أطالع هنا وهناك الكثير من المقالات الناقدة لوضع مطار دمشق وغيره من الموانئ وبوابات الحدود السورية، وفيها الكثير من الملاحظات المحقة والراغبة والحالمة بخدمات أفضل، وفيها أيضاً الكثير من المبالغات والمزاودات والنظر إلى الفارغ من الكأس فقط .
تذكّرت كيف كنت أرى مطار دمشق خلال مغادراتي وزياراتي له خلال سني غربتي الماضية ..
كان تصوري للمطار كمحطة هو الخاطر الأقرب إلى ذهني، وكنت أتساءل هل تملك هذه البوابة المشرعة إلا أن تكون محطة تاريخ وميناء حضارة ؟..
أوليست هذه البوابة . . ميناءَ ضفاف الغربة المترعة بوعود العودة واللقاء ..
أوليست هذه البوابة منعطف شموع ومحطة النور، ودليل قوي على كروية الأرض وتلاقي ذرات الروح وقوافل الحنين ..
أوليس مكاناً للتلاقي الإنساني الرفيع، وجسراً للوصل بين عابد ومعبود .. مسافر وطن .. نُرجّع فيه كل يوم غناء تراتيل الحكاية ..
وهذه الجدران المستوية ببساطة .. كم أحاطت من باقات وردٍ تهنئ بسلامة وصول وكلماتِ وداعٍ رقيقة تدعو بسلامة طريق وأحبة لا يكادون يستقبلون عزيزاً حتى يتركوه ؟.. من تهافت أمهاتٍ على أبناء .. وأصدقاءٍ على أصدقاء .. وتوفيقٍ يقدّم على طبق من دعاء ؟.. .، من إعلانات فراقٍ وآمال لقاءٍ وهواءٍ مشبعٍ بأول إكسير الشوق ؟.. ، ومن صورٍ مبعثرة في تشتت ذهنٍ عمرُه بعمر غربة ؟..
من ساعاتٍ تسرعُ في الدوران على هواها وتبطئ على هواها ؟..
دلوني على محطة كهذه .. تقسو فيها الشجونُ على المشاعر وتذرف العيونُ دموع الإيمان والأمل ..
دلوني على محطة كهذه .. يبدأ فيها مسلسل الاغتراب .. ولا ينتهي !..
وهذه الأرض .. أليست أرضَ المجدِ الإنساني الرفيع، أرضَ الشرق المقدس حيث تستطيع أن تعثر على عيون العالم المبهورة كلِّها .. ومن ذا يشرب من زيت الشرق المقدس ولا يرتوي ؟..
على هذه الأرض،الرصيف، المدينة الحنون .. ألا تلمح عيناك كل يوم :
طفلاً يجري ويلعب متجاهلاً ما يدورُ حوله، حياته خفيفة كالغبار ؟ . .
أو واقفاً مع الواقفين أوجالساً مشلوحاً على مقعد انتظار ؟ . .
أو آخر يتنقل جيئة وذهاباً ترمق عيناه أسرابَ السنونو تحوم في سماء المدينة تبتلعها المحبةُ حيناً وتلفظها أسبابُ الحياة أحياناً ؟..
على هذا الرصيف المدينة الحنون .. ألا نرسم الخطى بأدمعنا ثم نمشيها ؟..
وإليها . . أما حاول حتى الإمبراطور فيليب العربي استرجاع طفولته؟..
أجل .. في هكذا محطة فقط يصبح الرصيف حلماً حين يستقبل سفينة تفترش نور الشمس، دافعةً أمامها هواءً مميزاً، في ذراته دفء اللقاء وبرد الوداع .. قادمةً لتسقط جبروت صمت الجدران .. حاملةً القادمين من كل فجّ عميق والراحلين فوق سكة من سفر .. لتثبت الأرض وتثبت المحطة .
إذا لم أكن قد أترفت في الحديث وأعتقدني تقشفت، اسمحوا لي أن أُعيد السؤال المذروف على شوارع الغربة :
هل من الممكن أن تفقد آمالُ الفراشاتِ أجنحتها .. وهل يستطيع القلب إلاّ أن يكون محطة للدم ؟..
إلى كل قادم ومغادر ..
في الملاحم لا تجدون سوى القيل والقال .. لكن ماذا لو قرر المطار كتابة مذكراته ؟..
ناجي درويش
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)