فصل
والمقصود بهذه الأمثلة وأضعافها مما لم نذكره: أن الله سبحانه أغنانا بما شرعه لنا من الحنيفية السمحة وما يسره من الدين على لسان رسوله وسهله للأمة عن الدخول في الآصار والأغلال وعن ارتكاب طرق المكر والخداع والاحتيال كما أغنانا عن كل باطل ومحرم وضار بما هو أنفع لنا منه: من الحق والمباح النافع فأغنانا بأعياد الإسلام عن أعياد الكفار والمشركين من أهل الكتاب والمجوس والصابئين وعبدة الأصنام
وأغنانا بوجوه التجارات والمكاسب الحلال عن الربا والميسر والقمار
وأغنانا بنكاح ما طاب لنا من النساء مثنى وثلاث ورباع والتسري بما شئنا من الإماء عن الزنا والفواحش
وأغنانا بأنواع الأشربة اللذيذة النافعة للقلب والبدن عن الأشربة الخبيثة المسكرة المذهبة للعقل والدين وأغنانا بأنواع الملابس الفاخرة: من الكتان والقطن والصوف عن الملابس المحرمة: من الحرير والذهب
وأغنانا عن سماع الأبيات وقرآن الشيطان بسماع الآيات وكلام الرحمن
وأغنانا عن الاستقسام بالأزلام طلبا لما هو خير وأنفع لنا باستخارته التي هي توحيد وتفويض واستعانة وتوكل وأغنانا عن طلب التنافس في الدنيا وعاجلها بما أحبه لنا وندبنا إليه من التنافس في الآخرة وما أعد لنا فيها وأباح الحسد في ذلك وأغنانا به عن الحسد على الدنيا وشهواتها
وأغنانا بالفرح بفضله ورحمته وهما القرآن والإيمان عن الفرح بما يجعله أهل الدنيا من المتاع والعقار والأثمان فقال تعالى: قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون وأغنانا بالتكبر على أعداء الله تعالى وإظهار الفخر والخيلاء لهم عن التكبر على أولياء الله تعالى والفخر والخيلاء عليهم فقال لمن رآه يتبختر بين الصفين: إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن
وأغنانا بالفروسية الإيمانية والشجاعة الإسلامية التي تأثيرها في الغضب على أعدائه ونصرة دينه عن الفروسية الشيطانية التي يبعث عليها الهوى وحمية الجاهلية
وأغنانا بالخلوة الشرعية حال الاعتكاف عن الخلوة البدعية التي يترك لها الحج والجهاد والجمعة والجماعة
وكذلك أغنانا بالطرق الشرعية عن طرق أهل المكر والاحتيال
فلا تشتد حاجة الأمة إلى شيء إلا وفيما جاء به الرسول ما يقتضي إباحته وتوسعته بحيث لا يحوجهم فيه إلى مكر واحتيال ولا يلزمهم الآصار والأغلال فلا هذا من دينه ولا هذا
كما أغنانا بالبراهين والآيات التي أرشد إليها القرآن عن الطرق المتكلفة المتعسفة المعقدة التي باطلها أضعاف حقها: من الطرق الكلامية التي الصحيح منها كلحم جمل غث على رأس جبل وعر لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقل ونحن نعلم علما لا نشك فيه أن الحيل التي تتضمن تحليل ما حرمه الله تعالى وإسقاط ما أوجبه لو كانت جائزة لسنها الله سبحانه وندب إليها لما فيها من التوسعة والفرج للمكروب والإغاثة للملهوف كما ندب إلى الإصلاح بين الخصمين
وقد قال المبعوث بالحنيفية السمحة ما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا وقد حدثتكم به ولا تركت من شيء يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم به تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك
فهلا ندب النبي إلى الحيل وحض عليها كما حض على إصلاح ذات البين بل لم يزل يحذر من الخداع والمكر والنفاق ومشابهة أهل الكتاب باستحلال محارمه بأدنى الحيل ولو كان مقصود الشارع إباحة تلك المحرمات التي رتب عليها أنواع الذم والعقوبات وسد الذرائع الموصلة إليها لم يحرمها ابتداء ولا رتب عليها العقوبة ولا سد الذرائع إليها ولكان ترك أبوابها مفتحة أسهل من المبالغة في غلقها وسدها ثم يفتح لها أنواع الحيل حتى ينقب المحتال عليها من كل ناحية فهذا مما تصان عنه الشرائع فضلا عن أكملها شريعة وأفضلها دينا
وقد قدمنا أن الضرر والمفاسد الحاصلة من تلك المحرمات لا يزول بالاحتيال والتنقيب عليها بل تقوى وتشتد مفاسدها
فصل
إذا عرف هذا فالطرق التي تتضمن نفع المسلمين والذب عن الدين ونصر المظلومين وإغاثة الملهوفين ومعارضة المحتالين بالباطل ليدحضوا به الحق من أنفع الطرق وأجلها علما وعملا وتعليما
فيجوز للرجل أن يظهر قولا أو فعلا مقصوده به مقصود صالح وإن ظن الناس أنه قصد به غير ما قصد به إذا كان فيه مصلحة دينية مثل دفع ظلم عن نفسه أو عن مسلم أو معاهد أو نصرة حق أو إبطال باطل من حيلة محرمة أو غيرها أو دفع الكفار عن المسلمين أو التوصل إلى تنفيذ أمر الله تعالى ورسوله
فكل هذه طرق جائزة أو مستحبة أو واجبة
وإنما المحرم: أن يقصد بالعقود الشرعية غير ما شرعت له فيصير مخادعا لله فهذا مخادع لله ورسوله وذلك مخادع للكفار والفجار والظلمة وأرباب المكر والاحتيال فبين هذا الخداع وذاك الخداع من الفرق كما بين البر والإثم والعدل والظلم والطاعة والمعصية فأين من قصده إظهار دين الله تعالى ونصر المظلوم وكسر الظالم إلى من قصده ضد ذلك
إذا عرف هذا فنقول: الحيل أقسام
أحدها: الطرق الخفية التي يتوصل بها إلى ما هو محرم في نفسه فمتى كان المقصود بها محرما في نفسه فهي حرام باتفاق المسلمين وصاحبها فاجر ظالم آثم، وذلك كالتحيل على هلاك النفوس وأخذ الأموال المعصومة وفساد ذات البين وحيل الشياطين على إغواء بني آدم وحيل المخادعين بالباطل على إدحاض الحق وإظهار الباطل في الخصومات الدينية والدنيوية فكل ما هو محرم في نفسه فالتوصل إليه محرم بالطرق الظاهرة والخفية بل التوصل إليه بالطرق الخفية أعظم إثما وأكبر عقوبة فإن أذى المخادع وشره يصل إلى المظلوم من حيث لا يشعر ولا يمكنه الاحتراز عنه ولهذا قطع السارق دون المنتهب والمختلس ومن هذا: رأى مالك ومن وافقه: أن القاتل غيلة يقتل وإن قتل من لا يكافئه لمفسدة فعله وعدم إمكان التحرز منه ومن هذا: رأى عبد الله بن الزبير: قطع يد الزغلي لعظم ضرره على الأموال وعدم إمكان التحرز منه فهو أولى بالقطع من السارق وقوله قوي جدا
ومن هذا رأى الإمام أحمد قطع يد جاحد العارية لأنه لا يمكن الاحتراز منه بخلاف جاحد الوديعة فإنه هو الذي إئتمنه والعمدة في ذلك على السنة الصحيحة التي لا معارض لها
والقصد: أن التوصل إلى الحرام حرام سواء توصل إليه بحيلة خفية أو بأمر ظاهر
وهذا النوع من الحيل ينقسم قسمين:
أحدهما: ما يظهر فيه أن مقصود صاحبه الشر والظلم كحيل اللصوص والظلمة والخونة والثاني: ما لا يظهر ذلك فيه بل يظهر المحتال أن قصده الخير ومقصوده الظلم والبغي مثل إقرار المريض لوارث لا شيء له عنده قصدا لتخصيصه بالمقر به أو إقراره بوارث وهو غير وارث إضرارا بالورثة وهذا حرام باتفاق الأمة وتعليمه لمن يفعله حرام والشهادة عليه حرام إذا علم الشاهد صورة الحال والحكم بموجب ذلك حكم باطل حرام يأثم به الحاكم باتفاق المسلمين إذا علم صورة الحال فهذه الحيلة في نفسها محرمة لأنها كذب وزور والمقصود بها محرم لكونه ظلما وعدوانا
ولكن لما أمكن أن يكون صدقا اختلف العلماء في إقرار المريض لوارث هل هو باطل سدا للذريعة وردا للإقرار الذي صادف حق الورثة فيما هو متهم فيه لأنه شهادة على نفسه فيما تعلق به حقهم فيرد للتهمة كالشهادة على غيره أو هو مقبول إحسانا للظن بالمقر ولا سيما عند الخاتمة ومن هذا الباب: احتيال المرأة على فسخ نكاح الزوج مع إمساكه بالمعروف بإنكارها الإذن للولي أو إساءة عشرة الزوج ونحو ذلك
واحتيال البائع على فسخ البيع بدعواه أنه كان محجورا عليه
واحتيال المشتري على الفسخ بأنه لم ير المبيع
واحتيال المؤجر على المستأجر في فسخ الإجارة أو احتيال المستأجر عليه بأنه استأجر ما لم يره
واحتيال الراهن على المرتهن في فسخ الرهن بأن يظهر أنه آجره قبل الرهن أو كان رهنه عند زوجته أو أمته ونحو ذلك فهذا النوع لا يستريب أحد أنه من كبائر الإثم وهو من أقبح المحرمات وهو بمنزلة لحم خنزير ميت حرام وأنه في نفسه معصية لتضمنه الكذب والزور ومن جهة تضمنه إبطال الحق وإثبات الباطل
القسم الثالث: ما هو مباح في نفسه لكن بقصد المحرم صار حراما كالسفر لقطع الطريق ونحو ذلك فههنا المقصود حرام والوسيلة في نفسها غير محرمة لكن لما توسل بها إلى الحرام صارت حراما
القسم الرابع: أن يقصد بالحيلة أخذ حق أو دفع باطل لكن تكون الطريق إلى حصول ذلك محرمة مثل أن يكون له على رجل حق فيجحده فيقيم شاهدين لا يعرفان غريمه ولم يرياه يشهدان له بما ادعاه فهذا محرم أيضا وهو عندالله تعالى عظيم لأن الشاهدين يشهدان بالزور وشهادة الزور من الكبائر وقد حملهما على ذلك
وكذلك لو كان له عند رجل دين فجحده إياه وله عنده وديعة فجحد الوديعة وحلف أنه لم يودعه أو كان له على رجل دين لا بينة له به ودين آخر به بينة لكنه اقتضاه منه فيدعي هذا الدين ويقيم به بينة وينكر الاستيفاء
أو يكون قد اشترى منه شيئا فظهر به عيب تلف المبيع به فادعى عليه بثمنه فأنكر أصل العقد وأنه لم يشتر منه شيئا أو تزوج امرأة فأنفق عليها مدة طويلة فادعت عليه أنه لم ينفق عليها شيئا فجحد نكاحها بالكلية
فهذا حرام أيضا لأنه كذب ولا سيما إن حلف عليه ولكن لو تأول في يمينه لم يكن به بأس فإنه مظلوم
فإن قيل: فما تقولون لو عامله معاملة ربا فقبض رأس ماله ثم ادعى عليه بالزيادة المحرمة هل يسوغ له أن ينكر المعاملة أو يحلف عليها
قيل: يسوغ له الحلف على عدم استحقاقها وأن دعواها دعوى باطلة فلو لم يقبل منه الحاكم هذا الجواب ساغ له التأويل في اليمين لأنه مظلوم ولا يسوغ له الإنكار والحلف من غير تأويل لأنه كذب صريح فليس له أن يقابل الفجور بمثله
كما أنه ليس له أن يكذب على من كذب عليه أو يقذف من قذفه أو يفجر بزوجة من فجر بزوجته أو بابن من فجر بابنه
فإن قيل: فما تقولون في مسألة الظفر هل هي من هذا الباب أو من القصاص المباح قيل: قد اختلف الفقهاء فيها على خمسة أقوال
أحدها: أنها من هذا الباب وأنه ليس له أن يخون من خانه ولا يجحد من جحده ولا يغصب من غصبه وهذا ظاهر مذهب أحمد ومالك
والثاني: يجوز له أن يستوفي قدر حقه إذا ظفر بجنسه أو غير جنسه وفي غير الجنس يدفعه إلى الحاكم يبيعه ويستوفي ثمنه منه وهذا قول أصحاب الشافعي
والثالث: يجوز له أن يستوفي قدر حقه إذا ظفر بجنس ماله وليس له أن يأخذ من غير الجنس وهذا قول أصحاب أبي حنيفة
والرابع: أنه إن كان عليه دين لغيره لم يكن له الأخذ وإن لم يكن عليه دين فله الأخذ وهذا إحدى الروايتين عن مالك والخامس: أنه إن كان سبب الحق ظاهرا كالنكاح والقرابة وحق الضيف جاز للمستحق الأخذ بقدر حقه كما أذن فيه النبي ص لهند أن تأخذ من مال أبي سفيان ما يكفيها ويكفي بنيها وكما أذن لمن نزل بقوم ولم يضيفوه أن يعقبهم في مالهم بمثل قراه كما في الصحيحين عن عقبة ابن عامر قال: قلت للنبي ص إنك تبعثنا فننزل بقوم لا يقرونا فما ترى فقال لنا: إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم وفي المسند من حديث المقدام أبي كريمة أنه سمع النبي ص يقول من نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه
وفي المسند لأحمد أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله ص أيما ضيف نزل بقوم فأصبح الضيف محروما فله أن يأخذ بقدر قراه ولا حرج عليه وإن كان سبب الحق خفيا بحيث يتهم بالأخذ وينسب إلى الخيانة ظاهرا لم يكن له الأخذ وتعريض نفسه للتهمة والخيانة وإن كان في الباطن آخذا حقه كما أنه ليس له أن يتعرض للتهمة التي تسلط الناس على عرضه وإن ادعى أنه محق غير متهم وهذا القول أصح الأقوال وأسدها وأوفقها لقواعد الشريعة وأصولها وبه تجتمع الأحاديث فإنه قد روى أبو داود في سننه من حديث يوسف بن ماهك قال: كنت أكتب لفلان نفقة أيتام كان وليهم فغالطوه بألف درهم فأداها إليهم فأدركت له من أموالهم مثلها فقلت: اقبض الألف الذي ذهبوا به منك قال: لا حدثني أبي أنه سمع رسول الله ص يقول: أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك
وهذا وإن كان في حكم المنقطع فإن له شاهدا من وجه آخر وهو حديث طلق بن غنام: أخبرنا شريك وقيس عن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ص قال: أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك وقيس هو ابن الربيع وشريك ثقة وقد قوي حديثه بمتابعة قيس له وإن كان فيه ضعف
وله شاهد آخر من حديث أيوب بن سويد عن ابن شوذب عن أبي التياح عن أنس رضي الله عنه عن النبي ص نحوه وأيوب بن سويد وإن كان فيه ضعف فحديثه يصلح للاستشهاد به وله شاهد آخر وإن كان فيه ضعف فهو يقوى بانضمام هذه الأحاديث إليه رواه يحيى بن أيوب عن إسحاق بن أسيد عن أبي حفص الدمشقي عن مكحول: أن رجلا قال لأبي أمامة الباهلي الرجل أستودعه الوديعة أو يكون لي عليه دين فيجحدني ثم يستودعني أو يكون له عندي الشيء أفأجحده فقال: لا سمعت رسول الله ص يقول: أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك وله شاهد آخر مرسل قال يحيى بن أيوب: عن ابن جريج عن الحسن عن النبي ص أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك وله شاهد آخر وهو ما رواه الترمذي من حديث مالك بن نضلة قال: قلت يا رسول الله الرجل أمر به فلا يقريني ولا يضيفني فيمر بي أفأجزيه قال: لا أقره. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح
وله شاهد آخر وهو ما رواه أبو داود من حديث بشر بن الخصاصية قال: قلت: يا رسول الله إن أهل الصدقة يعتدون علينا أفنكتم من أموالنا بقدر ما يعتدون علينا فقال: لا
وله شاهد آخر من حديث بشر هذا أيضا قلت: يا رسول الله إن لنا جيرانا لا يدعون لنا شاذة ولا فاذة إلا أخذوها فإذا قدرنا لهم على شيء أنأخذه فقال: أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ذكره شيخنا في كتاب إبطال التحليل
فهذه الآثار مع تعدد طرقها واختلاف مخارجها يشد بعضها بعضا ولا يشبه الأخذ فيها الأخذ في الموضعين اللذين أباح رسول الله ص فيهما الأخذ لظهور سبب الحق فلا ينسب الآخذ إلى الخيانة ولا يتطرق إليه تهمة ولتعسر الشكوى في ذلك إلى الحاكم وإثبات الحق والمطالبة به
والذين جوزوه يقولون: إذا أخذ قدر حقه من غير زيادة لم يكن ذلك خيانة فإن الخيانة أخذ ما لا يحل له أخذه وهذا ضعيف جدا فإنه يبطل فائدة الحديث فإنه قال: ولا تخن من خانك فجعل مقابلته له خيانة ونهاه عنها فالحديث نص بعد صحته
فإن قيل: فهلا جعلتموه مستوفيا لحقه بنفسه إذ عجز عن استيفائه بالحاكم كالمغصوب ماله إذا رآه في يد الغاصب وقدر على أخذه منه قهرا فهل تقولون: إنه لا يحل له أخذ عين ماله وهو يشاهده في يد الظالم المعتدي ولا يحل له إخراجه من داره وأرضه
وكذلك إذا غصب زوجته وحال بينه وبينها وعقد عليها ظاهرا بحيث لا يتهم فهل يحرم على الزوج الأول انتزاع زوجته منه خشية التهمة وهذا لا تقولونه أنتم ولا أحد من أهل العلم
ولهذا قال الشافعي وقد ذكر حديث هند: وإذ قد دلت السنة وإجماع كثير من أهل العلم على أن يأخذ الرجل حقه لنفسه سرا فقد دل أن ذلك ليس بخيانة إذ الخيانة أخذ ما لا يحل له أخذه
فالجواب: أنا نقول يجوز له أن يستوفي قدر حقه لكن بطريق مباح فأما بخيانة وطريق محرمة فلا
وقولكم: ليس ذلك بخيانة قلنا: بل هو خيانة حقيقة ولغة وشرعا وقد سماه رسول الله صص خيانة وغايتها أنها خيانة مقابلة ومقاصة لا خيانة ابتداء فيكون كل واحد منهما مسيئا إلى الآخر ظالما له فإن تساوت الخيانتان قدرا وصفة فقد يتساقط إثمهما والمطالبة في الآخرة أو يكون لكل منهما على الآخر مثل ما للآخر عليه وإن بقي لأحدهما فضل رجع به فهذا في أحكام الثواب والعقاب
وأما في أحكام الدنيا فليس كذلك لأن الأحكام فيها مرتبة على الظواهر وأما السرائر فإلى الله ولهذا قال النبي ص إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر أقضي بنحو مما أسمع ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار فأخبر أنه يحكم بينهم بالظاهر وأعلم المبطل في نفس الأمر أن حكمه لا يحل له أخذ ما يحكم له به وأنه مع حكمه له به فإنما يقطع له قطعة من النار فإذا كان الحق مع هذا الخصم في الظاهر وجب على الحاكم أن يحكم له به ويقره بيده وإن كانت يدا عادية ظالمة عند الله تعالى فكيف يسوغ لخصمه أن يحكم لنفسه ويستوفي لنفسه بطريق محرمة باطلة لا يحكم بمثلها الحاكم وإن كان محقزا في نفس الأمر وليس هذا بمنزلة من رأى عين ماله أو أمته أو زوجته بيد غاصب ظالم فخلصها منه قهرا فإنه قد تعين حقه في هذه العين بخلاف صاحب الدين فإن حقه لم يتعين في تلك العين التي يريد أن يستوفي منها ولأنه لا يتكتم بذلك ولا يستخفي به كما يفعل الخائن بل يكابر صاحب اليد العادية ويغالبه ويستعين عليه بالناس فلا ينسب إلى خيانة والأول متكتم مستخف متصور بصورة خائن وسارق فإلحاق أحدهما بالآخر باطل والله أعلم
فصل
القسم الخامس من الحيل: أن يقصد حل ما حرمه الشارع أو سقوط ما أوجبه بأن يأتي بسبب نصبه الشارع سببا إلى أمر مباح مقصود فيجعله المحتال المخادع سببا إلى أمر محرم مقصود اجتنابه
فهذه هي الحيل المحرمة التي ذمها السلف وحرموا فعلها وتعليمها
وهذا حرام من جهتين: من جهة غايته ومن جهة سببه
أما غايته: فإن المقصود به إباحة ما حرمه الله ورسوله وإسقاط ما أوجبه
وأما من جهة سببه: فإنه اتخذ آيات الله هزوا وقصد بالسبب ما لم يشرع لأجله ولا قصده به الشارع بل قصد ضده فقد ضاد الشارع في الغاية والحكمة والسبب جميعا وقد يكون أصحاب القسم الأول من الحيل أحسن حالا من كثير من أصحاب هذا القسم فإنهم يقولون: إن ما نفعله حرام وإثم ومعصية ونحن أصحاب تحيل بالباطل عصاة لله ولرسوله مخالفون لدينه وكثير من هؤلاء يجعلون هذا القسم من الدين الذي جاءت به الشريعة وأن الشارع جوز لهم التحيل بالطرق المتنوعة على إباحة ما حرمه وإسقاط ما أوجبه فأين حال هؤلاء من حال أولئك ثم إن هذا النوع من الحيل يتضمن نسبة الشارع إلى العبث وشرع ما لا فائدة فيه إلا زيادة الكلفة والعناء فإن حقيقة الأمر عند أرباب الحيل الباطلة: أن تصير العقود الشرعية عبثا لا فائدة فيها فإنها لم يقصد بها المحتال مقاصدها التي شرعت لها بل لأغراض له في مقاصدها وحقائقها البتة وإنما غرضه التوصل بها إلى ما هو ممنوع منه فجعلها سترة وجنة يتستر بها من ارتكاب ما نهي عنه صرفا فأخرجه في قالب الشرع كما أخرجت الجهمية التعطيل في قالب التنزيه
وأخرج المنافقون النفاق في قالب الإحسان والتوفيق والعقل المعيشي
وأخرج الظلمة الفجرة الظلم والعدوان في قالب السياسة وعقوبة الجناة وأخرج المكاسون أكل المكوس في قالب إعانة المجاهدين وسد الثغور وعمارة الحصون وأخرج الروافض الإلحاد والكفر والقدح في سادات الصحابة وحزب رسول الله وأوليائه وأنصاره في قالب محبة أهل البيت والتعصب لهم وموالاتهم
وأخرجت الإباحية وفسقة المنتسبين إلى الفقر والتصوف بدعهم وشطحهم في قالب الفقر والزهد والأحوال والمعارف ومحبة الله ونحو ذلك وأخرجت الإتحادية أعظم الكفر والإلحاد في قالب التوحيد وأن الوجود واحد لا اثنان وهو الله وحده فليس ههنا وجودان: خالق ومخلوق ولا رب وعبد بل الوجود كله واحد وهو حقيقة الرب
وأخرجت القدرية إنكار عموم قدرة الله تعالى على جميع الموجودات: أفعالها وأعيانها في قالب العدل وقالوا: لو كان الرب قادرا على أفعال عباده لزم أن يكون ظالما لهم فأخرجوا تكذيبهم بالقدر في قالب العدل
وأخرجت الجهمية جحدهم لصفات كماله سبحانه في قالب التوحيد وقالوا: لو كان له سبحانه سمع وبصر وقدرة وحياة وإرادة وكلام يقوم به لم يكن واحدا وكان آلهة متعددة
وأخرجت الفسقة والذين يتبعون الشهوات الفسوق والعصيان في قالب الرجاء وحسن الظنع بالله تعالى وعدم إساءة الظن بعفوه وقالوا: تجنب المعاصي والشهوات إزراء بعفو الله تعالى وإساءة للظن به ونسبة له إلى خلاف الجود والكرم والعفو
وأخرجت الخوارج قتال الأئمة والخروج عليهم بالسيف في قالب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وأخرج أرباب البدع جميعهم بدعهم في قوالب متنوعة بحسب تلك البدع
وأخرج المشركون شركهم في قالب التعظيم لله وأنه أجل من أن يتقرب إليه بغير وسائط وشفعاء وآلهة تقربهم إليه
فكل صاحب باطل لا يتمكن من ترويج باطله إلا بإخراجه في قالب حق
والمقصود: أن أهل المكر والحيل المحرمة يخرجون الباطل في القوالب الشرعية ويأتون بصور العقود دون حقائقها ومقاصدها
فصل
وهذا القسم من أقسام الحيل أنواع: أحدها: الاحتيال لحل ما هو حرام في الحال كالحيل الربوية وحيلة التحليل
الثاني: الاحتيال على حل ما انعقد سبب تحريمه فهو صائر إلى التحريم ولا بد كما إذا علق طلاقها بشرط محقق تعليقا يقع به ثم أراد منع وقوع الطلاق عند الشرط فخالعها خلع الحيلة حتى بانت ثم تزوجها بعد ذلك
الثالث: الاحتيال على إسقاط ما هو واجب في الحال كالاحتيال على إسقاط الإنفاق الواجب عليه وأداء الدين الواجب بأن يملك ماله لزوجته أو ولده فيصير معسرا فلا يجب عليه الإنفاق والأداء وكمن يدخل عليه رمضان ولا يريد صومه فيسافر ولا غرض له سوى الفطر ونحو ذلك
الرابع: الاحتيال على إسقاط ما انعقد سبب وجوبه ولم يجب لكنه صائر إلى الوجوب فيحتال حتى يمنع الوجوب كالاحتيال على إسقاط الزكاة بتمليكه ماله قبل مضيالحول لبعض أهله ثم استرجاعه بعد ذلك وهذا النوع ضربان: أحدهما إسقاط حق الله تعالى بعد وجوبه أو انعقاد سببه والثاني: إسقاط حق المسلم بعد وجوبه أو انعقاد سببه كالاحتيال على إسقاط الشفعة التي شرعت دفعا للضرر عن الشريك قبل وجوبها أو بعده
الخامس: الاحتيال على أخذ حقه أو بعضه أو بدله بخيانة كما تقدم وله صور كثيرة
منها: أن يجحده دينه كما جحده
ومنها: أن يخونه في وديعته كما خانه
ومنها: أن يغشه في بيع معيب كما غشه هو في بيع معيب
ومنها: أن يسرق ماله كما سرق ماله
ومنها: أن يستعمله بأجرة دون أجرة مثله ظلما وعدوانا أو غرورا وخداعا أو غبنا فيقدر المستأجر له على مال فيأخذ تمام أجرته
وهذا النوع يستعمله كثير من أرباب الديوان ونظار الوقوف والعمال وجباه الفيء والخراج والجزية والصدقة وأمثالهم فإن كان المال مشتركا بين المسلمين رتعوا وربعوا ورأى أحدهم أن من الغبن أن يفوته شيء منه ويرى إن عدل أن له نصف ذلك المال ويسعى في السدس تكملة للثلثين كما قيل في بعضهم:
له نصف بيت المال فرض مقرر... وفي سدس التكميل يسعى ليخلصا
من القوم لا تثنيهم عن مرادهم... عقوبة سلطان بسوط ولا عصا
فصل
وقد عرف بما ذكرنا الفرق بين الحيل التي تخلص من الظلم والبغي والعدوان والحيل التي يحتال بها على إباحة الحرام وإسقاط الواجبات وإن جمعهما اسم الحيلة والوسيلة وعرف بذلك أن العينة لا تخلص من الحرام وإنما يتوسل بها إليه وهو المقصود الذي اتفقا عليه ويعلمه الله تعالى من نفوسهما وهما يعلمانه ومن شاهدهما يعلمه وكذلك تمليك ما له لولده عند قرب الحول فرارا من الزكاة لا يخلص من الإثم بل يغمسه فيه لأنه قصد إلى إسقاط فرض قد انعقد سببه ولكن عذر من جوز ذلك أنه لم يسقط الواجب وإنما أسقط الوجوب وفرق بين الأمرين فإن له أن يمنع الوجوب وليس له أن يمنع الواجب
وهكذا القول في التحيل على إسقاط الشفعة قبل البيع فإنه يمنع وجوب الاستحقاق
ولا يمنع الحق الذي وجب بالبيع فذلك لا يجوز وهو نظير منع الزكاة بعد وجوبها فذلك لا يجوز بحيلة ولا غيرها
وكذلك التحيل على منع وجوب الجمعة عليه بأن يسكن في مكان لا يبلغه النداء أو لا يمكنه الذهاب منه إلى الجمعة والرجوع في يومه أو السفر قبل دخول وقتها ولا يجوز له التحيل على تركها بعد وجوبها عليه
وكذلك التحيل على منع وجوب الإنفاق على القريب بأن لا يكتسب مالا يجب فيه الإنفاق ولا يجوز له التحيل على إسقاط ما وجب من ذلك فهذا سر الفرق الذي اعتمده أصحاب الحيل وأما المانعون فيجيبون عن ذلك:
بأن هذا لو أجدى على المتحيلين لم يعاقب الله سبحانه تعالى أصحاب الجنة الذين عزموا على صرامها ليلا لئلا يحضرهم المساكين فهؤلاء قصدوا دفع الوجوب بعد انعقاد سببه وهو نظير التحيل لإسقاط الزكاة بعد ثبوت سببها
وبأن هذا يبطل حكمة الإيجاب فإن الله سبحانه إنما أوجبها في أموال الأغنياء طهرة لهم وزكاة ورحمة للمساكين وسدا لفاقتهم فالتحيل على منع وجوبها يعود على ذلك كله بالإبطال
وبأن الشارع لو جوز التحيل على منع الإيجاب بعد انعقاد سببه لم يكن في الإيجاب فائدة إذ ما من أحد إلا ويمكنه التحيل بأدنى حيلة على الدفع فيكون الإيجاب عديم الفائدة فإنه إذا أوجبه وجوز إسقاطه بعد انعقاد سبب الإيجاب عاد ذلك بنقض ما قصده
وبأنه إذا انعقد سبب الوجوب فقد تعلق الوجوب بالمكلف فلا يمكنه الشارع من قطع هذا التعليق ولا سيما إذا شارف وقت الوجوب وحضر حتى كأنه داخل فيه كما إذا بقي من الحول يوم أو ساعة فالإسقاط ههنا في حكم الإسقاط بعد الحول سواء ومفسدته كمفسدته فإن المصلحة الفائتة بالمنع بعد تلك الساعة كالمفسدة الحاصلة بالتسبب إلى المنع قبلها من كل وجه
وبأن الحكم بعد انعقاد سببه كالثابت الذي قد صح ووجد
وبأن الوجوب قد تحقق بانعقاد سببه وإنما جوز له التأخير إلى تمام الحول توسعة عليه ولهذا يجوز له أداء الواجب قبل الحول ويكون واقعا موقعه ولأن الفرار من الإيجاب إنما يقصد به الفرار من أداء الواجب وأن يسقط ما فرضه الله عليه عند مضي الحول وليس هذا كمن ترك اكتساب المال الذي يجب فيه الزكاة فرارا من وجوبها عليه أو ترك بيع الشقص فرارا من أخذ الشفيع له أو ترك التزوج فرارا من وجوب الإنفاق ونحو ذلك فإن هذا لم ينعقد في حقه السبب بل ترك ما يفضي إلى الإيجاب ولم يتسبب إليه وهذا تحيل بعد السبب على إسقاط ما تعلق به من أداء الواجب واحتال على قطع سببيته بعد ثبوتها
وأيضا فإن قطع سببية السبب تغيير لحكم الله وإسقاط للسببية بالتحيل وليس ذلك للمكلف فإن الله سبحانه هو الذي جعل هذا سببا بحكمه وحكمته فليس له أن يبطل هذا الجعل بالحيلة والمخادعة وهذا بخلاف ما إذا وهبه ظاهرا وباطنا أو أنفقه فإنه لم يحتل بإظهار أمر وإبطان خلافه على منع الإيجاب وأداء الواجب
وأيضا فإنه إذا احتال على منع الإيجاب تضمن ذلك الحيلة على منع أداء الواجب ومعلوم أن منعه أداء الواجب فقط أيسر من تحيله على الأمرين جميعا
وأيضا فإنه لا يصح فراره من الوجوب مع إتيانه بسببه فإن الفار من الشيء فار من أسبابه وهذا أحرص شيء على الملك الذي هو سبب وجوب الحق عليه ومن حرصه عليه: تحيل على ترك الإخراج حرصا وشحا فهو فار من أداء الواجب ظانا أنه يفر من وجوبه عليه والأول حاصل له دون الثاني
ونكتة الفرق من جهة الوسيلة والمقصود فإن المحتال على المحرمات وإسقاط الواجبات مقصوده فاسد ووسيلته باطلة فإنه توسل بالشيء إلى غير مقصوده وتوسل به إلى مقصود محرم فإن الله سبحانه إنما جعل النكاح وسيلة إلى المودة والرحمة والمصاهرة والنسل وغض البصر وحفظ الفرج والتمتع والإيواء وغير ذلك من مقاصد النكاح والمحلل لم يتوسل به إلى شيء من ذلك بل إلى تحليل ما حرمه الله تعالى فإنه سبحانه حرمها على المطلق ثلاثا عقوبة له فتوسل هذا بنكاحها إلى تحليل ما حرمه الله تعالى له ولم يتوسل به إلى ما شرع له فكان القصد محرما والوسيلة باطلة
وكذلك شرع الله البيع وسيلة إلى انتفاع المشتري بالعين والبائع بالثمن فتوسل به المرابي إلى محض الربا وأتى به لغير مقصوده فإنه لا غرض له في تملك تلك العين ولا الانتفاع بها وإنما غرضه الربا فتوسل إليه بالبيع
وكذلك شرع سبحانه الأخذ بالشفعة دفعا للضرر عن الشريك فتوسل المبطل لها بإظهار الصرف الذي لا حقيقة له إلى إبطالها فكانت وسيلته باطلة ومقصوده محرما وكذلك الزكاة فرضها رحمة منه بالمساكين وطهرة للأغنياء فتوسل المسقط لها إلى إبطال هذا المقصود بإظهار عقد لا حقيقة له من بيع أو هبة وكذلك القرض شرع الله سبحانه فيه العدل وأن لا يزداد على مثل ما أقرض فإذا احتال المقرض على الزيادة فقد احتال على مقصود محرم بطريق باطلة
وكذلك بيع الثمر قبل بدو صلاحها باطل لما يفضي إليه من أكل المال بالباطل فإذا احتال عليه بأن شرط القطع ثم تركه حتى يكمل كان قد احتال على مقصود محرم بشرط غير مقصود بل قد علم المتعاقدان وغيرهما أنه لا يقطعه ولا سيما إن كان مما لا ينتفع به قبل الصلاح بوجه كالتوت والفرسك وغيرهما فاشتراط قطعه خداع محض
وكذلك سائر الحيل التي تعود على مقصود الشارع وشرعه بالنقض والإبطال غاياتها محرمة ووسائلها باطلة لا حقيقة لها
وكذلك الفدية والخلع التي شرعها الله يخلص كلا من الزوجين من الآخر إذا وقع الشقاق بينهما فجعلوه حيلة للحنث في اليمين وبقاء النكاح والله سبحانه إنما شرعه لقطع النكاح حيث يكون قطعه مصلحة لهما
وبهذا يتبين لك الفرق بين الحيل التي يتوصل بها إلى تنفيذ أمر الله سبحانه وتعالى ورسوله وإقامة دينه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونصر المحق وكسر المبطل والحيل التي يتوصل بها إلى خلاف ذلك فتحصيل المقاصد المشروعة بالطرق التي جعلت موصلة إليها شيء وتحصيل المقاصد الفاسدة بالطرق التي جعلت لغيرها شيء آخر
فالفرق بين النوعين ثابت من جهة الوسيلة والمقصود اللذين هما: المحتال به والمحتال عليه
فالطرق الموصلة إلى الحلال المشروع هي الطرق التي لا خداع في وسائلها ولا تحريم في مقاصدها وبالله التوفيق
فصل
وأما قولكم: إن من حلف بطلاق زوجته: ليشربن هذا الخمر أو ليقتلن هذا الرجل أو نحو ذلك كان في الحيلة تخليصه من هذه المفسدة ومن مفسدة وقوع الطلاق
فيقال: نعم والله قد شرع الله له ما يتخلص به ولخلاصه طرق عديدة فلا تتعين الحيلة التي هي خداع ومكر لتخليصه بل ههنا طرق عدة قد سلك كل طريق منها طائفة من الفقهاء من سلف الأمة وخلفها الطريق الأولى: طريقة من قال: لا تنعقد هذه اليمين بحال ولا يحنث فيها بشيء سواء كانت بصيغة الحلف كقوله الطلاق يلزمني لأفعلن أو بصيغة التعليق المقصود كقوله إن طلعت الشمس أو إن حضت أو إن جاء رأس الشهر فأنت طالق أو التعليق المقصود به اليمين من الحض والمنع والتصديق والتكذيب كقوله إن لم أفعل كذا وإن فعلت كذا فامرأتي طالق وهذا اختيار أجل أصحاب الشافعي الذين جالسوه أو من هو من أجلهم: أبي عبد الرحمن وهو أجل من أصحاب الوجوه المنتسبين إلى الشافعي وهذا مذهب أكثر أهل الظاهر
فعندهم أن الطلاق لا يقبل التعليق كالنكاح ولم يرد مخالفوا هؤلاء عليهم بحجة تشفي
الطريق الثانية: طريق من يقول: لا يقع الطلاق المحلوف به ولا العتق المحلوف به ويلزمه كفارة اليمين إذا حنث فيه وهذا مذهب ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وعائشة وزينب بنت أم سلمة وحفصة في الحلف بالعتق الذي هو قربة إلى الله تعالى بل من أحب القرب إلى الله ويسري في ملك الغير فما يقول هؤلاء في الحلف بالطلاق الذي هو أبغض الحلال إلى الله تعالى وأحب الأشياء إلى الشيطان والسائل لهؤلاء الصحابة إنما كان امرأة حلفت بأن كل مملوك لها حرك إن لم تفرق بين عبدها وبين امرأته فقالوا لها: كفري عن يمينك وخلي بين الرجل وبين امرأته وهؤلاء الصحابة أفقه في دين الله وأعلم من أن يفتوا بالكفارة في الحلف بالعتق ويرونه يمينا ولا يرون الحلف بالطلاق يمينا ويلزمون الحانث بوقوعه فإنه لا يجد فقيه شم رائحة العلم بين البابين والتعليقين فرقا بوجه من الوجوه
وإنما لم يأخذ به أحمد لأنه لم يصح عنده إلا من طريق سليمان التيمي واعتقد أنه تفرد به وقد تابعه عليه محمد بن عبد الله الأنصاري وأشعث الحمراني ولهذا لما ثبت عند أبي ثور قال به وظن الإجماع في الحلف بالطلاق على لزومه فلم يقل به
الطريق الثالثة: طريق من يقول: ليس الحلف بالطلاق شيئا وهذا صحيح عن طاوس وعكرمة
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 15 (0 من الأعضاء و 15 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)