وهم أصناف مختلفة:
فمنهم من يحرم إلقاء النفوس فيها وإحراق الأبدان بها وهم أكثر المجوس وطائفة أخرى منهم: تبلغ بهم عبادتهم لها إلى أن يقربوا أنفسهم وأولادهم لها وهؤلاء أكثر ملوك الهند وأتباعهم ولهم سنة معروفة في تقريب نفوسهم وإلقائهم فيها فيعمد الرجل الذي يريد أن يفعل ذلك بنفسه أو بولده أو حبيبه فيحمله ويلبسه أحسن اللباس وأفخر الحلبي ويركبه أعلى المراكب وحوله المعازف والطبول والبوقات فيزف إلى النار أعظم من زفافه ليلة عرسه حتى إذا ما قابلها ووقف عليها وهي تأجج طرح نفسه فيها فضج الحاضرون ضجة واحدة بالدعاء له وغبطته على ما فعل فلا يلبث إلا يسيرا حتى يأتيهم الشيطان في صورته وشكله وهيأته لا ينكرون منه شيئا فيأمرهم بأمره ويوصيهم بما يوصيهم به ويوصيهم بالتمسك بهذا الدين ويخبرهم أنه صار إلى جنة ورياض وأنهار وأنه لم يتألم بمس النار له فلا يهولنهم ذلك ولا يمنعهم عن أن يفعلوا مثله ومنهم زهاد وعباد يجلسون حول النار صائمين عاكفين عليها ومن سنتهم: الحث على الأخلاق الجملية كالصدق والوفاء وأداء الأمانة والعفة والعدل وترك أضدادها ولهؤلاء شرائع في عبادتها ونواميس وأوضاع لا يخلون بها
فصل
ومن كيده وتلاعبه: تلاعبه بطائفه أخرى تعبد الماء من دون الله وتسمى الحلبانية
وتزعم أن الماء لما كان أصل كل شيء وبه كل ولادة ونمو ونشوء وطهارة وعمارة وما من عمل في الدنيا إلا ويحتاج إلى الماء فكان حقه أن يعبد
ومن شريعتهم في عبادته: أن الرجل منهم إذا أراد عبادته تجرد وستر عورته ثم دخل فيه حتى يصير إلى وسطه فيقيم هناك ساعتين أو أكثر بقدر ما أمكنه ويكون معه ما يمكنه أخذه من الرياحين فيقطعها صغارا فيلقيها فيه شيئا فشيئا وهو يسبحه ويمجده فإذا أراد الانصراف حرك الماء بيديه ثم أخذ منه فيضعه على رأسه ووجهه وجسده ثم يسجد وينصرف
فصل
ومن تلاعبه: تلاعبه بعباد الحيوانات فطائفة عبدت الخيل وطائفة عبدت البقر وطائفة عبدت البشر الأحياء والأموات وطائفة تعبد الشجر وطائفة تعبد الجن كما قال سبحانه: ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك ! أنت ولعينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون وقال تعالى: ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم
وقال تعالى: ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم يعني قد استكثرتم من إضلالهم وإغوائهم
قال ابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم: أضللتم منهم كثيرا فيجيبه سبحانه أولياؤهم من الإنس بقولهم ربنا استمتع بعضنا ببعض يعنون استمتاع كلع نوع بالنوع الآخر فاستمتاع الجن بالإنس: طاعتهم لهم فيما يأمرونهم به: من الكفر والفسوق والعصيان فإن هذا أكثر أغراض الجن من الإنس فإذا أطاعوهم فيه فقد أعطوهم مناهم واستمتاع الإنس بالجن: أنهم أعانوهم على معصية الله تعالى والشرك به بكل ما يقدرون عليه: من التحسين والتزيين والدعاء وقضاء كثير من حوائجهم واستخدامهم بالسحر والعزائم وغيرها فأطاعهم الإنس فيما يرضيهم: من الشرك والفواحش والفجور وأطاعتهم الجن فيما يرضيهم: من التأثيرات والإخبار ببعض المغيبات، فتمتع كل من الفريقين بالآخر
وهذه الآية منطبقة على أصحاب الأحوال الشيطانية الذين لهم كشوف شيطانية وتأثير شيطاني فيحسبهم الجاهل أولياء الرحمن وإنما هم من أولياء الشيطان أطاعوه في الإشراك ومعصية الله والخروج عما بعث به رسله وأنزل به كتبه فأطاعهم في أن خدمهم بإخبارهم بكثير من المغيبات والتأثيرات واغتر بهم من قل حظه من العلم والإيمان فوالى أعداء الله وعادى أولياءه وحسن الظن بمن خرج عن سبيله وسنته وأساء الظن بمن اتبع سنة الرسول وما جاء به ولم يدعها لأقوال المختلفين وآراء المتحيرين وشطحات المارقين وترهات المتصوفين
والبصير الذي نور الله بصيرته بنور الإيمان والمعرفة إذا عرف حقيقة ما عليه أكثر هذا الخلق وكان ناقدا لا يروج عليه الزغل تبين له أنهم داخلون تحت حكم هذه الآية وهي منطبقة عليهم
فالفاسق يستمتع بالشيطان بإعانته له على أسباب فسوقه والشيطان يستمتع به في قبوله منه وطاعته له فيسره ذلك ويفرح به منه والمشرك يستمتع به الشيطان بشركه به وعبادته له ويستمتع هو بالشيطان في قضاء حوائجه وإعانته له
ومن لم يحط علما بهذا لم يعلم حقيقة الإيمان والشرك وسر امتحان الرب سبحانه كلا من الثقلين بالآخر
ثم قالوا: وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا وهو يتناول أجل الموت وأجل البعث فكلاهما أجل أجله الله تعالى لعباده وهما الأجلان اللذان قال الله فيهما ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده
وكأن هذا والله أعلم إشارة منهم إلى نوع استعطاف وتوبة فكأنهم يقولون: هذا أمر قد كان إلى وقت وانقطع بانقطاع أجله فلم يستمر ولم يدم فبلغ الأمر الذي كان أجله وانتهى إلى غايته ولكل شيء آخر فقال تعالى: النار مثواكم خالدين فيها فإنه وإن انقطع زمن التمتع وانقضى أجله فقد بقي زمن العقوبة فلا يتوهم أنه إذا انقصى زمن الكفر والشرك وتمتع بعضكم ببعض أن مفسدته زالت بزواله وانتهت بانتهائه والمقصود: أن الشيطان تلاعب بالمشركين حتى عبدوه واتخذوه وذريته أولياء من دون الله
فصل
ومن تلاعبه بهم: أن زين لقوم عبادة الملائكة فعبدوهم بزعمهم ولم تكن عبادتهم في الحقيقة لهم ولكن كانت للشياطين فعبدوا أقبح خلق الله وأحقهم باللعن والذم قال تعالى: ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهكؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجنع أكثرهم بهم مؤمنون وقال تعالى: ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل قالوا سبحانك ! ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفا ولا نصرا ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا وهذه الآيات تحتاج إلى تفسير وبيان فقوله سبحانه: ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله عام في كل عابد ومن عبده من دون الله
وأما قوله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل فقال مجاهد فيما رواه ورقاء عن ابن أبي نجيح عنه قال: هذا خطاب لعيسى وعزير والملائكة وروى عنه ابن جريج نحوه
وأما عكرمة والضحاك والكلبي فقالوا: هو عام في الأوثان وعبدتها
ثم يأذن سبحانه لها في الكلام فيقول: أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء قال مقاتل: يقول سبحانه أأنتم أمرتموهم بعبادتكم أم هم ضلوا السبيل أى أم هم أخطؤا الطريق فأجاب المعبودون بما حكى الله عنهم من قولهم سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء
وهذا الجواب إنما يحسن من الملائكة والمسيح وعزيز ومن عبدهم المشركون من أولياء الله ولهذا قال ابن جرير يقول تعالى ذكره قالت الملائكة وعيسى الذين كان هؤلاء المشركون يعبدونهم من دون الله تنزيها لك يا ربنا وتبرئه مما أضاف إليك هؤلاء المشركون ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء نواليهم بل أنت ولينا من دونهم
وقال ابن عباس ومقاتل نزهوا الله وعظموه أن يكون معه إله
وفيها قراءتان أشهرهما نتخذ بفتح النون وكسر الخاء على البناء للفاعل وهي قراءة السبعة والثانية نتخذ بضم النون وفتح الخاء على البناء للمفعول وهي قراءة الحسن ويزيد بن القعقاع
وعلى كل واحدة من القراءتين إشكال
فأما قراءة الجمهور فإن الله سبحانه إنما سألهم هل أضلوا المشركين بأمرهم إياهم بعبادتهم أم هم ضلوا السبيل باختيارهم وأهوائهم وكيف يكون هذا الجواب مطابقا للسؤال فإنه لم يسألهم هل اتخذتم من دوني من أولياء حتى يقولوا ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء وإنما سألهم هل أمرتم عبادي هؤلاء بالشرك أم هم أشركوا من قبل أنفسهم فالجواب المطابق أن يقولوا لم نأمرهم بالشرك وإنما هم آثروه وارتضوه أو لم نأمرهم بعبادتنا كما قال في الآية الأخرى عنهم 28: 13 تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون
فلما رأى أصحاب القراءة الأخرى ذلك فروا إلى بناء الفعل للمفعول وقالوا الجواب يصح على ذلك ويطابق إذ المعنى ليس يصلح لنا أن نعبد ونتخذ آلهة فكيف نأمرهم بما لا يصلح لنا ولا يحسن منا
ولكن لزم هؤلاء من الإشكال أمر آخر وهو قوله من أولياء فإن زيادة من لا يحسن إلا مع قصد العموم كما تقول ما قام من رجل وما ضربت من رجل فأما إذا كان النفي واردا على شيء مخصوص فإنه لا يحسن زيادة من فيه وهم إنما نفوا عن أنفسهم ما نسب إليهم من دعوى المشركين أنهم أمروهم بالشرك فنفوا عن أنفسهم ذلك بأنه لا تحسن منهم ولا يليق بهم أن يعبدوا فكيف ندعوا عبادك إلى أن يعبدونا فكان الواجب على هذا أن تقرأ ما كان ينبغي لنا أن نتخذ أولياء من دونك أو من دونك أولياء
فأجاب أصحاب القراءة الأولى بوجوه
أحدها أن المعنى ما كان ينبغي لنا أن نعبد غيرك ونتخذ غيرك وليا ومعبودا فكيف ندعو أحدا إلى عبادتنا أي إذا كنا نحن لا نعبد غيرك فكيف ندعو أحدا إلى أن يعبدنا والمعنى أنهم إذا كانوا لا يرون لأنفسهم عبادة غير الله تعالى فكيف يدعون غيرهم إلى عبادتهم وهذا جواب الفراء
وقال الجرجاني هذا بالتدريج يصير جوابا للسؤال الظاهر وهو أن من عبد شيئا فقد تولاه وإذا تولاه العابد صار المعبود وليا للعابد يدل على هذا قوله تعالى ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم فدل على أن العابد يصير وليا للمعبود
ويصير المعنى كأنهم قالوا ما كان ينبغي لنا أن نأمر غيرنا باتخاذنا أولياء وأن نتخذ من دونك وليا يعبدنا وهذا بسط لقول ابن عباس في هذه الآية
قال يقولون ما توليناهم ولا أحببنا عبادتهم قال ويحتمل أن يكون قولهم ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء أن يريدوا معشر العبيد لا أنفسهم أي نحن وهم عبيدك ولا ينبغي لعبيدك أن يتخذوا من دونك أولياء ولكنهم أضافوا ذلك إلى أنفسهم تواضعا منهم كما يقول الرجل لمن أتى منكرا ما كان ينبغي لي أن أفعل مثل هذا أي أنت مثلي عبد محاسب فإذا لم يحسن من مثلي أن يفعل هذا لم يحسن منك أيضا
قال ولهذا الإشكال قرأ من قرأ نتخذ بضم النون وهذه القراءة أقرب في التأويل
لكن قال الزجاج هذه القراءة خطأ لأنك تقول ما اتخذت من أحد وليا ولا يجوز ما اتخذت أحدا من ولي لأن من إنما دخلت لأنها تنفي واحدا من معنى جميع تقول ما من أحد قائما وما من رجل محبا لما يضره ولا يجوز ما رجل من محب لما يضره
قال ولا وجه عندنا لهذا ألبتة ولو جاز هذا لجاز في 69: 47 فما منكم من أحد عنه حاجزين ما أحد عنه من حاجزين فلو لم تدخل من لصحت هذه القراءة
قال صاحب النظم العلة في سقوط هذه القراءة أن من لا تدخل إلا على مفعول لا مفعول دونه فإذا كان قبل المفعول مفعول سواه لم يحسن دخول من كقوله: ما كان لله أن يتخذ من ولد. فقوله من ولد لا مفعول دونه سواه ولو قال ما كان لله أن يتخذ أحدا من ولد لم يحسن فيه دخول من لأن فعل الإتخاذ مشغول بأحد
وصحح آخرون هذه القراءة لفظا ومعنى وأجروها على قواعد العربية
قالوا وقد قرأ بها من لا يرتاب في فصاحته فقرأ بها زيد بن ثابت وأبو الدرداء وأبو جعفر ومجاهد ونصر بن علقمة ومكحول وزيد بن علي وأبو رجاء والحسن وحفص بن حميد ومحمد بن علي على خلاف عن بعض هؤلاء ذكر ذلك أبو الفتح بن جني ثم وجهها بأن يكون من أولياء في موضع الحال أي ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك أولياء ودخلت من زائدة لمكان النفي كقولك اتخذت زيدا وكيلا فإذا نفيت قلت ما اتخذت زيدا من وكيل وكذلك أعطيته درهما وما أعطيته من درهم وهذا في المفعول فيه
قلت يعني أن زيادتها مع الحال كزيادتها مع المفعول
ونظير ذلك أن تقول ما ينبغي لي أن أخدمك متثاقلا فإذا أكدت قلت من متثاقل
فإن قيل فقد صحت القراءتان لفظا ومعنى فأيهما أحسن
قلت قراءة الجمهور أحسن وأبلغ في المعنى المقصود والبراءة مما لا يليق بهم فإنهم على قراءة الضم يكونون قد نفوا حسن اتخاذ المشركين لهم أولياء وعلى قراءة الجمهور يكونون قد أخبروا أنهم لا يليق بهم ولا يحسن منهم أن يتخذوا وليا من دونه بل أنت وحدك ولينا ومعبودنا فإذا لم يحسن بنا أن نشرك بك شيئا فكيف يليق بنا أن ندعو عبادك إلى أن يعبدونا من دونك وهذا المعنى أجل من الأول وأكبر فتأمله
والمقصود أنه على القراءتين فهذا الجواب من الملائكة ومن عبد من دون الله من أوليائه وأما كونه من الأصنام فليس بظاهر
وقد يقال إن الله سبحانه أنطقها بذلك تكذيبا لهم وردا عليهم وبراءة منهم كقوله 2: 166 إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا وفي الآية الأخرى 28: 63 تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون
ثم ذكر المعبودون سبب ترك العابدين الإيمان بالله تعالى بقولهم ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا قال ابن عباس أطلت لهم العمر وأفضلت عليهم ووسعت لهم في الرزق
وقال الفراء ولكنك متعتهم بالأموال والأولاد حتى نسوا ذكرك وكانوا قوما بورا أي هلكى فاسدين قد غلب عليهم الشقاء والخذلان والبوار الهلاك والفساد يقال بارت السلعة وبارت المرأة إذا كسدت ولم يحصل لها من يتزوجها
قال قتادة والله ما نسي قوم ذكر الله تعالى إلا باروا وفسدوا
والمعنى ما أضللناهم ولكنهم ضلوا
قال الله تعالى فقد كذبوكم بما تقولون أي كذبكم المعبودون بقولكم فيهم إنهم آلهة وإنهم شركاء أو بما تقولون إنهم أمروكم بعبادتهم ودعوكم إليها
وقيل الخطاب للمؤمنين في الدنيا أي فقد كذبكم أيها المؤمنون هؤلاء المشركون بما تقولونه مما جاء به محمد عن الله من التوحيد والإيمان
والأول أظهر وعليه يدل السياق
ومن قرأها بالياء آخر الحروف فالمعنى فقد كذبوكم بقولهم ثم قال فما تستطيعون صرفا ولا نصرا إخبارا عن حالهم يومئذ وأنهم لا يستطيعون صرف العذاب عن أنفسهم ولا نصرها من الله
قال ابن زيد ينادي مناد يوم القيامة حتى يجتمع الخلائق 37: 25 ما لكم لا تناصرون يقول من عبد من دون الله لا ينصر اليوم من عبده والعابد لا ينصر إلهه 26 بل هم اليوم مستسلمون فهذا حال عباد الشيطان يوم لقاء الرحمن فواسوء حالهم حين امتيازهم عن المؤمنين إذا سمعوا النداء 36: 59 وامتازوا اليوم أيها المجرمون ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون
فصل
ومن تلاعبه وكيده تلاعبه بالثنوية وهم طائفة قالوا الصانع اثنان ففاعل الخير نور وفاعل الشر ظلمة وهما قديمان لم يزالا ولن يزالا قويين حساسين مدركين سميعين بصيرين وهما مختلفان في النفس والصورة متضادان في الفعل والتدبير فالنور فاضل حسن نقي طيب الريح حسن المنظر ونفسه خيرة كريمة حكيمة نفاعة منها الخيرات والمسرات والصلاح وليس فيها شيء من الضرر ولا من الشر
والظلمة على ضد ذلك من الكدر والنقص ونتن الريح وقبح المنظر ونفسها نفس شريرة بخيلة سفيهة منتنة مضرة منها الشر والفساد
ثم اختلفوا فقالت فرقة منهم إن النور لم يزل فوق الظلمة
وقالت فرقة بل كل واحد منهما إلى جانب الآخر
وقالت فرقة النور لم يزل مرتفعا في ناحية الشمال والظلمة منحطة في الجنوب ولم يزل كل واحد منهما مباينا لصاحبه
وزعموا أن لكل واحد منهما أربعة أبدان وخامس هو الروح فأبدان النور الأربعة النار والنور والريح والماء وروحه النسيم ولم يزل يتحرك في هذه الأبدان
وأبدان الظلمة الأربعة الحريق والظلمة والسموم والضباب وروحها الدخان وسموا أبدان النور ملائكة وسموا أبدان الظلمة شياطين وعفاريت
وبعضهم يقول الظلمة تتولد شياطين والنور يتولد ملائكة والنور لا يقدر على الشر ولا يجيء منه والظلمة لا تقدر على الخير ولا يجي منها
ولهم مذاهب سخيفة جدا
وفرض عليهم صوم سبع العمر وأن لا يؤذي أحدهم ذا روح ألبتة
ومن شريعتهم أن لا يدخروا إلا قوت يوم وتجنب الكذب والبخل والسحر وعبادة الأوثان والزنا والسرقة
واختلفوا هل الظلمة قديمة أو حادثة
فقالت فرقة منهم هي قديمة لم تزل مع النور
وقالت فرقة بل النور هو القديم ولكنه فكر فكرة رديئة حدثت منها الظلمة
فدار مذهبهم على أصلين من أبطل الباطل:
أحدهما أن شر الموجودات وأخبثها وأردأها كفؤ لخير الموجودات وضد له ومناوء له يعارضه ويضاده ويناقضه دائما ولا يستطيع دفعه
وهذا أعظم من شرك عباد الأصنام الذين عبدوها لتقربهم إلى الله تعالى فإنهم جعلوها مملوكة له مربوبة مخلوقة كما كانوا يقولون في تلبيتهم لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه ومالك
والأصل الثاني أنهم نزهو النور أن يصدره منه شر ثم جعلوه منبع الشر كله وأصله ومولده وأثبتوا إلهين وربين وخالقين فجمعوا بين الكفر بالله تعالى وأسمائه وصفاته ورسله وأنبيائه وملائكته وشرائعه وأشركوا به أعظم الشرك
وحكى أرباب المقالات عنهم أن قوما منهم يقال لهم الديصانية زعموا أن طينة العالم كانت طينة خشنة وكانت تحاكي جسم النور الذي هو الباري عندهم زمانا فتأذى بها فلما طال ذلك عليه قصد تنحيتها عنه فتوحل فيها واختلط بها فتركب من بينهما هذا العالم المشتمل على النور والظلمة فما كان من جهة الصلاح فمن النور وما كان من جهة الفساد فمن الظلمة قال: وهؤلاء يغتالون الناس ويخنقونهم ويزعمون أنهم يحسنون إليهم بذلك وأنهم يخلصون الروح النورانية من الجسد المظلم
وقال بعضهم: إن الباري سبحانه لما طالت وحدته استوحش ففكر فكرة سوء فتجسمت فكرته فاستحالت ظلمة فحدث منها إبليس فرام الباري إبعاده عن نفسه فلم يستطع فتحرز منه بخلق الجنود والخيرات فشرع إبليس في خلق الشر وأصل عقد مذهبهم الذي عليه خواصهم: إثبات القدماء الخمسة: الباري والزمان والخلاء والهيولي وإبليس فالباري خالق الخيرات وإبليس خالق الشرور وكان محمد بن زكريا الرازى على هذا المذهب لكنه لم يثبت إبليس فجعل مكانه النفس وقال: بقدم الخمسة مع ما رشحه به من مذاهب الصابئة والدهرية والفلاسفة والبراهمة فكان قد أخذ من كل دين شر ما فيه وصنف كتابا في إبطال النبوات ورسالة في إبطال المعاد فركب مذهبا مجموعا من زنادقة العالم
وقال: أنا أقول: إن الباري والنفس والهيولي والمكان والزمان: قدماء وأن العالم محدث
فقيل له: فما العلة في إحداثه
فقال: إن النفس اشتهت أن تحبل في هذا العالم وحركتها الشهوة لذلك ولم تعلم ما يلحقها من الوبال إذا حبلت فيه فاضطربت وحركت الهيولي حركات مشوشة مضطربة على غير نظام وعجزت عما أرادت فأعانها الباري على إحداث هذا العالم وحملها على النظام والاعتدال وعلم أنها إذا ذاقت وبال ما اكتسبته عادت إلى عالمها وسكن اضطرابها وزالت شهواتها واستراحت فأحدثت هذا العالم بمعاونة الباري لها قال: ولولا ذلك لما قدرت على إحداث هذا العالم ولولا هذه العلة لما حدث هذا العالم
ولولا أن الله سبحانه يحكي عن المشركين والكفار أقوالا أسخف من هذا وأبطل لاستحيى العاقل من حكاية مثل هذا ولكن الله سبحانه سن لنا حكاية أقوال أعدائه
وفي ذلك من قوة الإيمان وظهور جلالته ومعرفة قدره وتمام نعمة الله تعالى على أهله به ومعرفة قدر خذلانه للعبد وإلى أي شيء يصيره الخذلان حتى يصير ضحكة لكل عاقل فأي ضلال وأي خذلان أعجب ممن أن يفني عمره في النظر والبحث وهذا غاية علمه بالله تعالى وبالمبدأ والمعاد
فصل
والمجوس تعظم الأنوار والنيران والماء والأرض ويقرون بنبوة زرادشت ولهم شرائع يصيرون إليها وهم فرق شتى منهم: المزدكية أصحاب مزدك الموبذ والموبذ عندهم: العالم القدوة وهؤلاء يرون الاشتراك في النساء والمكاسب كما يشترك في الهواء والطرق وغيرها ومنهم الخرمية: أصحاب بابك الخرمي وهم شر طوائفهم لا يقرون بصانع ولا معاد ولا نبوة ولا حلال ولا حرام وعلى مذهبهم: طوائف القرامطة والإسماعلية والنصيرية والبشكية والدرزية والحاكمية وسائر العبيدية الذين يسمون أنفسهم الفاطمية وهم من أكفر الكفار كما ستأتي ترجمتهم فكل هؤلاء يجمعهم هذا المذهب ويتفاوتون في التفصيل
فالمجوس شيوخ هؤلاء كلهم وأئمتهم وق***هم وإن كان المجوس قد يتقيدون بأصل دينهم وشرائعهم وهؤلاء لا يتقيدون بدين من ديانات العالم ولا بشريعة من الشرائع
ذكر تلاعبه بالصابئة
هذه أمة كبيرة من الأمم الكبار وقد اختلف الناس فيهم اختلافا كثيرا بحسب ما وصل إليهم من معرفة دينهم وهم منقسمون إلى مؤمن وكافر قال الله تعالى: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون
فذكرهم في الأمم الأربعة الذين تنقسم كل أمة منهم إلى ناج وهالك
وذكرهم أيضا في الأمم الستة الذين انقسمت جملتهم إلى ناج وهالك كما في قوله: إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة
فذكر الأمتين اللتين لا كتاب لهم ولا ينقسمون إلى شقي وسعيد وهما: المجوس والمشركون في آية الفصل ولم يذكرهما في آية الوعد بالجنة وذكر الصابئين فيهما فعلم أن فيهم الشقي والسعيد
وهؤلاء كانوا قوم إبراهيم الخليل وهم أهل دعوته وكانوا بحران فهي دار الصابئة وكانوا قسمين صائبة حنفاء وصابئة مشركين والمشركون منهم يعظمون الكواكب السبعة والبروج الاثني عشر ويصورونها في هياكلهم
ولتلك الكواكب عندهم هياكل مخصوصة وهي المتعبدات الكبار كالكنائس للنصارى والبيع لليهود فلهم هيكل كبير للشمس وهيكل للقمر وهيكل للزهرة وهيكل للمشتري وهيكل للمريخ وهيكل لعطارد وهيكل لزحل وهيكل للعلة الأولى
ولهذه الكواكب عندهم عبادات ودعوات مخصوصة ويصورونها في تلك الهياكل ويتخذون لها أصناما تخصها ويقربون لها القرابين ولها صلوات خمس في اليوم والليلة نحو صلوات المسلمين
وطوائف منهم يصومون شهر رمضان ويستقبلون في صلواتهم الكعبة ويعظمون مكة ويرون الحج إليها ويحرمون الميتة والدم ولحم الخنزير ويحرمون من القرابات في النكاح ما يحرمه المسلمون
وعلى هذا المذهب كان جماعة من أعيان الدولة ببغداد منهم هلال بن المحسن الصابىء صاحب الديوان الإنشائي وصاحب الرسائل المشهورة وكان يصوم مع المسلمين ويعيد معهم ويزكي ويحرم المحرمات وكان الناس يعجبون من موافقته للمسلمين وليس على دينهم وأصل دين هؤلاء فيما زعموا أنهم يأخذون بمحاسن ديانات العالم ومذاهبهم ويخرجون من قبيح ما هم عليه قولا وعملا ولهذا سموا صابئة أي خارجين فقد خرجوا عن تقيدهم بجملة كل دين وتفصيله إلا ما رأوه فيه من الحق وكانت قريش تسمي النبي الصابىء وأصحابه الصبأة يقال: صبأ الرجل بالهمز إذا خرج من شيء إلى شيء وصبا يصبو إذا مال ومنه قوله: وإلا تصرف عنى كيدهن أصب إليهن أي أمل والمهموز والمعتل يشتركان فالمهموز: ميل عن الشيء والمعتل: ميل إليه واسم الفاعل من المهموز: صابىء بوزن قارىء ومن المعتل: صاب بوزن قاض وجمع الأول: صابئون كقارئون وجمع الثاني: صابون كقاضون وقد قرىء بهما
والمقصود: أن هذه الأمة قد شاركت جميع الأمم وفارقتهم فالحنفاء منهم شاركوا أهل الاسلام في الحنيفية والمشركون منهم شاركوا عباد الأصنام ورأوا أنهم على صواب وأكثر هذه الأمة فلاسفة والفلاسفة يأخذون من كل دين بزعمهم محاسن ما دلت عليه العقول وعقلاؤهم يوجبون اتباع الأنبياء وشرائعهم وبعضهم لا يوجب ذلك ولا يحرمه وسفهاؤهم وسفلتهم يمنعون ذلك كما سيأتي ذكر تلاعب الشيطان بهم بعد هذا
ولهذا لم يكن هؤلاء الفلاسفة ولا الصابئة من الأمم المستقلة التي لها كتاب ونبي وإن كانوا من أهل دعوة الرسل فما من أمة إلا وقد أقام الله سبحانه عليها حجته وقطع عنها حجتها لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وتكون حجته عليهم والمقصود: أن الصابئة فرق فصابئة حنفاء وصابئة مشركون وصابئة فلاسفة وصابئة يأخذون بمحاسن ما عليه أهل الملل والنحل من غير تقيد بملة ولا نحلة ثم منهم من يقر بالنبوات جملة ويتوقف في التفصيل ومنهم من يقر بها جملة وتفصيلا ومنهم من ينكرها جملة وتفصيلا
وهم يقرون أن للعالم صانعا فاطرا حكيما مقدسا عن العيوب والنقائص ثم قال المشركون منهم: لا سبيل لنا إلى الوصول إلى جلاله إلا بالوسائط فالواجب علينا أن نتقرب إليه بتوسطات الروحانيات القريبة منه وهم الروحانيون المقربون المقدسون عن المواد الجسمانية وعن القوى الجسدانية بل قد جبلوا على الطهارة فنحن نتقرب إليهم ونتقرب بهم إليه فهم أربابنا وا لهتنا وشفعاؤنا عند رب الأرباب وإله الا لهة فما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى فالواجب علينا أن نطهر نفوسنا عن الشهوات الطبيعية ونهذب أخلاقنا من علائق القوى الغضبية حتى تحصل المناسبة بيننا وبين الروحانيات وتتصل أرواحنا بهم فحينئذ نسأل حاجتنا منهم ونعرض أحوالنا عليهم ونصبوا في جميع أمورنا إليهم فيشفعون لنا إلى إلهنا وإلهكهم، وهذا التطهير والتهذيب لا يحصل إلا باستمداد من جهة الروحانيات وذلك بالتضرع والابتهال بالدعوات: من الصلوات والزكوات وذبح القرابين والبخورات والعزائم فحينئذ يحصل لنفوسنا استعداد واستمداد من غير واسطة الرسل بل نأخذ من المعدن الذي أخذت منه الرسل فيكون حكمنا وحكمهم واحدا ونحن وإياهم بمنزلة واحدة
قالوا: والأنبياء أمثالنا في النوع وشركاؤنا في المادة وأشكالنا في الصورة يأكلون مما نأكل ويشربون مما نشرب وما هم إلا بشر مثلنا يريدون أن يتفضلوا علينا
وزادت الاتحادية أتباع ابن عربي وابن سبعين والعفيف التلمساني وأضرابهم على هؤلاء بما قاله شيخ الطائفة محمد بن عربي: أن الولي أعلى درجة من الرسول لأنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي إلى الرسول فهو أعلى منه بدرجتين
فجعل هؤلاء الملاحدة أنفسهم وشيوخهم أعلى في التلقي من الرسل بدرجتين وإخوانهم من المشركين جعلوا أنفسهم في ذلك التلقي بمنزلة الأنبياء ولم يدعوا أنهم فوقهم
والمقصود: أن هؤلاء كفروا بالأصلين اللذين جاءت بهما جميع الرسل والأنبياء من أولهم إلى ا خرهم
أحدهما: عبادة الله وحده لا شريك له والكفر بما يعبد من دونه من إله والثاني: الإيمان برسله وما جاؤا به من عند الله تصديقا وإقرارا وانقيادا وامتثالا وليس هذا مختصا بمشركي الصابئة كما غلط فيه كثير من أرباب المقالات بل هذا مذهب المشركين من سائر الأمم لكن شرك الصابئة كان من جهة الكواكب والعلويات ولذلك ناظرهم إمام الحنفاء صلوات الله وسلامه عليه في بطلان إلهيتها بما حكاه الله سبحانه في سورة الأنعام أحسن مناظرة وأبينها ظهرت فيها حجته ودحضت حجتهم فقال بعد أن بين بطلان إلهية الكواكب والقمر والشمس بأفولها وأن الإله لا يليق به أن يغيب ويأفل بل لا يكون إلا شاهدا غير غائب كما لا يكون إلا غالبا قاهرا غير مغلوب ولا مقهور نافعا لعباده يملك لعابده الضر والنفع فيسمع كلامه ويرى مكانه ويهديه ويرشده ويدفع عنه كل ما يضره ويؤذيه وذلك ليس إلا لله وحده فكل معبود سواه باطل
فلما رأى إمام الحنفاء أن الشمس والقمر والكواكب ليست بهذه المثابة صعد منها إلى فاطرها وخالقها ومبدعها فقال: إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا
وفي ذلك إشارة إلى أنه سبحانه خالق أمكنتها ومحالها التي هي مفتقرة إليها ولا قوام لها إلا بها فهي محتاجة إلى محل تقوم به وفاطر يخلقها ويدبرها ويربها والمحتاج المخلوق المربوب المدبر لا يكون إلها فحاجه قومه في الله ومن حاج في عبادة الله فحجته داحضة فقال إبراهيم عليه السلام: أتحاجونىع في الله وقد هدان وهذا من أحسن الكلام أي أتريدون أن تصرفوني عن الإقرار بربي وبتوحيده وعن عبادته وحده وتشككوني فيه وقد أرشدني وبين لي الحق حتى استبان لي كالعيان وبين لي بطلان الشرك وسوء عاقبته وأن ا لهتكم لا تصلح للعبادة وأن عبادتها توجب لعابديها غاية الضرر في الدنيا والا خرة فكيف تريدون مني أن أنصرف عن عبادته وتوحيده إلى الشرك به وقد هداني إلى الحق وسبيل الرشاد فالمحاجة والمجادلة إنما فائدتها طلب الرجوع والانتقال من الباطل إلى الحق ومن الجهل إلى العلم ومن العمى إلى الإبصار ومجادلتكم إياي في الاله الحق الذي كل معبود سواه باطل تتضمن خلاف ذلك
فخوفوه بآلهتهم أن تصيبه بسوء كما يخوف المشرك الموحد بإلهه الذي يألهه مع الله أن يناله بسوء فقال الخليل: ولا أخاف ما تشركون به فإن ا لهتكم أقل وأحقر من أن تضر من كفر بها وجحد عبادتها ثم رد الأمر إلى مشيئة الله وحده وأنه هو الذي يخاف ويرجى فقال: إلا أن يشاء ربي شيئا وهذا استثناء منقطع والمعنى: لا أخاف ا لهتكم فإنها لا مشيئة لها ولا قدرة لكن إن شاء ربي شيئا نالني وأصابني لا ا لهتكم التي لا تشاء ولا تعلم شيئا وربي له المشيئة النافذة وقد وسع كل شيء علما فمن أولى بأن يخاف ويعبد: هو سبحانه أم هي
ثم قال: أفلا تتذكرون فتعلمون ما أنتم عليه من إشراك من لا مشيئة له ولا يعلم شيئا ممن له المشيئة التامة والعلم التام ثم قال: وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزعل به عليكم سلطانا وهذا من أحسن قلب الحجة وجعل حجة المبطل بعينها دالة على فساد قوله وبطلان مذهبه فإنهم خوفوه با لهتهم التي لم ينزل الله عليهم سلطانا بعبادتها وقد تبين بطلان إلهيتها ومضرة عبادتها ومع هذا فلا تخافون شرككم بالله وعبادتكم معه ا لهة أخرى فأي الفريقين أحق بالأمن وأولى بأن لا يلحقه الخوف فريق الموحدين أم فريق المشركين
فحكم الله سبحانه بين الفريقين بالحكم العدل الذي لا حكم أصح منه فقال: الذين ا منوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أي بشرك أولئك لهم الأمن وهم مهتدون
ولما نزلت هذه الآية شق أمرها على الصحابة وقالوا: يا رسول الله وأينا لم يظلم نفسه فقال إنما هو الشرك: ألم تسمعوا قول العبد الصالح إن الشرك لظلم عظيم
فحكم سبحانه للموحدين بالهدى والأمن وللمشركين بضد ذلك وهو الضلال والخوف ثم قال وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم
قال أبو محمد بن حزم وكان الذي ينتحله الصابئون أقدم الأديان على وجه الدهر والغالب على الدنيا إلى أن أحدثوا الحوادث وبدلوا شرائعه فبعث الله إليهم إبراهيم خليله بدين الإسلام الذي نحن عليه اليوم وتصحيح ما أفسدوه بالحنيفية السمحة التي أتانا بها محمد رسول الله من عند الله تعالى وكانوا في ذلك الزمان وبعده يسمون الحنفاء
قلت هم قسمان صابئة مشركون وصابئة حنفاء وبينهم مناظرات وقد حكى الشهرستاني بعض مناظراتهم في كتابه
فصل
في ذكر تلاعبه بالدهرية وهؤلاء قوم عطلوا المصنوعات عن صانعها وقالوا ما حكاه الله عنهم 45: 24 وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر
وهؤلاء فرقتان فرقة قالت إن الخالق سبحانه لما خلق الأفلاك متحركة أعظم حركة دارت عليه فأحرقته ولم يقدر على ضبطها وإمساك حركاتها
وفرقة قالت إن الأشياء ليس لها أول ألبتة وإنما تخرج من القوة إلى الفعل فإذا خرج ما كان بالقوة إلى الفعل تكونت الأشياء مركباتها وبسائطها من ذاتها لا من شيء آخر
وقالوا إن العالم دائم لم يزل ولا يزال لا يتغير ولا يضمحل ولا يجوز أن يكون المبدع يفعل فعلا يبطل ويضمحل إلا وهو يبطل ويضمحل مع فعله وهذا العالم هو الممسك لهذه الأجزاء التي هي فيه
وهؤلاء هم المعطلة حقا وهم فحول المعطلة وقد سرى هذا التعطيل إلى سائر فرق المعطلة على اختلاف آرائهم وتباينهم في التعطيل كما سرى داء الشرك تأصيلا وتفصيلا في سائر فرق المشركين على اختلاف مذاهبهم فيه وكما سرى جحد النبوات تأصيلا وتفصيلا في سائر من جحد النبوة أو صفة من صفاتها أو أقر بها جملة وجحد مقصودها وزبدتها أو بعضه
فهذه الفرق الثلاثة سرى داؤها وبلاؤها في الناس ولم ينج منه إلا أتباع الرسل العارفون بحقيقة ما جاء به المتمسكون به دون ما سواه ظاهرا وباطنا
فداء التعطيل وداء الإشراك وداء مخالفة الرسول وجحد ما جاء به أو شيء منه هو أصل بلاء العالم ومنبع كل شر وأساس كل باطل فليست فرقة من فرق أهل الإلحاد والباطل والبدع إلا وقولها مشتق من هذه الأصول الثلاثة أو من بعضها
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة... وإلا فإني لا أظنك ناجيا
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)