صفحة 1 من 5 123 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 4 من 20

الموضوع: رسالة الغفران لأبي علاء المعري(الجزء الأول)

العرض المتطور


  1. #1
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    رسالة الغفران لأبي علاء المعري(الجزء الأول)

    مقدمة رسالة الغفران

    من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
    اذهب إلى: تصفح, البحث
    اللهم يسّر وأعن قد علم الجبر الذي نسب إليه جبريل، وهو كلّ الخيرات سبيل، أن في مسكني حماطة ما كانت قطّ أفانية، ولا الناكزة بها غانيةّ، تثمر من مودّة مولاي الشيخ الجليل، كبت الله عدوّه، وأدام رواحه إلى الفضّل وعدّوه، ما لو حملته العالية من الشجر، لدنت إلى الأرض غصونها، وأذيل من تلك الثمرة مصونها. والحماطة ضرب من الشجر، يقال لها إذا كانت رطبة: أفانية، فإذا يبست فهي حماطة. قال الشاعر:


    إذا أمّ الوليِّد لم تطعني
    حنوت لها يدي بعصا حماط وقلت لها: عليك بني أقيش، فإنّك غير معجبة الشَّطاط وتوصف الحماطة بإلف الحيّات لها، قال الشاعر:


    أتيح لها، وكان أخا عيال،
    شجاع في الحماطة مستكن وإن الحماطة التي في مقرّي لتجد من الشوق حماطة، ليست بالمصادفة إماطة. والحماطة حرقة القلب، قال الشاعر:


    وهمٍّ تملأ الأحشاء منه
    .................... فأما الحماطة المبدوء بها فهي حبة القلب، قال الشاعر:


    رمت حماطة قلب غير منصرفٍ
    عنها، بأسهم لحظ لم تكن غرباً وإنّ في طمري لحضباً ،وكلّ بأذاتي، لو نطق لذكر شذاتي ما هو بساكن في الشقاب، ولا بمتشرف على النقاب، ما ظهر في شتاء وصيف، ولا مرّ بجبل ولا خيف، يضمر من محبة مولاي الشيخ الجليل، ثبت الله أركان العلم بحياته،ما لا تضمره للولد أمّ، أكان سمُّها يدّكر أم فقد عندها السُّم. وليس هذا الحضب مجانساً للَّذي عناه الراجز في قوله:


    وقد تطويت انطواء الحضب
    ..................... وقد علم، أدام الله جمال البراعة بسلامته، أن الحضب ضرب من الحيات، وأنّه يقال لحبة القلب حضب، وإنّ في منزلي لأسود، وهو أعزّ عليّ من عنترة على زبيبة، وأكرم عندي من السُّليك، عند السُّلكة، وأحق بإيثاري من خفاف السُّلميّ بخبايا ندبة وهو أبداً محجوب، لا تجاب عنه الأغطية ولا يجوب، لو قدر لسافر إلى أن يلقاه، ولم يحد عن ذلك لشقاء يشقاه. وإنه إذ يذكر، ليؤنَّث في المنطق ويذكر، وما يعلم أنّه حقيقي التذكير، ولا تأنيثه المعتمد بنكير. لا أفتأ دائباً فيما رضي، على أنّه لا مدفع لما قضي. أعظمه أكثر من إعظام لخم الأسود بن المنذر وكندة الأسود بن معد يكرب، وبني نهشل بن دارم الأسود بن يعفر ذا المقال المطرب.
    ولا يبرح مولعاً بذكره كإيلاع سحيم بعميرة في محضره ومبداه، ونصيب مولى أمّية بسعداه. وقد كان مثله مع الأسود بن زمعة، والأسود بن عبد يغوث ... والأسودين اللذين ذكرهما اليشكري في قوله:


    فهداهم بالأسودين وأمر الله
    بلغ يشقى به الأشقياء ومع أسودان الذي هو نبهان بن عمرو بن الغوث بن طيءّ، ومع أبي الأسود الذي ذكره امرؤ القيس، في قوله:


    وذلك من خبرٍ جاءني
    ونبَّئته عن أبي الأسود وما فارقه أبو الأسود الدؤلي في عمره طّرفة عين، في حال الراحة ولا الأين وقارن سويد بن أبي كاهل يرد به على المناهل. وحالف سويد بن الصامت، ما بين المبتهج والشامت. وساعف سويد بن صميع، في أيّام الرَّتب والرَّيع وسويد هذا، هو الذي يقول:


    إذا طلبوا مني اليمين، منحتهم
    يميناً كبرد الأتحميّ الممزق وإن أحلفوني بالطّلاق، أتيتها
    على خير ما كنّا، ولم نتفرق وإن أحلفوني بالعتاق، فقد درى
    عبيد غلامي أنّه غير معتق وكان يألف فراش سودة بن زمعة بن قيس امرأة النبيَّ، صلى الله عليه وسلم، ويعرف مكانه الرسول، ولا ينحرف عنه السُّول، ودخل الجدث مع سوادة بن عديّ، وما ذلك بزول بديّ، وحضر في نادٍ حضره الأسودان اللّذان هما الهنم والماء، والحرة الغابرة والظَّلماء. وإنَّه لينفر عن الأبيضين، إذا كانا في الرَّهج معرَّضين، الأبيضان اللذان ينفر منهما: سيفان، أو سيف وسنان، ويصبر عليهما إذا وجدهما، قال الراجز:


    الأبيضان أبردا عظامي
    الماء والفتُّ بلا إدام ويرتاح إليهما في قول الآخر:


    ولكنه يمضي في الحول كلُّه
    وما لي إلاّ الأبيضين شراب فأمّا الأبيضان اللذان هما شحم وشباب، فإنّما تفرح بهما الربَّاب، وقد يبتهج بهما عند غيري، فأمّا أنا فيئسا من خيري. وكذلك الأحامرة والأحمران يعجب لهما أسود ران، فيتبعه حليف سترٍ، ما نزل به حادث هتر.
    http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg

    مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني

رد مع اقتباس رد مع اقتباس  


  • #2
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    وصول الرسالة

    وقد وصلت الرسالة التي بحرها بالحكم مسجور ومن قرأها مأجور، إذ كانت تأمر بتقبُّل الشرع، وتعيب من ترك أصلاً إلى فرع. وغرقت في أمواج بدعها الزاخرة، وعجبت من اتسِّاق عقودها الفاخرة، ومثلها شفع ونفع، وقرّب عند الله ورفع. وألفيتها مفتحةً بتمجيدٍ، صدّر عن بليغٍ مجيد، وفي قدرة ربّنا، جلَّت عظمته، أن يجعل كلّ حرف منها شبح نورٍ، لا يمتزج بمقال الزُّور؛ يستغفر لمن أنشأها إلى يوم الدين، ويذكره ذكر محبٍ خدين. ولعلّه، سبحانه، قد نصب لسطورها المنجية من اللَّهب، معاريج من الفضة أو الّذهب، تعرج بها الملائكة من الأرض الراكدة إلى السماء، وتكشف سجوف الظلماء، بدليل الآية: إليه يصعد الكلم الطَّيب والعمل الصّالح يرفعه.
    [عدل] شجرة طيبة

    وهذه الكلمة الطيبة كأنّها المعنيّة بقوله: ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمّة طيّبةً كشجرةً طيّبةٍ، أصلها ثابت وفرعها في السّمّاء، تؤتي أكلها كلّ حينٍ بإذن ربها. وفي تلك السطور كلم كثير، كلّه عند الباري، تقدّس، أثير. فقد غرس لمولاي الشيخ الجليل، إن شاء الله، بذلك الثناء، شجر في الجنة لذيذ اجتناءً، كلُّ شجرةٍ منه تأخذ ما بين المشرق إلى المغرب بظلٍّ غاطٍّ ليست في الأعين كذات أنواطٍ. وذات أنواطٍ، كما يعلم، شجرة كانوا يعظمونها في الجاهلية. وقد روي أن بعض الناس قال: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواطٍ كما لهم ذات أنواطٍ، وقال بعض الشعراء:


    لنا المهيمن يكفينا أعادينا
    كما رفضنا إليه ذات أنواط والولدان المخلّدون في ظلال تلك الشجر قيام وقعود، وبالمغفرة نيلت السُّعود؛ يقولون، والله القادر على كلِّ شيء عزيز: نحن وهذه الشجر صلّة من الله لعليّ بن منصور، نخبأ له إلى نفخ الصُّور. وتجري في أصول ذلك الشجر، أنهار تختلج من ماء الحيوان، والكوثر يمدُّها في كلّ أوانٍ؛ من شرب منها النُّغبة فلا موت، قد أمن هنالك الفوت. وسعد من اللبن متخرِّفات، لا تغيَّر بأن تطول الأوقات. وجعافر من الرحيق المختوم، عزَّ المقتدر على كلّ محتوم. تلك الراح الدائمة، لا الذميمة ولا الذائمة، بل هي علقمة مفترياً، ولم يكن لعفوٍ مقترياً:


    تشفي الصُّداع ولا يؤذيه صالبها
    ولا يخالط منها الرأس تدويم ويعمد إليها المغترف بكؤوس من العسجد، وأباريق خلقت من الزبرجد، ينظر منها الناظر إلى بديّ، ما حلم به أبو الهنديّ، رحمه الله، فلقد آثر شراب الفانية، ورغب في الدّنية الدّانية. ولا ريب أنّه يروي ديوانه، وهو القائل:


    سيغني أبا الهنديّ عن وطب سالمٍ
    أباريق لم يعلق بها وضر الزُّبد مفدمة قزّاً كأنّ رقابها
    رقاب بنات الماء أفزعها الرعد هكذا ينشد على الإقواء وبعضهم ينشد:


    رقاب بنات الماء ريعت من الرعد
    ......................... والرواية الأولى إنشاد النحويين. وأبو الهندي إسلاميٌّ، واسمه عبد المؤمن بن عبد القدُّوس، وهذان اسمان شرعيان، وما استشهد بهذا البيت إلا وقائله عند المستشهد فصيح، فإن كان أبو الهنديّ ممن كتب وعرف حروف المعجم فقد أساء في الإقواء، وإن كان بنى الأبيات على السكون، فقد صحَّ قول سعيد بن مسعدة، في أن الطويل من الشعر له أربعة أضرب. ولو رأى تلك الأباريق أبو زبيد لعلم أنّه كالعبد الماهن أو العبيد، وأنّه ما تشبّث بخيرٍ، ورضي بقليل المير وهزىء بقوله:


    وأباريق مثل أعناق طير ال
    ماء قد جيب فوقهن خنيف هيهات ! هذه أباريق، تحملها أباريق، كأنّها في الحسن الأباريق. فالأولى هي الأباريق المعروفة، والثانية من قولهم: جارية إبريق، إذا كانت تبرق من حسنها: قال الشاعر:


    وغيداء إبريقٍ كأن رضابها
    جنى النحل ممزوجاً بصهباء تاجر والثالثة، من قولهم: سيف إبريق، مأخوذ من البريق. قال ابن أحمر:


    تقلدت إبريقاً، وعلقت جعبةً
    لتهلك حيّاً ذا زهاءٍ وجامل ولو نظر إليها علقمة لبرق وفرق، وظنَّ أنه قد طرق، وأين يراها المسكين علقمة، ولعله في نار لا تغير، ماؤها للشارب وغيرٌ؟ ما ابن عبدة وما فريقه؟؟؟! خسر وكسر إبريقه! أليس هو القائل:


    كأن إبريقهم ظبيٌ برابيةٍ
    مجللٌ، بسبا الكتّان مفدوم أبيض أبرزة للضَّحّ راقبه
    مقلد قضب الرَّيحان، مفغوم نظرةٌ إلى تلك الأباريق، خيرٌ من بيت الكرمة العاجلية، ومن كل ريقٍ، ضمنته هذه الدار الخادعة، التي هي لكلَّ شممٍ جادعةٌ. ولو بصر بها عدي بن زيد، لشغل عن المدام والصَّيد، واعترف بأن أباريق مدامه، وما أدرك من شرب الحيرة وندامه، أمرٌ هينٌ، لا يعدل بنابتٍ من حمصيص، أو ما حقر من خربصيص. وكنت بمدينة السّلام، فشاهدت بعض الورّاقين يسأل عن قافية عدي ابن زيد التي أوّلها:


    كر العاذلات في غلس الصُّب
    ح يعاتبنه أما تستفيق؟ ودعا بالصَّبوح فجراً، فجاءت
    قينةٌ في يمينها إبريق وزعم الورَّاق أن ابن حاجب النعمان سأل عن هذه القصيدة وطلبت في نسخٍ من ديوان عديّ فلم توجد. ثمّ سمعت بعد ذلك رجلاً من أهل أستراباذ، يقرأ هذه القافية في ديوان العباديّ، ولم تكن في النسخة التي في دار العلم: فأمّا الأقَّيشر الأسديّ فإنه مني بقاشر، وشقي إلى يومٍ حاشر، قال ولعله سيندم، إذا تفرَّى الأدم:


    أفنى تلاديّ، وما جمعت من نشبٍ
    قرع القوازيز أفواه الأباريق ما هو وما شرابه؟ تقضَّت في الحانية آرابه. لو عاين تلك الأباريق لأيقن أنّه فتن بالغرور، وسرَّ بغير موجب للسّرور. وكذلك إياس بن الأرتّ، إن كان عجب لأباريق كإوزّ الطَّفّ فإن الحوادث بسطت له أقبض كفّ. فكأنه ما قال:


    كأن أباريق المدامة بينهم
    إوزٌّ بأعلى الطَّفّ، عوج الحناجر ورحم الله العجَّاج، فإنّه خلط في رجزه العلبط والسَّجاج، أين إبريقه الذي ذكر فقال:


    قطَّف من أعنابها ما قطفَّا،
    فغمَّها حولين، ثمّ استودفا صهباء، خرطوماً، عقاراً، فرقفا،
    فسنَّ في الإبريق منها نزفا من رصفٍ نازع سيلاً رصفا وكم على تلك الأنهار من آنية زبرجدٍ محفور، وياقوتٍ خلق على خلق الفور، من أصفر وأحمر وأزرق، يخال إن لمس أحرق، كما قال الصنوبريُّ: تخيَّله ساطعاً وهجه، ... فتأبى الدُّنو إلى وهجه وفي تلك الأنهار أوانٍ على هيئة الطير السابحة، والغانية عن الماء السائحة، فمنها ما هو على صور الكراكي، وأخر تشاكل المكاكيّ، وعلى خلق طواويس وبطّ، فبعضٌ في الجارية وبعضٌ في الشَّطّ،
    [عدل] خمر الجنة

    نبع من أفواهها شرابٌ، كأنه من الرَّقَّة سرابٌ، لو جرع جرعةً منه الحكميُّ لحكم أنّه الفوز القدميُّ. وشهد له كلُّ وصَّاف الخمر، من محدثٍ في الزمن وعتيق الأمر، أنّ أصناف الأشربة المنسوبة إلى الدار الفانية، كخمر عانة وأذرعات، وهي مظنَّةٌ للنُّعّات؛ وغزّة وبيت راس والفلسطية ذوات الأحراس؛ وما جلب من بصرى في الوسوق، تبغى به المرابحة عند سوق، وما ذخره ابن بجرة ب وجّ، واعتمد به أوقات الحجّ، قبل أن تحرَّم على الناس القهوات، وتحظر لخوف الله الشهوات. قال أبو ذؤيب:


    ولو أنَّ ما عند ابن بجرة عندها
    من الخمر، لم تبلل لهاتي بناطل وما اعتصر بصرخد أو أرض شبام لكلّ ملكٍ غير عبام؛ وما تردَّد ذكره من كميت بابل وصريفين واتُّخذ للأشراف المنيفين؛ وما عمل من أجناس المسكرات، مفوّقاتٍ للشارب وموكّرات، كالجعة والبتع والمزر والسُّكركة ذات الوزر؛ وما ولد من النخبل، لكريمٍ يعترف أو بخيل، وما صنع في أيَّام آدم وشيثٍ إلى يوم المبعث من معجَّلٍ أو مكيث إذ كانت تلك النُّطفة ملكةً، لا تصلح أن تكون برعاياها مشتبكة.
    ويعارض تلك المدامة أنهارٌ من عسلٍ مصفَّى ما كسبته النحل الغادية إلى الأنوار، ولا هو في مومٍ متوارٍ، ولكن قال له العزيز القادر: كن فكان، وبكرمه أعطي الإمكان. واهاً لذلك عسلاً لم يكن بالنار مبسلا لو جعله الشارب المحرور غذاءه طول الأبد ما قدر له عارض موم، ولا لبس ثوب المحموم؛ وذلك كلُّه بدليل قوله: مثل الجنة التي وعد المتُّقون، فيها أنهار من ماءٍ غير آسنٍ، وانهارٌ من لبنٍ لم يتغير طعمه، وأنهارٌ من خمرٍ لذّةٍ للشّاربين، وأنهارٌ من عسلٍ مصفًّى، ولهم فيها من كلّ الثّمرات، فليت شعري عن النَّمر بن تولبٍ العكليّ، هل يقدر له أن يذوق ذلك الأري، فيعلم أن شهد الفانية إذا قيس غليه وجد يشاكه الشَّري؛ وهو لمَّا وصف أمّ حصٍن وما رزقته في الدَّعة والأمن، ذكر حوّارى بسمن، وعسلٍ مصفًّى؛ فرحمه الخالق متوفّىً،فقد كان أسلم وروي حديثاً منفرداً، وحسبنا به للكلم مسردّاً. قال المسكين النمر:


    ألمّ بصحبتي، وهم هجوعٌ،
    خيالٌ طارقٌ من أمّ حصن لها ما تشتهي: عسلاً مصًّفى،
    إذا شاءت، وحوَّارى بسمن وهو، أدام الله تمكينه، يعرف حكاية خلفٍ الأحمر مع أصحابه في هذين البيتين، ومعناها أنّه قال لهم: لو كان موضع أمّ حصن أمُّ حفص، وما كان يقول في البيت الثاني؟ فسكتوا، فقال: حوّاريّ بلمص، يعني الفالوذ ويفرّع على هذه الحكاية فيقال: لو كان مكان أمّ حصن أمُّ جزء وآخره همزةٌ،ما كان يقول في القافية الثانية؟ فإنّه يحتمل أن يقول: وحوارى بكشء،ٍ من قولهم: كشأت اللحم إذا شويته حتى ييبس، ويقال: كشأ الشواء إذا أكله. أو يقول بوزء، من قولهم: وزأت اللحم إذا شويته. ولو قال: حوَّارى بنسء، لجاز وأحسن ما يتأؤّل فيه، أن يكون من نسأ الله في أجله، أي لها خبزٌ مع طول حياة، وهذا أحسن من أن يحمل على أن النسء اللبن الكثير الماء، وقد قيل: إن النسء الخمر، وفسروا بيت عروة بن الورد على الوجهين:


    سقوني النّسء ثم تكنَّفوني،
    عداة الله من كذبٍ وزور ولو حمل حوّارى بنسء، على اللبن أو الخمر، لجاز،لأنّها تأكل الحوارى بذلك، أي لها الحوَّارى مع الخمر، وقد حدّث محدّثٌ أنه رأى بسيل ملك الروم وهو يغمس خبزاً في خمرٍ ويصيب منه، ولو قيل: حوَّارى بلزء، من قولهم: لزأ إذا أكل، لما بعد، وتكون الباء في بلزء بمعنى في. ولا يمكن أن يكون رويُّ هذا البيت ألفاً، لأنّها لا تكون إلاّ ساكنة، وما قبل الرويّ ها هنا ساكنٌ، فلا يجوز ذلك. فإن خرج إلى الباء: من أمّ حرب، جاز أن يقول: وحوَّارى بصرب، وهو اللبن الحامض، ويجوز بإرب، أي بعضوٍ من شواءٍ أو قديد، ويجوز بكشب وهو أكل الشواء. فإن قال: من أمّ صمت، جاز أن يقول: وحواري بكمت، يعني جمع تمرةٍ كميت، وذلك من صفات التمر، وينشد للأسود ابن يعفر:


    وكنت إذا ما قرَّب الزاد مولعاً
    بكلّ كميتٍ جلدةٍ لم توسَّف وقال الأخر:


    ولست أبالي بعدما اكمتَّ مربدي
    من التمر، أن لا يمطر الأرض كوكب


  • #3
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    ويجوز وحوَّارى بحمت، من قولهم: تمرٌ حمتٌ، أي شديد الحلاوة. فإن أخرجه إلى الثاء فقال: من أمّ شثّ، قال: وحوَّارى ببثّ، والبثُّ: تمرٌ لم يجد كنزه فهو متفرق. فإن أخرجه إلى الجيم فقال: أمّ لجّ، جاز أن يقول: وحوّارى بدجّ، والدُّجُّ: الفرُّوج، جاء به العمانيُّ في رجزه. فإن خرج إلى الحاء، فقال: من أمّ شحّ، جاز أن يقول: وحوارى بمحّ، وببحّ، وبرّح، وبجحّ، وبسحّ. فالمحُّ: محّ البيضة، وبحُّ: جمع أبحَّ، من قولهم: كسرٌ أبحُّ، أي كثير الدّسم، وقال:


    وعاذلة هبَّت عليَّ تلومني،
    وفي كفّها كسرٌ أبحٌ رذوم ويجوز أن يعنى بالبحّ القداح، أي هذه المرأة أهلها أيسار، كما قال السُّلميُّ:


    قروا أضيافهم ربحاً ببحّ،
    يعيش بفضلهنَّ الحيُّ، سمر ورحٌّ: جمع أرحَّ، وهو من صفات بقر الوحش، أي يصاد لهذه المرأة، ويقال لأظلاف البقر: رحٌّ، قال الشاعر الأعشى:


    ورحٌّ بالزّماع مردَّفاتٌ،
    بها تنضو الوغى وبها ترود والسحُّ: تمرٌ صغير يابس. والجحُّ: صغار البطيخ قبل أن ينضج. فإن قال: أمُّ دخّ، قال: حوَّارى بمخّ، ونحو ذلك. فإن قال: أمّ سعد، قال: حوَّارى بثعد، وهو الرُّطب الذي لان كلُّه. فإن قال: أمّ وقذ، قال:حوارى بشقذ، وهي فراخ الحجل. فإن قال: أمّ عمرو، فإنَّ أشبه ما يقول: حوّارى بتمر. فإن قال: أمّ كرز، فإن أشبه ما يقول: وحوَّارى بأرز، وفيه لغات ستّ: أرزٌ على وزن أشدّ، وأرزّ على صملّ، وأرزٌ على وزن شغل، وأرزٌ في وزن قفل، ورزّ مثل جدٍّ، ورنز، بنونٍ وهي رديئة. فإن قال: أمّ ضبس، قال: وحوّارى بدبس. والعرب تسمّي العسل دبساً. وكذلك فسروا قول أبي زبيد:


    فنهزةٌ من لقوا حسبتهم
    أشهى إليه من بارد الدبس حرَّك للضرورة. فإن قال: من أمّ قرشٍ، جاز أن يقول: حوَّارى بورش، والورش: ضربٌ من الجبن، ويجوز أن يكون مولَّداً، وبه سمّي ورشٌ الذي يروي عن نافع واسمه عثمان بن سعيد. والصاد قد مضت. فإن قال: أمّ غرض، جاز أن يقول: حوَّارى بفرض، والفرض: ضربٌ من التمر، قال الراجز:


    إذا أكلت لبناً وفرضا
    ذهبت طولاً وذهبت عرضاً وفي نصب طول وعرض اختلافٌ بين المبرّد وسيبويه. فإن قال: من أمّ حظّ، فإن الأطعمة تقلُّ فيها الظاء، كقلَّتها في غيرها، لأن الظاء قليلةٌ جدّاً، ويجوز أن يقول: حوَّارى بكظّ، أي يكظّها الشّبع، أو نحو ذلك من الأشياء التي تدخل على معنى الاحتيال. فإن قال: أمّ طلع، جاز أن يقول: حوَّارى بخلع، والخلع: هو اللحم الذي كان يطبح ويحملونه في القروف وهي أوعيةٌ من أدم، وينشد:


    كلي اللحم الغريض، فإنَّ زادي
    لمن خلعٍ تضمنَّه القروف فإن قال: أمّ فرع، جاز أن يقول: حوَّارى بضرع، لأن الضروع تطبخ، وربمّا تطرب إلى أكلها الملوك فإن قال: أمّ مبغ، قال: حوّارى بصبغ، والصبَّغ ما تغمس فيه اللقمة من مرقٍ أو زيت أو خلٍّ. فإن قال: أمّ نخف، قال: حوَّارى برخف، والرخف زبدٌ رقيق، والواحدة رخفة، قال الشاعر:


    لنا غنمٌ يرضي النزيل حليبها،
    وزحفٌ يغاديه لها وذبيح فإن قال: أمّ فرق، قال: حوّارى بعرقٍ، والعرق: عظمٌ عليه لحمٌ من شواءٍ أو قديد. فإن قال: أمّ سبك، جاز أن يقول: حوّارى بربك، أو بلبك، من قولهم: ربكت الطعام أو لبكته، إذا خلطته، وكان ذلك ممّا فيه رطوبةٌ، مثل أن يخالطه لبنٌ أو سمنٌ، أو نحو ذلك، ولا يقال: ربكت الشعير بالحنطة، إلاّ أن يستعار. فإن قال: أمّ تخل، قال: حوّارى برخل، يريد الأنثى من أولاد الضأن، وفيه أربع لغات: رَخِل ورَخْلٌ ورِخْلٌ ورِخِلٌ. فإن قال: أمّ صرم، قال: حوارى بطرم، والطرم: العسل، وقد يسمَّى السمن طرماً. وقد مضت النون في أمّ حصن. فإن قال: أم دوّ، قال: حو؟ّارى بجوّ، والحوُّ: الجدي، فيما حكى بعض أهل اللغة في قولهم: ما يعرف حوّاً من لوٍّ، أي جدياً من عناقٍ. فإن قال: أمّ كره، قال: حوّارى بوره، يريد جمع أوره، من قولهم: كبشٌ أوره، أي سمين. فإن قال: أمّ شري، قال: حوارى بأري، أي عسل. وهذا فصل يتّسع، وإنمّا عرض في قول تامٍ، كخيال طرق في المنام. ولو خالط منا من عسل الجنان، وما خلقه الله، سبحانه، في هذه الدار الخادعة، كالصاب، والمقر، والسَّلع، والجعدة، والشَّيح، والهبيد، لعاد ذلك كلُّه، وغيره من المعقبات، يعدُّ من اللذائذ المرتقيات، فآض ما كره من الصَّاب، كأنَّه المعتصر من المصاب، والمصاب: قصب السكر، وأمسى الحدج وكأنّه المتخذٌّ بالأهواز، إلاّ يكن السُّكرّ، فإنه موازٍ؛ ولصارت الراعية في الإبل، إذا وجدت الحنظلة أتحفت بها السيدة المحظلة، وهي التي تعظم عليها الغيرة، من قولهم: حظل نساءه، إذا أفرط في الغيرة عليهنَّ، قال الراجز:


    ولا ترى بعلاً ولا حلائلا
    كه، ولا كهنَّ إلا حاظلا وانقطعت معايش أرباب القصب في ساحل البحر، وصنع من المرّ الفالوذ المحكم بلا سحر أي بلا خدع. ولو أن الحارث بن كلدة طعم من ذلك الطّريم لعلم أن الذي وصفه يجري من هذا المنعوت، مجرى الدّفلى الشّاقة من الرّعديد، ومدوف، ما يكره من القنديد، وذكرت الحارث بقوله:


    فما عسلٌ ببارد ماء مزنٍ
    على ظماءٍ، لشاربه يشاب بأشهى من لقيكم إلينا،|فكيف لنا به، ومتى الإياب}}
    كذلك السَّلوى التي ذكرها الهذلي هي عند عسل الجنّة كأنَّها قارٌ رمليَّ، والقار: شجرٌ مرّ ينبت بالرَّمل، قال: بشرٌ:


    يرجون الصَّلاح بذات كهفٍ،
    وما فيها لهم سلعٌ وقار وعنيت قول القائل:


    فقاسمها بالله جهداً لأنتم
    ألذُّ من السَّلوى إذا ما نشورها وإذا من الله تبارك اسمه بورود تلك النهار، صاد فيها الوارد سمك حلاوةٍ، لم ير مثله في ملاوة، لو بصر به أحمد بن الحسين لاحتقر الهدية التي أهديت إليه فقال فيها:


    أقل ما في أقلّها سمكٌ،
    يلعب في بركةٍ من العسل فأمَّا الأنهار الخمريّة، فتلعب أسماكٌ هي على صور السَّمك بحريَّةٌ ونهريّة، وما يسكن منه في العيون النَّبعية، ويظفر بضروب النَّبت المرّعية، إلاّ أنّه من الذَّهب والفضّة وصنوف الجواهر، المقابلة بالنُّور الباهر. فإذا مدّ المؤمن يده إلى واحدةٍ من ذلك السَّمك، شرب من فيها عذباً لو وقعت الجرعة منه في البحر الذي لا يستطيع ماءه الشارب، لحلت منه أسافل وغوارب؛ ولصار الصمَّر كأنَّه رائحة خزامى سهلٍ، طلتَّه الدَّاجنة بدهل، والدَّهل: الطائفة من اللَّيل، أو نشر مدامٍ خوَّارةٍ، سيَّارةٍ في القلل سوَّارة. وكأنّي به، أدام الله الجمّال ببقائه، إذا استحقَّ تلك الرُّتبة، ببقين التوبة، وقد اصطفى له نامى من أدباء الفردوس: كأخي ثمالة، وأخي دوسٍ، ويونس بن حبيب الضُّبيّ، وابن مسعدة المجاشعيّ، فهم كما جاء في الكتاب العزيز: " ونزعنا ما في صدورهم من غلٍّ إخواناً على سررٍ متقابلين، لا يمسُّهم فيها نصبٌ وما هم منها بمخرجين " فصدر أحمد بن يحيى هنالك قد غسل من الحقد على محمد بن يزيد، فصارا يتصافيان ويتوافيان، كأنهّا ندمانا جذيمة: مالكٌ وعقيل، جمعها مبيتٌ ومقيل وأبو بشر، عمرو بن عثمان سيبويه، قد رحضت سويداء قلبه من الضغن على علي بن حمزة الكسائي وأصحابه، لما فعلوا به في مجلس البرامكة. وأبو عبيدة صافي الطويّة لعبد الملك بن قريب، قد ارتفعت خلتَّهما عن الرَّيب، فهما كأربد ولبيد أخوان، أو ابني نويرة فيما سبق من الأوان، أو صخرٍ ومعاوية: ولدي عمرو، وقد أخمدا من الإحن كلّ جمر. والملائكة يدخلون عليهم من كل بابٍ، سلامٌ عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدّار. وهو أيَّد الله العلم بحياته، معهم كما قال البكريُّ:


    نازعتهم قضب الرّيحان مرتفقاً،
    وقهوةً مزَّةً، راووقها خضل لا يستفيقون منها وهي راهنةٌ
    إلا بهات، وإن علُّوا وإن نهلوا يسعى بها ذو زجاجات له نطفٌ
    مقلَّص أسفل السّربال، معتمل ومستجيبٌ لصوت الصَّنج يسمعه
    إذا ترجع فيه القنية الفضل وأبو عبيدة يذاكرهم بوقائع العرب ومقاتل الفرسان، والأصمعيُّ ينشدهم من الشعر ما أحسن قائله كلَّ الإحسان. وتهشّ نفوسهم للَّعب فيقذفون تلك الآنية في أنهار الرّحيق، ويصفقّها الماذي المعترض أي تصفيق، وتقترع تلك الآنية، فيسمع لها أصواتٌ، تبعث بمثلها الأموات. فيقول الشيخ، حسّن الله الأيّام بطول عمره: آه لمصرع الأعشى ميمون وكم أعمل من مطيَّةٍ أمون!!ولقد وددت أنَّه ما صدّته قريشٌ لمَّا نوجَّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنَّما ذكرته الساعة لمّا تقارعت هذه الآنية بقوله في الحائيّة:


    وشمول تحسب العين، إذا
    صفّقت، جندعها نور الذُّبح مثل ريح المسك ذاكٍ ريحها،
    صبّها الساقي إذا قيل: توح من زقاق التَّجر، في باطيةٍ
    جونةٍ، حاريّةٍ ذات روح ذات غورٍ، ما تبالي يومها،
    غرف الإبريق منها والقدح وإذا ما الرَّاح فيها أزبدت
    أفل الإزباد عنها، فمصح وإذا مكوكها صادمه
    جانباها، كرَّ فيها فسبح فترامت بزجاجٍ معملٍ
    يخلف النَّازح منها ما نزح وإذا غاضت رفعنا زقّنا
    طلق الأوداج فيها فانسفح


  • #4
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    ولو أنَّه أسلم، لجاز أن يكون بيننا في هذا المجلس، فينشدنا غريب الأوزان، ممّا نظم في دار الأحزان، ويحدّثنا حديثه مع هوذة بني عليّ، وعامر بن الطُّفيل، ويزيد بن مسهر وعلقمة بن علائة، وسلامة بن ذي فائش، وغيرهم ممّن مدحه أو هجاه، وخافه في الزمن أو رجاه.
    ثمّ إنّه، أدام الله تمكينه، يخطر له حديث شيءٍ كان يسمَّى النُّزهة في الدار الفانية، فيركب نجيباً من نجب الجنّة خلق من ياقوتٍ ودرٍّ، في سجسجٍ بعد عن الحرّ والقرّ، ومعه إناء فيهج، فيسير في الجنَّة على غير منهج، ومعه شيءٌ من طعام الخلود، ذخر لوالد سعد أو مولودٍ، فإذا رأى نجيبه يملع بين كثبان العنبر، وضيمرانٍ وصل بصعبرٍ، رفع صوته متمثَّلاً بقول البكريّ:


    ليت شعري متى تخبُّ بنا النَّا
    قة نحو العذيب فالصّيبون محقباً زكرةً، وخبز رقاقٍ،
    وحباقاً، وقطعةً من نون يعني بالحباق جرزة البقل. فيهتف هاتفٌ: أتشعر أيّها العبد المغفور له لمن هذا الشَّعر؟ فيقول الشيخ: نعم، حدّثنا أهل ثقتنا، عن أهل ثقتهم، يتوارثون ذلك كابراً عن كابر، حتى يصلوه بأبي عمرو بن العلاء، فيرويه لهم عن أشياخ العرب، حرشة الضَّباب في البلاد الكلدات وجناة الكمأة في مغاني البداة، الذين لم يأكلوا شيراز الألبان ولم يجعلوا الثمر في الثَّبان، أنَّ هذا الشّعر لميمون بن قيس ابن جندلٍ أخي بني ربيعة بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة ابن صعب بن عليّ بن بكر بن وائلٍ فيقول الهاتف: أنا ذلك الرَّجل، من الله عليَّ بعدما صرت من جهنّم على شفير، ويئست من المغفرة والتّكفير. فيلتفت إليه الشيخ هشّاً بشّاً مرتاحاً، فإذا هو بشابّ غرانق غبر في النّعيم المفانق، وقد صار عشاه حور معروفاً، وانحناء ظهره قواماً موصوفاً، فيقول: أخبرني كيف كان خلاصك من النار، وسلامتك من قبيح الشنار؟ فيقول: سحبتني الزبانية إلى سقر، فرأيت رجلاً في عرصات القيامة يتلألأ وجهه تلألؤ القمر، والنّاس يهتفون به من كلّ أوبٍ: يا محمَّد يا محمّد، الشفاعة الشّفاعة! نمتُّ لكذا ونمتُّ بكذا. فصرخت في أيدي الزبانية: يا محمّد أغثني فإنّ لي بك حرمةً! فقال: يا عليُّ بادره فانظر ما حرمته؟ فجاءني عليُّ بن أبي طالبٍ، صلوات الله عليه، وأنا أعتل كي ألقى في الدّرك الأسفل من النّار، فزجرهم عني، وقال: ما حرمتك؟ فقلت: أنا القائل:


    ألا أيُّهذا السّائلي أين يمّمت،
    فإنَّ لها في أهل يثرب موعدا فآليت لا أرثي لها من كلالة،
    ولا من حفىً، حتى تلاقي محمّدا متى ما تناخي عند باب ابن هاشمٍ
    تراحي، وتلقي من فواضله ندى أجدَّك لم تسمع وصاة محمّدٍ
    نبيّ الإله حين أوصى وأشهدا إذا أنت لم ترحل بزادٍ من التُّقى
    وأبصرت بعد الموت من قد تزودَّا ندمت على أن لا تكون كمثله،
    وأنّك لم ترصد لما كان أرصدا فإيّاك والميتات لا تقربنّها!
    ولا تأخذن سهماً حديداً لتفصدا ولا تقربنَّ جارةً إن سرَّها
    عليك حرامٌ، فانكحن أو تأبّدا نبيٌّ يرى مالا يرون، وذكره
    أغار لعمري في البلاد وأنجدا وهو، أكمل الله زينة المحافل بحضوره، يعرف الأقوال في هذا البيت، وإنّما أذكرها لأنّه قد يجوز أن يقرأ هذا الهذيان ناشىءٌ لم يبلغه: حكى الفرّاء وحده أغار في معنى غار، إذا أتى الغور، وإذا صحّ هذا البيت للأعشى فلم يرد بالإغارة إلا ضدَّ الإنجاد. وروي عن الأصمعيّ روايتان: إحداهما أنَّ أغار في معنى عدا عدواً شديداً، وأنشد في كتاب الأجناس:


    فعدّ طلابها وتسلَّ عنه
    بناجيةٍ إذا زجرت تغير والأخرى أنّه كان يقدّم ويؤخَّر فيقول: لعمري غار في البلاد وأنجدا فيجيء به على الزّحاف. وكان سعيد بن مسعدة يقول: غار لعمري في البلاد وأنجدا فيخرمه في النصف الثاني.
    [عدل] إيمان الأعشى

    ويقول الأعشى: قلت لعلّيٍ: وقد كنت أومن بالله وبالحساب وأصدّق بالبعث وأنا في الجاهليّة الجهلاء، فمن ذلك قولي:


    فما أيبلي على هيكلٍ،
    بناه وصلَّب فيه وصارا يراوح من صلوات المليك
    طوراً سجوداً وطوراً جؤارا بأعظم منك تقىً في الحساب
    إذا النَّسمات نفضن الغبارا فذهب عليَّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، هذا أعشى قيس قد روي مدحه فيك، وشهد أنّك نبيٌّ مرسلٌ. فقال: هلاَّ جاءني في الدّار السَّابقة؟ قال: عليُّ: قد جاء، ولكن صدَّته قريشٌ وحبُّه للخمر. فشفع لي، فأدخلت الجنّة على أن لا أشرب فيها خمراً؛ فقرَّت عيناي بذلك، وإنَّ لي منادح في العسل وماء الحيوان. وكذلك من لم يتب من الخمر في الدار الساخرة، لم يسقها في الآخرة. وينظر الشيخ في رياض الجنَّة فيرى قصرين منيفين، فيقول في نفسه: لأبلغنَّ هذين القصرين فأسأل لمن هما؟ فإذا قرب إليهما رأى على أحدهما مكتوباً: هذا القصرلزهير بن أبي سلمى المزني وعلى الآخر: هذا القصر لعبيد بن الأبرص الأسديّ فيعجب من ذلك ويقول: هذان ماتا في الجاهليّة، ولكّن رحمة ربنّا وسعت كلَّ شيء؛ وسوف ألتمس لقاء هذين الرّجلين فأسألهما بم غفر لهما. فيبتدىء بزهير فيجده شابّاً كالزَّهرة الجنيَّة، قد وهب له قصرٌ من ونيَّة، كأنّه ما لبس جلباب هرمٍ، ولا تأفَّف من البرم. وكأنَّه لم يقل في الميمّية:


    سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
    ثمانين حولاً، لا أبا لك، يسأم! ولم يقل في الأخرى:


    ألم ترني عمَّرت تسعين حجّةً،
    وعشراً تباعاً عشتها، وثمانيا؟ فيقول: جير جير! أنت أبو كعب وبجير؟ فيقول: نعم. فيقول، أدام الله عزّه: بم غفر لك وقد كنت في زمان الفترة والنَّاس هملٌ، لا يحسن منهم العمل؟ فيقول: كانت نفسي من الباطل نفوراً، فصادفت ملكاً غفوراً، وكنت مؤمناً بالله العظيم، ورأيت فيما يرى النَّائم حبلاً نزل من السَّماء، فمن تعلق به من سكَّان الأرض سلم، فعلمت أنَّه أمرٌ من أمر الله، فأوصيت بنيَّ وقلت لهم عند الموت: إن قام قائمٌ يدعوكم إلى عبادة الله فأطيعوه. ولو أدركت محمّداً لكنت أوَّل المؤمنين. وقلت في الميميّة، والجاهليّة على السّكنة والسّفه ضاربٌ بالجران:


    فلا تكتمن الله ما في نفوسكم
    ليخفى، ومهما يكتم الله يعلم يؤخّر، فيوضع في كتابٍ، فيدَّخر
    ليوم الحساب، أو يعجَّل فينقم فيقول: ألست القائل:


    وقد أغدو على ثبةٍ كرامٍ
    نشاوى واجدين لما نشاء يجرُّون البرود وقد تمشَّت
    حميّا الكأس فيهم والغناء فأطلقت لك الخمر كغيرك من أصحاب الخلود؟ أم حرَّمت عليك مثلما حرّمت على أعشى قيس فيقول زهيرٌ: إن أخا بكرٍ أدرك محمّداً فوجبت عليه الحجَّة، لأنّه بعث بتحريم الخمر، وحظر ما قبح من أمر؛ وهلكت أنا والخمر كغيرها من الأشياء، يشربها أتباع الأنبياء، فلا حجّة عليَّ. فيدعوه الشَّيخ إلى المنادمة؛ فيجد من ظراف النَّدماء، فيسأله عن أخبار القدماء. ومع المنصف باطيةٌ من الزُّمرُّد، فيها من الرَّحيق المختوم شيءٌ يمزج بزنجبيل، والماء أخذ من سلسبيل. فيقون، زاد الله في أنفاسه: أين هذه الباطية من التي ذكرها السّرويُّ في قوله:


    ولنا باطيةٌ مملوءةٌ
    جونةٌ، يتبعها برذينها فإذا ما حاردت أو بكأت
    فتَّ عن خاتم أخرى طينها ثم ينصرف إلى عبيد فإذا هو قد أعطي بقاء التأبيد، فيقول: السلام عليك يا أخا بني أسدٍ. فيقول:وعليك السلام، وأهل الجنّة أذكياء، لا يخالطهم الأغبياء، لعلَّك تريد أن تسألني بم غفر لي؟ فيقول: أجل، وإنّ في ذلك لعجباً! أألفيت حكماً للمغفرة موجباً، ولم يكن عن الرَّحمة محجَّباً؟ فيقول عبيدٌ: أخبرك أنّي دخلت الهاوية، وكنت قلت في أيّام الحياة:


    من يسأل الناس يحرموه
    وسائل الله لا يخيب

  • صفحة 1 من 5 123 ... الأخيرةالأخيرة

    معلومات الموضوع

    الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

    الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

    المواضيع المتشابهه

    1. العقد الفريد/الجزء الأول/17
      بواسطة الصقرالحنون في المنتدى ملتقى الثقافة و الأدب و الشعر و القصص والروايات
      مشاركات: 4
      آخر مشاركة: 08-02-2010, 11:42 PM
    2. العقد الفريد/الجزء الأول/18
      بواسطة الصقرالحنون في المنتدى ملتقى الثقافة و الأدب و الشعر و القصص والروايات
      مشاركات: 7
      آخر مشاركة: 08-02-2010, 07:04 PM
    3. العقد الفريد/الجزء الأول/16
      بواسطة الصقرالحنون في المنتدى ملتقى الثقافة و الأدب و الشعر و القصص والروايات
      مشاركات: 3
      آخر مشاركة: 08-02-2010, 06:46 PM
    4. العقد الفريد/الجزء الأول/15
      بواسطة الصقرالحنون في المنتدى ملتقى الثقافة و الأدب و الشعر و القصص والروايات
      مشاركات: 4
      آخر مشاركة: 08-02-2010, 06:29 PM
    5. مقدمة أبن خلدون (الجزء الأول)
      بواسطة عاشق الوطنية في المنتدى ملتقى الطلاب السوريين المغتربين في مجال الطب Medical Students
      مشاركات: 22
      آخر مشاركة: 07-29-2010, 08:26 PM

    الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

    مواقع النشر (المفضلة)

    مواقع النشر (المفضلة)

    ضوابط المشاركة

    • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
    • لا تستطيع الرد على المواضيع
    • لا تستطيع إرفاق ملفات
    • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
    •  
    Untitled-1