قبل أن تقترب, فكَّرت أن معطفها يساوي أكثر من ثمن تلك اللوحة, كان يكفي أن تستغني عنه ليشعر خالدالآن ببرد أقلّ.
كان يكفيها معطف داكن ووردة حمراء, لتصبح "نجمة" فهل ليس فيخزانتها معطف بسيط يليق بفاجعة كبيرة؟
أقنعت نفسي بأنها لم تكن هي. حتماً كانت " نجمة", تلك الغريبة الجميلة الهاربة من القصائد والواقعة في قبضة التاريخ. مثلهاكان لها كل وجوه النساء ولها كل الأسماء, إلا أنها اليوم خلعت ملايتها السوداء التيارتدتها حداداً على صالح باي, وارتدت معطف فرو اقتناه لها أحد قطّاع طرقالتاريخ.
من يحاسب زوجة قرصان إن هي ارتدت شيئاً من غنائمه؟
كانت تتقدمببطء لا يشبه خطوتها, ألأن قدميها المخضبتين بالحناء تعبتا؟
منذ زفافها وهي تمشيكي تبلغ هذا الجثمان.
عرَّفني ناصر بأخته. كان أولى أن أعرفه بها. مدَّت يدهانحوي. المرأة ذات معطف الفرو, لم تقل شيئاً, عساها تخفي تردد أكفنا وارتباكها لحظةمصافحة.
ليس من أجل ناصر. بل من أجله هو, تحاشينا أن تطول بيننا النظرات. لم نكننريد أن نشهده ميتاً على ما كان يعلمه حياً.
في حضرته, كنّا نتبرَّأ من ذاكرتناالعشقية, مستخفِّين بذكاء الموتى.
ضمَّني ناصر طويلاً إلى صدره. التصقت دمعة علىخدِّه بخدي. قال كلمات في بياض الكوما, وبكى. بدا لي كأنه شاخ, كأنه هو أيضاً ماعاد هو, كأنه أصبح الطاهر عبد المولى. كانت هكذا ملامح أبيه كما خلَّدتها صورالثورة.
ناصر الذي رفض أن يحضر زفافها, يوم كان في قسنطينة, أيّ قدر عجيبجاء به من ألمانيا, ليحضر جنازة خالد هنا في باريس! أكان لقاؤنا حوله آخر رغبة أرادأن يخطفها من الفكّ الساخر للموت؟
موتاً مكثفاً في دقّته, مباغتاً في توقيته, ذكيَّا في انتقاء شهوده, حتى لكأنه وصية.
أشك أننا كنا جميعنا هناك في ذلكالمكان مصادفة. في المصادفة شيء من الفوضى لا يتقنها الموت.
لا يوجد سوء ترقيم, ولا سوء تدبير في هذا العالم الجائر. يوجد ما يسميه رنيه شار في إحدى قصائده " فوضىالدقة". إنه الموت المشاغب الجبار, كما في تراجيديا إغريقية.
أيّ مأساة أن تخلفشيئاً على هذا القدر من الفاجعة! أيّ ملهاة أن تكون شاهداً عليه!
واقفين كناأمام أسطورة رجل عاديّ, بأحلام ذات أقدار ملحمية.
رجل يدعى خالد بن طوبال. فمنذاجتمعنا حوله استعاد اسمه الأول, وبهذا الاسم يعود إلى قسنطينة. الموت غيَّر اسمهوكشف أسماءنا.
أذكر يوم سألني بتهكم ذكيّ:
- خالد.. أما زلت خالد؟
مثلهأكاد أسأل المرأة ذات المعطف الفرو:
- حياة.. أما زلت حياة؟
ذلك أنها مذ دخلتهذا المكان أصبحت " نجمة".
نجمة المرأة المعشوقة, المشتهاة, المقدسة, المرأةالجرح, الفاجعة, الظالمة المظلومة, المغتصبة, المتوحشة, الوفية الخائنة. " العذراءبعد كل اغتصاب", " ابنة النسر الأبيض والأسود" التي " يقتتل الجميع بسببها ولكنهملا يجتمعون إلا حولها".
هي الزوجة التي تحمل اسم عدوك. البنت التي لم تنجبها. الأم التي تخلت عنك. هي المرأة التي ولد حبها متداخلاً مع الوطن, متزامناً معفجائعه, حتى لكأنها ما كانت يوماً سوى الجزائر.
ذلك أن قصة " نجمة" في بعدهاالأسطوري, كأحد أشهر قصص الحب الجزائري, ولدت إثر مظاهرات 8 مايو 1945 التي دفعتفيها قسنطينة والمدن المحيطة بها أكثر من ثلاثين ألف قتيل في أول مظاهرة جزائريةتطالب بالحرية.
كان كاتب ياسين يومها في عامه السابع عشر, يقاد مع الآلاف إلىالسجن, وكان في طريقه إلى معتقله الأول يرى شباباً مكبَّلين تجرهم شاحنات إلىعناوين مجهولة, وآخرين يعدمون في الطريق بالرصاص.
وفي الزنزانة الكبيرة التيضاقت بأسراها, كان العسكر يأتون كلّ مرة لاصطحاب رجال لن يراهم أحد بعد ذلكأبداً.
عندما غادر كاتب ياسين السجن بعد أشهر لم يجد بيتاً ليأويه. كانت أمه قدجُنَّت ظنّاً منها أنه قُتل, وأُدخلت إلى مستشفى الأمراض العقلية. قصد الشاب بيتخالَيْه المدرِّسَين فوجد أنهما قُتِلا,ذهب إلى بيت جدِّه القاضي فوجد أنهماغتالوه,غير أنّ الطامّة كانت عندما علم أنهم في غيابه زوَّجوا ابنة عمّه التي كانيحبّها.
في لحظة سهو, اغتصبت تلك المعشوقة التي لن يشفى من حبِّها أبداً, عمراًمن الهذيان أصبحت فيه " نجمة" كل النساء. فكلما سقط الحجاب عن امرأة في مسرحياتكاتب ياسين تظهر " نجمة" من تحت كل الملايات ومن تحت كل الأسماء.
ألم يقل في آخرعيد ميلاد له وبعد وفاة أمّه عن عمر إلتهم فيه الجنون الصامت 36 سنة من حياتها: " ولدت في 8 مايو 45 وقتلت هناك مع الجثث الحقيقية بجوار أمي التي انتهى بها الأمر فيمصحِّ المجانين, ثم ولدت من جديد مع " نجمة", أحبها ذلك الحب الأول, الحب الموجع فياستحالته, سعيد بحزني بها, أكتبها, لم أكتب سواها, كمجنون".
هو الكاتبالمسرحي, لم يتوقع أن تلك المرأة التي أحبها منذ خمسين سنة, وما عاد يعرف ملامحشيخوختها, ستأتي لتحضر العرض الوحيد والأخير لمشهد موته, في مسرحية حياة بدأ فصلهاالأول منذ نصف قرن يوم رآها.
فما كان ليصدق أن النص الأخير لأيّ مسرحيّ, يرتجلهالقدر, ووحده الموت يوزع فيه الأدوار على الناس بين متفرجين وممثلين, لا دقّاتثلاثاً تسبق رفع الستار, فالقدر لا ينبهك عندما يحين دورك ببدء المسرحية, لا في أيةجهة من المسرح ستكون, ولا من سيكون الحضور يومها.
وهي, هي الباكية الآنباستحياء, المحتمية من الذاكرة بفروها, عندما زارت زيان في المستشفى وأهدته ذلكالكتاب, أكانت تدري أنها تهديه قدره, وتطلعه عليه كنبوءة؟
وعندما كتبت علىالصفحة الأولى " أحببت هذا الكتاب, حتماً سيعجبك" ماذا كان في كتاب " توأما نجمة" ما تريد إطلاعه عليه, غير ذلك الموت الغرائبي لصديقه ياسين, وما كانت هي الروائيةلتتوقع أنها مثل " نجمة" ستجد نفسها مصادفة تحضر المشهد الأخير لموت رجل عشقهاورسمها كمجنون, فسلَّمته للغربة والشيخوخة والمرض.
لم تفارقني فكرة تطابقالموقفين. مثل " نجمة", ما كان يمكن لحياة أن تحضر جنازة خالد لولا وجود أخيها. الفرق أنّ ناصر يقف هنا مع المشاهدين, بينما كان أخو نجمة مسجىً جوار حبيبها, فيقاعة ترانزيت الأموات كهذه!
في ذلك الموت العجيب " الممسرح" لكاتب ياسينوابن عمّه مصطفى كاتب, شيء يتجاوز الخيال المسرحي نفسه. يزيد من غرابته أن الرجلينكانا رجلي مسرح. كان مصطفى كاتب الذي عرفته شخصياً مديراً للمسرح الوطني فيالسبعينات قبل أن يفتك به الداء. بينما كان كاتب ياسين يتزعَّم المسرح المعارضويقدِّم عروضه بالعامِّية والأمازيغية في التجمعات العمّالية.
وإذا كان ياسيننحيلاً وعصبياً ويعرف جغرافية السجون والمعتقلات, ومن بعدها عناوين المصحّاتالعقلية والخانات, كان مصطفى كاتب تقيَّا ورصيناً ووسيماً وسامة أرستقراطية
█║S│█│Y║▌║R│║█
قسنطينية, زاده شعره الفضّي وابتسامته الهادئة تميّزاً.
وكانا بحكم اختلافمعتقداتهما ومزاجهما منقطعين عن بعضهما إنقطاعاً كأنه قطيعة. كلٌّ يدور في مجرته, حتى ذلك اليوم الذي جاء بهما الموت كلّ من مدينة ووضعهما متجاورين في قاعة كهذه فيمطار مرسيليا قبل سفرهما الأخير إلى الجزائر.
لم يكن الممثلون هذه المرة علىالمنصة. كانوا في التوابيت. والذي كان يدير الممثلين في هذا المشهد الأخير كان خارجالمسرح, فالفضاء المسرحي كان أكبر من أن يقدر على إدارته البشر. وهذه المرّة لم يكنمن تنافس بين الممثلين, فالنجم الأوحد في مسرحية الموت, هو الموت, ولأنه لا مكانللتصفيق, لن ينهض الممثلان لتحية الجمهور قبل انسحابهما الأخير.
أليس القدر هوالذي جعل كاتب ياسين يموت في مدينة غرونوبل ( جنوب فرنسا) يوم 28 أكتوبر 1989 , وابن عمِّه مصطفى كاتب يموت بعده بيوم واحد في 29 أكتوبر في مرسيليا. حتى إن إحدىالجرائد عنونت الخبر " كاتب + كاتب = مكتوب".
هكذا جيء بجثمان كاتب ياسين إلىمطار مرسيليا ليتم نقله على الطائرة نفسها مع مصطفى كاتب.
يحكي بن عمارمديان في ذلك الكتاب كيف أنه وجد نفسه وهو الصديق الأقرب إلى كاتب ياسين والمرافقلجثمانه, شاهداً ومشاهداً ذلك الحدث العجيب الذي تحَّولت خلاله قاعة ترانزيتالبضائع وتوابيت الموتى في مطار مرسيليا, إلى خشبة لا حدود لها ولا ستائر, كلّ شيءفيها حقيقيّ, وكلّ شيء شبيه بمسرح إغريقي.
شاهد فجأة امرأة تتقدّم بخطىً بطيئةداخل معطف غامق طويل, حاملة في يدها المختفية في قفَاز أسود, وردة ذات ساقطويل.
كان وجهها يختفي خلف نظارات سود, وقبّة المعطف التي كانت ترفعها, تخفيالكثير من ملامحها.
تقدَّمت المرأة نحو النعشين, وراحت تقرأ الاسم المكتوب علىكلّ منهما. توقّفت عند التابوت الذي كان ينام داخله مصطفى, انحنت وقبَّلت طرفالنعش, ثمّ, بدون أن تخلع قفّازيها, مرَّرت يدها على نعش ياسين في ملامسة سريعةللخشب. بقيت بعض الوقت ممسكة بتلك الوردة, ثم وضعتها على نعش أخيها مصطفى, وابتعدت.
كانت.. " نجمة"!
كأبطال الروايات والمسرحيات الذين يغادرون نصوصهم, ويأتون لوداع المؤلف, جاءت " نجمة", لكنها لم تكن هناك لوداع الكاتب الذي حوَّلهاأسطورة, وإلى رمز لوطن. الشاعر الذي صنع من وجهها ألف وجه, ومن اسمها اسماً لكلّالنساء, وأدخل قصّتها في روائع الأدب العالمي.
جاءت لوداع أخيها. هي زليخة كاتب, في عامها السبعين, قد تكون نسيت منذ ذلك الزمن البعيد أنها" نجمة", فهي كانت تعيشباسمين, واحد للحياة والآخر للأسطورة. ولذا ما توقعت أن تقوم الحياة نفسها بتذكيرهاأمام جثمان ياسين, أنها برغم شيخوختها, مازالت " نجمة".. فوحدها الأساطير لاتشيخ!
يا للحياة عندما تبدأ في تقليد المسرح حيناً, والأدب حيناً, حتى تجعلكلفرط غرائبيتها تبدو كاذباً.
من يصدق شيئاً غريباً عن امرأة كزهرة توليب سوداء, تدعى تارة حياة وتارة " نجمة". تأتي دائماً في آخر لحظة, في آخر مشهد, لتقف أمامنعش رجل توقف عن الهذيان بها لفرط ما انتظرها.
امرأة كأنها وطن, لا تكلِّف نفسهاسوى جهد تمرير يدها بالقفاز على تابوتك, أو وضع وردة على نعشك في أحسنالحالات.
كم مرّة يجب أن تموت لتستحقّ دفء صدرها!
كنت أفكر في الكاتبالصوماليّ نور الدين فرح مبرِّراً هجرته المعاكسة من أوربا إلى أفريقيا قائلاً:" إني بحاجة ماسّة إلى الدفء, إلى هذا تحتاج الجثة". وأكاد أخلع عن تلك المرأة معطفهالأغطي به نعش خالد, في رحلة عودته إلى صقيع الوطن. أكاد أصرخ بها, لا تكوني " نجمة", استبقيه بقبلة, استبقيه بدمع أكثر, قولي إنك أحببته, انفضحي به قليلاً. هلأجمل من فضيحة الموت للعشّاق؟
ضعي يدك عليه, يدك التي تقتل, يدك التي تكتب, مرِّريها عند أعلى التابوت, كما لو كنت تدلّكين كتفه, هناك حيث مكمن يتمه.
لاتخافي عليه من فضيحة جميلة. لم يعد يخشى أحداً, ولا عاد معرّضاً إلى شيء. إنه معروضلفضول الأشياء. عيناه المغمضتان تحفظان السرّ, وقفصه الصدريّ الذي كنت عصفورته, موحش وبارد مذ غادرته , فغطيّه.
أيتها المتردِّدة ذعراً, إرمي بنفسك فوق هذاالصندوق الخشبيّ الذي يضمه كما كنت ترتمين طفلة صغيرة على حجره,يوم كان يلاعبك, يضمك إليه بذراع واحدة, يستبقيك ملتصقة إلى صدره.
هوذا ممدد أمامك.. من لك بعده؟من كان لك سواه؟ إلثمي صندوقه.. إلثميه. سيعرف ذلك حتماً. لا تصدّقي أنّ الخشب غيرموصل للحرارة,الموت لا يعترف بنظريات الكيمياء.
غافلي الأحياء, واختبري تلكالرغبات الأخيرة التي نسرقها من فوق جثة الموت, تلك القُبَل التي توقظالجثث.
أنا الذي أعرف تماماً جغرافيتها, أعرف منطقتها البركانية, وتلك الزئبقية, وتلك الناريّة, كنت أكتشف مساحتها الجليدية, وتضاريس حزنها المدروس كي لا يتجاوزحدّه.
امتلكني يقين النهاية, وأنا أراها في حزنها الرصين ذاك.
أدركت أمامجليدها أنها هكذا ستواجه جثماني إن أنا متّ!
عندما انتهينا من قراءة فاتحةعلى روحه, ابتعدنا ثلاثتنا نحو ركن قصيّ من الصالة. اغتنمت الفرصة لأمدها بكيس فيهدفاتر صغيرة سجّل عليها زيان أفكاراً مبعثرة على مدى سنوات, وأوراق أخرى كان يحتفظبها في ظرف, أظنها كانت لزياد, نظراً لصيغتها الشعرية المتقنة, ولاختلاف خطّها عنخطّ زيان.
وضعت أيضاً في الكيس كتابيها, بدون إهداء, كما احتفظ بهما زيانلسنوات, واضعاً سطوراً على بعض الجمل. ولم أنس طبعاً كتاب " توأما نجمة" كما أهدتهإياه قبل أيّام في آخر زيارة لها.
هكذا أكون قسَّمت تركة خالد بين امرأتين, واثقاً بأن واحدة ستسارع بإلقاء معظمها في الزبالة, ولن تحتفظ سوى باللوحات لقيمتهاالماديّة, وأخرى وقد فقدت اللوحات.. ستصنع من خسارتها كتاباً.
لم أحتفظ لنفسيسوى بساعته, غير واعٍ أنني سأقع في فخّ تلك الساعة في ما بعد , فكيف يمكن مقاربةالحياة انطلاقاً من الموت, لكأنّ عقارب الوقت التي وهبت سمّها لعقارب ساعتك, تدورضدّك, وفي كلّ دورة تستعجلك الفناء.
قلت كما لأبرر لناصر مدِّي أخته بذلكالكيس:
- إنها بعض أوراق وكتابات تركها زيان, قد تستفيد منها السيدة حياة إنشاءت أن تكتب شيئاً عنه.
- لا تهتم ستتكفَّل الصحافة بعد الآن بتكفينه بورقالجرائد.
لم تفتح الكيس, ولا حاولت أن تلقي نظرة على محتوياته. حتماً لم تتوقّعموقفاً عجيباً كهذا, لكنّها توجهت إليَّ لأول مرة وسألتني:
- بالنسبة للوحاته, ماذا فعلتم بها؟
قلت:
█║S│█│Y║▌║R│║█
أظنها بيعت في معظمها.
قال ناصر:
- عندماأخبرتني بموته, أول فكرة خطرت ببالي بعد المكالمة, تلك اللوحة التي حكيت لي أناومراد كيف أقنعته أن يبيعك إياها. في البدء ظننتك مجنوناً لأنك دفعت فيها كل ماتملك, ثم بعد ذلك فكرت أن ثمة أشياء لا تعوّض ويجب على المرء أن لا يفكّر في الثمنعندما تعرض عليه.
سألت بفضول:
- عن أية لوحة تتحدثان؟
وقبل أن أرد أجابناصر:
- عن لوحة رسمها سي زيان في بداياته وكانت تعزّ عليه كثيراً.
إنهاتمثّل جسر سيدي مسيد.
قالت بتهذيب يضع بيننا مسافة للبراءة الكاذبة:
- أتمنىأن أراها. أيمكنك أن تترك لي هاتفاً أو عنواناً أكاتبك عليه إن احتجت شيئاً في مايخص أعمال زيان؟
كانت هذه آخر حيلة عثرت عليها لتطلب عنواني في حضرة أخيها , فهيتعرف عاداتي في الاختفاء المفاجئ من حياتها.
أجبتها بطريقة تفهم منها أنني لمأتغيَّر:
- آسف , فليس لي عنوان ثابت بعد- مضيفاً بعد شيء من الصمت- ثم إنني... بعت تلك اللوحة!
صرخ الاثنان بتعجب:
- بعتها؟ وعلاش؟
" وعلاش؟"
لم يكنالمكان مناسباً لأشرح لهما " لماذا" بعتها. فقد يكون زيان يسترق السمع إلينا, وفاجعة واحدة تكفيه. ذلك أن السؤال سيتوالد ويصبح " كيفاش؟" و " بقداش؟" و " لشكون؟"
وبكم ليست شيئاً قياساً بلمن, فعندها سأصبح خائناً باع الجزائر والأمةالعربية جميعها للغرب, وبسببي سقطت غرناطة وضاعت القدس, فحتماً ثمة مؤامرة حيكت ضدالأمة العربية, دبرها الرواق بالاشتراك مع المستشفى, خاصة أن معظم الأطباء هم مناليهود. وهل ما يحدث لنا منذ قرون خارج المؤامرة؟
كانا مازالا مذهولين ينتظرانمني جواباً, ولم أجد شيئاً لأجيب به عن سؤالهما " وعلاش؟". فأحياناً يلزمك كتابةكتاب من هذا الحجم لتجيب عن سؤال من كلمة واحدة :" لماذا؟"
هل صدمها حقاً فقدانتلك اللوحة.. فأفقدتها الفاجعة صوتها!
أظنها كانت ستقول شيئاً, عندما علاصوت المضيفة على الميكروفون يطالب المسافرين إلى قسنطينة على متن الخطوط الجزائرية, الرحلة رقم 701, بالالتحاق بالبوابة رقم 43.
بدت كأنها وجدت في ذلك النداءذريعةً للتأهب لمغادرة المكان, فما عاد ثمة ما يقال.
حضرني قول مالك حداد: " فيمحطات السفر والمطارات, مكبرات الصوت تقول" على السادة المسافرين التوجه إلى..." ذلك أن السيدات لا يغادرن أبداً".
فعلى أيامه كانت النساء ممنوعات من السفر, قابعات في البيوت. أما اليوم, فلا وقت لهن لمرافقة حبيبٍ يسافر في تابوت.
ضمّنيناصر إلى صدره وقال:
- ربي يعظّم أجرك, ويحميك. لو كنت نقدر ندخل للجزائر واللهنروح معالك.. لكن هاك على بالك.
ثم وقف أمام الجثمان لحظات متمتماً بكلمات كأنهادعاء. لمحته يمسح دموعاً دون أن يرفع يده اليمنى عن النعش.
هل أيقظ دعاءناصر شيئاً فيها؟ هل ذكَّرها نداء الميكروفون أنني أنا وهذا المسجّى مسافران معاً, وأنها فقدتنا نحن الاثنين؟
مدت يدها نحوي موّدعة. رأيتها لأول مرة أمام جثمانهمجهشةً بالبكاء.
كنت أحتقر تعاسة الذين لا يجرؤون على الاقتراب من السعادةالشاهقة, الباهظة, التي لا تملك للسطو عليها إلا لحظة, فالحبّ الكبير يختبر في لحظةضياعه القصوى.
تلك اللحظة التي تصنع مفخرة كبار العشّاق الذين يأتون عندما نيأسمن مجيئهم, ويخطفون سائق سيارة ليلحقوا بطائرة ويشتروا آخر مكان في رحلة, ليحجزواللمصادفة مقعداً جوار مَن يحبّون.
الرائعون الذين يخطفون قدرك بالسرعة التي سطوابها ذات يوم على قطار عمرك.
كنت أريد حباً يأتي دقائق قبل إقلاع الطائرة فيغِّيرمسار رحلتي, أو يحجز له مكاناً جواري. لكنها تركتني معه.. ومضت.
لم تقل شيئاً. فقط بكت. وخالد ظلَّ يكفنه البرد بيننا. استطعت أن أؤمن له ثمن تذكرة, وما استطعتأن أتدبَّر له معطفاً.
كان الميكروفون يكرر النداء. إنه وعي الفراق, ولامناديل للوداعات الكبيرة.
وحدي كنت معه, عندما جاؤوا لنقله. حملوه ليقبع هناكشخصاً بين الأمتعة. أمّا أنا فولجت الطائرة متاعاً بين الركاب.
افترقنا هناك, برغم أننا كنا نأخذ الطائرة نفسها أنا وهو.
ذهب آخر رفاق الريح, وبقيت مرتعداً, لا أدري كيف أوصد الباب خلف رجل عاش كما مات في مهب التاريخ, واقفاً فوق جسر. في كلغربة, كأسماك الصومون, تبحث عن مجرى مائي يعيدك من حيث جئت, سالكاً جسراً للوصول. لكن, ليس بسبب النهر وُجد الجسر, إنه كالمواطنة, لم تبتدع إلا بسبب خديعة اسمهاالوطن.
فنم نومة لوحة, ما عاد جسرك جسراً يا صاحبي.
***
استعادت المطارات دورها المعتاد.
في كل مطار ينتصر الفراق, وتنفرط مسبحة العشاق.
مطارات تنادي عليك في استرسال محموم, مرددة رقم رحلتك, تلكالتي تكفّل القدر بنفسه بحجزها لك, في مكتب السفريات الذي اختصاصه رحلتكالأخيرة.
ما جدوى كل هذه النداءات الملحاحة إذن لتذكيرك بوجهتك, وكل هذهالإشارات المضيئة لتوجيهك نحو بوابتك, أيها المسافر وحيداً, في صندوق محكم الإغلاق, لا تذكرة في جيبك, وكل الممرات توصل حيث أنت ذاهب.
يا رجل الضفّتين, مسافة جسروتصل. إنها ساعتان ونصف فقط, وتستقر في حفرتك, على مرمى قدر, لك قبر في ضيقوطن.
تجلس على مقعدك, وتدري أن تحتك ينام الرجل الذي كان توأمك, محتمٍ بصمته منإهانة الحقائب والصناديق التي ألقي بينها.
ما عاد الرجل الذي كان, ولا الرسامالذي كان. إنه صندوق في حمولة طائرة.
ليس الصندوق الذي يفرِّق بينكما, إنما كونهأصبح يقيم منذ الآن في العالم السفلي, بينما ما زلت أنت تجلس وتمشي وتروح وتجيءفوقه. لك ذلك الحضور المتعالي للحياة.
لو يحدث أن عرفت موقفاً غريباً كهذا. السفر مع جثمان ميت, حجزت له بنفسي تذكرة معي, أو بالأحرى حجزت لنفسي تذكرةمعه.
█║S│█│Y║▌║R│║█
أستعيد كتاب " توأما نجمة" وصاحبه الذي يروي كيف وجد نفسه لمصادفةغريبة, المرافق لجثمانيْ كاتب ياسين ومصطفى كاتب من مرسيليا إلى الجزائر. وأجدعزائي في احتمال أن يكون قد عرف ألماً مضاعفاً لألمي ما دام سافر مع جثمانين.
ثمتقودني الأفكار إلى تلك الأخبار التي نقلتها الصحف في الثمانينات عن طائرات بلدعربي مخصصة لنقل البضائع, حوّلتها الضرورة إلى طائرات للنعوش, وراحت لأسابيع تنقلفي رحلات مكّوكيّة أحلام آلاف المصريين الذين قصدوا ذلك البلد للعمل بنوايا وحدوية, وعادوا منه مشوّهين في صناديق محكمة الإقفال, أغلقت على أحلامهم المتواضعة التي تمالتنكيل بها, عندما أعلن رسمياً في ليلة ظلماء وفي خضم الإحتفالات بعودة الجنودالأبطال من حربهم ضد الجيران, فتح موسم إصطياد الغرباء الذين اتّهموا بإنتهاك شرفالنساء.. أثناء انشغال أبناء الوطن بالدفاع عن الأمة العربية.
إنه الموت العربيبالجملة وبالتجزئة. الموت مفرداً ومثنى وجمعاً, الذي لا تدري أمامه هل أكثر ألماًأن تسافر في طائرة لا يدري ركابها, وهم يطاردون المضيفة بصغائر الطلبات, أن تحتهمرجلاً ميتاً, أم أن تكون قائد طائرة عربية لا مضيفات فيها ولا خدمات, لأن جميعركابها أموات؟!
يذكرني الموقف بصديق ينتمي إلى إحدى " الممالك" العربية, سأله أحدهم مرة:" من أين أنت؟" أجاب ساخراً :" من المهلكة", فردَّ عليه الثانيمزايداً:" وأنا من أمّ المهالك", وضحك الاثنان على النكتة. فقد تعرَّف كلاهما علىبلد الآخر, دون أن يتّفقا على أيّ منهما كان أكثر هلاكاً من الآخر!
هالك ياولدي.. مهلوك. وفي هذا المطار بإمكانك أن تختبر حجم الأذى الذي ألحقه القتلة بجوازكالأخضر.
ذهب عنفوانك. مثير للريبة حيث حللت, تفضحك هيئتك, وسمرتك, وطابورالمتدافعين, والكلاب المتدربة على شمشمة أمثالك.
مذ قام الإرهابيون باختطافطائرة فرنسية وقتل بعض ركابها, والجزائريون يخضعون لحجر أمنيّ في المطار, كما لو أنبهم وباء, وعليك أن تقف أعزل أمام جبروت الأجهزة الكاشفة لكل شيء, والكاميراتالفاضحة لنواياك, والنظرات الثاقبة لأحاسيسك, والإهانات المهذبة التي تطرح عليك فيشكل أسئلة.
تستااااااااهل ما الذي جاء بك؟
من ردهة إلى ممر إلى معبر, لستسوى رقم في طوابير الذلّ. فكيف وقد اعتدت المذلة أن تطالب باحترام أكثر على متن " طائرتك"؟
لا رقم لمقعدك, وعليك أن تدخل في سباق الفوز بكرسيّ, أن تكون لك جسارةتجّار الحقائب في التدافع.
فالكرسيّ, أيّ كرسيّ, لا بدّ من الاقتتال للفوز به. ثمة من أرسلوا أناساً باالآلاف إلى المقابر للجلوس عليه, والانفراد به, وأنت تريدكرسيّاً من دون عناء!
وتريد مكاناً تضع فيه حقيبة يدك, ولكنهم سبقوك واحتلوا كلشيء. الكل محمَّل بالحقائب البائسة المكتظة بالعمر الغالي, والجميع حريص على ما فييده, أكثر من حرصه على نفسه, لا يدري أنْ لا شيء سوى الإنسان سريعالعطب.
أتساءل, أين كنت إذن سأضع تلك اللوحة لو كنت أحضرتها معي. فحتى إنقضيت نصف الرحلة في إقناع المضيفة بأهميتها, ماذا كانت تستطيع أن تفعل أكثر مما فعلغيرها في موقف كهذا؟ فأنا لم أنسَ تلك الكاتبة المقيمة في المهجر, التي شاهدتها علىالتلفزيون الجزائري تحكي, كيف أنها عندما عادت لزيارة الجزائر, ومعها حقيبة صغيرةلا تفارقها, فيها كتاباتها ومخطوط روايتها الجديدة, ما وجدوا في تلك الطائرةالواصلة من سوريا والمليئة برهط غريب من تجّار الأرصفة الذين لا يحتاجون إلى تأشيرةلدخول الشام, أيّ مكان يضعون فيه الحقيبة, فتطَّوع مضيف للتكفّل بها عندما أبلغهبعض من تعرَّف عليها من الركاب, أنها حقيبة كاتبة لم تعد لوطنها منذ سبعسنوات.
في منتصف الرحلة جاء من يخبرها أن حقيبتها كرّمت بوضعها في " مرحاضالطائرة". المضيف قال إنه كان شخصياً يقوم بإخراجها وإعادتها إلى مكانها في الحمام, بعد مرور كل راكب, لأنهم أوصوه خيراً بها, ولولا معزّتها واحترامه للأدب لما وضعهافي " بيت الأدب", ولأصر على إنزالها مع بقية الحقائب إلى جوف الطائرة.. وارتاح!
ماذا تقول لوطن يهينك بنية صادقة في الاحتفاء بك؟
إحدى الصورالتي تمنيت لو التقطتها, هي صورة حقيبة الكاتب, مرمية أرضاً في مرحاض الطائرة بعدأربع ساعات من الطيران, بينما تسافر بضائع المهربين الصغار مصونة محفوظة في الخزائنالموجودة فوق رؤوس أصحابها.
لو نشرت صورة كتلك, لجاء من يقول إنني أهين وطنيأمام الغرباء, وأعطاني درساً في الوطنية, ذلك أن الوطن وحده يملك حق إهانتك, وحقإسكاتك, وحق قتلك, وحق حبّك على طريقته بكل تشوهاته العاطفية.
كيف حدث هذا؟ وكيفوصلنا إلى شيء على هذا القدر من الغرابة؟
لا تنتظر أن يجيبك أحد هنا. فالجوابليس في طائرة, إنما في مكان آخر حيث كان إقلاعها الأول.
عليك بعد الآن وإلىآخر عمرك أن تجيب: لماذا حصلت على تلك الجائزة دون غيرك؟ لماذا أخذت تلك الصورةلذلك الطفل وذلك الكلب دون سواهما؟ لماذا بعت تلك اللوحة لذلك الشخص دونسواه؟
أنت مطالب بالإجابة على أسئلة يحتكر غيرك الردّ عليها, من أنت حتى تغيّرمجرى التاريخ أو مجرى نهر لست فيه سوى قشة يجرفها التيار إلى حتمية المصب؟
أنتلا تعرف حتى ماذا تفعل هنا, وكيف أصبحت الوصيّ على هذا الجثمان وأنت مثقل بالوصايا, متعب بنوايا يحرسها القتلة.
تتمنى لو كنت محمد بوضياف عائداً إلى الوطن في طائرةفرحتك لإنقاذ الجزائر, لو أن لا حقائب لك, لو أن يديك ممدودتان لتحية المستقبلينملوّحتان بتوعد القتلة واللصوص الكبار المهيبين. لكن هو نفسه عاد مرتدياً كفنه, ومافتح ملفّاً إلا وفتح معه قبره.
فاربط حزام الأمان يا رجل, وتابع شروح المضيفةحول أقنعة الأوكسجين, وصدريّة النجاة.
***
اخترت بنفسي العجوز التيستجلس جواري, أما الفتاة التي جلست على شمالي, فهي التي اختارتني. قد تكوناستلطفتني مقارنة بالخيارات الرجالية الأخرى.
فمهمّ في رحلة طويلة كهذه ألا تجدنفسك مربوطاً جوار من سيزيدونك هماً وغماً, فينتابك إحساس من توقف به المصعد, ووجدنفسه محجوزاً مع أناس لا يستلطفهم, وعليه أن يتقاسم معهم حدوده الإقليمية وأجواءهالحميمية المستباحة بحكم المكان.
وكنت بعد عبورنا نقطة التفتيش, قمت بمساعدة تلكالعجوز على حمل الكيس الكبير الذي لا أدري كيف حمَّلوها إياه, أو كيف أصرَّت هي علىحمله وراحت تتوقف كل حين لتستريح قليلاً من عبئه.
أحبّ عجائزنا, ولا أقاومرائحة عرق عباءاتهن, لا أقاوم دعواتهن وبركاتهن. لا أقاوم لغتهن المحملة بكمّ منالأمومة, تعطيك في بضع كلمات زادك من الحنان لعمر.. وبعض عمر.
- يعيشك ياوليدي.. ربي يسترك ويهزّ عنك هم الدنيا.. ربي يزيِّن سعدك.
█║S│█│Y║▌║R│║█
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 5 (0 من الأعضاء و 5 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)