وفي يوم الاثنين لأربع من شوال منها دخل بغداد عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف قادمًا من أصبهان، فأمر المعتضد - فيما ذكر - القواد باستقباله، فاستقبله القاسم بن عبيد الله والقواد، وقعد له المعتضد، فوصل إليه، وخلع عليه، وحمله على دابة بسرج ولجام محلى بذهب، وخلع معه على ابنين له وعلى ابن أخيه أحمد بن عبد العزيز وعلى نفسين من قواده، وأنزل في الدار التي كانت لعبيد الله بن عبد الله عند رأس الجسر؛ وكانت قد فرشت له.
وفي هذه السنة قرىء على القواد في دار المعتضد كتاب ورد من عمرو بن الصفار بن الليث الصفار؛ بأنه واقع رافع بن هرثمة وهزمه، وأنه مر هاربًا، وأنه على أن يتبعه.
وكانت الوقعة لخمس بقين من شهر رمضان، وقرىء الكتاب يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة خلت من ذي القعدة.
وفي يوم الأحد لثلاث عشرة بقين من ذي القعدة، وردت خريطة - فيما ذكر - من عمرو بن الليث على المعتضد، وهو في الحلبة، فانصرف إلى دار العامة، وقرىء الكتاب على القواد من عمرو بن الليث يخبر فيه أنه وجه في أثره رافع بعد الهزيمة محمد بن عمرو البلخي مع قائد آخر من قواده، وقد كان رافع صار إلى طوس فواقعوه، فانهزم واتبعوا أثره، فلحق بخوارزم، فقتل بخوارزم، فأرسل بخاتمه مع الكتاب، وذكر أنه قد حمل الرسول في أمر الرأس ما يخبر به السلطان.
وفي يوم الجمعة لثمان بقين من ذي القعدة منها قرئت الكتب على المنابر بقتل رافع بن هرثمة.
ثم دخلت سنة أربع وثمانين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من قدوم رسول عمرو بن الليث الصفار برأس رافع بن هرثمة يوم الخميس لأربع خلون من المحرم على المعتضد، فأمر بنصبه في المجلس بالجانب الشرقي إلى الظهر، ثم تحويله إلى الجانب الغربي، ونصبه هنالك إلى الليل، ثم رده إلى دار السلطان.
وخلع على الرسول وقت وصوله إلى المعتضد بالرأس.
وفي يوم الخميس لسبع خلون من صفر كانت ملحمة بين راغب ودميانة بطرسوس، وكان سبب ذلك - فيما ذكر - أن راغبًا مولي الموفق ترك الدعاء لخمارويه بن أحمد، ودعا لبدر مولى المعتضد، فوقع بينه وبين أحمد بن طغان الخلاف؛ فلما انصرف ابن طغان من الفداء الذي في سنة ثلاث وثمانين ومائتين ركب البحر ولم يدخل طرسوس، ومضى وخلف دميانة للقيام بأمر طرسوس؛ فلما كان في صفر من هذه السنة، وجه يوسف الباغمردي ليخلفه إلى طرسوس؛ فلما دخلها وقوى به دميانة، كرهوا ما يفعله راغب من الدعاء لبدر، فوقعت بينهم الفتنة، وظفر بهم راغب، فحمل دميانة وابن الباغمردي وابن اليتيم مقيدين إلى المعتضد.
ولعشر بقين من صفر في يوم الاثنين من هذه السنة وردت خريطة من الجبل، بأن عيسى النوشري أوقع ببكر بن عبد العزيز بن أبي دلف في حدود أصبهان، فقتل رجاله، واستباح عسكره، وأفلت في نفر يسير.
وفي يوم الخميس لأربع عشرة خلت من شهر ربيع الأول منها، خلع على أبي عمر يوسف بن يعقوب، وقلد قضاء مدينة أبي جعفر المنصور مكان علي ابن محمد بن أبي الشوارب، وقضاء قطر بل ومسكن وبزرجسابور والرذانين.
وقعد للخصوم في هذا اليوم في المسجد الجامع، ومكثت مدينة أبي جعفر من لدن مات ابن أبي الشوارب إلى أن وليها أبو عمر بغير قاض، وذلك خمسة أشهر وأربعة أيام.
وفي يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت منه في هذه السنة، أخذ خادم نصراني لغالب النصراني متطبب السلطان يقال له وصيف، فرفع إلى الحبس، وشهد عليه أنه شم النبي فحبس، ثم اجتمع من غد هذا اليوم ناس من العامة بسبب هذا الخادم، فصاحوا بالقاسم بن عبيد الله، وطالبوه بإقامة الحد عليه.
بسبب ما شهد عليه؛ فلما كان يوم الأحد لثلاث عشرة بقيت منه اجتمع أهل باب الطاق إلى قنطرة البردان وما يليها من الأسواق، وتداعوا، ومضوا إلى باب السلطان، فلقيهم أبو الحسين ابن الوزير، فصاحوا به، فأعلمهم أنه قد أنهى خبره إلى المعتضد، فكذبوه وأسمعوه ما كره، ووثبوا بأعوانه ورجاله حتى هربوا منهم، ومضوا إلى دار المعتضد بالثريا، فدخلوا من الباب الأول والثاني فمنعوا من الدخول، فوثبوا على من منعهم، فخرج إليهم من سألهم عن خبرهم، فأخبروه.
فكتب به إلى المعتضد، فأدخل إليه منهم جماعة، وسألهم عن الخبر فذكروه له، فأرسل معهم خفيفًا السمرقندي إلى يوسف القاضي، وتقدم إلى خفيف أن يأمر يوسف بالنظر في أمر الخادم، وأن ينهي إليه ما يقف عليه من أمره، فمضى معهم خفيف إلى يوسف، فكادوا يقتلونه ويقتلون يوسف لما دخلوا عليه مما ازدحموا، حتى أفلت يوسف منهم، ودخل بابًا وأغلقه دونهم، ولم يكن بعد ذلك للخادم ذكر، ولا كان للعامة في أمره اجتماع.
وفي هذا الشهر من هذه السنة قدم - فيما ذكر - قوم من أهل طرسوس على السلطان يسألونه أن يولى عليهم وال، ويذكرون أن بلدهم بغير وال؛ وكانت طرسوس قبل في يدي ابن طولون، فأساء إليهم، فأخرجوا عامله عن البلد، وأرسلهم في ذلك، ووعدهم الإحسان، فأبوا أن يتركوا له غلامًا يدخل بلدهم، وقالوا: من جاءنا من قبلك حاربناه، فكف عنهم.
وفي يوم الخميس لثلاث بقين من شهر ربيع الآخر من هذه السنة - فيما ذكر - ظهرت ظلمة بمصر، وحمرة في السماء شديدة؛ حتى كان الرجل ينظر إلى وجه الآخر، فيراه أحمر، وكذلك الحيطان وغير ذلك، ومكثوا كذلك من العصر إلى العشاء الآخرة، وخرج الناس من منازلهم يدعون الله ويتضرعون إليه.
وفي يوم الأربعاء لثلاث خلون من جمادى الأولى، ولإحدى عشرة ليلة خلت من حزيران، نودي في الأرباع والأسواق ببغداد بالنهي عن وقود النيران ليلة النيروز، وعن صب الماء في يومه، ونودي بمثل ذلك في يوم الخميس، فلما كان عشية يوم الجمعة نودي على باب سعيد بن يكسين صاحب الشرطة بالجانب الشرقي من مدينة السلام، بأن أمير المؤمنين قد أطلق للناس في وقود النيران وصب الماء، ففعلت العامة من ذلك ما جاوز الحد، حتى صبوا الماء على أصحاب الشرطة في مجلس الجسر - فيما ذكر.
وفيها أغريت العامة بالصياح بمن رأوا من الخدم السود: يا عقيق فكانوا يغضبون من ذلك، فوجه المعتضد خادمًا أسود عشية الجمعة برقعة إلى ابن حمدون النديم؛ فلما بلغ الخادم رأس الجسر من الجانب الشرقي صاح به صائح من العامة: يا عقيق! فشم الخادم الصائح، وقنعه، فاجتمعت جماعة من العامة على الخادم فنكسوه وضربوه، وضاعت الرقعة التي كانت معه.
فرجع إلى السلطان فأخبره بما صنع به، فأمر المعتضد طريفًا المخلدي الخادم بالركوب والقبض على كل من تولع بالخدم وضربه بالسياط.
فركب طريف يوم السبت لثلاث عشرة خلت من جمادى الأولى في جماعة من الفرسان والرجالة، وقدم بين يديه خادمًا أسود؛ فصار إلى باب الطاق لما أمر به من القبض على من صاح بالخادم: يا عقيق، فقبض فيما ذكر بباب الطابق على سبعة أنفس؛ ذكر أن بعضهم كان بزيًا؛ فضربوا بالسياط في مجلس الشرطة بالجانب الشرقي.
وعبر طريف ومضى إلى الكرخ، ففعل مثل ذلك، وأخذ خمسة أنفس فضربهم في مجلس الشرطة بالشرقية، وحمل الجميع على جمال، ونودي عليهم: هذا جزاء من أولع بخدم السلطان، وصاح بهم: يا عقيق، وحبسوا يومهم، وأطلقوا بالليل.
وفي هذه السنة عزم المعتضد بالله على لعن معاوية بن أبي سفيان على المنابر، وأمر بإنشاء كتاب بذلك يقرأ على الناس، فخوفه عبيد الله بن سليمان بن وهب اضطراب العامة، وأنه لا يأمن أن تكون فتنة، فلم يلتفت إلى ذلك من قوله.
وذكر أن أول شيء بدأ به المعتضد حين أراد ذلك الأمر بالتقدم إلى العامة بلزوم أعمالهم، وترك الاجتماع والقضية والشهادات عند السلطان، إلا أن يسألوا عن شهادة إن كانت عندهم، وبمنع القصاص من القعود على الطرقات، وعملت بذلك نسخ قرئت بالجانبين بمدينة السلام في الأرباع والمحال والأسواق، فقرئت يوم الأربعاء لست بقين من جمادى الأولى من هذه السنة، ثم منع يوم الجمعة لأربع بقين منها القصاص من القعود في الجامعين، ومنع أهل الحلق في الفتيا أو غيرهم من القعود في المسجدين، ومنع الباعة من القعود في رحابهما.
وفي جمادى الآخرة نودي في المسجد الجامع بنهي الناس عن الاجتماع على قاص أو غيره، ومنع القصاص وأهل الحلق من القعود.
وفي يوم الحادي عشر - وذلك يوم الجمعة - نودي في الجامعين بأن الذمة برية ممن اجتمع من الناس على مناظره أو جدل، وأن من فعل ذلك أحل بنفسه الضرب، وتقدم إلى الشراب والذين يسقون الماء في الجامعين ألا يترحموا على معاوية، ولا يذكروه بخير.
ذكر كتاب المعتضد في شأن بني أمية
وتحدث الناس أن الكتاب الذي أمر المعتضد بإنشائه بلعن معاوية يقرأ بعد صلاة الجمعة على المنبر، فلما صلى الناس بادروا إلى المقصورة ليسمعوا قراءة الكتاب فلم يقرأ.
فذكر أن المعتضد أمر بإخراج الكتاب الذي كان المأمون أمر بإنشائه بلعن معاوية، فأخرج له من الديوان، فأخذ من جوامعه نسخة هذا الكتاب، وذكر أنها نسخة الكتاب الذي أنشىء للمعتضد بالله:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله العلي العظيم، الحليم الحكيم، العزيز الرحيم، المنفرد بالوحدانية، الباهر بقدرته، الخالق بمشيئته وحكمته؛ الذي يعلم سوابق الصدور، وضمائر القلوب، لا يخفى عليه خافية، ولا يغرب عنه مثقال ذرة في السموات العلا، ولا في الارضين السفلى؛ قد أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا، وضرب لكل شيء أمدًا، وهو العليم الخبير، والحمد لله الذي برأ خلقه لعبادته، وخلق عباده لمعرفته، على سابق علمه في طاعة مطيعهم، وماضى أمره في عصيان عاصيهم؛ فبين لهم ما يأتون وما يتقون، ونهج لهم سبل النجاة، وحذرهم مسالك الهلكة، وظاهر عليهم الحجة، وقدم إليهم المعذرة، واختار لهم دينه الذي ارتضى لهم، وأكرمهم به، وجعل المعتصمين بحبله والمتمسكين بعروته أولياءه وأهل طاعته، والعاندين عنه والمخالفين له أعداءه وأهل معصيته؛ ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة، وإن الله لسميع عليم. والحمد لله الذي اصطفى محمدًا رسوله من جميع بريته، وأختاره لرسالته، وابتعثه بالهدى والدين المرتضى إلى عباده أجمعين، وأنزل عليه الكتاب المبين المستبين، وتأذن له بالنصر والتمكين، وأيده بالعز والبرهان المتين، فاهتدى به من اهتدى واستنقذ به من استجاب له من العمى، وأضل من أدبر وتولى، حتى أظهر الله أمره، وأعز نصره، وقهر من خالفه، وأنجز له وعده، وختم به رسله، وقبضه مؤديًا لأمره، مبلغًا لرسالته، ناصحًا لأمته، مرضيًا مهتديًا إلى أكرم مآب المنقلبين، وأعلى منازل أنبيائه المرسلين، وعباده الفائزين؛ فصلى الله عليه أفضل صلاة وأتمها، وأجلها وأعظمها، وأزكاها وأطهرها، وعلى آله الطيبين.
والحمد لله الذي جعل أمير المؤمنين وسلفه الراشدين المهتدين ورثة خاتم النبيين وسيد المرسلين والقائمين بالدين، والمقومين لعبادة المؤمنين، والمستحفظين ودائع الحكمة، ومواريث النبوة، والمستخلفين في الأمة، والمنصورين بالعز والمنعة، والتأييد والغلبة؛ حتى يظهر الله دينه على الدين كله ولو كره المشركون.
وقد انتهى إلى أمير المؤمنين ما عليه جماعة من العامة من شبهة قد دخلتهم في أديانهم، وفساد قد لحقهم في معتقدهم، وعصبية قد غلبت عليها أهواؤهم، ونطقت بها ألسنتهم، على غير معرفة ولا روية، وقلدوا فيها قادة الضلالة بلا بينة ولا بصيرة، وخالفوا السنن المتبعة، إلى الأهواء المبتدعة، قال قال الله عز وجل: " ومن أضل ممن أتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين " خروجًا عن الجماعة، ومسارعة إلى الفتنة وإيثارًا للفرقة، وتشتيتًا للكلمة وإظهارًا لموالاة من قطع الله عنه الموالاة، وبتر منه العصمة، وأخرجه من الملة، وأوجب عليه اللعنة، وتعظيمًا لمن صغر الله حقه، وأوهن أمره، وأضعف ركنه، من بني أمية الشجرة الملعونة، ومخالفة لمن استنقذهم الله به من الهلكة، وأسبغ عليهم به النعمة؛ من أهل بيت البركة والرحمة، قال الله عز وجل: " يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم ". فأعظم أمير المؤمنين ما انتهى إليه من ذلك، ورأى في ترك إنكاره حرجًا عليه في الدين، وفسادًا لمن قلده الله أمره من المسلمين، وإهمالًا لما أوجبه الله عليه من تقويم المخالفين وتبصير الجاهلين، وإقامة الحجة على الشاكين، وبسط اليد على العاندين.
وأمير المؤمنين يرجع إليكم معشر الناس بأن الله عز وجل لما ابتعث محمدًا بدينه، وأمره أن يصدع بأمره، بدأ بأهله وعشيرته، فدعاهم إلى ربه، وأنذرهم وبشرهم، ونصح لهم وأرشدهم، فكان من استجاب له وصدق قوله واتبع أمره نفر من يسير من بني أبيه، من بين مؤمن بما أتى به من ربه، وبين ناصر له وإن لم يتبع دينه، وإعزازًا له، وإشفاقًا عليه، لماضى علم الله فيمن اختار منهم، ونفذت مشئته يستودعه إياه من خلافته وإرث نبيه؛ فمؤمنهم مجاهد بنصرته وحميته، يدفعون من نابذه، وينهرون من عاره وعانده، ويتوثقون له ممن كانفه وعاضده، ويبايعون له من سمح بنصرته، ويتجسسون له أخبار أعدائه، ويكيدون له بظهر الغيب كما يكيدون له برأي العين؛ حتى بلغ المدى، وحان وقت الاهتداء، فدخلوا في دين الله وطاعته وتصديق رسوله، والإيمان به، بأثبت بصيرة، وأحسن هدى ورغبة، فجعلهم الله أهل بيت الرحمة، وأهل بيت الدين - أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا - ومعدن الحكمة، وورثة النبوة وموضع الخلافة، وأوجب لهم الفضيلة، وألزم العباد لهم الطاعة.
وكان ممن عانده ونابذه، وكذبه وحاربه من عشيرته، العدد الأكثر، والسواد الأعظم؛ يتلقونه بالتكذيب والتثريب، ويقصدونه بالأذية والتخويف، ويبادونه بالعداوة، وينصبون له المحاربة، ويصدونه عن من قصده، وينالون بالتعذيب من اتبعه. وأشدهم في ذلك عداوة وأعظمهم له مخالفة، وأولهم في كل حرب ومناصبة، لا يرفع على الإسلام راية إلا كان صاحبها وقائدها ورئيسها، في كل مواطن الحرب، من بدر وأحد والخندق والفتح أبو سفيان بن حرب وأشياعه من بني أمية، الملعونين في كتاب الله، ثم الملعونين على لسان رسول الله في عدة مواطن، وعدة مواضع، لماضي علم الله فيهم وفي أمرهم، ونفاقهم وكفر أحلامهم؛ فحارب مجاهدًا، ودفع مكابدًا، وأقام منابذًا حتى قهره السيف، وعلا أمر الله وهم كارهون؛ فتقول الإسلام غير منطو عليه، وأسر الكفر غير مقلع عنه، فعرفه بذلك رسول الله والمسلمون، وميز لهم المؤلفة قلوبهم، فقبله وولده على علم منه؛ فمما لعنهم الله به على لسان نبيه ، وأنزل به كتابًا قوله: " والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانًا كبيرًا ". ولا اختلاف بين أحد أنه أراد بها بني أمية.
ومنه قول الرسول عليه السلام وقد رآه مقبلًا على حمار ومعاوية يقود به ويزيد ابنه يسوق به: لعن الله القائد والراكب والسائق. ومنه ما يرويه الرواة من قوله: يا بني عبد مناف تلقفوها تلقف الكرة، فما هناك جنة ولا نار. وهذا كفر صراح يلحقه به اللعنة من الله كما لحقت " الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ". ومنه ما يروون من وقوفه على ثنية أحد بعد ذهاب بصره، وقوله لقائده: ها هنا ذببنا محمدًا وأصحابه. ومنه الرؤيا التي رآها النبي ص فوجم لها، فما رئى ضاحكًا بعدها، فأنزل الله: " وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس "؛ فذكروا أنه رأى نفرًا من بني أمية ينزون على منبره. ومنه طرد رسول الله ص الحكم بن أبي العاص لحكايته إياه، وألحقه الله بدعوة رسوله آية باقية حين رآه يتخلج، فقال له: كن كما أنت، فبقي على ذلك سائر عمره، إلى ما كان من مروان في افتتاحه أول فتنة كانت في الإسلام، واحتقابه لكل دم حرام سفك فيها أو أريق بعدها.
ومنه ما أنزل الله على نبيه في سورة القدر: " ليلة القدر خير من ألف شهر "، من ملك بني أمية. ومنه أن رسول الله ص دعا بمعاوية ليكتب بأمره بين يديه، فدافع بأمره، واعتل بطعامه، فقال النبي: " لا أشبع الله بطنه "، فبقي لا يشبع، ويقول: والله ما أترك الطعام شبعًا؛ ولكن إعياء. ومنه أن رسول الله ص قال: " يطلع من هذا الفج رجل من أمتي يحشر على غير ملتي "، فطلع معاوية. ومنه أن رسول الله ، قال: " إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه ". ومنه الحديث المرفوع المشهور أنه قال: " إن معاوية في تابوت من نار في أسفل درك منها ينادي: يا حنان يا منان، الآن وقد عصيت قبل وكنت كن المفسدين.
ومنه انبراؤه بالمحاربة لأفضل المسلمين في الإسلام مكانًا، وأقدمهم إليه سبقا، وأحسنهم فيه أثرًا وذكرًا؛ علي بن أبي طالب، ينازعه حقه بباطله، ويجاهد أنصاره بضلاله وغواته، ويحاول ما لم يزل هو أبوه يحاولانه، من إطفاء نور الله وجحود دينه، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون. يستهوي أهل الغباوة، ويمون على أهل الجهالة بمكره وبغيه، الذين قدم رسول الله صص الخبر عنهما، فقال لعمار: " تقتلك الفئة الباغية تدعوهم إلى الجنة ويدعونك إلى النار "، مؤثرًا للعاجلة، كافرًا بالآجلة، خارجًا من ربقة الإسلام، مستحلًا للدم الحرام، حتى سفك في فتنته، وعلى سبيل ضلالته ما لا يحصى عدده من خيار المسلمين الذابين عن دين الله والناصرين لحقه، مجاهدًا لله، مجتهدًا في أن يعصي الله فلا يطاع، وتبطل أحكامه فلا تقام، ويخالف دينه فلا يدان. وأن تغلو كلمة الضلالة، وترتفع دعوة الباطل؛ وكلمة الله هي العليا، ودينه المنصور، وحكمه المتبع النافذ، وأمره الغالب، وكيد من حادة المغلوب الداحض؛ حتى احتمل أوزار تلك الحروب وما اتبعها، وتطوق تلك الدماء وما سفك بعدها، وسن سنن الفساد التي عليه إثمها وإثم من عمل بها إلى يوم القيامة، وأباح المحارم لمن ارتكبها، ومنع الحقوق أهلها؛ واغتره الإملاء، واستدرجه الإمهال، والله له بالمرصاد.
ثم أوجب الله له به اللعنة، قتل من قتل صبرًا من خيار الصحابة والتابعين وأهل الفضل والديانة؛ مثل عمرو بن الحمق وحجر بن عدي، فيمن قتل من أمثالهم، في أن تكون له العزة والملك والغلبة، ولله العزة والملك والقدرة، والله عز وجل يقول: " ومن يقتل مؤمنا متعمدًا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابًا عظيمًا ".
ومما استحق به اللعنة من الله ورسوله ادعاؤه زياد بن سمية، جرأه على الله؛ والله يقول: " ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله ". ورسول الله ص، يقول: " ملعون من ادعى إلى غير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه "، ويقول: " الولد للفراش وللعاهر الحجر ". فخالف حكم الله عز وجل وسنة نبيه ص جهارًا، وجعل الولد لغير الفراش، والعاهر لا يضره عهره، فأدخل بهذه الدعوة من محارم الله ومحارم رسوله في أم حبيبة زوجة النبي ص وفي غيرها منسفور وجوه ما قد حرمه الله، وأثبت بها قربي قد باعدها الله، وأباح بها ما قد حظره الله، مما لم يدخل على الإسلام خلل مثله، ولم ينل الدين تبديل شبهه.
ومنه إيثاره بدين الله، ودعاؤه عباد الله إلى ابنه يزيد المتكبر الخمير، صاحب الديوك والفهود والقرود، وأخذه البيعة له على خيار المسلمين بالقهر والسطوة والتوعيد والإخافة والتهدد والرهبة، وهو يعلم سفهه ويطلع على خبثه ورهقه، ويعاين سكرانه وفجوره وكفره. فلما تمكن منه ما مكنه منه، ووطأة له، وعصى الله ورسوله فيه، بثأرات المشركين وطوائلهم عند المسلمين، فأوقع بأهل الحرة الوقيعة التي لم يكن في الإسلام أشنع منها ولا أفحش؛ مما ارتكب من الصالحين فيها، وشفى بذلك عبد نفسه وغليله، وظن أن قد انتقم من أولياء الله، وبلغ النوى لأعداء الله، فقال مجاهرًا بكفره ومظهرًا بشركه:
ليت أشياخي ببدر شهدوا ** جزع الخزرج من وقع الأسل
قد قتلنا القوم من ساداتكم ** وعدلنا ميل بدر فاعتدل
فأهلوا واستهلوا فرحًا ** ثم قالوا: يا يزيد لا تسل
لست من خندف إن لم أنتقم ** من بني أحمد ما كان فعل
ولعت هاشم بالملك فلا ** خبر جاء ولا وحي نزل
هذا هو المروق من الدين، وقول من لا يرجع إلى الله ولا إلى دينه ولا إلى كتابه ولا إلى رسوله، ولا يؤمن بالله ولا بما جاء من عند الله.
ثم من أغلظ ما انتهك وأعظم ما اخترم سفكه دم الحسين بن علي وابن فاطمة بنت رسول الله مع وقعه من رسول الله ومكانه منه ومنزلته من الدين والفضل، وشهادة رسول الله له ولأخيه بسيادة شباب أهل الجنة، اجتراء على الله، وكفرًا بدينه، وعداوة لرسوله، ومجاهدة لعترته، واستهانة بحرمته، فكأنما يقتل به وبأهل بيته قومًا من كفار أهل الترك والديلم، لا يخاف من الله نقمة، ولا يرقب منه سطوة، فبتر الله عمره، واجتث أصله وفرعه، وسلمه ما تحت يده، وأعد له من عذابه وعقوبته ما استحقه من الله بمعصيته.
هذا إلى ما كان من بني مروان من تبديل كتاب الله وتعطيل أحكامه، واتخاذ مال الله دولًا بينهم، وهدم بيته، واستحلال حرامه، ونصبهم المجانيق عليه، ورميهم إياه بالنيران، لا يألون له إحراقًا وإخرابًا، ولما حرم الله منه استباحة وانتهاكًا، ولمن لجأ إليه قتلًا وتنكيلًا، ولمن أمنه الله به إخافة وتشريدًا؛ حتى إذا حقت عليهم كلمة العذاب، واستحقوا من الله الإنتقام، وملئوا الأرض بالجور والعدوان، وعموا عباد الله بالظلم والاقتسار، وحلت عليهم السخطة، ونزلت بهم من الله السطوة، أتاح الله لهم من عترة نبيه، وأهل وراثته من استخلصهم منهم بخلافته؛ مثل ما أتاح الله من أسلافهم المؤمنين وآبائهم المجاهدين لأوائلهم الكافرين، فسفك الله بهم دماءهم مرتدين، كما سفك بآبائهم دماء آباء الكفرة المشركين؛ وقطع الله دابر القوم الظالمين، والحمد لله رب العالمين. ومكن الله المستضعفين، ورد الله الحق إلى أهله المستحقين، كما قال جل شأنه: " ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ".
واعلموا أيها الناس أن الله عز وجل إنما أمر ليطاع، ومثل ليتمثل، وحكم ليقبل، وألزم الأخذ بسنة نبيه ص ليتبع؛ وإن كثيرًا ممن ضل فالتوى، وانتقل من أهل الجهالة والسفاه ممن اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله؛ وقد قال الله عز وجل: " فقتلوا أثمة الكفر ".
فانتهوا معاشر الناس عما يسخط الله عليكم، ورجعوا ما يرضيه عنكم، وارضوا من الله بما اختار لكم، والزموا ما أمركم به، وجانبوا ما نهاكم عنه، واتبعوا الصراط المستقيم، والحجة البينة، والسبل الواضحة، وأهل بيت الرحمة؛ الذين هداكم الله بهم بديئًا، واستنقذكم بهم من الجور والعدوان أخيرًا، وأصاركم إلى الخفض والأمن والعز بدولتهم، وشملكم الصلاح في أديانكم ومعايشكم في أيامهم، والعنوا من لعنه الله ورسوله، وفارقوا من لا تنالون القربة من الله إلا بمفارقته.
اللهم العن أبا سفيان بن حرب، ومعاوية ابنه، ويزيد بن معاوية، ومروان بن الحكم وولده؛ اللهم العن أثمة الكفر، وقادة الضلالة، وأعداء الدين، ومجاهدي الرسول، ومغيري الأحكام، ومبدلي الكتاب وسفاكي الدم الحرام.
اللهم إنا نتبرأ إليك من موالاة أعدائك، ومن الإغماض لأهل معصيتك، كما قلت: " لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ".
يأيها الناس اعرفوا الحق تعرفوا أهله، وتأملوا سبل الضلالة تعرفوا سابلها، فإنه إنما يبين عن الناس أعمالهم، ويلحقهم بالضلال والصلاح آباؤهم؛ فلا يأخذكم في الله لومة لائم، ولا يميلن بكم عن دين الله استهواء من يستهويكم وكيد من يكيدكم، وطاعة من تخرجكم طاعته إلى معصية ربكم.
أيها الناس، بنا هداكم الله، ونحن المستحفظون فيكم، أمر الله ونحن ورثة رسول الله القائمون بدين الله، فقفوا عند ما نقفكم عليه، وانفذوا لما نأمركم به؛ فإنكم ما أطعتم خلفاء الله وأثمة الهدى على سبيل الإيمان والتقوى، وأمير المؤمنين يستعصم الله أكبر، ويسأله توفيقكم، ويرغب إلى الله في هدايتكم لرشدكم، وفي دينه عليكم؛ حتى تلقون به مستحقين طاعته، مستحقبين لرحمته، والله حسب أمير المؤمنين فيكم، وعليه توكله، وبالله على ما قلده من أموركم استعانته، ولا حول لأمير المؤمنين ولا حول ولا قوة إلا بالله والسلام عليكم.
وكتب أبو القاسم عبدي الله بن سليمان في سنة أربع وثمانين ومائتين.
وذكر أن عبيد الله بن سليمان أحضر يوسف بن يعقوب القاضي، وأمره أن يعمل الحيلة في إبطال ما عزم عليه المعتضد؛ فمضى يوسف بن يعقوب، فكلم المعتضد في ذلك، وقال له: يا أمير المؤمنين؛ إني أخاف أن تضطرب العامة، ويكون منها عند سماعها هذا الكتاب حركة.
فقال: إن تحركت العامة أو نطقت وضعت سيفي فيها، فقال: يا أمير المؤمنين، فما تصنع بالطالبين الذين هم في كل ناحية يخرجون، ويميل إليهم كثير من الناس لقرابتهم من الرسول ومآثرهم؛ وفي الكتاب إطراؤهم، أو كما قال، وإذا سمع الناس هذا كانوا إليهم أميل، وكانوا هم أبسط ألسنة، وأثبت حجة منهم اليوم.
فأمسك المعتضد فلم يرد عليه جوابًا، ولم يأمر في الكتاب بعده بشيء.
وفي يوم الجمعة لأربع عشرة بقيت من رجب منها شخص جعفر بن بغلاغز إلى عمرو بن الليث الصفار وهو بنيسابور بخلع ولواء لولايته على الرى وهدايا من قبل المعتضد.
وفي هذه السنة لحق عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف بمحمد بن زيد العلوي بطبرستان، فأقام بدر وعبيد الله بن سليمان ينتظران أمر بكر إلام يؤول وعلى إصلاح الجبل.
وفيها - فيما ذكر - فتحت من بلاد الروم قرة، على يد راغب مولى الموفق وابن كلوب، وذلك في يوم الجمعة من رجب.
وفي ليلة الأربعاء لاثنتي عشرة خلت من شعبان - أو ليلة الخميس فيما ذكر - ظهر شخص إنسان في يده سيف في دار المعتضد بالثريا، فمضى إليه بعض الخدم لينظر ما هو، فضربه الشخص بالسيف ضربة قطع بها منطقته، ووصل السيف إلى بدن الخادم، ورجع الخادم منصرفًا عنه هاربًا، ودخل الشخص في زرع البستان، فتوارى فيه، فطلب باقي ليلته ومن غد، فلم يوقف على أثر، فاستوحش المعتضد لذلك، وكثر الناس في أمره رجمًا بالظنون، حتى قالوا: إنه من الجن، ثم عاد هذا الشخص للظهور بعد ذلك مرارًا كثيرة، حتى وكل المعتضد بسور داره، وأحكم السور ورأسه، وجعل عليه كالبرابخ؛ لئلا يقع عليه الكلاب إن رمي به، وجيء باللصوص من الحبس ونوظروا في ذلك، وهل يمكن أحد للدخول إليه بنقب أو تسلق.
وفي يوم السبت لثمان بقين من شعبان من هذه السنة، وجه كرامة بن مر من الكوفة بقوم مقيدين، ذكر أنهم من القرامطة، فأقروا على أبي هاشم بن صدقة الكاتب أنه كان يكاتبهم، وأنه أحد رؤسائهم، فقبض على أبي هاشم، وقيد وحبس في المطامير.
وفي يوم السبت لسبع خلون من شهر رمضان من هذه السنة جمع المجانين والمعزمون، ومضى بهم إلى دار المعتضد في الثريا بسبب الشخص الذي كان يظهر له، فأدخلوا الدار، وصعد المعتضد علية له، فأشرف عليهم؛ فلما رآهم صرعت امرأة كانت معهم من المجانين واضطربت، وتكشفت، فجر وانصرف عنهم، ووهب لكل واحد منهم خمسة دراهم - فيما ذكر - وصرفوا.
وقد كان قد وجه إلى المعزمين قبل أن يشرف عليهم من يسألهم عن خبر الشخص الذي ظهر له: هل يمكنهم أن يعلموا علمه؟ فذكر قوم منهم أنهم يعزمون على بعض المجانين، فإذا سقط سأل الجني عن خبر ذلك الشخص وما هو، فلما رأى المرأة التي صرعت أمر بصرفهم.
وفي ذي القعدة منها ورد الخبر من أصبهان، بوثوب الحارث بن عبد العزيز ابن أبي دلف المعروف بأبي ليلى بشفيع الخادم الموكل كان به فقتله، وكان أخوه عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف أخذه فقيده، وحمله إلى قلعة لآل أبي دلف بالزز، فحسبه فيها، وكان كل ما لآل أبي دلف من مال ومتاع نفيس وجوهر في القلعة، وشفيع مولاهم موكل بحفظ ذلك وحفظ القلعة، ومعه جماعة من غلمان عمر وخاصته، فلما استأمن عمر إلى السلطان، وهرب بكر عاصيًا للسلطان بقيت القلعة بما فيها في يد شفيع، فكلمه أبو ليلى في إطلاقه فأبى، وقال: لا أفعل فيك وفيما في يدي إلا بما يأمرني به عمر.
فذكر عن جارية لأبي ليلى أنها قالت: كان مع أبي ليلى في الحبس غلام صغير يخدمه، وآخر يدخل ويخرج في حوائجه ولا بيت عنده، ويبيت عنده الغلام الصغير، فقال أبو ليلى لغلامه الذي يخرج في حوائجه: احتل لي في مبرد تدخله إلي، ففعل وأدخله في شيء من طعامه.
وكان شفيع الخادم يجيء في كل ليلة إذا أراد أن ينام إلى البيت الذي فيه أبو ليلى حتى يراه، ثم يقفل عليه باب البيت هو بيده ويمضي فينام، وتحت فراشه سيف مسلول.
وكان أبو ليلى قد سأل أن تدخل إليه جارية، فأدخلت إليه جارية حدثة السن، فذكر عن ذلفاء جارية أبي ليلى عن هذه الجارية أنها قالت: برد أبو ليلى المسمار الذي في القيد، حتى كان يخرجه من رجله إذا شاء.
قالت: وجاء شفيع الخادم عشية من العشايا إلى أبي ليلى، فقعد معه يحدثه، فسأله أبو ليلى أن يشرب معه أقداحًا، ففعل، ثم قام الخادم لحاجته.
قالت: فأمرني أبو ليلى، ففرشت فراشه، فجعل عليه ثيابًا في موضع الإنسان من الفراش، وغطى على الثياب باللحاف، وأمرني أن أقعد عند رجل الفراش، وقال لي: إذا جاء شفيع لينظر إلي ويقفل الباب، فسألك عني فقولي: هو نائم.
وخرج أبو ليلى من البيت، فاختفى في جوف فرش ومتاع في صفة فيها باب هذا البيت، وجاء شفيع فنظر إلى الفراش، وسأل الجارية فأخبر أنه قد نام، فأقفل الباب؛ فلما نام الخادم ومن معه في الدار التي في قلعة خرج أبو ليلى، فأخذ السيف من تحت فراش شفيع، وشد عليه فقتله، فوثب الغلمان الذين كانوا ينامون حوله فزعين، فاعتزلهم أبو ليلى والسيف في يده، وقال لهم: أنا أبو ليلى قد قتلت شفيعًا، ولئن تقدم إلي منكم أحد لأقتلنه وأنتم آمنون؛ فاخرجوا من الدار حتى أكلمكم بما أريد، ففتحوا باب القلعة، وخرجوا، وجاء حتى قعد على باب القلعة، واجتمع الناس ممن كان في القلعة، فكلمهم ووعدهم الإحسان، وأخذ عليهم الإيمان.
فلما أصبح نزل من القلعة، ووجه إلى الأكراد وأهل الزموم، فجمعهم وأعطاهم، وخرج مخالفًا على السلطان.
وقيل إن قتله الخادم كان في ليلة السبت لاثنتي عشرة بقيت من ذي القعدة من هذه السنة، وقيل أنه ذبح الخادم ذبحًا بسكين كان أدخلها إليه غلامه، ثم أخذ السيف من تحت فراش الخادم وقام به إلى الغلمان.
وفي هذه السنة - وهي سنة أربع وثمانين ومائتين - كان المنجمون يوعدون الناس بغرق أكثر الأقاليم، وأن إقليم بابل لا يسلم منه إلا اليسير، وأن ذلك يكون بكثرة الأمطار وزيادة المياه في الأنهار والعيون والآبار، فقحط الناس فلم يروا فيها من المطر إلا اليسير، وغارت المياه في الأنهار، والعيون والآبار، حتى احتاج الناس إلى الاستسقاء فاستقوا ببغداد مرات.
ولليلة بقيت من ذي الحجة من هذه السنة كانت - فيما ذكر - وقعة بين عيسى النوشري وبين أبي ليلى بن عبد العزيز بن أبي دلف، وذلك يوم الخميس دون أصبهان بفرسخين، فأصاب أبا ليلى سهم في حلقه - فيما ذكر - فنحره، فسقط على دابته، وانهزم أصحابه، وأخذ رأسه فحمل إلى أصبهان.
وحج الناس في هذه السنة محمد بن عبد الله بن داود الهاشمي المعروف بأترجة.
ثم دخلت سنة خمس وثمانين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من قطع صالح بن مدرك الطائي في جماعة من طيىء على الحاج بالأجفر الأربعاء لاثنتي عشرة بقيت من المحرم، فحاربه الجني الكبير، وهو أمير القافلة، فظفر الأعراب بالقافلة؛ فأخذوا ما كان فيها من الأموال والتجارات، وأخذوا جماعة من النساء الحرائر والممالك.
وقيل إن الذي أخذوا من الناس بقيمة ألفي ألف دينار.
ولسبع بقين من المحرم منها قرىء على جماعة من حاج خراسان في دار المعتضد بتوليه عمرو بن الليث الصفار ما وراء نهر بلخ، وعزل إسماعيل بن أحمد عنه.
ولخمس خلون من صفر منها ورد مدينة السلام وصيف كامه مع جماعة من القواد من قبل بدر مولى المعتضد وعبيد الله بن سليمان من الجبل، معهم رأس الحارث بن عبد العزيز بن أبي دلف المعروف بأبي ليلى، فمضوا به إلى دار المعتضد بالثريا، فاستوهبه أخوه فوهبه، واستأذنه في دفنه فأذن له، وخلع على عمر بن عبد العزيز في هذا اليوم وعلى جماعة من القواد القادمين.
وفيها - فيما ذكر - كتب صاحب البريد من الكوفة، يذكر أن ريحًا صفراء ارتفعت بنواحي الكوفة في ليلة الأحد لعشر بقين من شهر ربيع الأول، فلم تزل إلى وقت صلاة المغرب، ثم استحالت سوداء، فلم يزل الناس في تضرع إلى الله.
وإن السماء مطرت بعقب ذلك مطرًا شديدًا برعود هائلة وبروق متصلة، ثم سقط بعد ساعة بقرية تعرف بأحمد أباذ ونواحيها حجارة بيض وسود مختلفة الألوان، في أوساطها ضغطة شبه أفهار العطارين، فأنفذ منها حجرًا، فأخرج إلى الدواوين والناس حتى رأوه.
ولتسع بقين منه شخص ابن الإخشاد أميرًا على طرسوس من بغداد مع النفر الذين كانوا قدموا منها يسألون أن يولى عليهم وال.
وخرج أيضًا في هذا اليوم من بغداد فاتك مولى المعتضد للنظر في أمور العمال بالموصل وديار ربيعة وديار مضر والثغور والشأمية والجزرية وإصلاح الأمور بها إلى ما كان يتقلده من أعمال البريد بهذه النواحي.
وفي هذه السنة ورد الخبر - فيما ذكر - من البصرة أن ريحًا ارتفعت بها بعد صلاة الجمعة لخمس بقين من شهر ربيع الأول صفراء، ثم استحالت خضراء ثم سواد، ثم تتابعت الأمطار بما لم يروا مثلها، ثم وقع برد كبار كان وزن البردة الواحدة مائة وخمسين درهمًا - فيما قيل - وأن الريح أقلعت من نهر الحسين خمسمائة نخلة أو أكثر، ومن نهر معقل مائة نخلة عددًا.
وفيها كانت وفاة الخليل بن ريمال بحلوان.
ولخمس خلون من جمادى الآخرة ورد الخبر على السلطان أن بكر بن عبد العزيز بن أبي دلف توفي بطبرستان من علة أصابته، ودفن هنالك.
فأعطى بالذي جاء بالخبر - فيما ذكر - ألف دينار.
وفيها ولى المعتضد محمد بن أبي الساج أعمال أذربيجان وأرمينية، وكان قد تغلب عليها وخالف، وبعث إليه بخلع وحملان.
وفيها ورد الخبر لثلاث خلون من شعبان أن راغبًا الخادم مولى الموفق غزا في البحر، فأظفره الله بمراكب كثيرة، وبجميع من فيها من الروم، فضرب أعناق ثلاثة آلاف من الروم الذين كانوا في المراكب، وأحرق المراكب، وفتح حصونًا كثيرة من حصون الروم، وانصرفوا سالمين.
وفي ذي الحجة منها ورد الخبر بوفاة أحمد بن عيسى بن شيخ وقيام ابنه محمد بن أحمد بن عيسى بما كان في يد أبيه بآمد، وما يليها على سبيل التغلب.
ولإحدى عشرة بقيت من ذي الحجة منها خرج المعتضد من بغداد قاصدًا إلى آمد، وخرج معه ابنه أبو محمد والقواد والغلمان، واستخلف ببغداد صالحًا الامين الحاجب، وقلده النظر في المظالم وأمر الجسرين وغير ذلك.
وفيها وجه هارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون ومن معه من قواد المصريين إلى المعتضد وضيف قاطرميز، يسألونه مقاطعتهم عما في أيديهم من مصر والشأم، وأجرى هارون على ما كان يجري عليه أبوه، فقدم وصيف بغداد، فرده المعتضد، ووجه معه عبد الله بن الفتح ليشافههم برسائل، ويشترط عليهم شروطًا، فخرجا لذلك في آخر هذه السنة.
وفيها غزا ابن الإخشاد بأهل طرسوس وغيرهم في ذي الحجة، وبلغ سلندو.
وفتح عليه، وكان انصرافه إلى طرسوس في سنة ست وثمانين ومائتين.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بن عبد الله بن داود الهاشمي.
ثم دخلت سنة ست وثمانين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث الجليلة
فمن ذلك ما كان من توجيه محمد بن أبي الساج ابنه معروف بأبي المسافر إلى بغداد رهينة بما ضمن للسلطان من الطاعة والمناصحة، فقدم - فيما ذكر - يوم الثلاثاء، لسبع خلون من المحرم منها، معه هدايا من الدواب والمتاع وغير ذلك، والمعتضد يومئذ غائب عن بغداد.
وفي شهر ربيع الأخر منها ورد الخبر أن المعتضد بالله وصل إلى آمد، فأناخ بجنده عليها، وأغلق محمد بن أحمد بن عيسى بن شيخ عليه أبواب مدينة آمد، وعلى من فيها من أشياعه.
ففرق المعتضد جيوشه حولها وحاصرهم، وذلك لأيام بقيت من شهر ربيع الأول، ثم جرت بينهم حروب، ونصب عليهم المجانيق، ونصب أهل آمد على سورهم المجانيق، وتراموا بها.
وفي يوم السبت لإحدى عشرة بقيت من جمادى الأولى وجه محمد بن أحمد ابن عيسى إلى المعتضد يطلب لنفسه ولأهله ولأهل آمد الأمان، فوجه إلى ذلك فخرج محمد بن أحمد بن عيسى في هذا اليوم ومن معه من أصحابه وأوليائه فوصلوا إلى المعتضد، فخلع عليه وعلى رؤساء أصحابه، وانصرفوا إلى مضرب قد أعد لهم، وتحول المعتضد من عسكره إلى منازل ابن عيسى ابن شيخ ودوره؛ وكتب بذلك كتابًا إلى مدينة السلام مؤرخًا بيوم الأحد لعشر بقين من جمادى الأولى منها ورد الكتاب من المعتضد بفتحه آمد إلى مدينة السلام، وقرىء على المنبر بالجامع.
وفيها انصرف عبد الله بن الفتح إلى المعتضد وهو مقيم بآمد من مصر بأجوبة كتبه إلى هارون بن خمارويه، وأعلمه أن هارون قد بذل أن يسلم أعمال قنسرين والعواصم، ويحمل إلى بيت المال ببغداد في كل سنة أربعمائة ألف وخمسين ألف دينار، وأنه يسأل أن يجدد له ولاية مصر والشأم، وأن يوجه المعتضد بخادم من خدمه إليه بذلك؛ فأجابه إلى ما سأل، وأنفذ إليه بدرًا القدامي وعبد الله بن الفتح بالولاية والخلع، فخرجا من آمد إلى مصر بذلك وتسلم عمال المعتضد أعمال قنسرين والعواصم من أصحاب هارون في جمادى الأولى، وأقام المعتضد بآمد بقية جمادى الأولى وثلاثة وعشرين يومًا من جمادى الآخرة.
ثم ارتحل منها يوم السبت لسبع بقين منها نحو الرقة، وخلف ابنه عليًا بآمد مع جيوش ضمهم إليه لضبط الناحية وأعمال قنسرين والعواصم وديار ربيعة وديار مضر.
وكان كاتب علي بن المعتضد يومئذ الحسين بن عمرو النصراني، وقلد الحسين بن عمرو النظر في أمور هذه النواحي ومكاتبة العمال بها، وأمر المعتضد بهدم سور آمد فهدم.
وفيها وافت هدية عمرو بن الليث الصفار من نيسابور إلى بغداد، فكان مبلغ المال الذي وجه أربعة ألاف ألف دينار، وعشرين من الدواب، بسروج ولجم محلاة مغرقة ومائة وخمسين دابة بجلال مشهرة وكسوة وطيب وبزاة، وذلك في يوم الخميس لثمان بقين من جمادى الآخرة.
وفي هذه السنة ظهر رجل من القرامطة يعرف بأبي سعيد الجنابي بالبحرين، فاجتمع إليه جماعة من الأعراب والقرامطة؛ وكان خروجه - فيما ذكر - في أول هذه السنة، وكثر أصحابه في جمادى الآخرة، وقوى أمره، فقتل من حوله من أهل القرى، ثم صار إلى موضع يقال له القطيف، وبينه وبين البصرة مراحل، فقتل من بها.
وذكر أنه يريد البصرة، فكتب أحمد بن محمد بن يحيى الواثقي - وكان يتقلد معاون البصرة وكور دجلة في ذلك الوقت - إلى السلطان بما اتصل به من عزم هؤلاء القرامطة؛ فكتب إليه وإلى محمد بن هشام المتولي أعمال الصدقات والخراج والضياع بها، في عمل سور على البصرة، فقدرت النفقة على ذلك أربعة عشر ألف دينار، فأمر بالإنفاق عليه فبني.
وفي رجب من هذه السنة صار إلى الأنبار جماعة من أعراب بني شيبان، فأغاروا على القرى، وقتلوا من لحقوا من الناس، واستاقوا المواشي.
فخرج إليهم أحمد بن محمد بن كمشجور المتولي المعاون بها، فلم يطقهم.
فكتب إلى السلطان يخبره بأمورهم.
فوجه من مدينة السلام نفيسًا المولدي وأحمد بن محمد الزرنجي والمظفر بن حاج مددًا له في زهاء ألف رجل؛ فصاروا إلى موضع الأعراب، فواقعوهم بموضع يعرف بالمنقبة من الأنبار، فهزمهم الأعراب، وقتلوا أصحابهم وغرق أكثرهم في الفرات، وتفرقوا.
فورد كتاب ابن حاج يوم الاثنين بقين من رجب بخبر هذه الوقعة وهزيمة الأعراب إياهم، فأقام الأعراب يعيشون في الناحية، ويتخفرون القرى، فكتب إلى المعتضد بخبرهم، فوجه إليهم لقتالهم من الرقة العباس بن عمرو الغنوي وخفيفًا الأذكوتكيني وجماعة من القواد.
فصار هؤلاء القواد إلى هيت في آخر شعبان من هذه السنة.
وبلغ الأعراب خبرهم، فارتحلوا عن موضعهم من سواد الأنبار، وتوجهوا نحو عين التمر، فنزلوهما ودخل القواد الأنبار، فأقاموا بها، وعاث الأعراب بعين التمر ونواحي الكوفة؛ مثل عيثهم بنواحي الأنبار، وذلك بقين شعبان وشهر رمضان.
وفيها وجه المعتضد إلى راغب مولى أبي أحمد وهو بطرسوس، يأمره بالمصير إليه بالرقة، فصار إليه وهو بها، فلما وصل إليه تركه في عسكره يومًا ثم أخذه من الغد فحبسه؛ وأخذ جميع ما كان معه؛ ورد الخبر بذلك مدينة السلام يوم الاثنين لتسع خلون من شعبان، ثم مات راغب بعد أيام، وقبض على مكنون غلام راغب وعلى أصحابه، وأخذ ماله بطرسوس يوم الثلاثاء لست بقين من رجب، وكان المتولي أخذهم ابن الإخشاد.
ولعشر بقين من شهر رمضان منها وجه المعتضد مؤنسًا الخازن إلى الأعراب بنواحي الكوفة وعين التمر، وضم إليه العباس بن عمرو وخفيفًا الاذكرتكيني وغيرهما من القواد، فسار مؤنس ومن معه حتى بلغ الموضع المعروف بنينوى فوجد الأعراب قد ارتحلوا عن موضعهم، ودخل بعضهم إلى برية طريق مكة وبعضهم إلى برية الشأم، فأقام بموضعه أيامًا، ثم شخص إلى مدينة السلام.
وفي شوال منها قلد المعتضد وعبيد الله بن سليمان ديوان المشرق محمد بن داود ابن الجراح، وعزل عنه أحمد بن محمد بن الفرات، وقلد ديوان المغرب علي بن عيسى بن داود بن الجراح، وعزل عنه ابن الفرات.
ثم دخلت سنة سبع وثمانين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من قبض المعتضد على محمد بن أحمد بن عيسى بن شيخ وعلى جماعة من أهله وتقييده إياهم، وحبسه لهم في دار ابن طاهر؛ وذلك أنه صار بعض أقربائه - فيما ذكر - إلى عبيد الله بن سليمان، فأعلمه أن محمدًا على الهرب في جماعة من أصحابه وأهله، فكتب بذلك عبيد الله إلى المعتضد، فكتب إليه المعتضد يأمره بالقبض عليه، ففعل ذلك يوم الأربعاء لأربع خلون من المحرم منها.
وفي هذا الشهر من هذه السنة ورد كتاب أبي الأغر على السلطان أن طيئًا تجمعت له، وحشدوا واستعانوا بمن قدروا عليه من الأعراب، واعترضوا قافلة الحاج، فواقعوهم لما جاوزوا المعدن منصرفين إلى مدينة السلام من مكة ببضعة عشر ميلًا، وأقبل إليهم فرسان الأعراب ورجالتهم ومعهم بيوتهم وحرمهم وإبلهم؛ وكانت رجالتهم أكثر من ثلاثة ألاف، فالتحمت الحرب بينهم، ولم تزل الحرب بينهم يومهم أجمع، وهو يوم الخميس لثلاث بقين من ذي الحجة، فلما جنهم الليل باينوهم؛ فلما أصبحوا غادوهم الحرب غداة يوم الجمعة إلى حين انتصاف النهار.
ثم أنزل الله النصر على أوليائه وولى الأعراب منهزمين، فما اجتمعوا بعد تفرقهم، وأنه سار هو وجميع الحاج سالمين، وأنفذ كتابه مع سعيد بن الأصفر بن عبد الأعلى، وهو أحد وجوه بني عمه والمتولي كان للقبض على صالح بن مدرك.
وفي يوم السبت لثلاث بقين من المحرم وافى أبو الأغر مدينة السلام، وبين يديه رأس صالح بن مدرك، ورأس جحنش، ورأس غلام لصالح أسود، وأربعة أسارى من بني عم صالح، فمضى إلى دار المعتضد، فخلع عليه، وطوق بطوق من ذهب، ونصبت الرءوس على رأس الجسر الأعلى بالجانب الشرقي، وأدخل الأسرى المطامير.
ولأربع ليال بقين من صفر منها، دخل المعتضد من متنزهه ببراز الروز إلى بغداد، وأمر ببناء قصر في موضع اختاره من براز الروز، فحمل إليه الآلات، وابتدأ في عمله.
وفي شهر بيع الأول منها غلظ أمر القرامطة بالبحرين، فأغاروا على نواحي هجر، وقرب بعضهم من نواحي البصرة، فكتب أحمد بن محمد بن يحيى الواثقي يسأل المدد، فوجه إليه في آخر هذا الشهر بثماني شذوات، فيها ثلثمائة رجل، وأمر المعتضد باختيار جيش لينفذه إلى البصرة.
وفي يوم الأحد لعشر خلون من شهر ربيع الآخر، قعد بدر مولى المعتضد في داره، ونظر في أمور الخاصة والعامة من الناس والخراج والضياع والمعاون.
وفي يوم الاثنين لإحدى عشرة خلت من شهر ربيع الآخر، مات محمد بن عبد الحميد الكاتب المتولى ديوان زمام المشرق والمغرب.
وفي يوم الأربعاء لثلاث عشرة منه ولي جعفر بن محمد بن حفص هذا الديوان، فصار من يومه إلى الديوان وقعد فيه.
وفي شهر ربيع الأخر منها ولي المعتضد بن عباس بن عمرو الغنوي اليمامة والبحرين ومحاربة أبي سعيد الجنابي ومن معه من القرامطة، وضم إليه زهاء ألفي رجل، فعسكر العباس بالفرك أيامًا حتى اجتمع إليه أصحابه، ثم مضى إلى البصرة، ثم شخص منها إلى البحرين واليمامة.
وفيها - فيما ذكر - وافى العدو باب قلمية من طرسوس، فنفر أبو ثابت وهو أمير طرسوس بعد موت ابن الإخشاد - وكان استخلفه على البلد حين غزا - فمات وهو على ذلك؛ فبلغ في نفيره إلى نهر الريحان في طلب العدو، فأسر أبو ثابت وأصيب الناس؛ فكان ابن كلوب غازيًا في درب السلامة؛ فلما قفل من غزاته جمع المشايخ من أهل الثغر ليتراضوا بأمير يلي أمورهم، فاتفق رأيهم على علي بن الأعرابي، فولوه أمرهم بعد اختلاف من ابن أبي ثابت.
وذكر أن أباه استخلفه، وجمع جمعًا لمحاربة أهل البلد حتى توسط الأمر ابن كلوب، فرضى ابن ثابت؛ وذلك في شهر ربيع الآخر، وكان النغيل حينئذ غازيًا ببلاد الروم، فانصرف إلى طرسوس، وجاء الخبر أن أبا ثابت حمل إلى القسطنطينية من حصن قونية، ومعه جماعة من المسلمين.
وفي شهر ربيع الآخر مات إسحاق بن أيوب الذي كان إليه المعاون بديار ربيعة، فقلد ما كان إليه عبد الله بن الهيثم بن عبد الله بن المعتمر.
وفي يوم الأربعاء لخمس بقين من جمادى الأولى، ورد كتاب - فيما ذكر - على السلطان بأن إسماعيل بن أحمد أسر عمرًا الصفار، واستباح عسكره؛ وكان من خبر عمرو وإسماعيل، ان عمرًا سأل السلطان أن يوليه ما وراء النهر، فولاه ذلك، ووجه إليه وهو مقيم بنيسابور بالخلع، واللواء على ما وراء النهر، فخرج لمحاربة إسماعيل بن أحمد، فكتب إليه إسماعيل بن أحمد: إنك قد وليت دنيا عريضة، وإنما في يدي ما وراء النهر، وأنا ثغر؛ فاقنع بما في يدك، واتركني مقيمًا بهذا الثغر.
فأبى إجابته إلى ذلك؛ فذكر له أمر نهر بلخ وشدة عبوره، فقال: لو أشاء أن أسكره ببدر الأموال وأعبره لفعلت؛ فلما أيس إسماعيل من انصرافه عنه جمع من معه والتناء والدهاقين، وعبر النهر إلى الجانب الغربي؛ وجاء عمرو فنزل بلخ، وأخذ إسماعيل عليه النواحي، فصار كالمحاصر، وندم على ما فعل، وطلب المحاجزة - فيما ذكر - فأبى إسماعيل عليه ذلك، فلم يكن بينهما كثير قتال حتى هزم فولى هاربًا، ومر بأجمة في طريقه، قيل له أنها أقرب، فقال لعامة من معه: امضوا في الطريق الواضح.
ومضى في نفر يسير، فدخل الأجمة، فوحلت دابته؛ فوقعت، ولم يكن له في نفسه حيلة، ومضى من معه، ولم يلووا عليه، وجاء أصحاب إسماعيل، فأخذوه أسيرًا.
ولما وصل الخبر إلى المعتضد بما كان من أمر عمرو وإسماعيل، مدح إسماعيل - فيما ذكر - وذم عمرًا.
ولليلة بقيت من جمادى الأولى من هذه السنة، ورد الخبر على السلطان أن وصيفًا خادم ابن أبي الساج، هرب من برذعة، ومضى إلى ملطية مراغمًا لمحمد بن أبي الساج في أصحابه، وكتب إلى المعتضد يسأله أن يوليه الثغور، ليقوم بها، فكتب إليه المعتضد يأمره بالمصير إليه، ووجه إليه رشيقًا الحرمي.
ولسبع خلون من رجب من هذه السنة توفيت ابنة خمارويه بن أحمد بن طولون، زوجة المعتضد، ودفنت داخل قصر الرصافة.
ولعشر خلون من رجب وفد على السلطان ثلاثة أنفس وجههم وصيف خادم ابن أبي الساج إلى المعتضد، يسأله أن يوليه الثغور، يوجه إليه الخلع، فذكر أن المعتضد أمر بتقرير الرسل بالسبب الذي من أجله فارق وصيف صاحبه ابن أبي الساج، وقصد الثغور، فقرروا بالضرب، فذكروا أنه فارقه على مواطأة بينه وبين صاحبه، على أنه متى صار إلى الموضع الذي هو به متى لحق به صاحبه، فصار جميعًا إلى مضر وتغلبًا عليها، وشاع ذلك في الناس وتحدثوا به.
ولإحدى عشرة خلت من رجب من هذه السنة ولي حامد بن العباس الخراج والضياع بفارس؛ وكانت في يد عمرو بن الليث الصفار، ودفعت كتبه بالولاية إلى أخيه أحمد بن العباس، وكان حامد مقيمًا بواسط، لأنه كان يليها وكور دجلة، وكتب إلى عيسى النوشري وهو بإصبهان بالمصير إلى فارس واليًا على معونتها.
خروج العباس بن عمرو الغنوي من البصرة
وفي هذه السنة كان خروج العباس بن عمرو الغنوي - فيما ذكر - من البصرة بمن ضم إليه من الجند، مع من خف معه من مطوعة البصرة نحو أبي سعيد الجناني ومن انضوى إليه من القرامطة، فلقيهم طلائع لأبي سعيد، فخلف العباس سواده، وسار نحوهم، فلقي أبا سعيد ومن معه مساء، فتناوشوا القتال، ثم حجز بينهم الليل، فانصرف كل فريق منهما إلى موضعهم.
فلما كان الليل انصرف من كان مع العباس من أعراب بني ضبة - وكانوا زهاء ثلثمائة - إلى البصرة، ثم تبعهم مطوعة البصرة؛ فلما أصبح العباس غادي القرامطة الحرب، فاقتتلوا قتالًا شديدًا.
ثم إن صاحب ميسرة العباس - وهو نجاح غلام أحمد بن عيسى بن شيخ - حمل في جماعة من أصحابه زهاء مائة رجل على ميمنة أبي سعيد؛ فوغلوا فيهم، فقتل وجميع من معه، وحمل الجنابي وأصحابه على أصحاب العباس، فانهزموا، فاستأسر العباس، وأسر من أصحابه زهاء سبعمائة رجل، واحتوى الجنابي على ما كان في عسكر العباس؛ فلما كان من غد يوم الوقعة أحضر الجنابي من كان أسر من أصحاب العباس، فقتلهم جميعًا، ثم أمر بحطب فطرح عليهم، وأحرقهم.
وكانت هذه الوقعة - فيما ذكر - في آخر رجب، وورد خبرها بغداد لأربع خلون من شعبان.
وفيها - فيما ذكر - صار الجنابي إلى هجر، فدخلها وآمن أهلها؛ وذلك بعد منصرفه من وقعة العباس، وانصرف فل أصحاب العباس بن عمرو يريدون البصرة، ولم يكن أفلت منهم إلا القليل بغير أزواد ولا كسًا، فخرج إليهم من البصرة جماعة بنحو من أربعمائة راحلة، عليها الأطعمة والكسا والماء، فخرج عليهم - فيما ذكر - بنو أسد، فأخذوا تلك الرواحل بما عليها، وقتلوا جماعة ممن كان مع تلك الرواحل ومن أفلت من أصحاب العباس؛ وذلك في شهر رمضان فاضطربت البصرة لذلك اضطرابًا شديدًا وهموا بالإنتقال عنها، فمنعهم أحمد بن محمد الواثقي المتولي لمعاونها من ذلك، وتخوفوا هجوم القرامطة عليهم.
ولثمان خلون من شهر رمضان منها - فيما ذكر - وردت خريطة على السلطان من الأبلة بموافاة العباس بن عمرو في مركب من مراكب البحر، وأن أبا سعيد الجنابي أطلقه وخادمًا له.
ولإحدى عشرة خلت من شهر رمضان، وافى العباس بن عمرو مدينة السلام وصار إلى دار المعتضد بالثريا، فذكر أنه بقي عند الجنابي أيامًا بعد الوقعة، ثم دعا به، فقال له: أتحب أن أطلقك؟، قال: نعم، قال: امض وعرف الذي وجه بك إلى ما رأيت.
وحمله على رواحل، وضم إليه رجالًا من أصحابه، وحملهم ما يحتاجون إليه من الزاد والماء، وأمر الرجال الذين وجههم معه أن يؤدوه إلى مأمنه، فساروا به حتى وصل إلى بعض السواحل، فصادف به مركبًا، فحمله، فصار إلى الأبلة، فخلع عليه المعتضد وصرفه إلى منزله.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 3 (0 من الأعضاء و 3 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)