- حياة.. هلقبَّلك رجل بعدي؟؟
فاجأها السؤال. ردت عليه بضحكة ماكرة, ضحكة ماطرة تجاهلترذاذها. قلت موضحاً:
- لا أريد نصاً روائياً.. لا يعنيني أن أعرف من يكون ولاكيف أو متى حدث هذا.. أريد أن أعرف فقط هل حدث؟
هي عادة لا تصدق إلا عندمايكون في صدقها إيلامك, ولمرة تمنيت لو أنها كذبت.
كنت أنتظر منها جواباً لكنهالم تملك سوى كلمات كضمادات لاصقة, توضع على عجل لوقف نزيف.
قالت إذ وجدت في سؤالآخر براءة لذمتها:
- قلت مرة إن " الذكاء هو تقاسم الأسئلة" دعني أتذاكى وأسألكبدوري, ما علاقتك بهذه المرأة التي تغطي صورها كل مكان في هذا البيت الذي تستقبلنيفيه؟
ضحكت لسؤالها. فالذكاء ما كان بالنسبة إليها تقاسم الأسئلة بل قلبها. وأناجئت بها إلى هنا كي أرغمها على الاعتراف بحقيقة وجود خالد.. ها هي تقلب الأدوار, وتبدأ باستنطاقي عن فرانسواز.
قررت أن أتراشق معها بجمر الغيرة, خاصة أ، فيالأمر جانباً طريفاً آخر. فهي لا تتوقع حتى الآن أن أكون التقيت بخالد, أو أننيأعرف شيئاً عنه, لاعتقادها أنه ترك هذا البيت منذ سنوات. لكنها حتماً تعرفت علىفرانسواز من صورها المرسومة على اللوحات. ولا تفهم كيف هذه المرأة استطاعت أن تسرقمنها الرجلين الأهم في حياتها.
- صديقة أقيم عندها منذ أشهر.
ثم واصلتمستدركاً بلؤم:
- تلقفتني " الحفر النسائية" بعدك. لكن في كل امرأة مررت بهاتعثرت بك!
ردت بضحكة تخفي لهيب الغيرة:
- لا داع لسؤالك إذن ماذا فعلت فيغيبتي. لكثرة ما تعثرت بي في كل حفرة, أتوقع أن تكون قضيت الوقت أرضاً, هل استمتعتبذلك؟
كانت أنثى لا تختلف عن الأجهزة البوليسية, تحتاج إلى تقارير ترفعها إليهافي كل لقاء عن كل أنثى مارست الحب معها قبلها. وككل المخابرات كانت تجد متعتها فيالتدقيق بالتفاصيل.
تمادياً في إيلامها, تجاهلت فضولها. فهي تدري أن قصة لا تبوحبتفاصيلها هي قصة عشقية, ووحدها المغامرات العابرة تغذِّي آذان الأسرّة التي لاذاكرة لها.
ربما لهذا هي لم تبح يوماً بحبها لخالد ولا لزياد. فهل كان حبها أكبروأجمل من أن يحكى خارج كتاب؟
أثناء تأملي ولعها بي, كلما ازدادت يقيناً بخياناتيلها, وقعت على مفارقة عجيبة, وأنا اكتشف أن وفاء رجل لامرأة واحدة, يجعله الأشهى فيعيون بقية النساء اللائي يصبح هدفهن الإيقاع به, بينما خيانته إياها تجعله شهياًلديها!
تذكرت خالد الذي قد يكون مثلي خسرها في الماضي لفرط إخلاصه لها, ثم أصبحجديراً بغيرتها مذ تلقفته فرانسواز, تماماً كما أصبح فناناً جديراً بالاهتمام فيالجزائر, مذ غادرها, لتتلقفه هنا صالات العرض الباريسية!
وهكذا الذين يقولونإننا نحتاج إلى الأكاذيب الصغيرة لإنقاذ الحقيقة.. ربما عليهم أن يضيفوا حاجتنا إلىشيء من الخيانة, لإنقاذ الوفاء, سواء لوطن.. أو لامرأة.
حاولت أن أستدرجهاللحديث عن خالد, مستفيداً من جلوسنا عند العشاء متقابلين للوحة عليها جسر:
- دوماً كانت الجسور ثالثنا.. أتحبين هذه اللوحة؟
أجابت وقد فاجأها سؤالي:
- ماعدت أحب الجسور. مذ اغتيل سائقي " عمي أحمد" بسببي ونحن على الجسر, كرهت الجسور, خاصة أن لي جدَّا انتحر بإلقاء نفسه من جسر سيدي راشد, وهذه الحادثة التي لم تكنتعنيني أصبحت تحضرني بين الحين والآخر. البارحة مثلاً فكرت وأنا أعبر جوار برجإيفيل أننا لم نسمع بأحد انتحر بإلقاء نفسه من برج, فالمنتحر لا يبحث عن المكانالأعلى للانتحار بقدر ما يعنيه زخم الحياة. هو يختار الجسر لأنه يريد أن يشهدنا علىموته, ينتهز فرصة ذلك الزخم الحياتي لكي يقضي على الحياة, عساها تنتحر بانتحاره, لأنه برغم كل شيء لا يصدق أنها ستستمر بعده.
كانت تبدو أجمل, عندما تتحدث فيأشياء جادة. رحت أستدرجها لحوار ظننته سيكون كذلك:
- إن كنت تكرهين الجسور , لماذا تشغل كل رواياتك؟ اشرحي لي هذا اللغز الذي لم أفهمه!
عادت إلى مراوغتهاالساخرة وردت:
- ثمة مقولة جميلة لبروست :" أن تشرح تفاصيل رواية كأن تنسى السعرعلى هدية". مثله لا أملك شروحاً لأي شيء كتبته.
علَّقت مازحاً:
- طبعاً.. أفهم تماماً أن تكوني امرأة ملتزمة بـ " إيتيكيت" الهدية!
ثم واصلت- وبالمناسبة, سؤالي كان بسبب لوحة زيان اشتريتها تمثل جسراً, وكنت أنوي أن أهديكإياها.
قاطعتني:
- أرجوك لا تفعل. قد لا أعلقها أبداً في بيتي.
أجبتها وقدوجدتني أتحدث مثل فرانسواز:
- كنت سأهديك إياها لتعلِّقيها على قلبك.. لا علىجدران بيتك.
قالت:
- ما عاد في حوائط قلبي مكان لأعلِّق عليه شيئاً.
كانتمحاولتي الأخيرة لاستدراجها للحديث عنه. انتابتني بعدها حالة كآبة.
أكنت حقاًأحبها؟ أم أحب وجعي في حضرتها؟ امرأة لا أريدها ولا أريد أن أشفى منها, كان في طفرةألمي بها شيء مطهر يرفعني إلى قامة الأنبياء.
قالت وقد لاحظت حزني:
- لا تحزنهكذا.. يكفيني هذا الفستان هدية منك. احتفظ أنت باللوحة ما دامت تعجبك. اعذرني, أصبحت أتشاءم من الجسور.
أشعلت سيجارة وقلت وأنا أتأملها وهي تقطع شريحةاللحمة:
- أما زلت تبحثين عن آباء لرواياتك؟
ردت ضاحكة:
- ما زلت..
- روايتك التالية سأكون أباها .. وأمها.. وجد أمها.. وستكتبينها " بلا أمّك"!
كانلنا قاموس من الغزل الجزائري لا غنى لنا فيه عن المسبّات. ضحكت وهي تستعيد مفرداتشراستنا العشقية وقالت وهي تقّبلني:
- نشتيك يلعن بوزينك.. ويلعن بو الروايةمتاعك..
كنت أفكر لحظتها أن بعد كل متعة كان الحب يحصي عدد الأطفال الذين لمأستولدها إياهم. ولكن بعد كل حرمان جسدي كان الأدب يفرك كفّيه مستبشراً بعمل روائي. ولا بد لهذه المرأة المقصَّرة في الكتابة على الانكتاب, أن تنجب بحرمانها اليوم منينصها الأجمل. قررت ألا يخرج قلمها سالماً من هذا البيت, بيته.
بعد العشاء عندماوضعت على الطاولة سلة الفواكه وصحن الفراولة التي كنت أحضرتها لعلمي بحبها لها, قلتمازحاً:
- احذري الفراولة.. برغم كونها عزلاء فقد تشعل حرباً عالمية. قرأت أنإحدى الرسائل المشفرة التي كانت توجهها إذاعة المقاومة الفرنسية التي كان يشرفعليها ديغول في لندن أثناء الاحتلال الألماني, كانت تحمل مساء 5 حزيران 1944 هذهالرسالة المشفرة:" أرسين يحب المربى بالفراولة" وكان ذلك إعلاناً بإنزال الحلفاءجيوشهم على الشواطئ الفرنسية!
قالت متعجبة:
- حقاً..؟
قلت مازحاً:
- لاتخافي.. خطورتها ليست في قوتها.. إنما في حمرة غوايتها. وربما لهذا يصعب على الناظرإليها مقاومتها. على غير بقية الفواكه هي غير مكترثة بأن تحمي نفسها بقشرة, أوتلتحف بغلاف. إنها فاكهة سافرة ولذا هي سريعة العطب.
كانت عيناها تتبعان يدي وهيتمرغ حبة الفراولة في صحن السكر.
قلت وأنا ألقمها إياها بذلك البطءالمتعمد:
- لا أدري من ألصق للتفاح شبهة الخطيئة. الخطيئة لا تقضم, بل تلقم, والمتعة ليست سوى في كمية المواربة بين الفعلين.
في الحبة الثانية, كنت توقفت عنالكلام, كي أعلمها فضائل الصمت في حضرة الفراولة.
تركت لثغرها أمر مواصلةالتفكير في متعة لا يمكن لها أن تدوم, حتى لا نجد أنفسنا يوماً مثل زوربا نتقيأهالنشفى منها. فالإفراط في الملذات.. تراجيديا إغريقية.
تراها أدركت أنني كنتأعدها لمتعة مع وقف التنفيذ, وأنني ألقمها فاكهة الفراق!
لم أتوقع أن يجرؤالحب على التخلي عنا هنا حيث قادنا, ولكن, أكان يمكن أن يحدث شيئاً بيننا في ذلكالبيت المزدحم بأشباح عشاق, لم يكن لهم الوقت الكافي لتغيير شراشفهم وجمعأشيائهم.
ما كانت هي ولا كنت أنا. تحدثنا لغة ليست لغتنا. قلنا كلاماً غبياًلفرط تذاكينا. كنا نتكلم ثم نصمت فجأة, كي لا نقول أكثر من نصف الحقيقة, محتفظينلألمنا بنصفها الآخر.
طوال السهرة , كنا نعاند تعب الأسئلة, نغالب نعاس الأجوبة. أما كان يحق لصبرنا من سرير تتمدد عليه رغباتنا المؤجلة؟
امرأة كانت رائحتها, قميص نومها ضمن لوازم نومك. وأنت الآن تستطيع النوم معها, ولا أنت تدري ماذا ستفعلبعدها.
وكنت في تاريخ بعيد لحبكما, تستبقيها لحظة الفراق قائلاً " لا تغادري.. كل أعضائي تشعر باليتم عندما تغيبي" وها أنت يتيم في حضرتها. يبكيها كل شيء فيك ولاترى.
وكنت تقول لها, وأنت تغدق عليها بتلك اللذة الشاهقة " سأفسدك إمتاعاً حتىلا تصلحي لرجل غيري" وكنت تظن عندما افترقتما أنك ما عدت تصلح لامرأة بعدها. وهاأنت تكتشف أنك لم تعد تصلح حتى لها. فهل استدرجتها إلى هنا لاستخراج شهادة الموتالسريري لحب
█║S│█│Y║▌║R│║█
كان حياً بغيابكما؟
تمددت جواري في ذاك السرير, أنثى منزوعةالفتيل. ضممتها إلى صدري طفلة وديعة, تلوذ بي, كذلك الزمن الذي كانت تسألني فيهفزعة " هل ستعيش معي؟" , فأطمئنها ورأسي يتململ بحثاً عن المكان الأدفأ في صدرها " سأعشش فيك", فتلح بذعر العشاق " حقاً لن نفترق؟" فأجيب بسذاجتهم " حتماً لنننشطر".
انتابني خوف مفاجئ بفقدانها, وأنا أكرر صمتاً الحركة ذاتها بحثاً عنمكان لرأسي في صدرها. ويصطدم وجهي بموسلين ثوبها الأسود الذي لم تخلعه. شعرت أنالموت سيسرق أحدنا من الآخر وأننا قد لا نلتقي أبداً.
عاودني ما قاله ناصر. ماذالو دبَّر لها زوجها ميتة " نظيفة", أو ماذا لو اغتالها الإرهابيون مثلاً.
لم يكنهاجسي احتمال موتي أنا, إنما قصاص العيش بعدها.
كانت فكرة موتها الحقيقية, امتحاناً فاضحاً لعشقي إياها. فأنت لا يمكن أن تدرك مدى حبك لشخص, إن لم تتمثل محنةالغياب, وتتأمل ردود فعلك, وأحاسيسك الأولى أمام جثمانه.
يوم رحت أختبر وقعموتها الحقيقي عليّ, كدت أموت حقاً. تسارعت نبضات قلبي, وفاجأتني حالة اختناق وضيقفي التنفس ظننتها ستودي بي. طلبت رقمها, ثم قطعت الخط لأتأكد من أنها على قيدالحياة. كنا في قطيعة طويلة, غير أني عندما استعدت أنفاسي حقدت عليها. كان يمكنللموت أن يختلسني في غفلة منها وتواصل بعدي تبذير كلمات ضنّت بها عليّ في حياتي.. لتشيّد بها صرح ضريحي في رواية.
كنّا متمددين بثيابنا في غرفة فرانسواز, تحيطبنا صورها المرسومة على اللوحات.
سألتني بنبرة ما قبل البكاء وهي تلتصق بي:
- أما عدت تحبني.. أم أنت تفكر بها؟
لم أجب.
في مثل هذه الحالات لا تصل الكلماتحية, وحدها التي لا نقولها تنجو من الرصاص الطائش للبوح.
ضممتها إلى صدري. وقلتوأنا أقبلها:
- نامي حبيبتي.. تصبحين على كتاب!
***
استيقظنا صباحاً على فاجعة الضوء.
كما في تحميضالصورة: الضوء أول فاجعة.
قالت مذعورة:
- كم الساعة؟
قلت وأناأمازحها:
- لا أدري.. بأمر منك قررت ألا أنظر إلى الساعة!
نظرت إلى ساعة قربطاولة النوم وصاحت:
- يا إلهي ! إنها الثامنة والربع.
نهضت من السرير نحوالحمام تصلح من هيئتها.
هكذا فجأة نفذ الوقت.
يوم ماكر يتربص بسعادة تتثاءبلم تغسل وجهها بعد. سرير غير مرتب لليلة حب لم تكن. عبور خاطف لرائحتها على مخدعامرأة أخرى.
قالت وهي تعيد ذلك الفستان الأسود إلى كيسه بعد أن ارتدتثيابها:
- أبإمكانك أن تطلب لي تاكسي؟
- ابقي لتناول قهوة الصباح معي.. ثمامضي.
- لا أستطيع.. أفضّل أن أعود الآن هذا أأمن.
أحزنني ذلك كثيراً. فكمانتظرت صباحاً أبدأه معها.
قلت وأنا أرافقها لانتظار التاكسي:
- ما جدوى كلاختراعات الإنسان إن لم يخترع آلة لإيقاف الزمن بعد.. كم تمنيت أن نتناول فطورالصباح يوماً معاً.
علَّقت بنبرة تشي بمرارة خيبتها:
- وما جدوى أن يخترعالإنسان آلة لإيقاف الزمن, إن كان سينفق ما كسب من وقت لمجرد تناول الفطوروالعشاء!
أحببت ذكاء تلميحها, تلقيته بابتسامة صامتة. كانت على حق.
كنتلحظتها أضع يدي في جيب سترتي لشدة البرد الصباحي, حين عثرت على حبات الشوكولاطةالتي أعطاني إياها زيان عندما زرته في المستشفى.
راودتني فكرة ماكرة أسعدتني. كنت ما أزال أفكر في الطريقة المثلى لتنفيذها, عندما لمحت سيارة الأجرة في آخرالشارع تتجه نحونا, فلم يبق أمامي إلا أن أقبِّلها مودّعاً, وأمد لهابحبتين منهاقائلاً:
إنها شوكولاطة أهداني إياها صديق زرته في المستشفى, تناوليها حتى لاتبقي على خواء.
ظلت لبرهة تتأمل قطعتي الشوكولاطة. حتماً تعرَّفت عليها منماركتها المميزة, لكنها لم تقل شيئاً.
ركبت التاكسي وهي تحت وقع المفاجأة, بدونأن تفهم ما الذي أوصلني حتى غرفة زيان في المستشفى, وما الذي أوصل إلى جيبي تلكالشوكولاطة التي أحضرتها له.
شعرت, وأنا عائد إلى البيت, بفرحة من فاز في اللحظةالأخيرة في جولة شطرنج شاقة. لكن فرحتي لم تخل من مرارة موجعة ترافق وعينا بموت شيءجميل فينا.
***
لا تحزن. هي ما جاءت لتبقى, بل لتشعرك بفداحة رحيلها.
ماذا تستطيع أنتفعل ضد امرأة , تذهب إلى الحب بعدّة ساحر, تبتكر من أجلك فنوناً خداعية, تمارسأمامك قلب الأشياء, إخفاء بعضها, استحضار أخرى, وتحويل كل ما هو حولك إلى وهم كبير. تضعك في صندوق زجاجي, وتشطرك في استعراض سحري إلى اثنين, واحد هو أنت, والآخر نسخةمن رجل آخر. ثم تعيد إلصاق جزءيك في كتاب.
ساحرة, لا تدري أخرجت من بين يديهاثريَّا أم فقيراً؟ سعيداً أم تعيساً؟ أتراك أنت أم غيرك؟ أخرجت من قبعة خدعتهاحمامة بيضاء.. أرنباً مذعوراً.. أم مناديل ملوَّنة للدموع؟
خطر لي وأنا أضعساعتي من جديد, أن الحب ساحر يبدأ استعراضه بخديعة تجريد ضحاياه من ساعاتهمالمعصمية.
هل فقط عندما تتلاشى أباطيل السحر, وخدع الحواة, يمكننا النظر إلىالساعة؟
إنها التاسعة والنصف صباح أحد.
قهوة مرّة سوداء أتناولها وحدي فيمأتم الحب لمواجهة بياض الوقت, الذي لا أدري كيف أنفقه في يوم ممطر كهذا.
وضعتشيئاً من الموسيقى, ثم رحت أخفي آثار ما لم يحدث في بيت غادرت زائرته, صافقة بابالحلم خلفها.
بدأت بتفقد غرفة النوم. دوماً كنت أكره الأسرّة التي لا رائحة لها, والنساء المهووسات بنشل غسيلهن على حبل التشاوف. لكن هذه المرة كان علي أن أحتاط منوشاية الأنوثة. ففرانسواز ستعود غداً . لكأنها غابت فقط كي تترك لي ما يكفي منالوقت لنصب سرداق عزائي.
عندما نراجع حياتنا نجد أن أجمل ما حدث لنا كانمصادفة, وأن الخيبات الكبرى تأتي دوماً على سجاد فاخر فرشناه لاستقبالالسعادة.
قررت عن أسىً ألا أخطط لشيء بعد الآن, عدا الاستعداد لمغادرة هذا البيتقبل خروج زيان يوم الأربعاء من المستشفى. فعليَّ أيضاً ألا أترك ما يشي بمروري. وقبل أن أنسى, ذهبت لإخفاء أشرطة الأغاني القسنطينية, خشية أن أتركها في جهازالتسجيل, فيستنتج أنني أقمت هنا.
أثناء تفكيري في كل التفاصيل, تذكرت أنني لمأزره منذ يومين, وأنه قال لي وهو يمدني بقطع الشوكولاطة تلك, إنه كان يفضل لو جاؤوهمكانها بشيء من "الزلابية" أو " قلب اللوز" , مازحته:
- رمضان ما زالبعيداً.
- لكن المريض يشبه الصائم. إنه يقضي وقته في اشتهاء المأكولات, خاصة تلكالمرتبطة بذاكرة طفولية أو عاطفة.
وجدت في فكرة الذهاب إلى أحد الأحياءالمغاربية التي لا تعترف بالعطل الفرنسية لأشتري له شيئاً من الحلويات الجزائرية, قبل أن أعوده في المستشفى, أفضل ما يمكن أن أفعل في يوم أحد, خاصة أن شعوري بالذنبكان يتزايد تجاهه.
ألهذا رحت أجول في السوق العربيّ, بحثاً عن كل ما يمكن أنيحمل من الجزائر في كيس؟
اشتريت علبة صغيرة من التمر, ورغيفاً من الكسرة له, وآخر لي, بعد أن قال لي البائع إن سيدة تعد هذه الأرغفة كل يوم وإنها تنفذبسرعة.
عجبت لذلك العالم الذي كنت أجهله عن جزائر أخرى نقلت بكامل منتوجاتهاوعاداتها إلى حي احتلته الوجوه السمر. وتذكرت قولاً ساخراً لمراد " عدا أمك وأبيك.. تجد في هذا البلد كل شيء".
توقفت بعد ذلك في مطعم شعبي يدّعي تقديم " كسكيملكي". أقنعت نفسي لجوعي أنه كذلك. كنت في الواقع أريد أيضاً هدر بعض الوقت حتىتحين ساعة الزيارات.
وصلت إلى المستشفى عند الساعة الثانية, كان في المستشفىحركة غير عادية, بسبب الزيارات التي تتزايد أيام العطل.
سعدت لمجيئي حتى لا يشعرزيان بوحشة أكبر هذا اليوم بالذات. سعدت أيضاً لـ" حمولتي الوطنية", كانت هذه أولمرة أحضر له أكلاً بدل الصحافة التي لا تزيده إلا همَّا.
█║S│█│Y║▌║R│║█
طرقت الباب بفرحةالمباغتة, ثم فتحته كعادتي متقدماً خطوة نحو الأمام, لكنني فوجئت بعجوز مشدودة إلىأنبوب الدواء تشغل مكانه في ذاك السرير. هزيلة, شاحبة اللون, لها نظرات فارغة, حلَّمكانها حين رأتني تعبير يستجد بي, مطالبة بشيء ما لم تفصح عنه ولا أناأدركته.
بقيت برهة مذهولاً أنظر إليها, قبل أن أعتذر وأغادر الغرفةمسرعاً.
قصدت مكتب الممرضات في الطابق, أسأل عن مريض الغرفة رقم 11. كنتأثناء ذلك أهدّئ من روعي, فقد يكونون قد اصطحبوه لإجراء فحوصات أو للتصوير الشعاعي, أو ربما غيروا غرفته ليس أكثر, ذلك أنني تذكرت أنه قال لي مرة منذ أكثر من أسبوعين " قد لا تجدني في هذه الغرفة, قد أنقل إلى جناح آخر", قبل أن يعلّق مازحاً " أناهنا عابر سرير".
توقعت أن تدلني الممرضة على الرقم الجديد لغرفته, لكنها سألتنيإن كنت من أقاربه. أجبت " نعم". قالت:
- لقد اتصلنا بالرقم الهاتفي الذي فيحوزتنا لنخبركم بتدهور مفاجئ لصحته ليلة البارحة, وتركنا رسالة صوتية نطلب حضورأقاربه, ولم يتصل بنا أحد وعاودنا الاتصال على الرقم نفسه هذا الصباح دونجدوى.
بين الذعر والعجلة سألتها:
- متى كان هذا؟
- عند العاشرة والنصفصباحاً.
كان ذلك الوقت الذي خرجت فيه لأشتري حاجيات للأكل قبل أن تغلق المحلاتالغذائية ظهر الأحد.
عادت إلى دفتر كبير كان أمامها:
- الاتصال الأول كانالبارحة عند التاسعة والربع مساءً.
استعجلتها:
- وهل بإمكاني أن أراهالآن؟
ردت بنبرة من تدرب أعواماً على مواساة الغرباء:
بدا لي كأنها لفظتالخبر بالعربية. قام القلب بترجمته الفورية إلى لغة الفاجعة, واختصر كل الجملة وماتلاها بعد ذلك من واجب المواساة في كلمة واحدة, نزلت علي كصاعقة من ثلاثةأحرف.-Je suis desolee monsieur..Il est decede.
لم أفهم كيف أن ثلاثة أحرف مجتمعة في ذلم السياق تصبح برغم انسيابهاالموسيقي مؤلمة إلى ذلك الحد. حتى لكأن التاء المفتوحة في آخرها ليست سوىتابوت.
كان احتمال موته قائماً, لكنني لم أتوقعه أن يأتي سريعاً, ولا بهذاالتوقيت. هذه المصادفات مجتمعة باتت أكثر تعسفية من أن تكون مصادفات. لها إصرارالقدر في عبثيته.
قالت بتأثر:
- أمر مؤلم أن يموت قبل مغادرته المستشفىبيومين. كان يبدو سعيداً بخروجه. أنا نفسي فؤجئت عندما قيل لي هذا الصباح إنه قضىليلة أمس في قسم العناية الفائقة.
سألتني بعد ذلك وهي تراني أقف لحظات مذهولاًأمامها بدون أن أقول شيئاً, إن كنت أريد أن أراه. أجبتها "لا". أمدتني بورقةلأوقعها إن كنت أنوي استلام أشيائه. لمحت في الخزانة التي فتحتها, علبة الشوكولاطةالفاخرة فوق كومة ثيابه. أجبتها إنني أفضل أن أترك ذلك فيما بعد.
تركتهاوغادرت المستشفى مذهولاً, مشلول الأحاسيس, كأن دموعي تجمدت في براد يحوي الآن ماكان "هو".
أخذت الميترو محملاً بالكيس ذاك. بكل ما أحضرته له,وما عاد في حاجةإليه. حاولت أن أتخلص منه بعد ذلك, بالتصدق به, في إحدى المحطات على أحد مشرديالميترو, فارتاب في أمره, ولم يبد حماسة في أخذه مني. كان يفضل مكانه, قطعة نقديةمن عشرة فرنكات, يشتري بها نبيذاً, فوجدتني أعطيه الكيس وعشرة فونكات لأقنعه بحسننواياي.
هو سيد التهكم والصمت الملتبس, ما ترك لي فرصة لكذبة أخيرة, كنتأعددتها لأبرر انشغالي عنه.
ربما كان يحتاج إلى تلك الكلمات التي احتفظت بهاخوفاً عليه. كان يحتاج إلى الحقيقة, فأعفاني بموته من مزيد من الكذب.
قررالعبور إلى سريره الأخير بينما كنت أنا أشغل سريره الأول.
أهداني بيته, نساءه, وأشياءه, وما ترك لي فرصة لأهديه ولو بعض قطع من الزلابية, وأحقق أمنيته الأخيرةالبسيطة, بساطة من شبع غربة..وما بقي له سوى جوع الوطن.
أستعيده متهكماً, تهكمذلك الغياب الشارد الذي يسبق اكتمال الغياب. كم من الأشياء كنت سأقولها له اليوم, لو لم أكن منهك القول, مذ أصبح بيننا كل هذا البياض. منذ متى وهو ذاهب صوب الصمتالأبيض؟
عندما وصلت إلى البيت, شعرت وأنا أدخله بهول الفاجعة. بصدمة الواقع الذييدفعك تحت عجلات قطار ركبته بنية الحلم.
ارتميت على أريكة الصالون منهكاً كحصانسباق.
كان عليَّ بدءاً أن أتوقف عن الركض قليلاً. أن أجلس لأفهم ما الذي أوصلنيإلى هذا البيت, أنا الذي كنت ألهو بممازحة الأدب, أكنت أمازح القدر دونعلمي؟
أدخلني الموقف لغرابته في حالة ذهول من أمري. رحت أتأمل مشهداً كأنني لستبطله.. كأنني شاهدته في زمن ما.
يوم قرأت سيرة ذلك الرسام, وجدتني أتماهى معه فيأمكنة كثيرة من تلك القصة. تمنيت أن أكرر حياته بما تستحق الإعادة من ذكاء. ولكن منيتذاكى مع "المكتوب"؟ المكتوب الذي بدأ بالنسبة لي بذلك الكتاب الذي لا يمكن أنتخرج من قراءته سالماً.
أمنه جاءت اللعنة؟ أم من "حياة"؟ تلك المرأة التي كانتتحمل اسماً يعني عكسه كعادة العرب في تسمية ما يرون فيه شراً بنقيضه؟
أم ترىاللعنة تكمن في الجسور التي ما زال إحداها معلّقاً قبالة هذه الأريكة؟
هناأمامها عاش زيان حقيقة موت زياد الذي لم يكن يفصله عن التطابق به سوى حرف.
وفيحضرة هذه الجسور أجهش راقصاً على إيقاع زوربا بذراعه الوحيدة يوم أخبروه باغتيالأخيه الوحيد.
أمصادفة إذا كانت الجسور مبنية من الإسمنت, المادة التي تضمر فيقتامتها غضباً مكتوماً وشراً صامتاً, كمن يدبر لك مكيدة؟ طالما شككت بنوايا الجسور, مذ اكتشفت في كل هارب شبهة جسر, لا أحد يدري لأي الطرفين ينتمي.
لكن زيان لم يكنهارباً. كان مهرباً لما ظنه وطناً.
يالغباء الرجل, بين ما يعتقده جسراً, ومايعتقد الجسر أنه وطن ثمة جثتك. فالجسر لا يقاس بمدى المسافة التي تفصل طرفيه, بلبعمق المسافة التي تفصلك عن هاويته.
عندما تولد فوق صخرة, محكوم عليك أن تكونسيزيف, ذلك أنك منذور للخسارات الشاهقة, لفرط ارتفاع أحلامك.
نحن من تسلَّق جبالالوهم, وحمل أحلامه.. شعاراته.. مشاريعه.. كتاباته.. لوحاته, وصعد بها لاهثاً حتىالقمة. كيف تدحرجنا بحمولتنا جيلاً بعد آخر نحو منحدرات الهزائم؟
من يرفع كلالذي وقع منا في السفح؟
عندما دخلت فرنسا بعد سبع سنوات من الوقوف ذليلةٍأمام تلك القلعة المحصنة كعش نسر في الأعالي, راح خيالة قسنطينة وفرسانها الذين لميعتادوا على مذلة الأسر. يقفزون بخيولهم من على الجسور عائدين إلى رحم الوديان. كانآنذاك الموت قفزاً نحو منحدراتها الشديدة, آخر نصر لرجال لا مفخرة لهم سوى أنهمأبناء الصخرة.
بهم انتهى زمن الموت الجميل, وأصبح وادي الرمال مجرى لنفاياتالتاريخ, تطفو فيه مع قمامة المدينة وأخبار لصوصها المحترمين, جثث أبنائها الجميلينوالبائسين.
لا شيء يستطيع أن يمنعك من تسلق " جسور الموت" حتى ذلك الحزام الأمنيالذي, بعد أن كثرت حالات الانتحار, أحاطوا به خصر الجسور لتصبح أعلى. قد يمنعك أنتطل على الموت, ولكن لا يمنع الموت أن يطل عليك, حيث أنت في حضيضخيباتك.
فجأة, مثل حياة, بدأت أتطير من هذه اللوحات. ووجدت في جلوسي أمامها, استفزازاً صامتاً لقدر لا قوة لي على مواجهته.
سعدت أنني سأغادر هذا البيتقريباً, وأنها ستبقى هنا. ثم تذكَّرت اللوحة التي اشتريتها وما زالت معروضة حتىانتهاء المعرض. فكرت أن أكلِّف فرانسواز بإحضارها. ثم فكرت في غرابة سفري مع جثمانزيان برفقة تلك اللوحة.
أوصلني التفكير إلى حقيبتي التي لا بد أن أعدها, وأشياءزيان التي علي أن أقوم بفرزها بسرعة, لأنني لا أدري متى سيكون سفري إلى قسنطينة حسبتاريخ الرحلات.
ووجدتني أستعيد ما كنت عشته منذ سنتين بعد اغتيال عبد الحق, عندما كان عليَّ أن أجمع أشيائي في بيته الذي كنت أقيم فيه بين الحين والآخر في تلكالفترة التي كان فيها الصحافيون يغيرون عناوينهم يومياً, والتي كان عبد الحق بدورهلا يعرف عنواناً ثابتاً مذ استشعر خطر اغتياله.
ربما كان الأمر أهون يومها, لأنني لم أكن معنياً سوى بجمع أشيائي, بينما تركت لزوجته عذاب التكفل بأشيائه. غيرأن وجعي كان بسبب كل ما كانت حياة قد أحضرته.حتى إنّ زيارة بعد أخرى, أصبح البيتينقسم إلى أشياء عبد الحق البسيطة, وتلك الأشياء الأخرى الفاخرة, التي كانت تهربهامن بيتها, وتأتي بها, مشفقة على بؤس شقة, لا علاقة لها بفخامة مسكنها, غير مدركةأنها تؤثث شقة صديقي!
في البدء كنت سأشرح لها الحقيقة, ولكن كنت أحببت سوء الفهمالعشقي الذي تورطنا فيه, وإغراء تلك العلاقة الملتبسة التي تجمعنا.
وكان بإمكانعبد الحق, كلما مر, أن يعرف وتيرة زياراتها من مستجدات البيت, من مناشف جميلة, وشراشف أنيقة, ومنافض من الكريستال, ولوازم مطبخ, وروب للحمام.
بدأت أتعود أنأراها تأتي من بيتها محملة دائماً بكل ما تقع عليه يداها, حتى الأجبان المستوردة.. وألواح الشوكولاطة.. وعلب السجائر. بل حدث لفرط إجرامها العاطفي المغلف
█║S│█│Y║▌║R│║█
بالعطاء, أنأهدتني ثياباً ومصاغاً اشترته نيابة عني لزوجتي!
كانت امرأة سخية في كل شيء. فيخوفها عليك, في انشغالها بك, في اشتهائك, في إمتاعك.. وحتى في إيلامك.
ذلكالسخاء العشقي الذي تشعر عندما تفقده بفاجعة اليتم الأول, لأنك تعي أن لا امرأةبعدها ستحبك بذلك الحجم ولا بتلك الطريقة. ذلك أنك أثناء انبهارك بها, كانت تلكالمرأة تعيث فيك عشقاً وفسقاً وكرماً, وتفسدك وتخرِّبك وتدلَّلك وتشكّلك, بحيث لنتعود تصلح لامرأة عداها.
عندما مات عبد الحق, أصبح السؤال ماذا أفعل بتلكالأشياء. أأتركها في البيت لتتصرف بها زوجة عبد الحق كيفما اتفق, أو آخذها إلى بيتيلأقاصص بها نفسي؟
فأصعب من اختراع قصة مقنعة لزوجتي عن مصدرها, معايشتي اليوميةلتلك الأشياء التي ارتبط كل شيء منها بذكرى تحرّض الشجون عليك, وتعيدك إلى ذلكالجحيم غير المدرك لسعادة كانت تحمل في فرحتها بذور تعاستك الآتية.
كمثل صدقةجارية, كان عشق تلك المرأة قصاصاً جارياً. ما عرفت امرأة بعدها إلا وكان فيهاقصاصك. وما استعملت شيئاً أهدتك إياه إلا وعذبت نفسك به, وما ضممت إلى صدرك غيرها.. إلا وهجم عليك الصقيع.
كيف تنجو من وجع المقارنة؟ هي التي أغدقت عليك بما لنتعطيك امرأة بعدها. أكانت تضمر لك في كل ما أعطته ألماً, ذلك أن العشق وحده في كلما يعطيك يضمر قصاصه المستقبليّ.
ما الأرحم إذن, ما يتركه لك الموتى حين يرحلون؟أم ما يتركه الحب بعد رحيل الأحياء؟
أطفأت في منفضة الألم أسئلتي, وذهبت صوبغرفة زيان أفتح ورشة الموت.
***
هي ذي الحياة بأشياء موتها التي لا تموت. هس ذي تلكالأشياء التي تظنك تنالها فتنال منك, لأنها ستعيش بعدك.
في كل موت أنت أمامالموقف نفسه. كما كنت أمام أشياء أبيك , وغرفة نومه التي أورثك إياها, بخزانة تضمبدلات وثياب وأشياء رجل من عمره,منامته, روب البيت السميك, والآخر الحريري, ثيابهالداخلية ذات الماركة الفرنسية نفسها دائماً, مفكرته, خف البيت الصوفي, نظاراته, ساعته, كنزاته, أدويته المكدسة لأشهر مقبلة, ظناً منه أنه بشرائه كميات أكثر يشتريله عمراً أطول.
في غرفة نوم أبيك, ثم في بيت عبد الحق, والآن أمام أشياءزيان, تفهم أنك تساوي أرخص من أي شيء تملكه.
وإلا .. كيف لمنفضة ثمنها 10 فرنكاتأن تعيش بعدك؟ كيف لساعة ثمنها 500 فرنك أن تواصل عقاربها الدوران غير آبهة بتوقفقلبك؟ كيف لسرير؟ كيف لكرسي؟ كيف لحذاء؟ كيف لجورب ما زال عليك عرق قدميك ألا يكترثلموتك؟
وكيف أن الأشياء التي كلفتك الأكثر هي أول من يخونك, وأن تلك التي كدتتفقد بسببها حياتك, ما تكاد تفرق الحياة حتى تذهب لغيرك؟
السؤال نفسه يعود: كيفأواجه الحضور الظالم, الحضور الرهيب البارد, لتلك الأشياء غير المعنية بموتٍ مابردت جثته بعد؟
طبعاً " لا أكثر خبثاً من البراءة" وأنا تعلَّمت ألا أنخدعببراءة حضورها الألفويّ الصامت. ألا أصدق حزنها الشامت الذي يقول لك, إنّ أصحابهالم يعودوا هنا, وإنها على يتمها ستعيش بعدهم. وقد تذهب إلى أعدائهم, كما يذهب حذاءجندي ميت إلى عدوّه البائس في ساحة قتال يكسوها الثلج.
تريد أن تختبرالأشياء بموتك. اغلق الباب خلفك, وامضِ.
أول سارق ماكر هو ذلك الغبار الذي سيضعيده بقفازه الترابي على أشيائك, بدون أن يحركها من مكانها. دون أن يلفت انتباه أحد, ستصبح له بحكم الغياب.
الغبار الذي يتقدم مكتسحاً كل مكان تغيبت عنه, ليس سوىتمرين لما سيقع بعد موتك.
بعدها ستمضي تلك الأشياء, لأولئك الذين سيسطون عليها, لا بحياء الغبار, إنما بوقاحة اللصوص, كما في قصة زوربا, عندما كانت تلك العجوزأثناء احتضارها, ترى بعينيها الناس الذين جاؤوا بذريعة مواساتها, يتسابقون إلى سرقةأشيائها, مستفيدين من عجزها عن الدفاع بعد الآن عما حافظت عليه حتى آخرالعمر.
المؤلم إغلاقها عينيها على مشهد الفقدان. غير دارية أين عليها أن تنفقجهدها الهزيل لحظة الاحتضار. أبالتشبث بآخر أنفاسها؟ أم بالإمساك بآخرجاجاتها!
في الموت, الدور الأكثر تعاسة, ليس من نصيب الذي رحل وما عادمعنيَّا بشيء, إنما من نصيب الذي سيرى قدر الأشياء بعده.
على حزنها, لا أظنفرانسواز ستتحمل طويلاً جثث الأشياء في بيتها. والأمر حسب معرفتي بها لن يأخذ منهاأكثر من ساعتين أو ثلاث, وهو ما يلزمها من وقت لجمع أوراق زيان وكتبه, في انتظار أنتسلِّمها لأول عربي يدخل بيتها.
أما ما بقي فقد تضعه في أكياس, ليأخذ مكانه فيالطابق السفلي جوار صندوق القمامة, أو في أحسن الحالات, قد تحتفظ به في المرآب, فيانتظار المرور التالي للصليب الأحمر لجمع المساعدات الإنسانية.
ذلك أن فرانسوازمهووسة بالمبادرات الخيرية, وكأنها نذرت نفسها لمساعدة بؤساء البشرية, يتناوبون علىقلبها وعلى سريرها حسب مستجدات المآسي في العالم. حتى كان يبدو لي أن معاشرتها زيانتدخل ضمن نشاطاتها الخيرية.
وكنت أراها, حسب نشرات الأخبار, تسارع لتلبية نداءالإغاثة لهذه الجهة أو تلك, جامعة ما زاد عن حاجتها من ثياب, وما بلي أو لم يبلَ منأحذية وستائر وشراشف, في أكياس كبيرة من البلاستيك تقوم بإنزالها ووضعها جوارمقصورة البواب, في انتظار أن يجمعها الصليب الأحمر.
كان في فرانسواز شيء منالطيبة الممزوجة بسذاجة الغربيين في التعامل مع الآخر, والذي يتحكم فيها منطقإعلامي يبسط الأشياء, ويقسِّم العالم إلى خيِّر وشرير, وحضاري ومتخلف, ولازم وغيرضروري.
يوم رأيتها تنزل بتلك الأكياس لتتصدق بها لضحايا " سراييفو", اعترفت لهاأنني أحسدها على شجاعتها في التخلص من كل شيء بسرعة وقدرتها على رمي الأشياء في كيسللصدقة, بدون ندم أو تردد أو حنين, غير معنية بذاكرة الأشياء ولا بقيمتها العاطفية, وتمنيت لو استطعت مثلها أن أجمع ذاكرتي في صرة, وأضعها عندالباب كي أتخلص منحمولتي.. وأضاهيها خفة.
سألتني:
- وماذا تفعلون إذن بالأشياء التي لم تعد من حاجة لكم بها؟
أجبتمازحاً:
- ليس في حوزتنا أشياء لا نحتاجها, لأنها حتى عندما تهترئ, وتعتق, نحتاجحضورها المهمل في خزائننا أو في مرآب خردتنا, لا عن بخل, بل لأننا نحب أن نثقلأنفسنا بالذاكرة, ونفضل أن نتصدق بالمال, على أن نتصدق بجثث أشيائنا, ولهذا يلزمنادائماً بيوت كبيرة. ثم واصلت ضاحكاً: أليس في الأمر كارثة!؟
ها هي ذيالكارثة! فتفضل أيها العربي المثقل بحمولتك, تركة أخرى في انتظارك, فماذا ستفعلبهذه الغربة الفضفاضة لرجل ضاق به الوطن, وترك لك ما خاله وطناً: كتباً في الشعروأخرى عن تاريخ الجزائر, صور أخذها مع أناس قد يكونون أهلاً أو أصدقاء, ربما ماتواأو ما زالوا أحياء, نسخة قديمة لمصحف, مفكرات لعدة سنوات عليها عناوين ومواعيدوأسماء, وصفات طبية, تذاكر سفر مستعملة, ملصقات صغيرة لها ذكرى وحده يعرفها كقارورةعطر " شانيل" النسائية الفارغة, قابعة في ركن قي في خزانة الملابس, مغرورقة في حزنفقدانها العطري. إنه الوفاء الأنثوي يجهش اعتذاراً عن كل الخياناتالنسائية.
تجمع حولك أشياء بديلة تسميها وطناً. تحيط نفسك بغرباء تسميهمأهلاً. تنام في سرير عابرة تسميها حبيبة. تحمل في جيبك دفتر هاتف بأرقام كثيرةلأناس تسميهم أصدقاء. تبتكر أعياداً ومناسبات وعناوين وعادات, ومقهى ترتاده كماتزور قريباً.
أثناء تفصيلك لوطن بديل, تصبح الغربة فضفاضة عليك, حتى لتكادتخالها برنساً. غربة كوطن, وطن كأنه غربة. فالغربة يا رجل فاجعة يتم إدراكها علىمراحل, ولا يستكمل الوعي بها, إلا بانغلاق ذلك التابوت على أسئلتك التي بقيت مفتوحةعمراً بأكمله, ولن تكون هنا يومها لتعرف كم كنت غريباً قبل ذلك, ولا كم ستصبحمنفياً بعد الآن!
█║S│█│Y║▌║R│║█
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 5 (0 من الأعضاء و 5 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)