النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: قصة مدمن ....بقلم ...د. ناظر جعفر بوسكي

العرض المتطور


  1. #1
    مغترب ذهبي
    الحالة : شوالأخبار غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Jul 2010
    رقم العضوية: 2444
    الدولة: مغترب داخل الوطن
    السيرة الذاتية: سوري بيحب بلده
    العمل: مندس . صحفي في اوقات الفراغ
    المشاركات: 649
    الحالة الإجتماعية: عازب
    معدل تقييم المستوى : 77
    Array

    قصة مدمن ....بقلم ...د. ناظر جعفر بوسكي






    كان أبو فتحي يسكن في حارة صغيرة من حواري الشام , سكن فيها منذ أن هاجر من إحدى المحافظات البعيدة ليستقر في ذلك البيت الصغير مع زوجته و أولاده الخمسة . كان معروفا بنزاهته و تفانيه في عمله , فلم يغب يوما عن نوبته المسائية خلال السنوات العشر التي قضاها كرئيس لإحدى الورديات في أحد المعامل الصغيرة , حيث أضحى المعمل جزءا راسخا في دفتر يومياته , و تغلغل صوت ماكيناته الهادر في كل ثقب في مسامات جلده .

    عرف بدقة مواعيده و فكان أول شخص يستلم عمله , و لم يكن يغادر حتى يسلم ما بدأه لمن يحل مكانه في وردية الصباح . و كان لباس عمله الأزرق شيئا مقدسا لدى زوجته التي كانت تستلمه صباحا و تسلمه مساءا إلى أبو فتحي بعد أن تكون قد غسلته و أزالت عنه أثار يومه السابق , حيث يكون أبو فتحي منهمكا في تلميع حذائه ثم يلبسه و زوجته تربت على كتفيه لينطلق خارجا من البيت مبتهجا كمن يذهب إلى حفلة سمر .

    لكن اليوم لم يكن كسابقه من الأيام , لأن أم فتحي لم تلحظ على وجه زوجها تلك اللهفة التي حل مكانها شحوب تسلل من التجاعيد المتجمعة حول عينيه ليغطي تقاسيم وجهه المتعب , فساعدته أم فتحي على ارتداء ثيابه ليقف بتثاقل كأن قدميه كانتا ترفضان السير معه , فطلبت منه أم فتحي البقاء في البيت , و أصرت عليه عندما تلمست جبينه الذي أضحى كموقد عائلة ثرية .لكن أبو فتحي لم يعر كلامها أي أهمية و نهرها قائلا :

    - أنا بحالة ممتازة , و الحرارة على جبهتي من تأثير النوم الطويل , و لو أردت فبإمكاني هدم حائط بضربة من يدي .

    ودعته أم فتحي على الباب ليمضي مترنحا و عيناها ما تزالان معلقتين عليه و ترقبانه من بعيد حتى اختفى في ظلام الحارة. و عندما وصل إلى المعمل أسعده هدير الآلات التي أحس بأنها ترحب بقدومه فكابر على شيء كان يصرخ بداخله و يطلب منه مهلة لالتقاط أنفاس قليلة , و لم يكن قد باشر عمله حتى وقع مغشيا عليه .

    تجمع العمال حوله و أيقظوه برشة ماء على وجهه الذي بدأ كورقة ممزقة من صحيفة قديمة قرأها أحد الجهلاء ثم جمعها في قبضة يده و رماها بعيدا . حاول الوقوف مجددا ليكمل عمله لكن العمال ألحوا عليه للذهاب إلى البيت , فلن يطير المعمل بمن فيه لو أراح بدنه المتعب بجانب أم فتحي هذه الليلة . و لم يعارض رئيس العمال كونها المرة الأولى التي سيغيب فيها أبو فتحي عن ناظريه .

    رضخ أبو فتحي لطلبهم و مشى إلى البوابة متثاقلا و هو يتلفت ناظرا إلى الماكينة التي لم تفارقه لليلة واحدة في سنواته العشر الأخيرة فبدا كجندي فار من معركته ليترك أعز أحبائه بين أيدي الغرباء ليعيثوا بطشا و فسادا فيها . و عندما وصل إلى البيت جمع أشلاءه المبعثرة و وضعها في جثته التي رماها على السرير بجانب أم فتحي التي عرفت سبب عودته فركضت إلى المطبخ لتعود حاملة بيدها إناءا صغيرا مملوءا بالماء الذي غطست فيه قطعة قماش بيضاء , و تضعها على جبينه بعد أن ساعدته في خلع ثيابه .

    كانت تود لو كان بإمكانها معاتبته قليلا , لكنها كبحت هذه الرغبة في أعماقها بعد أن رأته غارقا في تعبه , فمضت تعصر قطعة القماش و تبللها مرة أخرى و تعيدها إلى جبين أبو فتحي و لم يغمض لها جفن حتى أحست به و هو يتسلل هاربا من الحمى إلى سريره و يغط في نوم عميق .

    استيقظت أم فتحي صباحا و تركت زوجها نائما , فكانت فرحة بوجوده في البيت و هذا شي لم تعهده خلال سنين غربتهم . خرجت إلى المطبخ لكنها عادت بعد لحظات و دخلت الغرفة لتبحث في جيوب شرواله لعلها لتخرج منها نقودا تدفع بها ثمن شيء يملأ أفواه صغارها , لكن أبو فتحي استيقظ على صوت دبيب قدميها و التفت إليها قائلا :

    - لا تتعبي نفسك , فجيوبي الممزقة فارغة .

    فرحت أم فتحي لسماع صوته الذي بدا و كأنه تخلص من آثار تلك الحمى , فاتجهت لتجلس على طرف سريره قائلة :

    - صباح الخير ابن عمي , لا تفكر في جيوبك الممزقة و النقود التي طارت منها , فهذا حالنا في نهاية كل شهر , و قد اعتدنا ذلك . سأذهب إلى بيت جارتنا و أطلب منها شيئا للفطور .

    سكت أبو فتحي عن إكمال حديثه و سحب اللحاف مغطيا رأسه لتظهر قدماه من الطرف الآخر , و يبحر باحثا عن حل أوحى إليه للنهوض من فراشه ليلبس ثيابه و يخرج من البيت دون أن يلتفت إلى زوجته التي كانت تحوم حوله . و اتجه إلى المعمل لعله يجد من يقرضه شيئا يعود به إلى البيت و يرسم به بسمة على وجه زوجته وصغارها . لكنه فوجئ بالعمال مجتمعين في الساحة الكبيرة أمام مكتب المدير, و لم تدم دهشته طويلا عندما تذكر بأن اليوم هو عيد العمال, و قد طلبوا منه المجيء لحضور الحفل حيث سيلقي المدير كعادته خطابا بهذه المناسبة .

    كان أبو فتحي ينقل عينيه بين صفوف العمال حين خرج المدير إلى الساحة ليقفوا مرحبين به بهتافات تملأ حناجرهم المتعبة , ثم صاروا ينصتون إليه عندما بدأ يقرا بضعة ورقات أخرجها من جيب بدلته الفاخرة ليفتتح كلمته مهنئا تلك السواعد بيوم عيدها الخالد .


    كان المدير معروفا بخطاباته الحماسية حتى إن الحكومة كانت تستعين به لإلقاء الخطابات في المناسبات الرسمية و الترحيب بضيوف الحكومة القادمين من دول صديقة , فلم تمض لحظات إلا وكان هدير التصفيق ينتشر مجلجلا ليملأ الفراغ الذي تركته تلك الآلات بصمتها , و كان أبو فتحي في مقدمة المصفقين لما وجده في الخطاب من تقدير لجهود العمال الشرفاء ( و هو أولهم ) , و دورهم في بناء الوطن مثلهم مثل باقي الطبقات الكادحة من فلاحين و صغار كسبة يتحدون معا لهدف واحد هو إعلاء راية الأمة عاليا .

    و زاد الحماس بين العمال عندما ذكرهم المدير بأنهم جنود مجهولون , ولن ينتصر جيش في معركة دون هؤلاء الجنود الذين يقدمون الغالي و النفيس دون أن ينتظروا مقابلا لما أعطوا , فسرت دمعة على خد أبو فتحي لأنه شعر بأنه المقصود بكلام المدير فرفع رأسه عاليا بين الحشد و كان مستعدا حينها أن يقتحم جيوش الأعداء بصدره العاري .

    أنهى المدير خطابه المؤثر ليعود هدير التصفيق من جديد بين العمال المصطفين في ساحة المعمل كأنهم جنود مغاوير يلتهمون أعداءهم في ساحة المعركة و فوجئ أبو فتحي عندما سمع أحدهم ينادي باسمه بين أسماء المكرمين تقديرا لجهودهم و تفانيهم في العمل . فصعد المنصة ليستقبله المدير و يضع وساما على صدره و هو يربت على كتفيه مشجعا , ثم نزل ليتلقى التهاني من رفاقه و لم تخل نظرات بعضهم من الحسد على ما حصل عليه هذا الجندي المجهول .

    ثم مضى أبو فتحي عائدا إلى البيت في رحلة أحس بأنها رحلة لا نهاية لها حتى يصل إلى زوجته و يقص عليها ما حدث معه ليؤكد لها ما كان يقوله لها دوما بأنه سيأتي ذلك اليوم الذي ينال فيه التكريم الذي يستحقه , و عندما وصل إلى البيت ركض الأولاد لاستقبال أبيهم الذي دخل البيت بيدين خاويتين , لكنه لم يشاهد تلك الخيبة المرسومة على وجوههم و جمعهم في الغرفة مع أم فتحي و صار يقص لهم قصة الجندي المجهول و دوره في بناء الوطن و الدفاع عن ثرواته و خيراته , فتحولت الخيبة إلى فرح عارم صار يرقص في ذلك البيت الصغير و يتسلق جدرانه و يغوص في كل زاوية من زواياه .

    ثم طلب الأولاد منه أن يقص عليهم ما قاله المدير في خطابه و هو يتحدث عن أبيهم العظيم , فوقف خلف طاولة في الغرفة أمام الأولاد و أمهم و تقمص دور المدير و صار يسرد لهم الخطاب الذي حفظ كل كلماته عن ظهر قلب . فأحسوا بدفء غريب يستولي على بطونهم الخاوية و علا هدير تصفيقهم على كلمات تمجد دور ذلك الجندي المجهول .

    في المساء نام الأطفال مبكرا , و نامت أم فتحي أيضا على غير عادتها , و لم يتمالك أبو فتحي نفسه ليجد نفسه نائما بعد أن شعر بتخمة في بطنه , ولم يذهب أبو فتحي إلى عمله في تلك الليلة فاستغرب رفاقه في المعمل الذين أتوا لزيارته صباحا , لكنهم لم يسمعوا في البيت مجيبا لدقاتهم على الباب وصار الخوف يتسلل إلى قلوبهم , فكسروا الباب ليروا أبو فتحي و عائلته في حالة فقدان للوعي . فتم إسعافهم إلى أقرب مستشفى , و هناك أكد لهم الأطباء بأن سبب الوفاة هو جرعة زائدة من مادة مخدرة غريبة لم يتوصل العلم لمعرفة ماهيتها حتى تاريخ اليوم .








    د. ناظر جعفر بوسكي
رد مع اقتباس رد مع اقتباس  


  • #2
    محظور
    الحالة : kofykofy غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 639
    الدولة: مصر
    المشاركات: 1,849
    الحالة الإجتماعية: متزوج
    معدل تقييم المستوى : 0
    Array



    شكرا شو الاخبار على القصه


  • #3
    << صديق الدرب >>
    الحالة : السكون غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: May 2010
    رقم العضوية: 989
    المشاركات: 6,756
    معدل تقييم المستوى : 752
    Array


    قصة رائعة اخي

    مشكور


    والله يعطيك العافية


    دمت بحفظ الرحمن


  • #4
    الحالة : En.Khaled Alfaiomi غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Feb 2010
    رقم العضوية: 2
    الدولة: Europe
    الإهتمامات: مساعدة الأخرين
    السيرة الذاتية: www.ourtech.net
    العمل: كبار استشاري أمن المعلومات في شركة مايكروسوفت
    المشاركات: 7,004
    الحالة الإجتماعية: متزوج
    معدل تقييم المستوى : 678
    Array

    مشكور ياغالي

    لتوصل معي على الفيس بوك بإمكان اضافتي على الحساب التالي :
    https://www.facebook.com/Microsoft.Engineer
    نصائح واستشارات امنية في مجال امن المعلومات والإتصالات
    كبار استشاري امن المعلومات في شركة مايكروسوفت

  • معلومات الموضوع

    الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

    الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

    المواضيع المتشابهه

    1. قصة الأصمعي مع أبي جعفر المنصور
      بواسطة sad4sad في المنتدى ملتقى الثقافة و الأدب و الشعر و القصص والروايات
      مشاركات: 2
      آخر مشاركة: 07-17-2010, 11:26 PM
    2. جعفر الصادق رضي الله عنه
      بواسطة SHARIEF FATTOUH في المنتدى ملتقى إستراحة المغترب Forum rest expatriate
      مشاركات: 0
      آخر مشاركة: 07-15-2010, 01:13 AM
    3. اللهم ازرقني من فضلك ،،، لا من فضل أم جعفر
      بواسطة Abu anas في المنتدى ملتقى إستراحة المغترب Forum rest expatriate
      مشاركات: 4
      آخر مشاركة: 06-30-2010, 05:15 PM
    4. إصابات نجوم المنتخب الإسباني تُقلق دل بوسكي
      بواسطة Mgtrben Sport في المنتدى الملتقى الرياضي وكرة القدم Football & Sports Forum
      مشاركات: 0
      آخر مشاركة: 05-05-2010, 08:21 PM
    5. الأهلي المصري يظفر بكأس العرب للكرة الطائرة
      بواسطة Mgtrben Sport في المنتدى الملتقى الرياضي وكرة القدم Football & Sports Forum
      مشاركات: 0
      آخر مشاركة: 03-05-2010, 10:42 AM

    الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

    مواقع النشر (المفضلة)

    مواقع النشر (المفضلة)

    ضوابط المشاركة

    • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
    • لا تستطيع الرد على المواضيع
    • لا تستطيع إرفاق ملفات
    • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
    •  
    Untitled-1