد، ووعدهم ومنّاهم وأثبت أسماءهم في الثمانين، ودسّ محمد إلى أصحاب طاهر، وفرّق فيهم الجواسيس وأطمعهم، فشغبوا على طاهر، وراسل طاهر عيونه وجواسيسه ببغداد بأن يغرى أصاغرهم بأكابرهم، لأنّه فرّق في الأكابر خاصّة مال، فشغبوا على محمد.
ثم أخرج محمد المستأمنة مع خلق كثير - ومع كلّ عشرة أنفس منهم طبل - إلى طاهر، فأرعدوا وأجلبوا حتى أشرفوا على نهر صرصر فعبّى طاهر أصحابه كراديس وجعل يمرّ على كردوس كردوس فيقول:
« لا يغرنّكم كثرة من ترون، فإنّ النصر مع الصدق والفلح مع الصبر. » ثم أمرهم بالتقدّم، فصبر الفريقان ثم انهزم أهل بغداد وانتهبهم أصحاب طاهر، ثم كثر الشغب على محمد ونقب أهل السجون سجونهم وخرجوا، وفتن الناس، ووثب على أهل الصلاح الدعّار والشطّار، فعزّ الفاجر وذلّ المؤمن واختلّ الصالح وساءت حال الناس، إلّا من كان في عسكر طاهر، لتفقّده الأمور، وغادي القتال وراوحه حتى خربت بغداد، وتواكل الفريقان وقاتل الأخ أخاه والابن أباه واحترب الناس.
-
ثم دخلت سنة سبع وتسعين ومائة
محاصرة طاهر وهرثمة وزهير بن المسيب محمدا ببغداد
وفي هذه السنة حاصر طاهر وهرثمة وزهير بن المسيّب محمدا ببغداد.
أمّا زهير فنزل قصرا برقّة كلواذى ونصب المجانيق والعرّادات واحتفر الخنادق، وكان إذا اشتغل الجند بحرب طاهر يرمى بالعرّادات من أقبل ومن أدبر ويعشر أموال التجار ويجتبى السفن. وآذى الناس وبلغ منهم كلّ مبلغ وبلغ أمره طاهرا وأتاه الناس فشكوا ما نزل بهم من زهير، ثم قصده الناس بالحرب وبلغ ذلك هرثمة فأمدّه بالجند وقد كاد يؤخذ، فأمسك عنه الناس.
وأمّا هرثمة فنزل نهربين وجعل عليه خندقا وحائطا، وأعدّ المجانيق والعرّادات، وأنزل طاهر عبيد الله بن الوضّاح الشماسية. وأمّا طاهر فنزل البستان الذي بباب الأنبار.
فذكر عن الحسين الخليع - وكان ينادم محمدا - أنّه قال: لمّا نزل طاهر البستان الذي بباب الأنبار دخل محمدا أمر عظيم وضاق به ذرعا، وكان فرّق ما في يده من الأموال، فأمر ببيع كلّ ما في الخزائن وضرب آنية الفضّة والذهب دنانير ودراهم يفرّق في أصحابه وفي نفقاته.
واستأمن إلى طاهر سعيد بن مالك بن قادم، فولّاه ناحية من الأسواق وشاطئ دجلة وما اتصل به أمامه إلى جسور دجلة وأمر بحفر الخنادق وبناء الحيطان من كلّ ما غلب عليه من الدور والدروب، وأمدّه بالنفقات والفعلة والفرسان والسلاح فكثر الخراب والهدم حتى درست محاسن بغداد، وأرسل إلى أهل الأرباض من طريق الأنبار وباب الكوفة وما يليها، فكلّما أجابه أهل ناحية خندق عليهم ووضع مسالحه وأعلامه، ومن أبي إجابته والدخول في طاعته ناصبه وقاتله وأحرق منزله، وفعل ذلك قوّاده وفرسانه ورجّالته حتى أوحشت بغداد. وقال الشعراء في ذلك شيئا كثيرا لم نجد فيه ما نختاره فتركناه.
وسمّى طاهر الأرباض التي خالفته سكانها ومدينة أبي جعفر والشرقية وأسواق الكرخ والخلد وما والاها: دار النكث، وقبض ضياع من لم ينجز إليه من بنى هاشم والقوّاد والموالي وغلّاتهم، حيث كانت من عمله فذلّوا وانكسروا، وتواكلت الأجناد عن القتال إلّا باعة الطريق والعراة وأهل السجون والأوباش والطرارين.
وكان الأمين قد تقدّم إلى خالد بن أبي الصقر والهرش بإباحتهم النهب والاستعانة بهم على قتال طاهر. وكان محمد بن عيسى بن نهيك صاحب شرطة محمد يقاتل مع الأفارقة وأهل السجون والأوباش، وكان محمد بن عيسى غير مداهن في أمر محمد وكان مهيبا في الحرب وكان من يجرى مجراه من أصحاب محمد عليّ أفراهمرد، وكان موكّلا بقصر صالح وسليمان بن أبي جعفر وفي يده مجانيق وعرّادات يحفظ بها ما في يده من تلك النواحي إلى حدّ الجسور، فأمر الباعة والغوعاء والعراة باتخاذ تراس من البواري وبالرمي بالمقاليع وما أشبهها، فكانوا يقاتلون ويؤثّرون في أصحاب طاهر وهرثمة، ومحمد قد أقبل على اللهو والشرب ووكّل الأمر كلّها إلى محمد بن عيسى بن نهيك وإلى الهرش.
فأمّا الفضل بن الربيع فإنّه استتر وخفى أمره قبل أن ينتهى بهم الأمر إلى هذا بزمان كثير، فاستكلب العيّارون والعراة وسلبوا من قدروا عليه من الرجال والنساء والضعفاء من أهل الذمّة والملّة، فكان منهم في ذلك ما لم يبلغنا أنّ مثله كان في شيء من الأوقات المتقدّمه. فأمّا في المستأنف فقد جرت أمور عظام قبيحة مثل هذا وأقبح منه سنذكرها إذا بلغنا إليها إن شاء الله.
فلمّا طال ذلك على الناس وضاقت بغداد بأهلها استأمن محمد بن عيسى صاحب الشرطة وعليّ افراهمرد إلى طاهر، فضعف أمر محمد جدّا وأيقن بالهلاك وخرج من بغداد كلّ من كانت به قوّة، بعد الغرم الفادح وبعد المضايقة العظيمة والخطر الفاحش، فكان الرجل أو المرأة إذا تخلّص من أصحاب الهرش وصار إلى أصحاب طاهر، ذهب عنه الروع وأمن، وأظهرت المرأة ما معها من حليّها وغير ذلك، وكذلك الرجل.
ولمّا صارت الحرب بين العيّارين وبين أصحاب طاهر، خرج قائد من قوّاد خراسان، ممّن كان مع طاهر بن الحسين من أهل البأس والنجدة، فنظر إلى قوم عراة لا سلاح معهم، فاستهان بهم واستحقرهم وقال لأصحابه:
« ما يقاتلنا إلّا من أرى؟ » قالوا: « نعم، هؤلاء هم الآفة. » قال: « أفّ لكم حين تخيمون عن هؤلاء وتنكصون عنهم وأنتم في السلاح الظاهر والعدّة، وأنتم أصحاب الشجاعة والبسالة وما عسى أن يبلغ كيد هؤلاء بلا سلاح ولا جنّة؟ » ثم أوتر قوسه وتقدّم ووضع عينه على بعضهم، فقصد نحوه وفي يده بارية مقيّرة وتحت إبطه مخلاة فيها حجارة، فجعل الخراساني كلّما رمى بسهم استتر منه العيّار، فوقع في باريته وقريبا منه فيأخذه فيجعله في موضع من باريته قد هيّأه لذلك شبيها بالجعبة، فكلّما وقع في ترسه منهم أخذه وصاح.
« دنق. » أى ثمن النشّابة دنق قد أحرزه.
فلم يزل حال الخراساني وحال العيّار تلك، حتى أنفد الخراساني سهامه، ثم حمل على العيّار ليضربه بسيفه، فأخرج العيّار من مخلاته حجرا فجعله في مقلاعه ورماه، فما أخطأ به عينه، ثم ثنّاه سريعا فكاد يصرعه عن فرسه لولا تحامله وكرّ راجعا وهو يقول:
« ما هؤلاء بإنس. » فحدّث طاهر بحديثه فاستضحك وأعفى الخراساني من الخروج إليهم. وقال بعض شعراء أهل بغداد:
خرّجت هذه الحروب رجالا ** لا لقحطانها ولا لنزار
معشرا في جواشن الصّوف يعدو ** ن إلى الحرب كالأسود الضّوارى
وعليهم مغافر الخوص تجزي ** هم عن البيض والتّراس البواري
ليس يدرون ما الفرار إذا الأب ** طال عاذوا من القنا بالفرار
واحد منهم يشدّ على أل ** فين عريان ما له من إزار
ويقول الفتى إذا طعن ال ** طّعنة خذها من الفتى العيّار
في أبيات كثيرة، ووصفهم الشعراء كثيرا.
وأخذ طاهر في الهدم والحرق على من خالفه ومنع الملّاحين وغيرهم من إدخال شيء إلى بغداد ووضع الرّصد عليهم فكان يحوى في كلّ يوم ناحية بعد ناحية ويخندق عليها ويقيم عليها المقاتلة. فكان أصحاب محمد ينقضون، حتى لقد كان أصحاب طاهر يهدمون الدار وينصرفون، فيقلع أبوابها وسقوفها أصحاب محمد ويكونون أضرّ عليهم من أصحاب طاهر.
-
ولمّا منع طاهر الميرة من بغداد وكان يأخذ من كلّ سفينة تحمل دقيقا أو غيره مالا عظيما غلت الأسعار، وصار أمر الناس إلى القنوط واليأس من الفرج وحسد المقيم منهم من قد خرج عنها. وصار أمر محمد إلى أن أمر غلامه زرنج بتتبّع الأموال وطلبها عند من وجد، وأمر الهرش بطاعته، فكان يهجم على الناس في منازلهم ويبيّتهم ليلا ويأخذ بالظنّة، فجبى بذلك السبب أموالا كثيرة وأهلك خلقا.
ثم إنّ حاتم بن الصقر من قوّاد محمد وكان قد واعد أصحابه العراة أن يواقعوا عبيد الله بن الوضّاح ليلا، فمضوا إلى عبيد الله مفاجأة وهو لا يعلم، فأوقعوا به وقعة أزالوه عن موضعه، وولّى منهزما، فأصابوا له خيلا وسلاحا.
الخبر عن هزيمة هرثمة
وبلغ الخبر هرثمة، فأقبل في أصحابه لنصرته وليردّ العسكر إلى موضعه، فوافاه أصحاب محمد ونشّبت الحرب بينهم فأسر رجل من العراة هرثمة ولم يعرفه، فحمل بعض أصحاب هرثمة على العريان فقطع يده وخلّص هرثمة، فمرّ منهزما وبلغ خبره أهل عسكره فتقوّض بما فيه وخرج أهله هاربين على وجوههم نحو حلوان، وحجز الليل أصحاب محمد عن الطلب والنهب والأسر، فلم يتراجع أصحاب هرثمة إلّا بعد يومين وثلاثة، وقويت العراة بما صار في أيديهم. وقيلت في هذه الوقعة أشعار كثيرة.
وبلغ طاهرا هزيمة عبيد الله بن الوضّاح وهرثمة وما صار إلى العراة من سلاحهم وأموالهم، فاشتدّ عليه وقام منه وقعد، ووجّه إلى أصحابه وعبّأهم وأمر بعقد جسر فوق الشمّاسيّة وخرج معهم إلى الجسر، فعبروا النهر وقاتلوهم أشدّ قتال يكون، حتى ردّوا أصحاب محمد وأزالوهم عن الشماسية وردّ إليها جند عبيد الله وهرثمة. وكان محمد أعطى بنقض قصوره ومجالسه بالخيزرانية بعد ظفر العراة ألفي ألف درهم في مواضعها وقد كانت النفقة عليها عشرين ألف ألف درهم. فحرقها أصحاب طاهر وكانت السقوف مذهّبة.
وهرب عبيد الله بن خازم بن خزيمة، لأنّ محمدا اتهمه وتحامل عليه قوم من السفلة والعيّارين، فخافهم على نفسه فلحق بالمدائن ليلا في السفن بعياله وولده، وأقام بها ولم يحضر شيئا من القتال وفعل ذلك بمواطأة طاهر.
وضاق على محمد أمره ونفذ ما كان عنده ولم يبق له حيلة، وطلب الناس الأرزاق فقال عند ضجره بذلك:
« وددت أنّ الله قتل الفريقين جميعا وأراحنى منهم، فما منهما إلّا عدوّ، وأمّا هؤلاء فيريدون مالي ولم يبق، وأمّا هؤلاء فيريدون نفسي. »
ثم دخلت سنة ثمان وتسعين ومائة
بين خزيمة وطاهر
وفيها كاتب طاهر خزيمة بن خازم يذكر له أنّ الأمر إن انقطع بينه وبين محمد ولم يكن له أثر في نصرته لم يقصر في مكروهه. فلمّا وصل كتابه إليه شاور ثقاته فقال له أصحابه وأهل بيته:
« نرى والله إنّ هذا الرجل آخذ بقفا صاحبنا عن قليل، فاحتل لنفسك ولنا. » فكتب إلى طاهر بطاعته وأخبره أنّه لو كان هو النازل في الجانب الشرقي مكان هرثمة لكان يحمل نفسه على كلّ هول، وأعلمه قلّة ثقته بهرثمة ويناشده ألّا يحمله على مكروه عظيم إلّا أن يضمن له القيام دونه، ووعده بإدخال هرثمة وقطع الجسور وأنّه يتّبع هواه ويؤثر رضاه، وأنّه إن لم يضمن ذلك فليس يسعه تعريضه للسفلة والغوغاء والرعاع والتلف.
فكتب طاهرا إلى هرثمة يلومه ويعجّزه ويقول:
« جمعت الأجناد وأتلفت الأموال دون أمير المؤمنين ودوني في مثل حاجتي إلى النفقات وقد توقّفت عن قوم هيّنة شوكتهم يسير أمرهم توقّف المحجم الهائب لهم، استعدّ للدخول فقد أحكمت الأمر على دفع العسكر وقطع الجسور وأرجو ألّا يختلف عليك في ذلك اثنان، إن شاء الله. » فأجابه هرثمة:
« أنا عارف ببركة رأيك ويمن مشورتك فمر بما أحببت، فلن أخالفك. » قال: فكتب بذلك طاهر إلى خزيمة.
خزيمة ودعوته للمأمون
وكان كتب طاهر إلى محمد بن عليّ بن عيسى بمثل ذلك قبل، فلمّا كانت ليلة الأربعاء لثمان بقين من المحرّم سنة ثمان وتسعين ومائة، وثب خزيمة بن خازم ومحمد بن عليّ بن عيسى على جسر دجلة، فقطعاه وركّزا أعلامهما عليه وخلعا محمدا، ودعوا لعبد الله المأمون، وسكن أهل الجانب الشرقي ولزموا منازلهم وأسواقهم من يومهم ذلك، ولم يدخل هرثمة حتى تقدّمه قوم وعادوا إليه فحلفوا أنّه لا يرى مكروه فدخل حينئذ.
وباكر طاهر من غد ذلك اليوم وهو يوم الخميس المدينة وأرباضها، والكرخ وأسواقها، وهدم قنطرتى الصراة العتيقة والحديثة واشتدّ عندهما القتال، وباشر طاهر القتال بنفسه وقاتل بين يديه أصحابه حتى هزم أصحاب محمد، وفرّوا على وجوههم لا يلوى أحد على أحد حتى دخل قسرا بالسيف، وأمر مناديه بالأمان لمن لزم منزله، ووضع بقصر الوضّاح وسوق الكرخ والأطراف قوّادا وجندا في كلّ موضع على قدر حاجته منهم، وقصد إلى مدينة أبي جعفر فأحاط بها وبقصر زبيدة وقصر الخلد من لدن الجسر إلى باب خراسان وباب الشام وباب الكوفة وباب البصرة وشاطئ الصراة إلى مصبّها في دجلة بالخيول والسلاح، وثبت على قتال طاهر حاتم بن الصقر والهرش، فنصب المجانيق خلف السور على المدينة وبإزاء قصر زبيدة وقصر الخلد ورماه.
وخرج محمد بأمّه وولده إلى مدينة أبي جعفر وتفرّق عنه عامّة جنده وخصيانه وجواريه في السكك والطرق لا يلوى منهم أحد على أحد وتفرّق الغوغاء والسفلة. وتحصّن محمد بالمدينة هو ومن يقاتل معه، وحصره طاهر وأخذ عليه الأبواب ومنع منه ومن أهل المدينة الدقيق والماء وغيرهما.
فحكى طارق الخادم وكان من خاصّة محمد - وكان المأمون بعد ذلك أيضا يقدّمه - أن محمدا سأله يوما من الأيّام وهو محصور - أو قال في آخر يوم من أيّامه - أنّ أطعمه شيئا. قال: فدخلت المطبخ فلم أجد شيئا فجئت إلى حمرة العطّارة وكانت خازنة الجوهر فقلت لها:
« إنّ أمير المؤمنين جائع، فهل عندك شيء؟ فإني لم أجد في المطبخ شيئا؟ » فقالت لجارية لها يقال لها بنان:
« أيّ شيء عندك؟ » فجاءت بدجاجة ورغيف، فأتيته بهما فأكل وطلب ماء يشربه فلم يجد في خزانة الشراب ماء، فأمسى وكان عزم على لقاء هرثمة، فما شرب ماء حتى أتى عليه.
ذكر اتفاقات عجيبة
حكى إبراهيم بن المهدي أنّه كان نازلا مع محمد المخلوع في مدينة المنصور في قصره بباب الذهب لمّا حصره طاهر. قال: فخرج ذات ليلة من القصر يريد أن يتفرّج من الضيق الذي هو فيه، فصار إلى قصر القرار في قرن الصراة في جوف الليل، ثم أرسل إليّ فصرت إليه، فقال لي:
-
« يا إبراهيم أما ترى طيب هذه الليلة وحسن هذا القمر وضوءه في الماء - ونحن حينئذ في شاطئ دجلة - فهل لك في الشرب؟ »
قلت: « شأنك، جعلني الله فداءك. » قال: فدعا برطل فشربه، ثم أمر فسقيت مثله.
قال: فابتدأت أغنّيه من غير أن يسألنى لعلمي بسوء خلقه، فغنّيت ما كنت أعلم أنّه يحبّه فقال لي:
« ما تقول فيمن يضرب عليك؟ » فقلت: « ما أحوجنى إلى ذلك. » فدعا بجارية متقدّمة عنده يقال لها: ضعف، فتطيّرت من اسمها ونحن في تلك الحال التي هو عليها. فلمّا صارت بين يديه قال لها:
« تغنّى. » فغنّت بشعر النابغة الجعدي:
ليب لعمري كان أكثر ناصرا ** وأيسر جرما منك ضرّج بالدّم
قال: فاشتدّ عليه ما غنّت به وتطيّر منه فقال لها:
« غنّى غير هذا. » فغنّت:
أبكى فراقهم عيني فأرّقها ** إنّ التّفرّق للأحباب بكّاء
ما زال بعدو عليهم ريب دهرهم ** حتى تناءوا وريب الدّهر عدّاء
فقال لها:
« لعنك الله، أما تعرفين من الغناء شيئا سوى هذا الفنّ؟ » فقالت: « يا سيّدي ما تغنّيت إلّا بما ظننت أنّك تحبّه، وما أردت ما تكرهه، وما هو إلّا شيء جاءني. » ثم أخذت تغنّى:
أما وربّ الّسكون والحرك ** إنّ المنايا كثيرة الشّرك
ما اختلف الليل والنّهار ولا ** دارت نجوم السّماء في الفلك
إلّا لنقل السّلطان من ملك ** عات بسلطانه إلى ملك
وملك ذي العرش دائم أبدا ** ليس بفان ولا بمشترك
فقال لها:
« قومي، غضب الله عليك ولعنك. » فقامت.
وكان له قدح من بلّور حسن الصنعة، وكان محمد يسمّيه: زبّ رباح، وكان موضوعا بين يديه فقامت الجارية منصرفة، فسحبت عليه رداؤها فكسرته وقالت:
« تعس وانتكس الشيطان. » فقال إبراهيم: فقال لي:
« ويحك يا إبراهيم أما ترى ما جاءت به هذه الجارية، ثم ما كان من كسر القدح؟ والله ما أظنّ أمري إلّا وقد قرب. » فقلت: « يطيل الله بقاءك ويعزّ ملكك ويديم نعمتك ويكبت عدوّك. » فما استتم الكلام حتى سمعنا صوتا عن دجلة:
« قضى الأمر الّذى فيه تستفتيان. » فقال لي:
« يا إبراهيم أما سمعت؟ » قلت: « لا والله ما سمعت شيئا. وقد كنت سمعت. » قال: « تسمّع حسّنا. » قال: فدنوت من الشطّ فلم أر شيئا، ثم عاودنا الحديث فعاد الصوت:
« قضى الأمر الذي فيه تستفتيان. » فوثب من مجلسه ذلك مغتمّا، ثم ركب ورجع إلى موضعه بالمدينة، فما كان بعد هذا إلّا ليلة أو ليلتان، حتى حدث ما حدث من قتله. وفي هذه السنة قتل محمد بن هارون الأمين.
مقتل محمد بن هارون الأمين ذكر ما أشير به على محمد فلم يقبله وما تأدى إليه الأمر
لمّا صار محمد إلى المدينة وقرّ فيها وعلم قوّاده أنّه ليس لهم ولا له فيها عدّة للحصار. وخافوا أن يظفر بهم دخل على محمد حاتم بن الصقر ومحمد بن إبراهيم بن الأغلب الأفريقى وقوّاده فقالوا له:
« قد آلت حالك وحالنا إلى ما ترى، وقد رأينا رأيا نعرضه عليك، فانظر فيه واعتزم عليه، فإنّا نرجو أن يكون صوابا، إن شاء الله. » قال: « وما هو؟ » قالوا: « قد تفرّق جندك عنك وأحاط عدوّك بك من كلّ جانب وقد بقي من خيلك سبعة آلاف فرس من خيارها وجيادها سوى مراكبك، فنرى أن تختار ممّن عرفناه بمحبّتك من الأبناء سبعة آلاف رجل، فتحملهم على هذه الخيل وتخرج ليلا على باب من هذه الأبواب، فإنّ الليل لأهله، فنخرج ولن يثبت لنا أحد وتسير حتى تلحق بالشام والجزيرة فنفرض الفروض ونجبى الخراج وتصير في مملكة واسعة وملك جديد، فيسارع إليك الناس من كلّ أوب وينقطع الجنود في طلبك وإلى ذاك ما قد أحدث الله في مكّر الليل والنهار أمورا. » فقال لهم:
« نعمّا رأيتم. » واعتزم على ذلك وخرج الخبر إلى طاهر، فكتب إلى سليمان بن أبي جعفر والى محمد بن عيسى بن نهيك والى السندي بن شاهك:
« قد بلغني عزيمة محمد وو الله لئن لم تردّوه عن هذا الرأي لا تركت لكم ضيعة إلّا قبضتها، ثم لا تكون لي همّة إلّا نفوسكم. فإنّ هؤلاء الذين يسيرون معه صعاليك لا يخلّفون شيئا يشفقون عليه. فاعملوا على ما رسمته تسلموا، إن شاء الله. » فدخلوا على محمد وقالوا:
« نذكّرك الله في نفسك فإنّ هؤلاء صعاليك، وقد ضاق عليهم الحصار وهم يرون أن لا أمان لهم على أنفسهم وأموالهم عند أخيك وعند طاهر، لما قد انتشر عنهم من مباشرة الحرب والجدّ، فيها ولسنا نأمن إذا برزوا وحصلت في أيديهم أن يأخذوك أسيرا أو يأخذوا رأس عدوّك فيتقرّبوا بك ويجعلوك سبب أمانهم. »
وضربوا له في ذلك الأمثال حتى فزع وغيّر عزمه ورأيه.
وكان أصحابه الذين أشاروا بما أشاروا أولا جلوسا في رواق البيت، فسمعوا جميع ما قاله سليمان وأصحابه، فهمّوا جميعا بقتل سليمان وأصحابه. ثم قالوا:
« حرب من خارج وحرب من داخل. » فأمسكوا.
-
ثم أشار عليه هؤلاء وقالوا:
« قد بذل لك الأمان فاقبله، فإنّما غايتك اليوم السلامة واللهو، وليس يمنعك أخوك من ذلك وسينزلك حيث تحبّ ويفردك مع من تحبّ وتهوى، وليس عليك منه بأس ولا مكروه. » فركن إلى ذلك وأجابهم إلى الخروج إلى هرثمة دون طاهر، وكان استشعر خوفا من طاهر. وكان جماعة من أصحابه يكرهون هرثمة، لأنّهم كانوا من أصحابه وقد عرفهم وعرفوه وخافوا أن يجفوهم ولا يجعل لهم مراتب.
فدخلوا على محمد فقالوا:
« أمّا إذ أبيت ما أشرنا به وهو الصواب وقبلت رأى هؤلاء وهو الخطأ، فالخروج إلى طاهر خير لك من الخروج إلى هرثمة. » فقال لهم محمد:
« ويحكم إني أكره طاهرا وذلك أنّى رأيت في منامي كأنّى قائم على حائط من آجر شاهق في السماء عريض الأساس وثيق لم أر حائطا يشبهه في الطول والعرض والوثاقة وعليّ سوادي ومنطقتي وسيفي وقلنسوتي وخفّى، وكان طاهر في أصل ذلك الحائط، بيده بيل يضرب به أصل الحائط فما زال يضرب أصله حتى سقط الحائط وسقطت وندرت قلنسوتي عن رأسى وأنا أتطيّر منه وأكره الخروج إليه، وهرثمة مولانا وبمنزلة الوالد وأنا به أشدّ ثقة. » فلمّا همّ محمد بالخروج إلى هرثمة وسعى له بذلك وأجابه هرثمة إلى ما أراد، اشتدّ ذلك على طاهر وأبي أن يرفّه عنه ويدعه يخرج وقال:
« هو في حيّزى والجانب الذي أنا فيه وأنا أخرجته بالحرب والحصار حتى طلب الأمان فلا أرضى أن يخرج إلى هرثمة دوني فيكون الفتح له. » فلمّا رأى هرثمة والقوّاد ذلك اجتمعوا في منزل خزيمة بن خازم، فصار إليهم طاهر في خاصّة قوّاده وحضر محمد بن عيسى بن نهيك والسندي بن شاهك وأداروا الرأي بينهم. فأخبروا طاهرا أنّه لا يخرج إليه أبدا وأنّه إن لم يجب إلى ما سأل لم يؤمن أن يجرى في أمره ما جرى مثله أيّام الحسين بن عليّ بن عيسى بن ماهان وقالوا له:
« يخرج ببدنه إلى هرثمة إذ كان يأنس به ويثق بناحيته ويدفع الخاتم والقضيب والبردة وذلك هو الخلافة إليك، فلا تفسد هذا الأمر واغتنمه. » فأجاب طاهر إلى ذلك ورضى.
ولمّا تهيّأ محمد للخروج خرج إلى صحن القصر فقعد على كرسيّ وقام خدمه بين يديه بالأعمدة. وجاءه خادم فقال:
« يا سيّدي، أبو حاتم يقرأ عليك السلام - يعنى هرثمة - ويقول لك: يا سيّدي وافيت للميعاد لحملك، ولكني رأيت ألّا تخرج الليلة فإني قد رأيت - وفي دجلة وعلى الشطّ - أمر قد رابنى وأخاف أن أغلب فتؤخذ من يدي أو تذهب نفسك ونفسي، ولكن أقم بمكانك حتى أرجع فاستعدّ، ثم آتيك القابلة، فأخرجك، فإن حوربت دونك حاربت ومعي عدّتى. » قال: فقال له محمد:
« إرجع إليه فقال له: لا تبرح، فإني خارج إليك الساعة لا محالة. » قال: وقلق:
« إنّه قد تفرّق عني الناس ومن على بابى من الموالي والحرس ولا آمن إن أصبحت وانتهى خبري إلى طاهر أن يدخل عليّ فيأخذنى. » ثم دعا بفرس له أدهم أغرّ محجّل كان يسمّيه: الزهيرى، ودعا بابنيه فضمّهما إليه وشمّهما وقال:
« أستودعكما الله. » ودمعت عيناه، فجعل يمسح دموعه بكمّه، ثم قام فوثب على الفرس وخرجنا بين يديه إلى باب القصر حتى ركبنا دوابّنا وبين يديه شمعة واحدة حتى خرجنا إلى المشرعة، فإذا حرّاقة هرثمة، فنزل في الحرّاقة.
ورجعنا إلى المدينة فدخلناها وأمرنا بالباب فأغلق وسمعنا الواعية فصعدنا القبّة التي على الباب نتسمّع الصوت.
فذكر أحمد بن سلام صاحب المظالم أنّه قال: كنت مع هرثمة مع قوّاده في الحرّاقة. فلمّا دخل محمد الحرّاقة قمنا على أرجلنا إعظاما له وجثا هرثمة على ركبتيه وقال:
« يا سيّدي لا أقدر على القيام لمكان النقرس الذي بي. » ثم احتضنه وصيّره في حجره وجعل يقبّل يديه ورجليه وعينيه ويقول:
« سيّدي ومولاي وابن سيّدي ومولاي. » وجعل محمد يتصفّح وجوهنا ونظر إلى عبيد الله بن الوضّاح فقال:
« أيّهم أنت؟ » قال: « أنا عبيد الله بن الوضّاح. »
قال: « نعم جزاك الله خيرا فما أشكرنى لما كان منك في أمر الثلج ولو قد لقيت أخي - أبقاه الله - لم أدع شكرك عنده. » قال: فبينا نحن كذلك، وقد أمر هرثمة بالحرّاقة أن تدفع، إذ شدّ علينا أصحاب طاهر في الزواريق وعطعطوا وتعلّقوا بالسكّان وبعض يقطع السكّان وبعض ينقب الحرّاقة وبعض يرمى بالنشّاب فنقبت الحرّاقة سريعا ودخلها الماء وغرقت وسقط هرثمة إلى الماء وسقطنا كلّنا فتعلّق الملّاح بشعر هرثمة فأخرجه وخرج كلّ واحد منّا على حياله لقربنا من الشطّ ورأيت محمدا في تلك الحال وقد شقّ عنه ثيابه ورمى بنفسه إلى الماء. فأمّا أنا فتعلّق بي رجل من أصحاب طاهر ومضى بي إلى رجل قاعد على كرسيّ على شطّ دجلة وبين يديه نار توقد. فقال له بالفارسية:
« هذا رجل أخرج من الماء ممّن غرق من أهل الحرّاقة. » فقال لي:
« ممّن أنت؟ » قلت: « من أصحاب هرثمة أنا أحمد بن سلام صاحب المظالم مولى أمير المؤمنين. » قال: « كذبت فاصدقني. » قلت: « قد صدقتك. » قال: « فما فعل المخلوع؟ » قلت: « رأيته حين شقّ عنه ثيابه وقذف بنفسه في الماء. » قال: « قدّموا دابّتى. » فقدّموا دابّته فركب وأمر بي أن أجنب، فجعل في عنقي حبل وجنبت وأخذ في درب الزبيدية. ولمّا ع*** ساعة انبهرت فلم أقدر على العدو فقمت. فقال الذي خلفي:
« قد قام هذا الرجل وليس يعدو. » قال: « انزل فخذ رأسه. » قلت: « جعلت فداك، ولم تقتلني وأنا رجل لله عليّ نعمة ولا أقدر على العدو وأنا أفدى نفسي بعشرة آلاف درهم. » فلمّا سمع ذكر العشرة آلاف قال للرجل الذي أمره بقتلى:
-
« أمسك. » ثم قال:
« وكيف لي بالعشرة آلاف؟ » قلت: « تحبسني عندك حتى نصبح، ثم تدفع إليّ رسولا أرسله إلى وكيلي في منزلي في عسكر المهدي، فإن لم يأتك بالعشرة آلاف فاضرب عنقي. » قال: « قد أنصفت. » وأمر بحملي فحملت ردفا، فمضى بي إلى دار صاحبه دار أبي صالح الكاتب وأمر غلمانه أن يحتفظوا بي، وتفهّم مني خبر محمد ووقوعه إلى الماء ومضى إلى طاهر ليخبره وإذا هو إبراهيم البلخي. قال: فصيرني غلمانه في بيت من بيوت الدار فيه بواري ووسادتان وفي زاوية من زواياه حصر مدرّجة قال: فقعدت في البيت وصيّروا فيه سراجا وتوثّقوا من الباب وقعدوا يتحدّثون. فلمّا ذهب من الليل ساعة إذا نحن بحركة الخيل، فدقّوا الباب ففتح لهم وهم يقولون:
« بسّر زبيدة. » قال: « فأدخل إليّ رجل عريان عليه سراويل وعمامة متلثّم بها وعلى كتفيه خرقة خلقة. فصيّروه معي وتقدّموا إلى من في الدار بحفظه وخلّفوا معهم قوما آخرين منهم أيضا. قال: فلمّا استقرّ في البيت حسر العمامة عن وجهه، فإذا هو محمد، فاستعبرت واسترجعت فيما بيني وبين نفسي، وجعل ينظر إليّ. ثم قال:
« أيّهم أنت؟ » قلت: « أنا مولاك يا سيّدي. » قال: « وأيّ الموالي؟ » قلت: « أحمد بن سلام صاحب المظالم. » قال: « أعرفك بغير هذا، كنت تأتينى وتلطفنى كثيرا، لست مولاي، ولكنّك أخي. » ثم قال: « يا أحمد. » قلت: « لبّيك يا سيّدي. » قال: « أدن مني وضمّنى إليك، فإني أجد وحشة شديدة. » قال: « فضممته إليّ، فإذا قلبه يخفق حتى يكاد يخرج من صدره، فلم أزل أضمّه إليّ وأسكّنه. » قال: ثم قال لي:
« يا أحمد ما فعل أخي؟ » قلت: « هو حيّ. » قال: « قبّح الله صاحب بريدهم ما أكذبه! كان يقول: قد مات، شبه المعتذر من محاربته. » قال: قلت: « يا سبحان الله! ففي أيّ شيء دفعنا إذا، بل قبّح الله وزراءك. » قال: « لا تقل لوزرائى إلّا خيرا، فما لهم ذنب ولست بأوّل من طلب أمرا فلم يقدر عليه. »
ثم قال لي: « يا أحمد ما تراهم يصنعون بي، تراهم يقتلوني أو يفون لي بأمانهم؟ » قال: قلت: « بل يفون لك يا سيّدي. » قال: وجعل يضمّ على نفسه الخرقة التي على كتفيه ويضمّها ويمسكها بعضديه يمنة ويسرة. قال: ونزعت مبطّنة كانت عليّ وقلت يا سيّدي:
« ألق هذه عليك. » قال: « ويحك دعني، فهذا من الله لي في هذا الموضع خير. » قال: وبينا نحن كذلك إذ دقّ باب الدار ففتح فدخل علينا رجل عليه سلاحه فتطلّع في وجهه مستثبتا له، فلمّا أثبته معرفة انصرف وأغلق الباب وإذا هو محمد بن حميد الطاهري. قال: فعلمت أنّ الرجل مقتول. قال:
وكان بقي عليّ من صلاتي الوتر فخفت أن أقتل معه ولم أوتر. قال: فقمت أوتر. فقال لي:
« يا أحمد لا تباعدني وصلّ إلى جانبي فإني أجد وحشة شديدة. » قال: فاقتربت منه. فلمّا انتصف الليل أو قارب سمعت حركة الخيل، ودقّ الباب ففتح فدخل الدار قوم من العجم بأيديهم السيوف مسلّلة، فلمّا رآهم قام قائما وجعل يقول:
« إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، ذهبت والله نفسي في سبيل الله، أما من حيلة أما من مغيث، أما من أحد من الأبناء؟ » قال: وجاءوا حتى قاموا على باب البيت الذي نحن فيه، فأحجموا عن الدخول وجعل بعضهم يقول لبعض « تقدّم » ويدفع بعضهم بعضا. قال: فقمت فصرت خلف الحصر المدرّجة في زاوية البيت، وقام محمد فأخذ بيده وسادة وجعل يقول:
« ويحكم إني ابن عمّ رسول الله http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png أنا ابن هارون، أنا أخو المأمون الله الله في دمى. » قال: فدخل عليه رجل منهم يقال له: حميرويه غلام لقريش الدندانى مولى طاهر، فضربه على مقدم رأسه وضرب محمد وجهه بالوسادة التي كانت في يده واتكأ عليه ليأخذ السيف من يده، فصاح بالفارسية:
« قتلني، قتلني. » قال: فدخل منهم جماعة فنخسه واحد منهم بالسيف في خاصرته، وركبوه فذبحوه ذبحا من قفاه، وأخذوا رأسه فمضوا به إلى طاهر، فتركوا جثّته. ولما كان في وقت السحر جاءوا إلى جثّته فأدرجوها في جلّ وحملوها. قال: فأصبحت فقيل:
« هات العشرة آلاف درهم. » قال: فبعثت إلى وكيلي فأتانى فأمرته فأتانى بها فدفعتها إليه.
ولمّا أصبح طاهر نصب رأس محمد على البرج برج حائط البستان الذي يلي باب الأنبار، وفتح باب الأنبار وخرج من أهل بغداد للنظر إليه ما لا يحصى عددهم. وأقبل طاهر يقول:
« هذا رأس المخلوع. » وذكر محمد بن عيسى أنّه قال: رأى المخلوع على ثوبه قمّلة، فقال:
« ما هذا؟ » قالوا: « شيء يكون في ثياب الناس. » فقال: « أعوذ بالله من زوال النعمة. » فقتل من يومه.
وبعث طاهر برأس محمد إلى المأمون مع الرداء والقضيب والمصلّى وهو من سعف مبطّن مع محمد بن مصعب ابن عمّه فأمر له المأمون بألف ألف درهم. قال: فرأيت ذا الرئاستين وقد أدخل رأس محمد على ترس بيده إلى المأمون. قال: فلمّا رآه سجد.
وكتب طاهر إلى إبراهيم بن المهدي بعد قتل المخلوع:
« أمّا بعد، فإنّه عزيز عليّ أن أكتب إلى رجل من أهل بيت الخلافة بغير التأمير ولكنّه بلغني أنّك تميل بالرأي وتصغى بالهوى إلى الناكث المخلوع.
فإن كان كذلك فكثير ما كتبت به إليك، وإن كان غير ذلك فالسلام عليك ورحمة الله وبركاته. »
وثوب الجند بطاهر بعد مقتل الأمين
وفي هذه السنة وثب الجند بعد مقتل محمد بطاهر، فهرب منهم وتغيّب أيّاما حتى أصلح أمرهم.
ذكر الخبر عن ذلك وسببه وما استعمله طاهر من الحزم قبله
إنّ أصحاب طاهر بعد مقتل محمد بخمسة أيّام طلبوا أرزاقهم ووثبوا به ولم يكن في يده مال فضاق به أمره، وظنّ أنّ ذلك بمواطأة أهل الأرباض إيّاهم وأنّهم معهم عليه ولم يكن تحرّك في ذلك من أهل الأرباض أحد، فاشتدّت شوكتهم وخشي طاهر على نفسه فهرب من البستان وانتهبوا بعض متاعه، ومضى إلى عاقرقوف.
وكان ممّا قدّم الحزم فيه أن حفظ أبواب المدينة وباب القصر لمّا فرغ من قتل محمد وحوّل زبيدة وموسى وعبد الله ابني محمد إلى قصر الخلد ليلا ثم حملهم في حرّاقة همينيا على الغربي من الزاب الأعلى، ثم أمر بحمل موسى وعبد الله إلى عمّهما بخراسان على طريق الأهواز وفارس.
-
فلمّا وثب الجند بطاهر وطلبوا الأرزاق أحرقوا باب الأنبار الذي على الخندق وباب البستان، وشهروا السلاح ونادوا:
« موسى يا منصور. » وبقوا كذلك يومهم ومن الغد، فتبيّن صواب رأى طاهر في إخراج موسى وعبد الله. وكان طاهر انحاز ومن معه من القوّاد وتعبّأ لقتالهم ومحاربتهم.
فلمّا بلغ ذلك الوجوه والقوّاد ممّن شغّب صاروا إليه واعتذروا وأحالوا على سفهاء الجند وأحداثهم وسألوه الصفح عنهم وقبول عذرهم والرضى وضمنوا له ألّا يعودوا لمكروهه ما أقام معهم.
وأتاه مشايخ الأرباض فحلفوا له بالمغلّظة من الأيمان أنّه لم يتحرّك في هذه الأيّام أحد من أبناء الأرباض، ولا كان ذلك عن رأيهم ولا أرادوه.
وضمنوا له أن يقوم له كلّ إنسان منهم في ناحيته بما يجب عليه حتى لا يأتيه من ناحيته أمر يكرهه.
وأتاه عميرة أبو شيخ بن عميرة الأسدى في مشيخة من الأبناء، فلقوه بمثل ذلك وأعلموه حسن رأى من خلفهم من الأبناء فطابت نفسه إلّا أنّه قال:
« والله ما اعتزلت عنهم إلّا لوضع السيف فيهم. وأقسم بالله لئن عدتم لمثلها لأعودنّ إلى رأيي فيكم ولأخرجنّ إلى مكروهكم. » فكسرهم بذلك وأمر لهم برزق أربعة أشهر وانصرف إلى معسكره بالبستان ودعا بوجوه أصحابه وفيهم سعيد بن مالك وقال:
« أنّه لا مال عندي وقد أطلقت للقوم أرزاقهم، فما الوجه؟ » فقال سعيد:
« أنا أحمل عشرين ألف دينار. » فطابت نفسه وحمل غيره حتى أرضى أصحابه وقال لسعيد:
« إني أقبلها على أن تكون دينا عليّ. » فقال: « بل هي هدية وقليله لغلامك وفيما أوجب الله من حقّك. » وسكن الجند.
وكانت خلافة محمد المخلوع نحو خمس سنين ينقص شهرين، وكان عمره كلّه ثمانيا وعشرين سنة، وكان سبطا أنزع أبيض أقنى جميلا طويلا أبعد ما بين المنكبين صغير العينين.
وذكر الموصلي أنّ طاهرا لمّا بعث برأس محمد إلى المأمون بكى ذو الرئاستين وقال:
« سلّ عليها سيوف الناس وألسنتهم أمرناه أن يبعث به أسيرا فبعث به عقيرا. » فقال له المأمون:
« أنّه قد مضى ما مضى فاحتل في الاعتذار منه. » وكتب الناس فأطالوا وجاء أحمد بن يوسف بشبر قرطاس فيه:
« أمّا بعد فإنّ المخلوع وإن كان قسيم أمير المؤمنين في النسب واللحمة، فقد فرّق الله بينه وبينه في الولاية والحرمة بمفارقته عصم الدين وخروجه من الأمر الجامع للمسلمين. يقول الله عز وجل حين اقتصّ نبأ ابن نوح: إِنَّهُ لَيْسَ من أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ ولا طاعة لأحد في معصية الله ولا قطيعة إذا كانت القطيعة في جنب الله وكتابي هذا إلى أمير المؤمنين وقد قتل الله المخلوع وردّاه رداء نكثه وأحصد لأمير المؤمنين أمره وأنجز له وعده وما ينتظر من صادق أمره حين ردّ به الألفة بعد فرقتها وجمع الأمّة بعد شتاتها وأحيى به الأعلام من الإسلام بعد دروسها. »
خلافة المأمون
وفي هذه السنة ولّى المأمون كلّ ما كان طاهر بن الحسين افتتحه من كور الجبال وفارس والأهواز والبصرة والكوفة واليمن الحسن بن سهل أخا الفضل بن سهل، وذلك بعد مقتل محمد المخلوع ودخول الناس في طاعة المأمون.
وفيها كتب المأمون إلى طاهر بن الحسين وهو مقيم ببغداد بتسليم جميع ما في يده من الأعمال في البلدان كلّها إلى خلفاء الحسن بن سهل وأن يشخص عن ذلك إلى الرقّة وجعل إليه حرب نصر بن شبث وولّاه الموصل والجزيرة والشام والمغرب، وقدم عليّ بن أبي سعيد العراق خليفة الحسن بن سهل على خراجها. فدافع طاهر عليّا بتسليم الخراج إليه حتى وفّى الجند أرزاقهم. فلمّا وفّاهم سلّم إليه العمل.
وكتب المأمون إلى هرثمة يأمره بالشخوص إلى خراسان.
ودخلت سنة تسع وتسعين ومائة
وفيها قدم الحسن بن سهل العراق من عند المأمون واليه الحرب والخراج، وفرّق عمّاله في الكور والبلدان.
خروج ابن طباطبا في الكوفة دعوة إلى الرضا من آل محمد (ص) والعمل بالكتاب والسنة
وفيها خرج بالكوفة محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام يدعو إلى الرضا من آل محمد والعمل بالكتاب والسنّة وهو الذي يقال له: ابن طباطبا، وكان القيّم بأمره في الحرب وتدبيرها وقيادة جيوشه أبو السرايا واسمه السرى بن منصور.
ذكر السبب في خروجه
كان سبب خروجه صرف المأمون طاهر بن الحسين عمّا كان إليه من أعمال البلدان التي افتتحها وتوجيهه إلى ذلك الحسن بن سهل أخا الفضل بن سهل. وذلك أنّ الناس بالعراق تحدّثوا بينهم أنّ الفضل بن سهل قد غلب على المأمون، وأنّه قد أنزله قصرا حجبه فيه عن أهل بيته ووجوه قوّاده ومن الخاصّة والعامّة، وأنّه يبرم الأمور على هواه ويستبدّ بالرأي دونه. فغضب لذلك من بالعراق من بنى هاشم ووجوه الناس وأنفوا من غلبة الفضل بن سهل على المأمون واجترأوا على الحسن بن سهل بذلك، وهاجت الفتن في الأمصار. فكان أوّل من خرج بالكوفة ابن طباطبا الذي ذكرت.
وكان سبب خروجه أنّ أبا السرايا كان من رجال هرثمة، فمطله بأرزاقه وأخّره بها. فغضب أبو السرايا ومضى إلى الكوفة فبايع ابن طباطبا واجتمع إلى ابن طباطبا الناس. فوجّه الحسن بن سهل زهير بن المسيّب في أصحابه إلى الكوفة في عشرة آلاف فارس وراجل، فتهيأوا للخروج إليه، فلم تكن بهم قوّة على الخروج. فأقاموا حتى بلغ زهير قرية شاهي، ثم واقعهم ابن طباطبا فهزمهم واستباح عسكرهم وأخذوا ما كان معه من مال وسلاح ودوابّ وغير ذلك.
فلمّا كان من غد ظفره بزهير واستباحته عسكره، مات فجأة، فتحدّث الناس أنّ أبا السرايا سمّه وأنّه إنّما فعل ذلك لأنّ ابن طباطبا لمّا أحرز ما في عسكر زهير بن المسيّب من المال والسلاح والكراع، منعه أبا السرايا وحظره عليه، وكان الناس له مطيعين فعلم أبو السرايا أنّه لا أمر له فسمّه.
فلمّا مات ابن طباطبا أقام أبو السرايا مكانه غلاما أمرد حدثا وهو محمد بن محمد بن زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، عليهم السلام. فكان أبو السرايا هو الذي ينفّذ الأمور.
وكان الحسن بن سهل قد وجّه عبدوس بن محمد بن أبي خالد المروروذيّ إلى النّيل حين وجّه زهيرا إلى الكوفة. فلمّا هزم أبو السرايا زهيرا خرج عبدوس يريد الكوفة بأمر الحسن بن سهل حتى بلغ الجامع وزهير مقيم بالقصر، فتوجّه أبو السرايا إلى عبدوس فواقعه بالجامع فقتله وأسر هارون بن أبي خالد واستباح عسكره وكان في أربعة آلاف، فلم يفلت منهم أحد كانوا بين قتيل وأسير.
وانتشر الطالبيّون وانحاز زهير إلى نهر الملك وأقبل أبو السرايا حتى نزل قصر ابن هبيرة بأصحابه وكانت طلائعه تأتى كوثى. ثم وجّه أبو السرايا جيوشه إلى البصرة وواسط فدخلوها، وكان بواسط وأعمالها عبد الله بن سعيد الحرشي واليا عليها من قبل الحسن بن سهل، فواقعه جيش أبي السرايا قريبا من واسط فهزموه فانصرف راجعا إلى بغداد وقتل أصحابه وأسروا.
-
فلمّا رأى الحسن بن سهل أنّ أبا السرايا يهزم عساكره ولا يتوجّه إلى بلدة إلّا افتتحها ولم يجد في قوّاده من يكفيه حربه، تذكّر هرثمة. وكان هرثمة لمّا قدم الحسن بن سهل العراق واليا من قبل المأمون سلّم إليه ما كان بيده من الأعمال وتوجّه نحو خراسان مغاضبا، فبلغ حلوان وبعث إليه الحسن السندي وصالحا صاحب المصلّى يسأله الانصراف إلى بغداد لحرب أبي السرايا فامتنع وأبي وقال:
« تذكروننا عند البلاء. » فانصرف رسل الحسن إليه بإباءه وتمنّعه فأعاد إليه السندي بكتب لطيفة ورسائل تشبه الكتب، فأجاب وانصرف إلى بغداد فقدمها في شعبان وتهيّأ للخروج.
وأمر الحسن عليّ بن أبي سعيد أن يخرج إلى ناحية المدائن وواسط والبصرة وتهيئوا لذلك وبلغ الخبر أبا السرايا وهو بقصر ابن هبيرة، فوجّه إلى المدائن فدخلها أصحابه في شهر رمضان وتقدّم هو بنفسه حتى نزل صرصر.
وكان هرثمة أنفذ منصور بن المهدي إلى الياسرية فخرج وعسكر بها. فلمّا قدم هرثمة خرج فعسكر بالسفينتين بين يدي منصور ثم شخص إلى نهر صرصر بإزاء أبي السرايا والنهر بينهما. وتوجّه عليّ بن سعيد من طريق كلواذى إلى المدائن فقاتل أصحاب أبي السرايا وهزمهم وأخذ المدائن وبلغ أبا السرايا فرجع من نهر صرصر إلى قصر ابن هبيرة وأصبح هرثمة فجدّ في طلبه فوجد جماعة كبيرة فقتلهم وبعث برؤوسهم إلى الحسن بن سهل ثم صار إلى قصر ابن هبيرة فكانت بينه وبين أبي السرايا وقعة قتل فيها من أصحاب أبي السرايا خلق كثير وانحاز أبو السرايا إلى الكوفة.
فوثب محمد بن محمد ومن معه من الطالبيّين على دور بنى العبّاس ومواليهم وأتباعهم فانتهبوها وهدموها وحرّقوها وخرّبوا ضياعهم وأخرجوهم من الكوفة وعملوا في ذلك عملا قبيحا جدّا واستخرجوا الودائع التي كانت عند الناس.
وتوجّه عليّ بن أبي سعيد بعد أخذه المدائن إلى واسط فأخذها ثم توجّه إلى البصرة فلم يقدر على أخذها حتى انقضت سنة تسع.
ثم دخلت سنة مائتين
هروب أبي السرايا من الكوفة ومقتله
وفيها هرب أبو السرايا من الكوفة ودخلها هرثمة ومنصور بن المهدي فآمنوا أهلها ولم يعرضوا لأحد. ثم إنّ أبا السرايا عبر دجلة أسفل واسط. فأتى عبدسيّ فوجد بها مالا كان حمل من الأهواز فأخذه ثم مضى حتى أتى السوس فنزلها وأقام بها أربعة أيّام وجعل يعطى الفارس ألفا والراجل خمسمائة.
فلمّا كان اليوم الرابع أتاهم الحسن بن عليّ الباذغيسى المعروف بالمأمونى فأرسل إليهم:
« اذهبوا حيث شئتم فإنّه لا حاجة لي في قتالكم، إذا أنتم خرجتم من عملي فلست أتبعكم. » فأبى أبو السرايا إلّا قتاله فقاتلهم فهزمهم الحسن واستباح عسكرهم وجرح أبو السرايا جراحة شديدة فهرب واجتمع هو ومحمد بن محمد وأبو الشوك، فأخذوا ناحية الجزيرة يريدون منزل أبي السرايا برأس العين، فلمّا انتهوا إلى جلولاء عثر بهم فأتاهم حمّاد فأخذهم فجاء بهم إلى الحسن بن سهل وكان مقيما بالنهروان حين طردته الحربية فضرب عنق أبي السرايا، وكان الذي تولّى ضرب رقبته هارون بن محمد بن أبي خالد الذي كان أسيرا في يده. فلم ير أحد عند القتل أشدّ جزعا من أبي السرايا كان يضرب بيديه ورجليه ويصيح أشدّ ما يكون من الصياح حتى جعل في رأسه حبل وفي يديه حبل وفي رجليه حبل وهو في ذلك يضطرب ويلتوي ويصيح حتى ضربت عنقه. ثم بعث برأسه فطيف به وبعث بجسده إلى بغداد فصلب على الجسرين في كلّ جسر نصف.
وكان بين خروجه وقتله عشرة أشهر.
وتوجّه عليّ بن أبي سعيد إلى البصرة فافتتحها، وكان الذي بها من الطالبيّين زيد بن موسى بن جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام وهو الذي يقال له: زيد النار، وإنّما سمّى بذلك لكثرة ما حرّق من الدور بالبصرة. وكان إذا أتى برجل من المسوّدة كانت عقوبته أن يحرقه بالنار، فأسره عليّ بن أبي سعيد مع جماعة من قوّاده وبعث بهم إلى الحسن بن سهل.
خروج إبراهيم بن موسى بن جعفر (ع) باليمن
وفي هذه السنة خرج إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام باليمن.
ذكر السبب في خروجه
كان سببه أنّ أبا السرايا لمّا تغلّب على الكوفة وتجاسر الناس على الحسن بن سهل، حدّث هذا أيضا نفسه باليمن وكان بها من قبل المأمون إسحاق بن موسى بن عيسى بن موسى. فلمّا سمع بإقبال إبراهيم بن موسى العلوي وأهل بيته إليه كره قتالهم وخرج بجميع من في عسكره من الخيل والرجل فخلّى لإبراهيم اليمن. فدخل إبراهيم بلاد اليمن وقتل خلقا كثيرا وسبى وأخذ أموالا عظيمة من الناس فسمّى إبراهيم الجزّار.
جلوس الأفطس
-
وفي هذه السنة جلس حسين بن حسن الأفطس وكان خرج من قبل أبي السرايا. فجلس على نمرقة مثنّية خلف المقام فأمر بثياب الكعبة التي عليها فجرّدت منها حتى لم يبق عليها شيء وبقيت حجارة. ثم كساها ثوبين من قزّ رقيق وجّه بهما أبو السرايا مكتوب عليهما:
« ممّا أمر به الأصفر بن الأصفر ابن السرايا داعية آل محمد لكسوة بيت الله وأن يطرح عنه كسوة الظلمة من ولد العباس لتطهّر من كسوتهم وكتب في سنة تسع وتسعين ومائة. » ثم أمر الحسين بالكسوة التي كانت على الكعبة فقسّمت بين أصحابه من العلويّين وأتباعهم، وعمد إلى ما في خزانة الكعبة من مال فأخذه ولم يسمع بأحد عنده وديعة لأحد من ولد العباس وأتباعهم إلّا هجم عليه في داره فأخذه. وإن لم يجد عنده شيئا أخذه فحبسه وعاقبه حتى يفتدى بقدر طوله حتى أفقر خلقا وهرب كثير من أهل النعم فتعقّبهم بهدم دورهم، حتى صار أصحابه إلى أخذ الحرم وأخذ أبناء الناس وتهتّكوا وجعلوا يحكّون الذهب الرقيق الذي في أسافل رؤوس أساطين المسجد الحرام، فيخرج من الأسطوانة بعد التعب الشديد قدر مثقال ذهبا، وقلعوا الحديد الذي على شبّاك كوى المسجد الحرام وقلعوا شبّاك زمزم وباعوها، فتغيّر لهم الناس ولعنوهم.
اجتماع الحسين وأصحابه إلى محمد بن جعفر لمبايعته بالخلافة
وبلغهم أنّ أبا السرايا قتل، وطرد من كور العراق كلّها الطالبيّون، وأنّ الولاية رجعت بها لولد العباس. فعلم حسين أنّه لا ثبات له ولا لأصحابه لسوء السيرة التي ظهرت منهم. فاجتمعوا إلى محمد بن جعفر بن محمد الصادق وكان شيخا ودعا يروى العلم عن أبيه جعفر بن محمد http://upload.wikimedia.org/wikipedi...8%A7%D9%85.png، وينتابه الناس فيكتبون عنه، وكان له سمت وزهد، وفارق ما كان عليه أهل بيته، فكان محبّبا في الناس. فلمّا اجتمع إليه حسين وأصحابه قالوا له:
« قد تعلم حالك في الناس، فأبرز شخصك نبايع لك بالخلافة، فليس يختلف عليك اثنان. » فأبى إباء شديدا. فلم يزل به ابنه عليّ وحسين بن حسن الأفطس حتى غلبا الشيخ على رأيه فأجابهم. فأقاموه يوم الجمعة فبايعوه بالخلافة، وحشروا إليه الناس من أهل مكّة والمجاورين، فبايعوه وسمّوه: أمير المؤمنين. فأقام شهورا ليس له من الأمر إلّا اسمه، وابنه عليّ وحسين وجماعة معهما أسوأ ما كانوا سيرة.
فوثب حسين بن حسن على امرأة من قريش ولها زوج، وكانت ذات جمال بارع. فانتزعها وأخاف زوجها حتى توارى، واغتصبها نفسها بعد أن كسر عليها بابها وحملت حملا إلى حسين.
ووثب عليّ بن محمد وهو ابن أمير المؤمنين محمد بن جعفر على غلام من قريش، ابن قاض بمكّة يقال له: إسحاق بن محمد، كان جميلا بارعا في الجمال. فاقتحم عليه بنفسه نهارا جهارا في داره على الصفا مشرفا على المسعى، حتى حمله على فرسه في السرج، وركب عليّ على عجز الفرس، وخرج به يشقّ السوق. فلمّا رآه أهل مكّة ومن بها من المجاورين خرجوا، فاجتمعوا في المسجد الحرام وغلّقت الدكاكين ومال معهم أهل الطواف بالكعبة، حتى أتوا أباه محمد بن جعفر فقالوا:
« لنخلعنّك ولنقتلنّك أو تردّ إلينا هذا الغلام الذي أخذه ابنك جهرة. » فأغلق بابه وكلّمهم من شبّاك الشارع في المسجد وقال:
« والله ما علمت، فأمهلونى. » ثم أرسل إلى حسين بن حسن الأفطس وسأله أن يركب إلى ابنه فيستنقذ الغلام من يده. فأبى ذلك حسين وقال:
« والله إنّك لتعلم أنّى لا أقوى على ابنك، ولو جئته لقاتلنى في أصحابه. » فلمّا رأى محمد بن جعفر ذلك، قال لأهل مكّة:
« آمنونى حتى أركب إليه وآخذ الغلام. » فآمنوه فركب بنفسه حتى صار إلى ابنه، فأخذ الغلام منه وسلّمه إلى أهله.
فلم يلبثوا إلّا يسيرا حتى أقبل إسحاق بن موسى العباسي إليهم، فاجتمع العلويّون إلى محمد بن جعفر وقالوا:
« هذا إسحاق بن موسى مقبلا إلينا في الخيل والرجال، وقد رأينا أن نخندق خندقا وتبرز شخصك ليراك الناس فيتحاربوا معك. » وبعثوا إلى من حولهم من الأعراب ففرضوا لهم وخندقوا بأعلى مكّة.
فورد إسحاق وقاتلهم أيّاما ثم كره إسحاق الحرب وخرج يريد العراق. فلقيه ورقاء بن جميل ومن كان معه من أصحاب الجلودي فقالوا لإسحاق:
« إرجع معنا إلى مكّة ونحن نكفيك القتال. » فرجع معهم واجتمع إلى محمد من كان معه، فتقاتلوا عند بئر ميمون يوما ثم عاودهم بعد ذلك بيوم، فكانت الهزيمة على أصحاب محمد بن جعفر. فبعث محمد بن جعفر رجالا من قريش فيهم قاضى مكّة يسألون لهم الأمان حتى يخرجوا من مكّة ويذهبوا حيث شاءوا. فأجابهم إسحاق وورقاء إلى ذلك وأجّلوهم ثلاثة أيّام. ثم دخل إسحاق وورقاء مكّة وتفرّق الطالبيّون وأخذ كلّ قوم ناحيته.
وفي هذه السنة شخص هرثمة من معسكره إلى المأمون بمرو
ذكر خروج هرثمة ومراغمته للحسن والفضل وما آل إليه أمره
لمّا فرغ هرثمة من أمر أبي السرايا ومحمد بن محمد العلوي ودخل الكوفة، أقام في معسكره أيّاما. ثم أتى نهر صرصر والناس يظنّون أنّه يأتى الحسن بن سهل بالمدائن. فلمّا بلغ نهر صرصر خرج على عقرقوف، ثم أتى البردان ثم أتى النهروان. ثم سار حتى أتى خراسان فاستقبلته كتب من المأمون في غير منزل أن يرجع فيلي الشام والحجاز. فأبى وقال:
« لا أرجع حتى ألقى أمير المؤمنين. » إدلالا منه عليه لما كان يعرف من نصيحته له ولآباءه وأراد أن يعرّف المأمون ما يدبّر عليه الفضل بن سهل وما يكتم عنه من الأخبار، وألّا يدعه حتى يردّه إلى بغداد دار خلافة آباءه وملكهم، ليتوسّط سلطانه ويشرف على أطرافه. فعلم الفضل ما يريد فقال للمأمون:
« إنّ هرثمة قد أنغل عليك العباد والبلاد، وظاهر عليك عدوّك، وعادى وليّك، ولقد دسّ أبا السرايا وإنّما هو بعض خوله، حتى عمل ما عمل. ولو شاء هرثمة ألّا يفعل ذلك أبو السرايا ما فعله. » وقد كتب إليه أمير المؤمنين عدّة كتب أن يرجع فيلي الشام والحجاز فأبى، وقد رجع إلى باب أمير المؤمنين عاصيا مشاقّا يظهر القول الغليظ ويتوعّد بالأمر الجليل وإن أطلق هذا كان مفسدة لغيره. فأشرب قلب المأمون عليه. وأبطأ هرثمة في المسير. فلم يصل إلى خراسان إلّا في شهور.
فلمّا بلغ مرو خشي أن يكتم المأمون قدومه، فضرب بالطبول لكي يسمعها المأمون. فسمعها فقال:
« ما هذا؟ » قالوا: « هرثمة قد أقبل يرعد ويبرق. » وظنّ هرثمة أنّ قوله هو المقبول فأمر بإدخاله فلمّا دخل كان قد أشرب قلب المأمون ما أشرب فقال له:
« يا هرثمة مالأت أهل الكوفة والعلويين وداهنت ودسست إلى أبي السرايا حتى خلع وعمل ما عمل، وكان رجلا من أصحابك ولو أردت أن تأخذهم جميعا لفعلت، ولكنّك أرخيت خناقهم وأجررت لهم رسنهم. » فذهب هرثمة ليتكلّم ويعتذر ويدفع عن نفسه ما قرف به، فلم يقبل ذلك منه وأمر به فوجئ على أنفه وديس في بطنه وسحب من بين يديه.
-
وكان تقدّم الفضل بن سهل إلى الأعوان في الغلظة عليه والتشديد، حتى حبس. ثم دسّ إليه، بعد أن أذلّه من قتله. وقالوا مات.
هياج الشغب ببغداد بين الحربية والحسن بن سهل
وفي هذه السنة هاج الشغب ببغداد بين الحربية والحسن بن سهل.
ذكر السبب في ذلك
لمّا خرج هرثمة إلى خراسان وثبوا وقالوا:
« لا نرضى حتى نطرد الحسن بن سهل وعمّاله عن بغداد. » وكان من عمّاله بها محمد بن أبي خالد، وأسد بن أبي الأسد. فأخرجوهم وطردوا أسبابهم، وصيّروا إسحاق بن موسى بن المهدي خليفة للمأمون ببغداد، فاجتمع أهل الجانبين على ذلك ورضوا به.
وكان الحسن بن سهل مقيما بالمدائن منذ شخص هرثمة إلى خراسان وإلى أن اتصل بأهل بغداد خبر هرثمة وما صنع به المأمون. فلمّا علم الحسن بن سهل أنّ أهل بغداد قد وقفوا على ذلك أرسل إلى عليّ بن هشام، وهو والى بغداد من قبله أن:
« امطل جند الحربية والبغداديين أرزاقهم ومنّهم ولا تعطهم. » فلمّا وثب أهل بغداد بأصحابه دسّ إلى قوم من قوّادهم أن يشغّبوا على إسحاق بن موسى. فشغّبوا، فحوّل الحربية لإسحاق إليهم وأنزلوه على دجيل، وبعث الحسن بن سهل عليّ بن هشام من الجانب الآخر وجاء هو ومحمد بن أبي خالد وقوّادهم ليلا حتى دخلوا بغداد، فقاتل الحربية ثلاثة أيّام على قنطرة الصراة العتيقة والجديدة والأرجاء.
ثم إنّه وعد الحربية أن يعطيهم رزق ستّة أشهر إذا أدركت الغلّة فسألوه أن يعجّل لهم خمسين درهما لكلّ رجل لينفقوها في شهر رمضان. فأجابهم إلى ذلك ثم دافعهم بها ولم يف لهم بإعطاء الخمسين، فشدّوا على عليّ بن هشام فطردوه.
وكان المتولّى ذلك والقيّم بأمر الحربية محمد بن أبي خالد وذلك أنّ عليّ بن هشام كان يستخفّ به ويضع من مقداره. ووقع بين محمد بن أبي خالد وأزهر بن زهير بن المسيّب كلام فقنّعه أزهر بالسوط. فغضب محمد وتحوّل إلى الحربية واجتمع إليه الناس فلم يقربهم عليّ بن هشام حتى أخرجوه من بغداد.
وفي هذه السنة تقدّم المأمون بإحصاء ولد العباس فبلغوا ثلاثة وثلاثين ألفا ما بين ذكر وأنثى.
ودخلت سنة إحدى ومائتين
مراودة أهل بغداد منصور بن المهدي على الخلافة
وفيها راود أهل بغداد منصور بن المهدي على الخلافة فامتنع من ذلك عليهم فراوده على الإمرة عليهم على أن يدعو للمأمون بالخلافة فأجابهم إلى ذلك.
ذكر السبب في ذلك
لمّا أخرج أهل بغداد عليّ بن هشام منها واتصل الخبر بالحسن بن سهل وكان بالمدائن انهزم حتى صار إلى واسط، فتبعه محمد بن أبي خالد مخالفا له، وقد تولّى القيام بأمر الناس، وولّى سعيد بن الحسن بن قحطبة الجانب الغربي، ونصر بن حمزة بن مالك الجانب الشرقي. وكانفه ببغداد منصور بن المهدي وخزيمة بن خازم والفضل بن الربيع، وقد كان الفضل بن الربيع مختفيا قبل قتل المخلوع. فلمّا رأى محمد بن أبي خالد قد بلغ واسطا بعث إليه يطلب منه الأمان فأعطاه إيّاه.
وظهر وقدم على محمد بن أبي خالد ابنه عيسى من عند طاهر بن عيسى فاجتمع مع أبيه على قتال الحسن فتعبّأ محمد بن أبي خالد للقتال وتقدّم هو وابنه عيسى مع أصحابهما حتى صاروا على ميلين من واسط.
فوجّه إليهم الحسن أصحابه وقوّاده فاقتتلوا قتالا شديدا عند أبيات واسط.
فلمّا كان بعد العصر هبّت ريح شديدة وغبرة حتى اختلط القوم بعضهم ببعض فكانت الهزيمة على أصحاب محمد بن أبي خالد فثبت، فأصابته جراحات شديدة في جسده، فانهزم هو وأصحابه هزيمة شديدة قبيحة، فقتل أصحاب الحسن منهم وسلبوا حتى بلغوا فم الصلح وقلعت الريح ما كان معهم من سفن فيها متاع وسلاح، حتى أدخلها واسطا فأخذها أصحاب الحسن وتبعوه، ولم يزل يقاتلهم في كلّ منزل بالنهار، ثم يرتحل بالليل حتى بلغ جرجرايا فاشتدّت به الجراحات. فأمر قوّاده أن يقيموا في عسكره، وحمله ابنه المعروف بأبي زنبيل حتى أدخله بغداد ومات محمد من ليلته ودفن في داره سرّا.
وكان زهير بن المسيّب محبوسا عند جعفر بن محمد بن أبي خالد فلمّا قدم أبو زنبيل مضى إلى خزيمة بن خازم فأعلمه خبر أبيه وأوصل إليه كتابا عن أخيه عيسى. فبعث خزيمة إلى بنى هاشم والقوّاد فأعلمهم الخبر وقرأ عليهم كتاب عيسى بن محمد بن أبي خالد إليه وأنّه يكفيهم الحرب، فرضوا به.
وصار عيسى مكان أبيه وانصرف أبو زنبيل من عند خزيمة حتى أتى زهير بن المسيّب، فأخرجه من محبسه وضرب عنقه ونصب رأسه على رمح وأخذوا جسده، فشدّوا في رجله حبلا وطافوا به على دوره ودور أهل بيته، ثم أداروا به في الكرخ وردّوه إلى باب الشام، ولمّا جنّ عليهم الليل رموه في دجلة.
ورجع أبو زنبيل إلى أخيه عيسى، فوجّهه عيسى إلى فم الصراة، وبلغ الحسن بن سهل موت محمد بن أبي خالد، فخرج من واسط ووجّه حميد بن عبد الحميد الطوسي وسعيد بن الساجور وغيره من القوّاد، فلقوا أبا زنبيل بفم الصراة فهزموه فانحاز إلى أخيه هارون بالنيل، ثم رجعوا إلى هارون فقاتلوه وهزموه مع أخيه أبي زنبيل، فخرجا هاربين إلى المدائن وبلغ الخبر بنى هاشم وقوّاد بغداد، فجدّوا في الخلاف على الحسن بن سهل وقالوا:
« لا نرضى بالمجوسي بن المجوسي بن سهل حتى نطرده ويرجع إلى خراسان ونخلع المأمون. » وتراضوا أيّاما.
ثم أرادوا منصور بن المهدي على أن يعقدوا له الخلافة فأبى عليهم. فما زالوا به حتى صيّروه أميرا وخليفة للمأمون بالعراق. وقوى أمر عيسى بمن ذكرنا وكثر جنده فأمره باحصائهم فكانوا مائة ألف وخمسة وعشرين ألفا بين
-
فارس وراجل. فأعطى الفارس أربعين درهما والراجل عشرين درهما. نكير المطوعة على الفساق ببغداد
وفي هذه السنة تجرّدت المطوّعة للنكير على الفسّاق ببغداد ورئيسهم خالد الدريوش وسهل بن سلامة الأنصاري من أهل خراسان.
ذكر السبب الذي فعلت المطوعة له ذلك
كان فسّاق الحربية والشطّار الذين كانوا ببغداد والكرخ آذوا الناس أذى شديدا وأظهروا الفسق وقطع الطريق وأخذ الغلمان والنساء علانية من الطرق.
فكانوا يأتون الرجل فيأخذون ابنه فيذهبون به فلا يقدر أن يمتنع عليهم، وكانوا يسألون الرجل أن يقرضهم أو يصلهم، فلا يقدر أن يمتنع عليهم، وكانوا يجتمعون فيأتون القرى فيكابرون أهلها ويأخذون ما قدروا عليه من متاع ومال وغيره لا سلطان يمنعهم، ولا يقدر على ذلك منهم، لأنّ السلطان كان يعتزّ بهم فكان لا يقدر أن يمنعهم من فسق يركبونه، وكانوا يجبون المارّة في الطرق والسفن، ويخفرون البساتين، وكان الناس منهم في بلاء عظيم. وخرجوا يوما إلى قطربّل، فانتهبوها علانية وأخذوا المتاع والذهب والفضّة والغنم والبقر والحمير وغير ذلك، فأدخلوها بغداد وجعلوا يبيعونها علانية.
فلمّا رأى الناس ذلك وظهور البغي والفسق والنهب، وأنّ السلطان لا يغيّره، مشى بعضهم إلى بعض وقام صلحاء كلّ ربض ودرب، فمشى بينهم أماثلهم وقالوا:
« يا قوم إنّما في كلّ درب فاسق واثنان إلى عشرة، وعددكم بعد أكثر.
فلو اجتمعتم حتى يكون أمركم واحدا لقمعتم هؤلاء الفسّاق واحتشموكم. » فقام رجل من طريق الأنبار يعرف بالدريوش، فدعا جيرانه وأهل محلّته على أن يعاونوه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأجابوه إلى ذلك.
فشدّ على من يليه من الفسّاق والشطّار، فمنعهم ممّا كانوا يصنعون، فامتنعوا عليه فقاتلهم وهزمهم وأخذ بعضهم فضربهم وحبسهم.
قيام سهل بن سلامة
ثم قام بعده رجل آخر يقال له: سهل بن سلامة الأنصاري من أهل خراسان، وتكنّى أبا حاتم، فدعا الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعمل بكتاب الله وسنّة نبيه محمد http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png وعلّق مصحفا في عنقه، ثم بدأ بجيرانه وأهل محلّته فأمرهم ونهاهم فقبلوا منه، ثم دعا الناس جميعا إلى ذلك، الشريف منهم والوضيع، وجعل ديوانا يثبت فيه اسم من أتاه يبايعه على ذلك وقتال من خالفه كائنا من كان، فأتاه خلق كثير فبايعوه. ثم إنّه طاف ببغداد وأسواقها وأرباضها وطرقها ومنع كلّ من يخفر ويجبى المارّة وقال:
« لا خفارة في الإسلام. » والخفارة أنّ الرجل منهم كان يأتى إلى من له دار أو بستان أو تجارة فيقول:
« أنت في خفرتى لا يتعرّض أحد لمالك، أدفع من أرادك بسوء ولى في عنقك كلّ شهر كذا وكذا درهما. » فيعطيه.
وقوى على ذلك فقمع أهل الشرّ وكان يخالفه الدريوش في أنّه كان لا يغيّر على السلطان شيئا ولا يخالفه ولا يقاتله ويقول:
« أنا لا أرى مخالفة أمر السلطان بشيء. » وقال سهل بن سلامة:
« أنا أرى قتال كلّ من خالف الكتاب والسنّة كائنا من كان. » فلمّا فشا ذلك وقوى، ضعف أمر منصور بن المهدي وعيسى بن محمد بن أبي خالد لأنّ معظم أصحابهم الشطّار ومن لا خير فيه، فكسرهم ذلك.
ودخل منصور بن المهدي بغداد فكاتب الحسن بن سهل وسأله الأمان له ولأهل بيته على أن يعطى الحسن جنده وسائر أهل بغداد من المرتزقة رزق ستّة أشهر إذا أدركت الغلّة. فأجابه الحسن إلى ذلك. وارتحل الحسن من معسكره فدخل بغداد وتقوّضت تلك العساكر وأشرك بين عيسى ويحيى بن عبد الله ابن عم الحسن بن سهل في ولاية السواد وأعمال بغداد.
وكان أهل عسكر المهدي مخالفين لعيسى. فوثب المطّلب بن عبد الله بن مالك الخزاعي يدعو إلى المأمون وإلى الفضل والحسن ابني سهل. فامتنع عليه سهل بن سلامة وقال:
« ليس على هذا بايعتني. » وتحوّل منصور بن المهدي وخزيمة بن خازم والفضل بن الربيع وكانوا بايعوا سهل بن سلامة على ما يدعو إليه من العمل بالكتاب والسنّة، فنزلوا بالحربية هربا من المطّلب، وجاء سهل بن سلامة إلى الحسن وبعث الى المطّلب، فأبى أن يجيبه فقاتله سهل أيّاما قتالا شديدا ثم اصطلح عيسى والمطلب، فدسّ عيسى إلى سهل من اغتاله وضربه بالسيف ضربة لم يعمل كبير عمل.
فلمّا اغتيل سهل رجع إلى منزله وقام عيسى بأمر الناس فكفّوا عن القتال.
ثم بعث عيسى إلى سهل بن سلامة، فاعتذر إليه ممّا صنع وبايعه، وأمره أن يعود إلى ما كان عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنّه عونه على ذلك، فعاد سهل إلى ما كان عليه.
المأمون يجعل علي بن موسى (ع) ولي عهد المسلمين
وفي هذه السنة جعل المأمون عليّ بن موسى بن جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب وليّ عهد المسلمين، والخليفة من بعده، وسمّاه: الرضا من آل محمد، وأمر جنده بطرح السواد ولبس ثياب الخضرة، وكتب بذلك إلى الآفاق.
ذكر الخبر عن ذلك وسببه وما آل إليه الأمر
بينا عيسى بن محمد بن أبي خالد يعرض أصحابه منصرفه من معسكره إلى بغداد، إذ ورد عليه كتاب من الحسن بن سهل، يعلمه أنّ أمير المؤمنين المأمون قد جعل عليّ بن موسى وليّ عهده من بعده، وأنّه نظر في بنى العباس وبنى عليّ فلم يجد أفضل ولا أورع ولا أعلم منه، وأنّه سمّاه: الرضا من آل محمد، وأمره بطرح السواد، ولبس ثياب الخضرة، وذلك في شهر رمضان سنة إحدى ومائتين، ويأمره أن يأمر من قبله من أصحابه والجند وبنى هاشم بالبيعة له، وأن يأخذهم بلبس الخضرة في أقبيتهم وقلانسهم وأعلامهم ويأخذ أهل بغداد بذلك.
فلمّا أتى عيسى ذلك دعا أهل بغداد إلى ذلك، على أن يعجّل لهم رزق شهر، والباقي إذا أدركت الغلّة.
فقال بعضهم:
« نبايع ونلبس الخضرة. » وقال بعضهم:
« لا نبايع ولا نخرج هذا الأمر من ولد العبّاس، وإنّما هذا دسيس من قبل الفضل بن سهل. » وغضب بنو العبّاس، ومشى بعضهم إلى بعض وقالوا:
« نولّى بعضنا ونخلع المأمون. » وكان المتكلّم في هذا والساعي له منصور وإبراهيم ابنا المهدي.
-
أهل بغداد يبايعون إبراهيم بن المهدي بالخلافة
وفي هذه السنة بايع أهل بغداد إبراهيم بن المهدي بالخلافة وخلعوا المأمون.
ذكر السبب في ذلك
قد ذكرنا ما أنكره العباسيون ببغداد على المأمون حتى أخرجوا الحسن بن سهل عن بغداد. فلمّا ورد أمره بالبيعة لعليّ بن موسى ولبس الخضرة وأخذ الناس به، أرادوا أن يبايعوا إبراهيم بن المهدي بالخلافة ويخلعوا المأمون، وبذلوا للجند عشرة دنانير لكلّ واحد منهم. فاضطرب الناس وقبل بعضهم ورضى وأبي قوم وامتنعوا، فاجتمعوا وأمروا رجلا يقول يوم الجمعة حين يؤذّن المؤذّن:
« إنّا نريد أن ندعو للمأمون ومن بعده إبراهيم يكون خليفته والنائب عنه. » ودسّوا قوما آخرين يقولون:
« إذا قام هذا الرجل وقال ما عنده لا نرضى إلّا أن تبايعوا لإبراهيم بالخلافة وتخلعوا المأمون، أتريدون أن تأخذوا أموالنا كما صنع منصور، ثم تجلسوا في بيوتكم؟ » فقال يوم الجمعة هذا الرجل ما وصّوه به، وقام الآخرون فقالوا ما وصّوا به، وماج الناس، فلم يصلّ تلك الجمعة ولا خطب أحد وإنّما صلّى الناس بعد ما حسّوا الفوت أربع ركعات وانصرفوا.
تحرك بابك الخرمى في الجاويذانية
وفي هذه السنة تحرّك بابك الخرّمى في الجاويذانية أصحاب جاويذان بن سهل صاحب البذّ، وادّعى أنّ روح جاويذان دخل فيه، وأخذ في العيث والفساد.
ودخلت سنة اثنتين ومائتين
فلمّا كان يوم الجمعة لخمس خلون من المحرّم أظهروا أمر إبراهيم، وصعد إبراهيم المنبر، فكان أوّل من بايعه عبيد الله بن العباس بن محمد، ثم منصور بن المهدي، ثم سائر بنى هاشم وكان المتولّى لأخذ البيعة المطّلب بن عبد الله بن مالك وقام في ذلك السندي وصالح صاحب المصلّى ومنجاب ونصير الوصيف وسائر الموالي - إلّا أنّ هؤلاء كانوا الرؤساء - غضبا منهم على المأمون حين أراد الخروج، وإخراج ولد العباس من الخلافة، ولتركه لباس آباءه.
ولمّا فرغ من ذلك وعد الجند أن يعطيهم أرزاقهم لستّة أشهر فدافعهم بها.
فلمّا رأوا ذلك شغبوا عليه، فأعطى كلّ رجل منهم مائتي درهم وكتب لبعضهم إلى السواد بقيمة ما لهم حنطة وشعيرا، فخرجوا في قبضها، فلم يمرّوا بشيء إلّا انتهبوه، وأخذوا النصيبين جميعا.
وخرج على إبراهيم بن المهدي، مهدى بن علوان الحروريّ فحكّم وظهر ببزرج سابور، وغلب على الراذانين ونهر بوق. فوجّه إبراهيم إليه أبا إسحاق ابن الرشيد في جماعة من القوّاد كثيرين، وكان مع أبي إسحاق غلمان له أتراك، فلقوا الشراة، فطعن رجل من الأعراب أبا إسحاق فحامى عنه غلام تركيّ، وقال له:
« يا مولاي، مرا بشناس. » فسمّاه يومئذ: أشناس.
إنفاذ العباس بن موسى بن جعفر إلى الكوفة
وأنفذ الحسن بن سهل العباس بن موسى بن جعفر، وهو أخو عليّ بن موسى الرضا، إلى الكوفة وأمره بلباس الخضرة، وأن يدعو أوّلا للمأمون ومن بعده لأخيه عليّ بن موسى، وأعانه بمائة ألف درهم وقال له:
« قاتل عن أخيك، فإنّ أهل الكوفة يجيبونك وأنا معك. » وكانت الكتب نفذت من جهة إبراهيم بن المهدي إلى الكوفة بتقلّده الأمر وقيامه بإمرة المؤمنين وخلع المأمون، ونفذت الكتب من جهة الحسن بن سهل بما رآه المأمون وكثر الخلاف. وكانت لهم أخبار لا يليق ذكرها بهذا الكتاب إذ كانت فتنا لا تجربة فيها وحروبا يقتل فيها بعض الناس بعضا من غير تدبير لطيف ولا مكر بديع، وإنّما كانت مصالتات بالسيوف، فمرّة يكون لهؤلاء ومرّة لهؤلاء.
فلمّا بلغ خبر العباس بن موسى بن جعفر العلوي أهل الكوفة، أجابه قوم كثيرون وقال قوم آخرون:
« إن كنت إنّما تدعو إلى المأمون ثم من بعده إلى أخيك، فلا حاجة لنا في دعوتك. وإن كنت تدعو إلى أخيك أو إلى نفسك أجبناك. » فقال: « إنّما أدعو إلى المأمون ثم من بعده لأخي. » فقعد عنه المستبصرون في التشيّع. وكان يظهر أنّ حميدا يأتيه ويعينه ويقويّه، وأنّ الحسن بن سهل يوجّه إليه قوما مددا له، فلم يأته منهم أحد، وتوجّه إليه أصحاب إبراهيم بن المهدي فهمزموه.
وكان كلّ فريق من أصحاب الخضرة والسواد ينهبون ويحرقون.
ثم أمر إبراهيم بن المهدي عيسى بن محمد بن أبي خالد أن يسير إلى ناحية واسط على طريق النيل، وأمر جماعة أن يسيروا ممّا يلي جوخى حتى عسكروا قرب واسط ممّا يلي الصيّادة وعليهم عيسى بن محمد بن أبي خالد، فتحصّن منهم الحسن بن سهل، فكان لا يخرج إليهم. ثم تهيّأ بعد أيّام الحسن للقتال فظنّ الناس أنّ ذلك لنظره في النجوم. ثم اختار يوما فخرجوا إليهم فاقتتلوا قتالا شديدا إلى الظهر، ووقعت الهزيمة على عيسى وأصحابه فانهزموا، فأخذ أصحاب الحسن جميع ما كان في عسكرهم من سلاح ودوابّ ومتاع وغير ذلك.
ظفر إبراهيم بسهل المطوعى
وفي هذه السنة ظفر إبراهيم بن المهدي بسهل بن سلامة المطوّعى فحبسه وعاقبه.
وكان السبب في ذلك
أنّ عيسى لمّا انهزم، أقبل هو وإخوته وأصحابه نحو سهل بن سلامة، لأنّه كان يذكرهم بأسوأ أعمالهم ويسمّيهم الفسّاق، ليس لهم عنده اسم غيره.
وكان أصحابه - الذين بايعوه على الكتاب والسنّة وألّا طاعة لمخلوق في معصية الخالق - وقد عمل كلّ رجل منهم على باب داره برجا بجصّ وآجر، وقد نصب عليه السلاح والمصاحف حتى بلغوا من الحربية إلى باب الشام سوى من أجابه من الكرخ وسائر الناس. فلمّا قصده عيسى لم يمكنه الوصول إليه. فأعطى أصحاب الدروب التي تقرب منه، الألف درهم والألفى درهم، على أن يتنحّوا له عن الدروب. فأجابوه إلى ذلك وكان نصيب الرجل الدرهم والدرهمان ونحو ذلك.
فلمّا كان يوم السبت لخمس بقين من شعبان تهيّئوا له من كلّ وجه وخذله أهل الدروب حتى وصلوا إلى مسجده ومنزله. فلمّا رآهم قد وصلوا إليه اختفى منهم وألقى سلاحه واختلط بالنظارة ودخل بين النساء. فدخلوا منزله فلم يظفروا به وأذكوا عليه العيون. فلمّا كان في الليل أخذوه في بعض الأزقّة فأتوا به إسحاق بن موسى الهادي وهو وليّ عهد عمّه إبراهيم وهو بمدينة السلام، فكلّمه وحاجّه وجمع بينه وبين أصحابه وقال له:
-
« حرّضت علينا الناس وعبت أمرنا. »
فقال له:
« إنّما كانت دعوتي عباسية، وإنّما كنت أدعو إلى العمل بالكتاب والسنّة، وأنا على ما كنت عليه، أدعوكم إليه الساعة. » فقالوا: « لا نقبل ما تقول، اخرج إلى الناس وقل لهم إنّ ما كنت أدعوكم إليه باطل. » فقال: « نعم. » فأخرج إلى الناس فقال:
« يا معشر الناس قد علمتم ما كنت أدعوكم إليه من العمل بالكتاب والسنّة وأنا أدعوكم إليه الساعة. » فلمّا قال لهم هذا وجئوا في عنقه وضربوا وجهه. فقال لهم:
« يا معشر الحربية، المغرور من غررتموه؟ » فأخذ وأدخل إلى إسحاق فقيّده، ثم أخرجوه إلى إبراهيم بن المهدي بالمدائن فحبسه مع قوم من أصحابه. وأشاعوا أنّ عيسى قتله تخوّفا من الناس أن يعلموا بمكانه فيخرجوه. وكان بين خروجه وبين أخذه اثنا عشر شهرا.
شخوص المأمون من مرو إلى العراق
وفي هذه السنة شخص المأمون من مرو يريد العراق.
والسبب في ذلك أنّ عليّ بن موسى بن جعفر الرضا أخبر المأمون بما فيه الناس من الفتنة والقتال منذ قتل أخوه محمد، وبما كان الفضل بن سهل يستره عنه من أخبار الناس، وأنّ أهل بيته قد نقموا عليه أشياء، وأنّهم يقولون إنّه مسحور مجنون، وأنّهم لمّا رأوا ذلك بايعوا إبراهيم بن المهدي بالخلافة.
فقال له المأمون:
« إنّهم ما بايعوه بالخلافة وإنّما صيّروه أميرا يقوم بأمرهم على ما كان أخبره به الفضل. » فأعلمه أنّ الفضل قد كذبه وغشّه، وأنّ الحرب قائمة بين إبراهيم والحسن، وأنّ الناس ينقمون عليك مكانه ومكان أخيه ومكاني ومكان بيعتي من بعدك. » فقال: « ومن يعلم هذا من أهل عسكري؟ » فقال له:
« يحيى بن معاذ وعبد العزيز بن عمران وعدّة من وجوه أهل العسكر. » فقال له:
« أدخلهم عليّ حتى أسائلهم عمّا ذكرت. » فأدخلهم عليّ وهم هؤلاء وجماعة آخرون فيهم عليّ بن أبي سعيد وهو ابن أخت الفضل، فسألهم المأمون عمّا أخبره به عليّ بن موسى الرضا، فأبوا أن يخبروه حتى يجعل لهم الأمان من الفضل بن سهل ألّا يعرض لهم، فضمن ذلك لهم وكتب لكلّ رجل منهم كتابا بخطّه ودفعه إليهم، فأخبروه بما فيه الناس من الفتن وبيّنوا ذلك له وأخبروه بغضب أهل بيته ومواليهم وقوّاده في أشياء كثيرة، وبما موّه عليه الفضل من أمر هرثمة، وأنّ هرثمة إنّما جاء لنصحه وليبيّن له ما يعمل عليه وأنّه إن لم يتدارك أمره خرجت الخلافة من يده ومن أهل بيته، وأنّ الفضل دسّ إلى هرثمة من قتله حين أراد نصحه، وأنّ طاهر بن الحسين قد أبلى في طاعته ما أبلى وافتتح له ما افتتح وقاد إليه الخلافة مزمومة، حتى إذا وطّأ له الأمر أخرج من ذلك كلّه وصيّر في زاوية من الأرض بالرقّة وقد حظرت عليه الأموال حتى ضعف أمره وشغب عليه جنده، ولو أنّه كان على خلافتك ببغداد لضبط الملك ولم يجترأ عليه بمثل ما اجترئ عليه من الحسن بن سهل، وأنّ الدنيا قد تفتّقت من أقطارها، وأنّ طاهر بن الحسين قد تنوسى في هذه السنين منذ قتل محمد، فهو بالرقّة لا يستعان به في شيء من هذه الحروب، وسألوا المأمون الخروج إلى بغداد وقالوا:
« إنّ بنى هاشم والموالي والقوّاد لو قد رأوا عزّتك سكنوا وبخعوا بالطاعة لك. » فلمّا تحقّق ذلك عنده أمر بالرحيل إلى بغداد. فلمّا أمر بذلك علم الفضل بن سهل ببعض أمرهم فتعنّتهم حتى ضرب بعضهم بالسياط وحبس بعضا ونتف لحى بعض.
فعاوده عليّ بن موسى في أمرهم، وأعلمه ما كان من ضمانه لهم.
فقال له:
« إني أدارى أمري وسأبلغ ما فيه الصلاح بمشيئة الله. »
قتل الفضل بن سهل في الحمام بضرب السيوف
ثم ارتحل من مرو. فلمّا أتى سرخس شدّ قوم على الفضل بن سهل وهو في الحمّام فضربوه بالسيوف حتى مات، وذلك يوم الجمعة لليلتين خلتا من شعبان سنة اثنتين ومائتين.
وكان الذين قتلوه أربعة نفر من حشم المأمون: غالب بن الأسود الشّعوذى، وقسطنطين الرومي، وفرج الديلمي، وموفّق الصقلبى - وقتل الفضل وله ستّون سنة - وهربوا.
فبعث المأمون في طلبهم وجعل لمن جاء بهم عشرة آلاف دينار فجيء بهم، فساءلهم المأمون فقال بعضهم:
« إنّ عليّ بن أبي سعيد بن أخت الفضل دسّهم. » ومنهم من أنكر.
وقد حكى أنّ منهم من قال:
« أنت أمرتنا بقتله. » فأمر المأمون بهم، فضربت أعناقهم.
ثم بعث إلى عبد العزيز بن عمران وعليّ ومونس وغيرهم ممّن كانوا سعوا بالفضل إليه، فساءلهم فأنكروا أن يكونوا علموا بشيء من ذلك. فلم يقبل ذلك منهم وأمر بهم فقتلوا، وبعث برؤوسهم إلى الحسن بن سهل إلى واسط، وأعلمه ما دخل عليه من المصيبة بقتل الفضل، وأنّه قد صيّره مكانه.
ورحل المأمون من سرخس نحو العراق وقد كان المطّلب بن عبد الله بن مالك يدعو في السرّ إلى المأمون وإلى خلع إبراهيم على أنّ منصور بن المهدي خليفة المأمون. فأجابه منصور وخزيمة وجماعة من القوّاد، وكاتب المطّلب حميدا وعليّ بن هشام أن يتقدّما فنزل حميد صرصر وعليّ النهروان، وتحقّق عند إبراهيم الخبر، فخرج من المدائن إلى نحو بغداد وطلب المطّلب وأصحابه، فامتنع المطّلب فنادى:
« من أراد النهب فليأت دار المطّلب. » فانتهبوا داره ودور أهل بيته ولم يظفر به.
وندم إبراهيم حيث صنع بالمطّلب ما صنع ثم لم يظفر به. وبلغ الخبر حميدا وابن هشام. فأمّا حميد فبعث من جهته من أخذ المدائن وقطع الجسر ونزلها. وأمّا عليّ بن هشام فبعث من جهته من أتى نهر ديالى وقطع الجسر.
زواجات ثلاثة
وفي هذه السنة تزوّج المأمون بوران بنت الحسن بن سهل، وزوّج عليّ بن موسى الرضا ابنته أمّ حبيب، وزوّج محمد بن عليّ بن موسى ابنته أمّ الفضل.
ودخلت سنة ثلاث ومائتين
وفي هذه السنة مات عليّ بن موسى الرضا وذلك بطوس
ذكر الخبر عن ذلك
لمّا صار إليها المأمون أقام عند قبر أبيه أيّاما، ثم إنّ عليّ بن موسى - على ما حكى - أكل عنبا فأكثر منه فمات فجأة، فأمر به المأمون فدفن عند قبر الرشيد.
وكتب إلى الحسن بن سهل بذلك وإلى وجوه بنى العبّاس والموالي ويعرّفهم أنّهم إنّما نقموا بيعته له من بعده ويسألهم الدخول في طاعته. ورحل المأمون إلى بغداد، فلمّا صار إلى الريّ أسقط من وظيفتها ألفي ألف درهم.
-
غلبة السوداء على الحسن بن سهل
وفي هذه السنة غلبت السوداء على الحسن بن سهل حتى شدّ في الحديد وحبس. وكتب بذلك قوّاد الحسن إلى المأمون فأتاهم الجواب: أن يكون على عسكره دينار بن عبد الله ويعلمهم أنّه قادم على إثر كتابه.
ضرب إبراهيم بن المهدي عيسى بن محمد
وفي هذه السنة ضرب إبراهيم بن المهدي، عيسى بن محمد بن أبي خالد وحبسه.
ذكر السبب في ذلك
كان عيسى بن محمد يكاتب حميدا والحسن ويظهر لإبراهيم طاعة ونصيحة، وكلّما قال له إبراهيم: تهيّأ لقتال حميد، تعلّل عليه بأرزاق الجند وأشباه ذلك، حتى واقف الحسن وحميدا على أن يسلّم إبراهيم إليهم يوم الجمعة انسلاخ شوّال. وسعى بعيسى بعض أهله إلى إبراهيم وكان عيسى سأل إبراهيم أن يصلّى الجمعة بالمدينة فأجابه إلى ذلك، فلمّا تكلّم عيسى بما بلغه وسعى إليه حذر وبعث إلى عيسى يسأله أن يصير إليه ليناظره في بعض أموره. فلمّا صار إليه عاتبه ساعة فأخذ عيسى ينكر بعض ما يقول.
فلمّا واقفه على أشياء وعلامات أمر به فضرب وحبسه، وأخذ أمّ ولد له وصبيانا صغارا فحبسهم، وطلب خليفة له يقال له العبّاس فاختفى.
فلمّا عرف أهل بيت عيسى وإخوته وأصحابه خبره مشى بعضهم إلى بعض وحرّضوا الناس على إبراهيم فاجتمعوا، وكان رأسهم العبّاس خليفته، فشدّوا على عامل إبراهيم على الجسر فطردوه وقطعوا الجسر وطردوا كلّ عامل لإبراهيم في الكرخ وغيره في الجانب الغربي.
وكتب العبّاس إلى حميد يسأله أن يقدم عليهم حتى يسلّموا إليه بغداد.
فجاء حميد حتى نزل نهر صرصر طريق الكوفة وخرج إليه قوّاد أهل بغداد، فوعدهم ومنّاهم فقبلوا ذلك منه، ووعدهم أن يضع لهم العطاء في الياسرية على أن يصلّوا يوم الجمعة فيدعوا للمأمون، ويخلعوا إبراهيم.
فأجابوه إلى ذلك.
فبلغ ذلك إبراهيم فأخرج عيسى من الحبس وسأله أن يكفيه أمر هذا الجانب وأخذ منه كفلاء، فعبر إليهم عيسى واخوته مع قوّاد الجانب الشرقي وعرض عليهم العطاء، فشتموه وقالوا:
« لا نرضى إبراهيم. »
احتيال من عيسى
ثم تكاثر الناس على عيسى، فانصرف بأصحابه نحو باب خراسان، ثم رجع عيسى كأنّه يريد قتالهم واحتال حتى صار في أيديهم شبه الأسير، فأخذه بعض قوّاده فأتى به منزله، ورجع الباقون إلى إبراهيم فأخبروه، فاغتمّ وقلق، وقد كان المطّلب مستترا فظهر ليلحق بحميد فغمز به فأخذ وحمل إلى إبراهيم فحبسه. ثم عرف إبراهيم انخراق الأمر فأطلقه وأطلق سهل بن سلامة وكان عند الناس أنّه مقتول. فلمّا دخل حميد بغداد أخرجه إبراهيم.
وكان يدعو في مسجد الرصافة كما كان يدعو. فإذا كان الليل ردّه إلى حبسه. فلمّا كان بعد أيّام خلّى سبيله فذهب واستتر.
وكثر العيث ببغداد وظهر الشطّار والعيّارون، واختفى الفضل بن الربيع، وأخذ القوّاد وبنو هاشم يلحقون بحميد واحدا واحدا، فسقط في يد إبراهيم وشقّ عليه مداواة أمره.
ذكر الخبر عن هرب إبراهيم بن المهدي واستتاره
وأخذ إبراهيم يدارى أصحابه يوم الثلاثاء لاثنتي عشر ليلة بقيت من ذي الحجّة سنة ثلاث ومائتين. فلمّا جنّ به الليل هرب واستتر، وبعث المطّلب إلى حميد:
« إني قد أحدقت بدار إبراهيم. » وكتب إلى عليّ بن هشام بمثل ذلك. فأقبلوا إلى دار إبراهيم فطلبوه فيها فلم يجدوه. ولم يزل إبراهيم متواريا حتى قدم المأمون، وكان من أمره ما كان.
وكانت أيّام إبراهيم كلّها سنة وأحد عشر شهرا واثنى عشر يوما.
وغلب عليّ بن هشام على شرقيّ بغداد وحميد بن عبد الحميد على غربيّها.
ودخلت سنة أربع ومائتين
قدوم المأمون العراق والرجوع إلى لبس السواد
وفيها قدم المأمون العراق وانقطعت مادّة الفتن ببغداد.
ذكر الخبر عن ذلك
لمّا صار المأمون إلى النهروان أقام ثمانية أيّام، وخرج إليه أهل بيته وقوّاده ووجوه الناس، وكان كتب إلى طاهر وهو بالرقّة أن يوافيه إلى النهروان، فوافاه بها ثم. دخل مدينة السلام ولباسه ولباس أصحابه: أقبيتهم وقلانسهم وطرزهم وأعلامهم كلّها، الخضرة وطاهر معه، فلم يكن يدخل إليه أحد من القوّاد والناس كافّة إلّا في ثياب خضر مدّة، ثم تكلّم في ذلك بنو العبّاس خاصّة وخاطبوا طاهر بن الحسين وكاتبه أيضا قوّاد خراسان. وكان المأمون أمر طاهر أن يسأله حوائجه. فكان أوّل حاجة سأله أن يرجع إلى لبس السواد وزيّ دولة الآباء.
فلمّا رأى المأمون طاعة الناس له في لبس الخضرة مع كراهتهم لها جمع الناس. ثم دعا بسواد فلبسه، ودعا بخلعة سواد فألبسها طاهرا. ثم دعا لقوّاده بخلع السواد، وطرح الناس الخضرة.
ودخلت سنة خمس ومائتين
ولاية طاهر بن الحسين
وفيها ولّى المأمون طاهر بن الحسين من مدينة السلام إلى أقصى عمل المشرق.
ذكر السبب في ذلك
-
كان المأمون ولّاه الحربة والشّرط وجانبي بغداد ومعاون السواد. فاتفق أنّ محمد بن أبي العباس ناظر عليّ بن الهيثم بين يدي المأمون في التشيّع ودار الكلام بينهما إلى أن قال محمد لعليّ: « يا نبطيّ، ما أنت والكلام؟ » وكان المأمون متّكئا، فجلس وقال: « الشتم عيّ والبذاء لؤم. وقد أبحنا الكلام، فمن قال الحقّ حمدناه ومن جهل وقفناه. فاجعلا بينكما أصلا ترجعان إليه. » فعادا إلى المناظرة وعاد محمد لعليّ بالسفه. فقال عليّ:
« لو لا جلالة مجلسه وما وهب الله من رأفته وما نهى عنه آنفا، لعرّقت جبينك. وكفاك من جهلك غسلك المنبر بالمدينة. » فجلس المأمون وكان متّكئا فقال:
« وما غسلك المنبر، ألتقصير مني في أمرك أم لتقصير المنصور في أمر أبيك؟ لو لا أنّ الخليفة إذا وهب استحى أن يرجع فيه لكان أقرب شيء بيني وبينك إلى الأرض رأسك. قم، وإيّاك ما عدت. » فخرج محمد بن أبي العبّاس ومضى إلى طاهر وهو زوج أخته، فقال له:
« كان من قصّتى كيت وكيت. » وكان يحجب المأمون على الشراب فتح الخادم وحسين يسقيه. فركب طاهر إلى الدار ودخل فتح يستأذن له، فقال المأمون:
« إنّه ليس من أوقاته ولكن ائذن له. » فدخل طاهر فسلّم، فردّ http://upload.wikimedia.org/wikipedi...8%A7%D9%85.png وقال:
« اسقوه رطلا. » فأخذه في يده اليمنى وقال له:
« اجلس. » فجلس وشربه، ثم شرب المأمون وقال:
« اسقوه الثاني. »
ففعل كفعله الأوّل، ثم نهض. فقال له المأمون:
« اجلس. » فقال: « يا أمير المؤمنين ليس لصاحب الشرط أن يجلس بين يدي سيّده. » قال المأمون:
« ذاك في مجلس العامة، فأمّا في مجلس الخاصّة فطلق. » قال: وبكى المأمون وتغرغرت عيناه، فقال له طاهر:
« يا أمير المؤمنين لا تبك عيناك. فو الله لقد دانت لك البلاد وأذعن لك العباد وصرت إلى المحبّة في كلّ أمرك. » فقال: « أبكى لأمر ذكره ذلّ وستره حزن، ولن يخلو أحد من شجن.
فتكلّم بحاجتك التي جئت لها. » قال: « يا أمير المؤمنين، محمد بن أبي العبّاس أخطأ، فأقله عثرته وارض عنه. » قال: « قد رضيت عنه وأمرت بصلته، ورددت عليه منزلته. ولو لا أنّه ليس من أهل الأنس لأحضرته. » قال: وانصرف طاهر ثم دعا طاهر بهارون بن جبعويه فقال:
« إنّ أهل خراسان يتعصّب بعضهم لبعض وإنّ لي إليك حاجة. خذ معك ثلاثمائة ألف درهم فأعط الحسين الخادم مائتي ألف درهم وأعط كاتبه محمد بن هارون مائة ألف، وسله أن يسأل المأمون: لم بكى؟ » قال: ففعل ذلك. فلمّا تغدّى المأمون قال:
« يا حسين اسقني. »
قال: « لا والله لا سقيتك، أو تقول لي لم بكيت حين دخل عليك طاهر. » قال: « يا حسين وكيف عنيت بهذا حتى سألتنى عنه؟ » قال: « لغمّى بذلك. » قال: « يا حسين، أمر إن خرج من رأسك قتلتك. » قال: « يا سيّدي ومتى أخرجت لك سرّا؟ » قال: « إني ذكرت محمدا أخي وما ناله من الذّلة، فخنقتني العبرة، فاسترحت إلى الإفاضة، ولن يفوت طاهرا مني ما يكره. » فأخبر حسين طاهرا بذلك. فركب طاهر إلى أحمد بن أبي خالد فقال له:
« إنّ الثناء مني ليس برخيص، وإنّ المعروف عندي ليس بضائع، فغيّبنى عن عينه. » فقال له:
« سأفعل، فبكّر عليّ غدا. » وركب ابن أبي خالد إلى المأمون، فلمّا دخل إليه قال له:
« ما بتّ البارحة. » فقال له:
« ولم ويحك؟ » قال: « لأنّك ولّيت خراسان غسّان وهو ومن معه أكلة رأس، وأخاف أن تخرج عليه خارجة من الترك فتصطلمه. » قال: « لقد فكّرت في ذلك، فمن ترى؟ » قال: « طاهر بن الحسين. » قال: « ويلك يا أحمد، هو والله خالع. »
قال: « أنا الضامن له. » قال: « فأنفذه. » قال: فدعا طاهرا من ساعته فعقد له وشخص من ساعته. فنزل في بستان جليل يحمل إليه في كلّ يوم ما أقام فيه مائة ألف. فأقام شهرا ثم شخص إلى خراسان.
وكان طاهر استخلف ابنه بالرقّة على قتال نصر بن شبث.
ذكر نادرة لكاتب صارت سببا لصلاح حاله وحال الكتاب ببغداد
تحدّث محمد بن خالد بن رودى المدائني الكاتب قال:
كان مخلد يلقّب بلبد لطول عمره فحدّثني أنّ المأمون أوّل ما قدم العراق حظر أن يقلّد الأعمال إلّا الشيعة الذين قدموا معه من خراسان. فطالت عطلة كتّاب السواد وعمّاله وكانوا يحضرون داره في كلّ يوم حتى ساءت حال أكثرهم. فخرج يوما بعض مشايخ الشيعة وكان مغفّلا، فتأمّل وجوههم فلم ير فيهم أسنّ من مخلد، فجلس إليه ثم قال له:
« إنّ أمير المؤمنين قد أمرنى أن أتخيّر ناحية من نواحي الخراج صالحة المرفق ليوقّع بتقليدى إيّاه، فاختر لي أنت ناحية. »
فقال: « إني لا أعرف لك عملا أولى من مرتدات البحر وصدقات الوحش وخراج وبار. » فقال: « اكتبه لي بخطّك. » فكتب ذلك له بخطّه، فذهب الشيعي حتى عرض الرقعة على المأمون وسأله تقليده ذلك العمل. فقال له:
« من كتب لك هذه الرقعة؟ » قال: « شيخ من الكتّاب يحضر الدار كلّ يوم. » قال: « هلمّه. » فلمّا أدخل، قال له المأمون:
« ما هذا يا جاهل، قد بلغ بك الفراغ إلى مثل هذا؟ » فقال: « يا أمير المؤمنين أصحابنا هؤلاء ثقات يصلحون لحفظ ما تحصّل استخراجه وصار في أيديهم. فأمّا شروط الخراج، حكمه، وما يجب تعجيل استخراجه، وما يجب تأخيره، وما يجب إطلاقه، وما يجب منعه، وما يجب إنفاقه، وما يجب الاحتساب، به فلا يعرفونه، وتقليدهم يعود بذهاب الارتفاع، فإن كنت يا أمير المؤمنين لا تثق بنا فمر بأن يضمّ إلى كلّ رجل منهم رجل منّا، فيكون الشيعي يحفظ الأموال ونحن نجمعه. » فاستصاب المأمون كلامه، وأمر بتقليد عمّال السواد وكتّابهم، وأن يضمّ إلى كلّ واحد منهم واحد من الشيعة. وضمّ مخلد إلى ذلك الشيخ، فقلّده ناحية جليلة.
وفيها ولّى المأمون عيسى بن محمد بن أبي خالد أرمينية وأذربيجان لمحاربة بابك.
ودخلت سنة ست ومائتين
وفيها ولّى المأمون عبد الله بن طاهر الجزيرة إلى مصر
ذكر السبب في ذلك
كان يحيى بن معاذ بالجزيرة فمات في هذه السنة، فدعا المأمون عبد الله بن طاهر فقال:
« يا عبد الله، إني أستخير الله عز وجل منذ شهر وأرجو أن يخير الله لي.
إنّ الرجل يصف ابنه ليطريه لرأيه فيه، وليرفعه، وقد رأيتك فوق ما وصفك أبوك. وقد مات يحيى بن معاذ واستخلف ابنه وليس بشيء. وقد رأيت توليتك مصر ومحاربة نصر بن شبث. » فقال: « السمع والطاعة لأمير
-
المؤمنين، وأرجو أن يجعل الله لأمير المؤمنين الخير وللمسلمين. » فعقد له وأمر أن يقطع حبال القصّارين عن طريقه، وتنحّى عن الطرقات المظالّ لئلّا يكون في طريقه ما يردّ لواءه، ثم عقد له لواء مكتوب عليه بصفرة ما يكتب على الألوية. وزاد فيه: « المأمون يا منصور. » فركب إليه الناس وركب إليه الفضل بن الربيع فأكرمه عبد الله وقال له: « قد تقدّم أبي وأخوك إليّ ألّا أقطع أمرا دونك. وأحتاج أن أستطلع رأيك واستضئ بمشورتك. » فأقام عنده إلى الليل وسأله المبيت فأبى واعتذر. فمشى معه عبد الله إلى صحن داره وودّعه.
وفي هذه السنة ولّى عبد الله بن طاهر إسحاق بن إبراهيم أمر الجسر وجعله خليفته على ما كان أبوه طاهر استخلفه فيه من الشرط وأعمال بغداد وشخص هو إلى الرقّة لحرب نصر بن شبث.
ودخلت سنة سبع ومائتين
وفاة ذي اليمينين
وفيها كانت وفاة ذي اليمينين طاهر من حمّى وحرارة أصابته. وذكر أنّه وجد في فراشه ميتا. فحكى خواصّه وعمّه عليّ بن مصعب أنّهم صاروا إليه يعودونه، فسألوا الخادم عن خبره وكان يغلّس بصلاة الصبح، فقال الخادم:
« هو نائم لم ينتبه. » فانتظروه ساعة، فلمّا تأخّر قالوا للخادم:
« أيقظه. » قال:
« لا أجسر. » فقالوا له:
« طرّق لنا لندخل إليه. » فدخلوا فوجدوه ملتفّا في دوّاج قد أدخله تحته وشدّه عليه من عند رأسه ورجليه، فحرّكوه فلم يتحرّك، فكشفوا عن وجهه فوجدوه قد مات، ولم يعلم أحد الوقت الذي توفّى فيه.
وذكر أبو سعده كلثوم بن ثابت قال: كنت على بريد خراسان ومجلسي يوم الجمعة في أصل المنبر، فلمّا كانت سنة سبع ومائتين بعد ولاية طاهر بن الحسين بسنتين حضرت الجمعة، فصعد طاهر المنبر فخطب، فلمّا بلغ إلى ذكر الخليفة أمسك عن الدعاء له وقال:
« اللهم أصلح أمّة محمد بما أصلحت به أولياءك واكفها مؤونة من بغى لها السوء وأرادها بمكروه بلمّ الشعث وحقن الدماء وإصلاح ذات البين. » قال: فقلت في نفسي: أنا أوّل مقتول لأنّى لا أكتم الخبر. فانصرفت واغتسلت ووصّيت وائتزرت بإزار ولبست قميصا وارتديت رداء وطرحت السواد وكتبت إلى المأمون.
قال: فلمّا صلّى العصر دعاني، وحدث حادث في جفن عينه وفي ماقه فسقط ميتا. فخرج طلحة بن طاهر فقال:
« ردّوه ردّوه ».
وقد خرجت فردّونى وقال:
« هل كتبت بما كان؟ » قلت: « نعم. » قال: « فاكتب بوفاته. » فأعطاني مالا وثيابا. فكتبت بوفاته وقد قام طلحة بالجيش.
قال: فوردت الخريطة على المأمون بخلعه. فدعا ابن أبي خالد فقال:
« اشخص الآن فأت به كما زعمت وضمنت. » قال: « أبيت ليلتي؟ » قال: « لا لعمري ولا تبيت إلّا على الظهر. » فلم يزل يناشده حتى أذن له في المبيت، ووافت الخريطة بموته ليلا، فأمر بمكاتبة طلحة وأقامه مقامه فبقى طلحة واليا على خراسان في أيّام المأمون سبع سنين بعد موت طاهر ثم توفّى وولّى عبد الله خراسان.
وذكر بعض خواصّ المأمون قال: شهدت مجلسا للمأمون وقد أتاه نعى طاهر فقال:
« لليدين وللفم. الحمد لله الذي قدّمه وأخّرنا. » ثم وجّه المأمون أحمد بن أبي خالد إلى خراسان للقيام بأمر طلحة، فشخص أحمد إلى ما وراء النهر فافتتح أسروشنة، وأسر كاووس وابنه وبعث بهما إلى المأمون، ووهب طلحة لأحمد ثلاثة آلاف ألف درهم وعروضا بألفي درهم ووهب لإبراهيم بن العبّاس كاتب أحمد خمسمائة ألف درهم.
ودخلت سنة ثمان ومائتين
ولم يحدث فيها حدث ينسخ في هذا الكتاب.
ودخلت سنة تسع ومائتين
وفيها حصر عبد الله بن طاهر نصر بن شبث وضيّق عليه حتى طلب الأمان.
ويقال: إنّ ثمامة حكى أنّ المأمون سأله أن يحمل إليه رجلا له عقل وبيان يحمّله رسالة إلى نصر بن شبث. قال: فحملت إليه رجلا من بنى عامر يقال له جعفر بن محمد فقال: أحضرنى المأمون بين يديه فكلّمنى بكلام كثير، ثم أمرنى أن أبلغه نصرا. قال: فأتيت نصرا وهو بسروج بموضع يقال له كفرغزون فأبلغته رسالته فأذعن وشرط شروطا منها أن لا يطأ له بساطا. قال: فأتيت المأمون فأخبرته فقال:
« لا أجيبه إلى هذا أبدا ولو أفضيت إلى بيع ما عليّ حتى يطأ بساطي وما باله ينفر مني. » قال: قلت:
« لجرمه وما تقدّم منه. » قال: « أتراه أعظم جرما عندي من الفضل بن الربيع ومن عيسى بن أبي خالد أتدرى ما صنع بي الفضل؟ أخذ قوّادى وأموالى وجنودي وسلاحي وجميع مالي ممّا أوصى به لي أبي فذهب به إلى
-
محمد وتركني بمرو وحيدا وأسلمنى وأفسد عليّ أخي حتى كان من أمره ما كان. أتدرى ما صنع بي عيسى بن أبي خالد؟ طرد خليفتي من مدينتي ومدينة آبائي وذهب بخراجى وفيئى وأخرب عليّ دياري وأقعد إبراهيم خليفة بإزائى ودعاه باسمى. » قال: قلت: « يا أمير المؤمنين تأذن لي في الكلام فأتكلّم؟ » قال: « تكلّم. » قال: قلت:
« الفضل بن الربيع رضيعكم ومولاكم وحال سلفه حالهم يرجع إليه بضروب كلّها تردّك إليه وعيسى بن أبي خالد رجل من أهل دولتك وسابقته وسابقة من مضى من سلفه سابقتهم، وهذا رجل لم تكن له يد قطّ فتحتمل عليها ولا لمن مضى من سلفه، إنّما كانوا جند بني أمية. » قال: « إنّ ذلك لكما تقول، فكيف بالحنق والغيظ. لست أقلع عنه حتى يطأ بساطي. » قال: « فأتيت نصرا فأخبرته بذلك. قال: فصاح بالخيل صيحة فجالت عليه ثم قال:
« ويلي عليه هو؟ لم يقو على أربعمائة ضفدع تحت جناحه - يعنى الزطّ - يقوى على حلبة العرب؟ » فذكر أنّ عبد الله بن طاهر لمّا جادّه القتال بلغ منه حتى طلب الأمان فأعطاه وبعث به إلى المأمون.
ودخلت سنة عشرة ومائتين
وفيها أخذ إبراهيم بن المهدي ليلة الأحد لثلاث عشرة خلت من ربيع الآخر وهو متنقّب بين امرأتين في زيّ امرأة أخذه حارس أسود ليلا فقال:
« من أنتنّ وأين تردن في هذا الوقت؟ » فأعطاه إبراهيم خاتم ياقوت كان في إصبعه له قدر عظيم، وقال:
« خلّنا ولا عليك أن تعلم من نحن. » فلمّا نظر الحارس إلى الخاتم استراب وقال في نفسه: هذا خاتم رجل له شأن فرفعن إلى صاحب المسلحة، فأمرهنّ أن يسفرن. فتمنّع إبراهيم فجبذه فبدت لحيته. فرفعه إلى صاحب الجسر، فرفعه فذهب به إلى باب المأمون فأعلم به فأمر بالاحتفاظ به في الدار. فلمّا كان غداة الأحد أقعد في دار المأمون لينظر إليه بنو هاشم والقوّاد والجند وصيّروا المقنعة التي كان متنقّبا بها في عنقه والملحفة في صدره ليراه الناس ويعلموا كيف أخذ، فلمّا كان يوم الخميس حوّل إلى منزل أحمد بن أبي خالد فحبس عنده.
بناء المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل
وفي هذه السنة بنى المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل في شهر رمضان. وكان الحسن بالصّلح، فشخص المأمون إلى الصّلح، وأمر بحمل إبراهيم بن المهدي خلفه. وكان العبّاس بن المأمون قد تقدّم أباه على الظهر ووافى المأمون وقت العشاء فأفطر هو والحسن والعبّاس ودينار بن عبد الله قائم على رجله حتى فرغوا من الإفطار، فدعا المأمون بشراب فأتى بجام ذهب فصبّ فيه وشرب ومدّ يده بجام فيه شراب إلى الحسن، فتباطأ عنه الحسن فغمزه دينار بن عبد الله، فقال الحسن:
« يا أمير المؤمنين أشربه بإذنك. » فقال له:
« لو لا أمري لم أمدّ يدي إليك بها. » فأخذ الجام فشربه فلمّا كان في الليلة دخل على بوران. فلمّا جلس المأمون معها نثرت عليها جدّتها ألف درّة كانت في صينيّة ذهب وكان تحتها حصير ذهب معمول على السامان. فقال المأمون:
« قاتل الله أبا نواس كأنّه حاضر هذا المنظر في قوله:
« حصباء درّ على أرض من الذهب. » ثم أمر المأمون أن يجمع وسألها عن عدد الدرّ كم كان فقالت:
« ألف حبّة. » فأمر بعدّها فنقصت عشرا فقال:
« من أخذها فليردّها. »
فقال حسين رخلة:
« يا أمير المؤمنين إنّما نثر لنأخذه وإلّا فالعقد أولى به. » قال: « ردّها فإني أخلفها عليك. » فردّت. فجمعها المأمون في الآنية كما كانت، ووضع في حجرها، وقال:
« هذه نحلتك وسلى حوائجك. » فأمسكت، فقالت جدّتها:
« كلّمى سيّدك وسليه حوائجك، فقد أمرك. » فسألته الرضا عن إبراهيم بن المهدي. فقال:
« قد فعلت. » وسألته الإذن لأمّ جعفر في الحجّ، فأذن لها. وألبستها أمّ جعفر البدنة الأموية. وابتنى بها من ليلته وأوقد في تلك الليلة شمعة عنبر فيها أربعون منّا في تور ذهب فأنكر المأمون ذلك عليهم وقال:
« هذا سرف. » فلمّا كان من الغد دعا إبراهيم بن المهدي، فجاء يمشى من شاطئ دجلة.
فلمّا دخل على المأمون قال:
« هيه يا إبراهيم. » فقال: « يا أمير المؤمنين، وليّ الثأر محكّم في القصاص والعفو أقرب للتقوى ومن تناوله الاغترار بما مدّ له من أسباب الشقاء أمكن عادية الدهر من نفسه، وقد جعلك الله فوق كلّ ذي ذنب كما جعل كلّ ذي ذنب. دونك فإن تعاقب فبحقّك وإن تعف فبفضلك. »
قال: « بل أعفو يا إبراهيم. » فكبّر وسجد وقال إبراهيم يمدح المأمون:
يا خير من حملت يمانية به ** بعد الرّسول لآيس ولطامع
عسل الفوارع ما أطعت فإن تهج ** فالصّاب يمزج بالسّمام النّاقع
ملئت قلوب النّاس منك مخافة ** وتبيت تكلؤهم بقلب خاشع
بأبي وأمي فدية وبنيهما ** من كلّ معضلة وذنب واقع
ما ألين الكنف الّذى بوّأتنى ** وطنا وأمرع ريعه للرّائع
نفسي فداؤك إذ تضلّ معاذرى ** وألوذ منك بفضل حلم واسع
أملا لفضلك والفواضل شيمة ** رفعت بناءك بالمحلّ اليافع
فعفوت عمّن لم يكن عن مثله ** عفو ولم يشفع إليك بشافع
إلّا العلوّ عن العقوبة بعد ما ** ظفرت يداك بمستكين خاضع
فرحمت أطفالا كأفراخ القطا ** وعويل عانسة كقوس النّازع
الله يعلم ما أقول فإنّها ** جهد الأليّة من حنيف راكع
ما إن عصيتك والغواة تمدّنى ** أسبابها إلّا بنيّة طائع
حتى إذا علقت حبائل شقوتي ** بردى إلى حفر المهالك هائع
لم أدر أنّ لجرم مثلي غافرا ** فوقفت أنظر أيّ حتف صارعى
ردّ الحيوة عليّ بعد ذهابها ** ورع الإمام القادر المتواضع
أحياك من ولّاك أطول مدّة ** ورمى عدوّك في الوتين بقاطع
إنّ الّذى قسم الخلافة حازها ** في صلب آدم للإمام السّابع
جمع القلوب عليك جامع أمرها ** وحوى رداؤك كلّ خير جامع
-
فقال المأمون حين أنشده إبراهيم هذه القصيدة:
« أقول ما قال يوسف لإخوته: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ الله لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. » فأمّا الحسن بن سهل فإنّه أضاف المأمون وجميع من معه وخلع على القوّاد على مراتبهم وحملهم ووصلهم، وكان مبلغ ما لزمه عليهم خمسين ألف ألف درهم سوى ما نثره.
وكان كتب رقاعا فيها أسماء ضياعه ونثرها على القوّاد وبنى هاشم فمن وقعت في يده رقعة منها فيها اسم ضيعة بعث فتسلّمها.
افتتاح مصر
وفي هذه السنة افتتح عبد الله بن طاهر مصر واستأمن إليه عبيد الله بن السرى بن الحكم.
ذكر الخبر عن ذلك
لمّا فرغ عبد الله بن طاهر من نصر بن شبث ذهب إلى مصر، فلمّا قرب منها وصار على مرحلة قدّم قائدا من قوّاده ليرتاد لمعسكره موضعا يعسكر فيه، وقد خندق ابن السريّ على نفسه خندقا. فاتصل الخبر بابن السريّ عن مسير القائد إلى ما قرب منها فخرج بمن استجاب له من أصحابه إلى القائد الذي كان يطلب موضع العسكر، فأبرد القائد إلى عبد الله بريدا بخبره وخبر خروج ابن السريّ إليه، فحمل عبد الله رجاله على البغال على كلّ بغل رجلين بآلاتهما وجنبوا الخيل وأسرعوا السير حتى لحقوا القائد وابن السرى وأصحابه، فلم يكن من أصحاب عبد الله إلّا حملة واحدة حتى انهزم ابن السريّ وأصحابه وتساقطت عامّة أصحاب ابن السريّ في الخندق. فمن هلك منهم بسقوط بعضهم على بعض في الخندق أكثر ممّن قتله الجند. وانهزم ابن السرى فدخل الفسطاط وأغلق على نفسه وأصحابه ومن فيها الباب وحاصره عبد الله بن طاهر، فلم يعاوده ابن السريّ الحرب حتى خرج إليه في الأمان.
فحكى ابن ذي القلمين قال: بعث ابن السريّ إلى عبد الله بن طاهر لمّا ورد مصر، ومانعه من دخولها بألف وصيف ووصيفة، مع كلّ واحد منهم ألف دينار في كيس حرير، وبعث بهم إليه ليلا. قال: فردّهم عليه عبد الله وكتب إليه:
« لو قبلت هديّتك نهارا لقبلتها ليلا - بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ. » قال: فحينئذ طلب الأمان وخرج إليه.
خلع أهل قم السلطان وما كان من عاقبته
وفي هذه السنة خلع أهل قم السلطان ومنعوا الخراج.
ذكر سبب ذلك
كان المأمون وقت اجتيازه بالريّ حطّ عن أهلها من الخراج على ما ذكرت، فطمع أهل قم في مثل ذلك وكان خراجهم ألفي ألف درهم، فكانوا يستكثرونها. فرفعوا إلى المأمون يشكون ثقل الخراج ويسألونه الحطّ فلم يجبهم المأمون، فامتنعوا ولم يؤدّوا شيئا، فوجّه المأمون إليهم عليّ بن هشام ثم أمدّه بعجيف فحاربهم فظفر بهم وقتل يحيى بن عمران وهدم سور قم وجباها سبعة آلاف ألف، بعد ما كانوا يتظلّمون من ألفي ألف درهم.
ودخلت سنة إحدى عشرة ومائتين
المأمون يدس رجلا إلى عبد الله بن طاهر
وفيها قال بعض إخوة المأمون للمأمون:
« يا أمير المؤمنين، إنّ عبد الله بن طاهر يميل إلى ولد أبي طالب وكذا كان أبوه قبله. » قال: فدفع المأمون ذلك وأنكره.
ثم عاد لمثل هذا القول، فدسّ إليه رجلا وقال له:
« امض في هيئة القرّاء والنسّاك إلى مصر فادع جماعة من كبرائها إلى القاسم بن إبراهيم بن طباطبا واذكر مناقبه وعلمه وفضائله ثم صر بعد ذلك إلى بعض بطانة عبد الله بن طاهر ثم ائته فادعه ورغّبه في استجابته له، وابحث عن دفين نيّته بحثا شافيا، وأتنى بما تسمع منه. » قال: ففعل الرجل ما قال له وأمره به، حتى إذا دعا جماعة من الرؤساء والأعلام قعد يوما بباب عبد الله بن طاهر وقد ركب إلى عبيد الله بن السريّ بعد صلحه وأمانه. فلمّا انصرف قام إليه الرجل فأخرج من كمّه رقعة فدفعها إليه فأخذها بيده. قال: فما هو إلّا أن دخل خرج الحاجب، فأدخله عليه وهو قاعد على بساطه ما بينه وبين الأرض غيره وقد مدّد رجليه وخفّاه فيهما. فقال له:
« قد فهمت ما في رقعتك من جملة كلامك، فهات ما عندك. » قال: « ولى أمانك ذمّة من الله معك؟ » قال: « لك ذلك. » فأظهر له ما أراد، ودعاه إلى القاسم وأخبره بفضائله وعلمه وزهده.
فقال له عبد الله:
« أتنصفني؟ » قال: « نعم. » قال: « هل يجب شكر الله على العباد؟ » قال: « نعم. » قال: « فهل يجب شكر بعضهم على بعض عند الإحسان والمنّة والتفضل؟ » قال: « نعم. » قال: « فتجيء إليّ وأنا على هذه الحال التي ترى، لي خاتم في المشرق جائز وخاتم في المغرب كذلك، وفيما بينهما أمير مطاع وقولي مقبول. ثم ما ألتفت يميني ولا شمالي ولا ورائي ولا قدّامى إلّا رأيت نعمة لرجل أنعمها عليّ ومنّة ختم بها رقبتي ويدا لائحة بيضاء ابتدأنى بها كرما وتفضّلا فتدعوني إلى الكفر بهذه النعمة وهذا الإحسان وتقول: اغدر بمن كان أوّلا لهذا وآخرا واسع في إزالة خيط رقبته وسفك دمه، تراك لو دعوتني إلى الجنّة عيانا من حيث أعلم، أكان الله عز وجل يحبّ أن أغدر به وأكفر إحسانه ومنّته وأنكث بيعته؟ » فسكت الرجل. فقال له عبد الله:
« أما إنّه قد بلغني أمرك وبالله ما أخاف عليك إلّا نفسك، فارحل عن هذا البلد، فإنّ السلطان الأعظم إن بلغه أمرك كنت الجاني على نفسك ونفس غيرك. » فعاد الرجل إلى المأمون فأخبره الخبر. فاستبشر فقال:
« ذلك غرس يدي وإلف أدبى. » ولم يظهر من حديثه هذا شيء لأحد إلّا بعد موت المأمون.
وكتب المأمون إلى عبد الله بن طاهر وهو بمصر كتابا بخطّه. فكان في أسفله هذه الأبيات:
أخي أنت ومولاي ** ومن أشكر نعماه
فما أحببت من أمر ** فإني الدّهر أهواه
وما تكره من شيء ** فإني لست أرضاه
لك الله على ذاك ** لك الله لك الله
-
المأمون واظهار القول بخلق القرآن وبفضل علي بن أبي طالب (ع)
وفي هذه السنة قدم عبد الله بن طاهر مدينة السلام من المغرب وتلقّاه العبّاس بن المأمون وأبو إسحاق المعتصم وسائر طبقات الناس وقدم معه بالمتغلّبين على الشام.
وفيها أمر المأمون مناديا فنادى:
« برئت الذمّة ممّن ذكر معاوية بخير. »
وأظهر القول بخلق القرآن وبفضل عليّ بن أبي طالب.
ودخلت سنة ثلاث عشرة ومائتين
وفيها مات طلحة بن طاهر بن الحسين بخراسان.
وفيها ولّى المأمون أخاه أبا إسحاق الشام ومصر وولّى ابنه العبّاس بن المأمون الجزيرة وأمر لكلّ واحد منهما ومن عبد الله بن طاهر بخمسمائة ألف دينار. فقيل إنّه لم يفرّق في ساعة من يوم من المال مثل ذلك.
ودخلت سنة أربع عشرة ومائتين
وفيها استفحل أمر بابك وقتل محمد بن حميد وفضّ عسكره وقتل أكثر من كان معه.
وفيها بعث المأمون إلى عبد الله بن طاهر إسحاق بن إبراهيم ويحيى بن أكثم يخيّرانه بين خراسان والجبال وإرمينية وأذربيجان ومحاربة بابك.
فاختار خراسان وشخص إليها.
ودخلت سنة خمس عشرة ومائتين
وفيها شخص المأمون من مدينة السلام لغزو الروم في المحرّم. فافتتح بها حصونا وعاد إلى دمشق.
ودخلت سنة ستّ عشرة ومائتين
فكرّ المأمون إلى أرض الروم، وكان سبب ذلك ورود الخبر على المأمون بقتل ملك الروم قوما من أهل طرسوس والمصّيصة وكانوا نحو ألفى رجل، فشخص المأمون حتى دخل بلاد الروم. فما نزل على حصن إلّا خرج إليه أهله على صلح حتى افتتح ثلاثين حصنا، ثم أغار على طوانة وسبى وقتل وأحرق. ثم ارتحل إلى دمشق.
ودخلت سنة سبع عشرة ومائتين
وعاد المأمون إلى أرض الروم. وكان سبب ذلك كتاب ورد عليه من ملك الروم يسأله الموادعة، وبدأ فيه بنفسه. فغزا المأمون هذه الغزوة بحنق، وأنزل ابنه بطوانه من أرض الروم، ووجّه معه الفعلة وابتدأ بها في بناء عظيم وجعل سورها على ثلاثة فراسخ وجعل لها أربعة أبواب وبنى على كلّ باب حصنا، وكتب إلى أخيه أبي إسحاق أن يفرض على جند دمشق وما والاها أربعة آلاف رجل وأنّه يجرى على الفارس مائة درهم وعلى الراجل أربعين درهما وفرض على مصر وغيرها من البلدان.
وكتب إلى إسحاق بن إبراهيم وهو خليفته ببغداد، ففرض على أهل بغداد فرضا.
المأمون يختبر الآراء في التشبيه وخلق القرآن
وفي هذه السنة كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم في امتحان القضاة والمحدثين والفقهاء، فمن لم يقبل منهم بنفي التشبيه وبخلق القرآن يشخصهم إليه مقيّدين.
وكتب في ذلك كتابا بليغا فيه آيات منتزعة من القرآن وتهديد كثير مع رفق في مواقع، وطعن على أصحاب الحديث الذين لا يتفقّهون ولا يعقلون، فأشخص إليه جماعة فيهم محمد بن سعد كاتب الواقدي ومستملى يزيد بن هارون ويحيى بن معين وزهير بن حرب وعدّه يجرون مجراهم، فامتحنهم وسألهم عن القرآن فأجابوا جميعا:
« إنّ القرآن مخلوق. » وامتحن إسحاق بن إبراهيم جماعة فيهم بشر بن الوليد وقال له:
« ما تقول في القرآن؟ » قال: « أقول إنّه كلام الله. » قال: « لم أسألك عن هذا، أمخلوق هو؟ » قال: « الله خالق كلّ شيء. » قال: « فالقرآن شيء؟ » [ قال: نعم، هو شيء. ] قال: « فهو مخلوق. » قال: « ليس بخالق؟ » قال: « فهو مخلوق. » قال: « ما أحسن غير هذا. » ثم كلّم جماعة من وجوه الفقهاء والقضاة فقالوا قريبا من قول بشر.
فكتب مقالات القوم رجل رجل إلى المأمون.
فكتب المأمون في الجواب يستجهل واحدا واحدا ويحاجّه ويشتم كلّ واحد بما يعرفه فيه ويأمر في آخر الكتاب بأنّ:
« من لم يرجع عن شركه يسفك دمه. أمّا بشر بن الوليد فابعث إليّ برأسه وكذلك إبراهيم بن الحسن، وأمّا الباقون فاحملهم في قيود وأغلال لينفذ فيهم أمري. » فأجاب القوم كلّهم:
« إنّ القرآن مخلوق. » إلّا نفسان: أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح، فشدّا في الحديد ووجّها إلى طرسوس.
ثم بلغ المأمون أنّ بشر بن الوليد والجماعة تأوّلوا قوله - عز وجل -: « إلّا من أكره وقلبه مطمئنّ بالإيمان » فكتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم أن:
« قد فهم أمير المؤمنين ما كتب به صاحب الخبر أنّ بشر تأول الآية التي ذكرت وقد أخطأ التأويل، إنّما عنى الله عز وجل بهذه الآية من كان معتقدا الإيمان مظهرا الشرك، فأمّا من كان معتقدا الشرك مظهرا الإيمان فليس هذه له. » فأشخص القوم جميعا إلى طرسوس وأخذ عليهم الكفلاء، فأشخص نحوا من عشرين مع بشر بن الوليد من وجوه الفقهاء والقضاة وأصحاب الحديث. فلمّا بلغوا الرقّة أتاهم وفاة المأمون فردّوا إلى مدينة السلام، فأمرهم إسحاق بلزوم منازلهم.
كتاب المأمون إلى عماله في البلدان
وفي هذه السنة نفذت الكتب من المأمون إلى عمّاله في البلدان:
« من عبد الله، عبد الله المأمون أمير المؤمنين وأخيه الخليفة من بعده أبي إسحاق ابن أمير المؤمنين إلى الرشيد. » وقيل: إنّ ذلك لم يكتبه المأمون وإنّما مرض بالبذندون وهو نهر بأرض الروم، فلمّا أفاق أمر بأن يكتب إلى العبّاس ابنه وعبد الله بن طاهر وإلى إسحاق أنّه إن حدث به حدث الموت في مرضه فالخليفة من بعده أبو إسحاق ابن الرشيد. فكتب بذلك محمد بن يزداذ وختم الكتب وأنفذها.
فكتب أبو إسحاق إلى عمّاله:
« من أبي إسحاق أخي أمير المؤمنين والخليفة بعد أمير المؤمنين، أمرهم بحسن السيرة وتخفيف المؤونة. وكتب إلى جمع من في أعماله من أجناد الشام جند حمص والأردن وفلسطين بمثل ذلك.
فلمّا كان يوم الجمعة لإحدى عشرة بقيت من رجب سنة ثماني عشرة ومائتين صلّى إسحاق بن يحيى بن معاذ في مسجد دمشق، فقال في خطبته بعد دعائه لأمير المؤمنين:
-
« اللهم وأصلح الأمير أخا أمير المؤمنين والخليفة من بعد أمير المؤمنين أبا إسحاق ابن الرشيد أمير المؤمنين. » وفي سنة ثماني عشرة ومائتين توفّى المأمون بالبذندون.
وفات المأمون ذكر سبب وفاته
حكى سعيد العلّاف القارئ قال: أرسل إليّ المأمون وهو ببلاد الروم وكان دخلها من طرسوس، فحملت إليه وهو بالبذندون، وكان يستقرينى فدعاني يوما فجئته فوجدته جالسا على شاطئ البذندون وأبو إسحاق المعتصم جالس عن يمينه. فأمرنى فجلست نجوة منه فإذا هو وأبو إسحاق مدلّيان أرجلهما في البذندون. فقال:
« يا سعيد دلّ رجلك في الماء وذقه، هل رأيت قطّ ماء أشدّ بردا ولا أعذب وأصفى صفاء منه؟ » ففعلت وقلت:
« يا أمير المؤمنين ما رأيت مثل هذا قطّ. » قال: « أيّ شيء يطيب أن يؤكل ويشرب هذا الماء عليه؟ » فقلت: « أمير المؤمنين أعلم. » فقال: « رطب الآزاذ. » فبينا هو يقول هذا إذ سمع وقع لجم البريد، فالتفت فإذا بغال البريد على أعجازها حقائب فيها الألطاف، فقال لخادم له:
« اذهب فانظر هل في هذه الألطاف رطب، فإن كان فيها الرطب فانظر فإن كان آزاذا فأت به. » فجاء يسعى بسلّتين فيهما رطب آزاذ كأنّما جنى من النخل تلك الساعة، فأظهر شكر الله عز وجل، وكثر تعجبنا منه، فقال:
« ادن فكل. » فأكل هو وأبو إسحاق وأكلت معهما وشربنا جميعا من ذلك الماء، فما قام منّا أحد إلّا وهو محموم فكانت منيّة المأمون من تلك العلّة ولم يزل المعتصم عليلا حتى دخل العراق ولم أزل عليلا حتى كان قريبا.
ولمّا اشتدّت بالمأمون علّته بعث إلى ابنه العبّاس وهو يظنّ أن لن يأتيه لشدّة مرضه، فأتاه وأقام عند أبيه وقد أوصى قبل ذلك إلى أخيه أبي إسحاق، ثم أعاد الوصيّة بحضرة العبّاس والقضاة والفقهاء والقوّاد.
ولمّا توفّى حمله ابنه العبّاس وأخوه أبو إسحاق إلى طرسوس، فدفناه في دار خاقان خادم الرشيد وصلّى عليه أخوه أبو إسحاق.
فكانت خلافته عشرين سنة وستّة أشهر سوى سنتين، كان دعى له فيهما بمكّة وأخوه الأمين محمد ابن الرشيد محصور ببغداد.
وكان ولد للنصف من شهر ربيع الأوّل سنة سبعين ومائة. وكان ربعة، أبيض، جميلا.
وقيل: كان أسمر تعلوه صفرة، أقنى، أعين، طويل اللحية رقيقها، أشيب بخدّه خال أسود.
من سيرة المأمون
فأمّا سيرته فمشهورة لا تخفى على أحد جوده وعطاؤه وسماحة أخلاقه وحلمه ولكنّا نحكى بعض ذلك:
حكى عن العيشى صاحب إسحاق بن إبراهيم أنّه قال:
كنت مع المأمون بدمشق، وكان قد قلّ المال عنده حتى أضاق وشكا ذلك إلى أبي إسحاق المعتصم، فقال:
« يا أمير المؤمنين كأنّك بالمال قد وافاك بعد جمعة. » قال: وكان حمل إليه ثلاثون ألف ألف من خراج ما كان يتولّاه أبو إسحاق. قال: فلمّا ورد عليه ذلك المال قال المأمون ليحيى بن أكثم:
« اخرج بنا ننظر إلى هذا المال. » قال: فخرجا ووقفا ينظرانه وقد كان هيّئ بأحسن هيأة وحلّيت أباعره وألبست الأحلاس التي وشّيت والجلال المصبّغة وقلّدت العهن وعلّيت البدر بالحرير الصيني الأحمر والأخضر والأصفر، وأبديت رؤوسها. قال:
فنظر المأمون إلى شيء حسن واستكثره وعظم في عينه واستشرفه الناس ينظرون إليه ويعجبون منه فقال المأمون ليحيى:
« يا أبا محمد، ينصرف أصحابنا هؤلاء الذين تراهم الساعة خائبين إلى منازلهم وننصرف نحن بهذه الأموال قد ملكناها دونهم؟ إنّا إذا للئام. » ثم دعا محمد بن يزداذ. فقال:
« وقّع لآل فلان بألف ألف ولآل فلان بمثلها ولآل فلان بمثلثها خمسمائة ألف. » قال: « فو الله إن زال كذلك، حتى فرّق أربعة وعشرين ألف ألف، ورجله في الركاب. » ثم قال:
« ادفع الباقي إلى المعلي بن أيّوب يعط جندنا. » قال العيشى: فجئت حتى قمت نصب عينه وحدّقت نحوه فلم أردّ طرفي عن عينه لا يلحظنى إلّا رآني بتلك الحال فقال:
« يا محمد، وقّع لهذا بخمسين ألف من الستّة الآلاف الألف لا يختلس ناظري. » فلم يأت عليّ ليلتان حتى أخذت المال.
وللمأمون شعر كثير فمن مشهور شعره.
بعثتك مرتادا ففزت بنظرة ** وأغفلتنى حتى أسات بك الظّنّا
فناجيت من أهوى وكنت مباعدا ** فيا ليت شعري عن دنوّك ما أغنى
أرى أثرا منه بعينك بيّنا ** لقد سرقت عيناك من عينه حسنا
فيا ليتنى كنت الرّسول وكنتنى ** فكنت الّذى تقصى وكنت الّذى أدنى
خلافة أبي إسحاق المعتصم
وفي هذه السنة بويع لأبي إسحاق محمد بن هارون الرشيد بالخلافة لاثنتى عشرة ليلة خلت أو بقيت من رجب سنة ثماني عشرة ومائتين. وفيها شغب الناس على المعتصم، وطلبوا العبّاس، ونادوه باسم الخلافة فأرسل أبو إسحاق المعتصم إلى العبّاس فأحضره وبايعه ثم خرج إلى الجند وقال:
« ما هذا الخبّ البارد؟ قد بايعت عمّى وسلّمت الخلافة إليكم. » فسكن الجند.
وفيها أمر المعتصم بهدم ما كان المأمون أمر ببنائه بطوانة وحمل ما كان بها من السلاح والآلة وغير ذلك ممّا قدر على حمله، وإحراق ما لم يقدر على حمله، وأمر بصرف من كان المأمون أسكن ذلك الموضع من الناس إلى بلادهم.
وفيها انصرف المعتصم إلى بغداد ومعه العبّاس بن المأمون، فقدمها يوم السبت مستهلّ شهر رمضان.
توجيه المعتصم عساكر لقتال الخرمية
وفيها دخل جماعة من أهل الجبال كثيرة من همذان وإصبهان وماسبذان ومهرجانفذق وغيرها في دين الخرّمية. ثم تراسلوا وتجمّعوا في أعمال همذان. فوجّه المعتصم إليهم عساكر، فكان آخر عسكر وجّهه مع إسحاق بن إبراهيم بن مصعب وعقد له على الجبال. فشخص إليهم فقاتلوه وهزمهم وقتل هناك ستين ألفا منهم وهرب باقيهم إلى بلاد الروم وكتب بالفتح إلى المعتصم.
ودخلت سنة تسع عشرة ومائتين
-
ظهور محمد بن القاسم بالطالقان من خراسان
وفيها ظهر محمد بن القاسم بن عمر بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام بالطالقان من خراسان يدعو إلى الرضا من آل محمد (ص) فاجتمع إليه بها ناس كثير، وكانت بينه وبين قوّاد لعبد الله بن طاهر وقعات بناحية الطالقان وجبالها كان آخرها عليه، فانهزم هو وأصحابه ومضى هاربا يريد بعض كور خراسان كان أهلها كاتبوه، فلمّا صار بنسإ كان بها والد لبعض من معه فمضى الرجل الذي كان له والد هناك ليسلّم على والده، فلمّا تلاقوا سأله عن الخبر. فأخبره أنّهم يقصدون كورة كذا. فمضى أبو ذلك الرجل إلى عامل نسا فأخبره بأمر محمد بن القاسم. فبذل له العامل على دلالته عليه مالا وجاء العامل إلى محمد بن القاسم، فأخذه واستوثق منه وبعث به إلى عبد الله بن طاهر، فبعث به عبد الله إلى المعتصم فحبس بسرّ من رأى ووكّل به قوم يحفظونه.
فلمّا كان ليلة الفطر واشتغل الناس بالعيد والتهنئة له هرب من الحبس وافتقد، فجعل لمن يدلّ عليه مائة ألف درهم، ونادى المنادى، فما عرف له خبر إلى اليوم.
توجيه عجيف لحرب الزط
وفيها وجّه المعتصم عجيف بن عنبسة لحرب الزط الذين كانوا عاثوا في طريق البصرة، وكانوا تغلّبوا على تلك الناحية. فقطعوا الطرق واحتملوا غلّات البيادر بكسكر وما يليها من البصرة وأكثروا الفساد.
فرتّب المعتصم الخيل في سكك البصرة وبغداد من البرد تركض إليه بالأخبار فكان الخبر يخرج من عند عجيف فيصير إلى المعتصم من يومه، وولّى النفقة على عجيف من قبل إبراهيم البختري كاتبا.
فصار عجيف في خمسة آلاف رجل إلى الصافية وهي قرية أسفل واسط فسدّ نهرا بها يحمل من دجلة ثم صار إلى بردودا فسدّ أنهارا أخر وحصرهم من كلّ وجه، ثم قصدهم فأسر منهم جماعة وقتل جماعة. فضرب أعناق الأسرى وبعث برؤوسهم ورؤوس القتلى إلى المعتصم.
ثم أقام عجيف بإزاء الزطّ خمسة عشر يوما وظفر بخلق كثير منهم فأنفذهم ثم جاهده الباقون فمكث يقاتلهم بعد ذلك تسعة أشهر.
ودخلت سنة عشرين ومائتين
وفيها دخل عجيف بالزطّ بغداد بعد أن قهرهم حتى طلبوا منه الأمان، فآمنهم على دماءهم وأموالهم، فكانت عدّتهم سبعة وعشرين ألفا بين رجل وامرأة وصبيّ فجعلهم في السفن وأقبل بهم حتى نزل الزعفرانية وأعطى أصحابه دينارين دينارين جائزة، ثم عبّأهم في زواريقهم على هيأتهم في الحرب معهم البوقات حتى دخل بغداد بهم والمعتصم ببغداد في سفينة يقال لها: الزوّ، حتى مرّ به الزطّ على تعبئتهم ينفخون في البوقات. فكان أوّلهم بالقفص وآخرهم بحذاء الشماسية، وأقيموا في سفنهم ثلاثة أيّام. ثم دفعوا إلى بشر بن السميدع فذهب بهم إلى خانقين، ثم نقلوا إلى الثغر إلى عين زربة، فأغارت عليهم الروم فاجتاحوهم فلم يفلت منهم أحد.
عقد المعتصم للأفشين حرب بابك
وفي هذه السنة عقد المعتصم للأفشين حيدر بن كاوس على الجبال وحرب بابك. وذلك يوم الخميس لليلتين خلتا من جمادى الآخرة. فعسكر بمصلّى بغداد، ثم صار إلى برزند
ذكر بابك ومخرجه
كان ظهور بابك في سنة إحدى ومائتين وكان من قرية يقال لها: البذّ، وهزم جيوش السلطان وقتل من قوّاده جماعة.
فلمّا أفضى الأمر إلى المعتصم وجّه المعتصم أبا سعيد محمد بن يوسف إلى أردبيل وأمره أن يبنى الحصون التي خرّبها بابك فيما بين زنجان وأردبيل، ويقيم مسالح لحفظ الطريق لمن يجلب الميرة إلى أردبيل. فتوجّه أبو سعيد لذلك وبنى الحصون التي خرّبها بابك.
ثم وجّه بابك سريّة إلى بعض غاراته وعليها أمير من قبله يقال له:
معاوية، فعرض له أبو سعيد فاستنقذ ما كان حواه وقتل من أصحابه جماعة وأسر جماعة، فهذه أوّل هزيمة كانت على أصحاب بابك.
ووجّه أبو سعيد الرؤوس والأسرى إلى المعتصم بالله، ولمّا صار الأفشين إلى برزند عسكر بها ورمّ الحصون فيما بين برزند وأردبيل وأنزل محمد بن يوسف بموضع يقال له خشّ، فاحتفر فيه خندقا وأنزل الهيثم الغنوي القائد في ربستاق يقال له: أرشق، فرمّ حصنه واحتفر حوله خندقا وأنزل علّويه الأعور من قوّاد الأبناء في حصن ممّا يلي أردبيل يسمّى: حصن النهر، فكانت السابلة والقوافل تخرج فتسلّمها بذرقة من واحد من هؤلاء إلى آخر حتى يتأدّوا إلى مأمنهم وكان كلّما ظفر واحد من هؤلاء القوّاد بجاسوس وجّهوا به إلى الأفشين. فكان الأفشين لا يقتلهم ولا يضربهم ولكن يهب لهم، ويصلهم ويسألهم ما كان بابك يعطيهم فيضعفه لهم ويقول للجاسوس:
« كن جاسوسا لنا. »
بابك وأفشين وما كان من أمرهما بأرشق
وفيها كانت الوقعة بين بابك والأفشين بأرشق، قتل فيها من أصحاب بابك خلق كثير وهرب بابك إلى موقان ثم شخص منها إلى مدينته التي تدعى البذّ.
ذكر السبب في ذلك
كان المعتصم وجّه مع بغا الكبير بمال إلى الأفشين عطاء لجنده وللنفقات، فقدم بغا بذلك المال أردبيل، فلمّا نزلها بلغ بابك خبره فتهيّأ ليقطع عليه قبل وصوله إلى الأفشين. فقدم جاسوس على الأفشين فأخبره أنّ بغا الكبير قد قدم بمال وأنّ بابك وأصحابه قد تهيّئوا ليقطعوه قبل وصوله إليك.
وكان هذا الجاسوس ورد على أبي سعيد أوّلا فوجّه به أبو سعيد إلى الأفشين وهيّأ بابك كمينا في مواضع للمال فكتب الأفشين إلى أبي سعيد يأمره أن يحتال لمعرفة صحّة خبر بابك. فمضى أبو سعيد متنكرا مع جماعة حتى نظروا إلى النيران في المواضع التي وصفها الجاسوس.
فكتب الأفشين إلى بغا أن يقيم بأردبيل حتى يأتيه رأيه، وكتب أبو سعيد إلى الأفشين بصحّة خبر الجاسوس. فكتب الأفشين إلى بغا يظهر أنّه يريد الرحيل ويشدّ المال على الإبل ويقطّرها ويسير متوجّها من أردبيل كأنّه يريد برزند، فإذا صار إلى مسلحة النهر أو سار شبيها بفرسخين احتبس القطار حتى يجوز من صحب المال من قافلة وغيرها إلى برزند، فإذا جاوزت القافلة رجع بالمال إلى أردبيل.
-
ففعل ذلك بغا وسارت القافلة حتى نزلت النهر وانصرف جواسيس بابك إليه يعلمونه أنّ المال قد حمل وعاينوه محمولا. ورجع بغا بالمال إلى أردبيل وركب الأفشين في اليوم الذي وعد فيه بغا من برزند، فوافى خشّ مع غروب الشمس، فنزل معسكرا خارج خندق أبي سعيد. فلمّا أصبح ركب في سرّ لم يضرب طبلا ولا نشر علما، وأمر أن تلفّ الأعلام وأمر الناس بالسكوت. وجدّ في السير ورحلت القافلة التي كانت توجّهت في ذلك اليوم من النهر إلى ناحية الهيثم الغنوي.
ورحل الأفشين من خشّ يريد ناحية الهيثم ليصادفه في الطريق، ولم يعلم الهيثم فرحل بمن كان معه من القافلة يريد بها النهر وتعبّأ بابك في خيله ورجاله وعساكره، وصار على طريق النهر وهو يظنّ أنّ المال موافيه، وخرج صاحب النهر يبذرق من عنده وهو علّوية الذي قلنا إنّه كان هناك، فأخذ يسير نحو الهيثم على رسمه.
فخرجت عليه خيل بابك وهم لا يشكّون أنّ المال معه فقاتلهم صاحب النهر علّوية وأصحابه فقتلوه وقتلوا من كان معه من الجند والسابلة وأخذوا جميع ما كان معهم من المتاع وعلموا أنّ المال قد فاتهم، فأخذوا علمه ولباس أهل النهر ودراريعهم وخفاتينهم ولبسوها وتنكّروا ليأخذوا أيضا الهيثم ومن معه ولا يعلمون بخروج الأفشين، وجاءوا كأنّهم أصحاب النهر. فلمّا جاءوا ولم يعرفوا الموضع الذي كان يقف فيه علم صاحب النهر وقفوا في غير موضعه، وجاء الهيثم فوقف في موقفه فأنكر ما رأى فوجّه ابن عمّ له وقال:
« اذهب إلى هذا البغيض، فقل له: أيّ شيء وقوفك؟ »
فجاء ابن عمّ هيثم. فلمّا رأى القوم ودنا منهم أنكرهم، فرجع إلى الهيثم.
فقال له:
« إنّ هؤلاء القوم لست أعرفهم. » فقال له الهيثم:
« أخزاك الله ما أجبنك. » ووجّه خمسة من الفرسان، فلمّا قربوا من القوم خرج من الخرّمية رجلان فتلقّوهم فأنكروهما وأعلموهما أنّهم قد عرفوهما، ورجعوا إلى الهيثم ركضا فقالوا:
« إنّ الكافر قد قتل علّوية وأصحابه وأخذوا أعلامهم ولباسهم. » فانصرف الهيثم وأتى القافلة التي كانت معه، فأمرهم أن يركضوا ويرجعوا لئلّا يؤخذوا، ووقف هو في أصحابه يسير بهم قليلا قليلا ويقف قليلا ليشتغل الخرّمية عن القافلة وصار شبيها بالحامية لهم، حتى وصلت القافلة إلى حصنه الذي كان فيه يكون الهيثم وهو أرشق، وقال لأصحابه:
« من يذهب منكم إلى الأمير وإلى أبي سعيد فيعلمهما وله عشرة آلاف درهم وفرس بدل فرسه إن نفق؟ » فتوجّه رجلان من أصحابه على فرسين فارهين يركضان، ودخل الهيثم الحصن وخرج بابك فيمن معه ونزل بالحصن، ووضع له كرسيّ وجلس على شرف بحيال الحصن وأرسل إلى الهيثم من يحاربه. وكان مع الهيثم في الحصن ستمائة راجل وأربعمائة فارس وله خندق حصين. فقاتله وقعد بابك فيمن معه ووضع بين يديه الخمر مع أصحاب له يسربونها والحرب مشتبكة.
ولقي الفارسان الأفشين على أقلّ من فرسخ من أرشق، فساعة نظر إليهما من بعيد قال لصاحب مقدّمته:
« اضربوا بالطبل وانشروا الأعلام واركضوا نحو هذين الفارسين اللذين يركضان إلينا وصيحوا بهما: لبّيك، لبّيك. » فلم يزل الناس في طلق واحد متراكضين يكسّر بعضهم بعضا حتى لحقوا بابك وهو جالس. فلم يتدارك أن يتحرّك ويركب حتى وافته الخيل والناس واشتبكت الحرب، فلم يفلت من رجّالة بابك أحد، وأفلت هو في نفر يسير ودخل موقان وقد تقطّع عنه أصحابه. وأقام الأفشين في ذلك الموضع وبات ليلته ثم رجع إلى معسكره ببرزند.
وأقام بابك بموقان [ أيّاما ] ثم بعث إلى البذّ، فجاءه في الليل عسكر فيهم رجّالة فرحل من موقان حتى دخل البذّ، فلمّا كانت بعد أيّام مرّت قافلة من خشّ إلى برزند من قبل أبي سعيد ومعها صاحب لهم ومعهم ميرة ومتاع يحمل إلى معسكر الأفشين، فخرج عليهم إصبهبذ بابك فأخذ القافلة وقتل من كان فيها من أهل القافلة وانتهب جميع ما فيها فقحط عسكر الأفشين.
فكتب الأفشين إلى صاحب المراغة يأمره بحمل الميرة وتعجيلها عليه فإنّ الناس قد قحطوا وأضاقوا. فوجّه إليه صاحب المراغة بقافلة فيها قريب من ألف ثور سوى الحمير والدوابّ تحمل الميرة ومعها جند يبذرقونها. فخرجت عليهم أيضا سريّة لبابك فاستباحوها عن آخرها بجميع ما فيها وأصاب الناس ضيق شديد فكتب الأفشين إلى صاحب الشيروار أن يحمل إليه طعاما، فحمل إليه طعاما كثيرا وأغاث الناس في تلك السنة وقدم بغا على الأفشين بمال ورجال.
خروج المعتصم إلى القاطول وابتداؤه ببناء سر من رأى
وفي هذه السنة خرج المعتصم إلى القاطول وابتدأ ببناء سرّ من رأى وذلك في ذي القعدة منها.
ذكر السبب في ذلك
كان سبب خروجه إلى القاطول أنّ غلمانه الأتراك كانوا عجما قد اصطنعهم ورأى فيهم نجابة، وكان لا يزال يجد الواحد بعد الواحد قتيلا في الأرباض. وذلك أنهم كانوا يركبون الدوابّ فيتراكضون في طرق بغداد وشوارعها فيصدمون الرجل والمرأة ويطأون الصبيّ، فيأخذهم الأبناء فينكّسونهم عن دوابّهم ويجرحون بعضهم فربّما هلك. فتأذّى الأتراك بهم وتأذّت العامّة بالأتراك حتى شكت الأتراك إلى المعتصم.
فحكى أنّ المعتصم كان ركب يوم عيد إلى المصلّى، فلمّا انصرف وصار في مربعة الحرشي، قام إليه شيخ فقال:
« يا با إسحاق. » فابتدره الجند ليضربوه، فأشار إليهم المعتصم بالكفّ عنه فقال الشيخ:
-
« مالك لا جزاك الله عن الجوار خيرا، جاورتنا وجئت بهؤلاء العلوج فأسكنتهم بين أظهرنا فأيتمت بهم صبياننا وأرملت بهم نساءنا وقتلت بهم رجالنا. » والمعتصم يسمع ذلك كلّه، ثم دخل داره.
فلم ير راكبا إلى السنة القابلة في مثل ذلك اليوم.
فلمّا كان العام المقبل في مثل ذلك اليوم خرج فصلّى بالناس العيد، ثم لم يرجع إلى داره ببغداد. ولكنّه صرف وجه دابّته إلى القاطول.
وحكى أنّه قام أيضا إلى المعتصم يوما رجل من العامّة فقال:
« يا با إسحاق، اخرج عن مدينتنا وإلّا حاربناك بما لا تقوم له. » فتقدّم بأخذ الرجل وحمله إليه. فلمّا صار بين يديه قال:
« ويلك بمن تحاربنى وما هذا الذي لا أقوم له؟ » قال: « نحاربك بأصابعنا إذا هدأت الأصوات بالليل» - يعنى الدعاء.
فسكت عن الرجل ولم يعرض له.
ثم خرج فبنى سرّ من رأى.
وفي هذه السنة غضب المعتصم على الفضل بن مروان وحبسه.
ذكر الخبر عن غضبه عليه وحبسه له وسبب اتصاله به ونفاقه عليه
كان الفضل هذا رجلا من أهل البردان حسن الحظّ، فاتصل بكاتب للمعتصم يقال له يحيى الجرمقانى. فمات يحيى وصار الفضل في موضعه وذلك قبل خلافة المعتصم، ثم خرج معه إلى عسكر المأمون وصار معه إلى مصر، فاحتوى على أموال مصر وكثرت ذخائره وكنوزه. ثم قدم الفضل قبل المأمون بغداد ينفذ أمور المعتصم ويكتب عنه وعلى لسانه ما أحبّ، حتى قدم المعتصم خليفة، فصار الفضل صاحب الخلافة والدواوين كلّها تحت يديه فتضاعفت كنوزه.
فكان المعتصم يأمر بإطلاق الشيء لندمائه ومغنّيه، فلا ينفذ الفضل، وربّما رادّه في الشيء إدلالا عليه وأنسا به، وكان قد نزل منه وحلّ من قلبه المحلّ الذي لا يحدّث أحد نفسه بملاحظته فضلا عن منازعته ولا في الاعتراض عليه إذا أراد شيئا أو حلم به، فكانت هذه المنزلة تحمله على الدالّة حتى كان يخالفه ويمنعه بعض أمره وبعض المال الذي يصرفه في مهمّه.
فحكى عن أحمد بن أبي دؤاد أنّه قال: كنت أحضر مجلس المعتصم فكثيرا ما كنت أسمعه يقول للفضل بن مروان:
« احمل إليّ كذا من الدراهم. » فيقول: « ما عندي. » فيقول: « فاحتلها من وجه، فليس منها بدّ. » فيقول: « ومن أين أحتالها ومن أين وجهها ومن يعطيني هذا القدر؟ » فكان ذلك يسوءه وأعرفه في وجهه فلمّا كثر هذا من فعله ركبت يوما إليه فقلت له مستخليا به:
« يا أبا العبّاس إني أعرف أخلاقك، وعلى ذاك ما أدع نصيحتك وأداء ما يجب عليّ من حقّك. وقد أراك كثيرا ما تردّ على أمير المؤمنين أجوبة غليظة ترمضه وتقدح في قلبه والسلطان لا يحتمل هذا لابنه، لا سيّما إذا كثر ذلك وغلظ. » قال: « وما ذاك يا با عبد الله؟ » قلت: « أسمعه كثيرا، كثيرا ما يقول لك: نحتاج إلى كذا من المال لنصرفه في وجه كذا، فتقول من يعطيني هذا وهذا ما لا تحتمله الملوك. » قال: « فما أصنع إذا طلب مني ما ليس عندي؟ » قلت: « تصنع أن تقول: أحتال يا أمير المؤمنين في ذلك فتدفع عنك أيّاما ثم تحمل إليه بعض ما يطلب وتسوّفه الباقي. » قال: « نعم أفعل وأصير إلى ما أشرت به. » قال: فو الله لكأنّى كنت أغريه بالمنع. فكان إذا عاود مثل ذلك القول عاد إلى مثل ما يكره من الجواب.
وكان مع المعتصم رجل مضحك يستخفّ روحه وكان قديم الصحبة له يقال له: إبراهيم الهفتيّ، فأمر له بمال وتقدّم إلى الفضل بن مروان في إعطائه فلم يعطه الفضل شيئا. فبينا الهفتيّ يوما يتمشّى مع المعتصم في بستان داره التي بنيت له ببغداد، وقد نقل إليه أنواع من الرياحين والغروس، وكان الهفتيّ يصحب المعتصم قبل أن تفضى إليه الخلافة، فيقول له فيما يداعبه: