قال: لمحمد بن علي الشرفُ الذي * لا يلحظُ الجوزاء إلا من عَلِ
وسحابةٍ لولا تَتابُعُ مُزنِها * فينا لراحَ المُزنُ غير مُبَخَّلِ
والجودُ يعذلهُ عليه حاتمٌ * سَرَفًا ولا جودٌ لمن لم يُعذلِ
البيت الأول منقطع عما قبله، على ما وصفنا به شعره: من قطعه المعاني وفصله بينها، وقلة تأتيه لتجويد الخروج والوصل، وذلك نقصان في الصناعة، وتخلف في البراعة، وهذا إذا وقع في مواضع قليلة عذر فيها، وأما إذا كان بناء الغالب من كلامه على هذا فلا عذر له.
وأما المعنى الذي ذكره، فليس بشئ مما سَبق إليه، وهو شئ مشترك فيه، وقد قالوا في نحوه: إن مجده سماء السماء، وقالوا في نحوه الكثير الذي يصعب نقل جميعه، وكما قال المتنبي:
وعَزمةٌ بَعَثَتْها هِمّةٌ زُحَلٌ * من تحتها بمكان التُّرْب من زُحَلِ
وحدثني إسماعيل بن عباد أنه رأى أبا الفضل بن العميد قام لرجل، ثم قال لمن حضره: أتدري من هذا؟ هذا الذي قال في أبيه البحتري: * لمحمد بن علي الشرف الذي * فذلك يدل على استعظامه للميت، بما مدح به من البيت.
والبيت الثاني في تشبيه جوده بالسحاب قريب، وهو حديث مكرر، ليس ينفك مديح شاعر منه، وكان من سبيله أن يبدع فيه زيادة إبداع، كما قد يقع لهم في نحو هذا، ولكنه لم يتصنع له، وأرسله إرسالا.
وقد وقع في المصراع الثاني ضرب من الخلل، وذلك: أن المزن إنما يُبَخَّلُ إذا منع نيله، وذلك موجود في كل نيل ممنوح، وكلاهما محمود مع الإسعاف، فإن أسعف أحدهما ومنع الآخر لم يمكن التشبيه، وإن كان إنما شبه غالب [ حال ] أحدهما بالآخر، وذكر قصور أحدهما عن صاحبه، حتى إنه قد يبخل في وقت والآخر لا يبخل بحال - فهذا جيد، وليس في حمل الألفاظ على الإشارة إلى هذا شئ.
والبيت الثالث، وإن كان معناه مكررا، فلفظه مضطرب بالتأخير والتقديم، يشبه ألفاظ المبتدئين.
وأما قوله:
فَضْلٌ وإفضالٌ وما أخَذَ المَدَى * بَعْدَ المدى كالفاضل المتفضّلِ
سارٍ إذا ادّلج العُفاة إلى النَّدى * لا يصنع المعروف غير مُعَجَّلِ
فالبيت الأول منقطع عما قبله، وليس فيه شئ غير التجنيس الذي ليس ببديع، لتكرره على كل لسان.
وقوله: "ما أخذ المدى [ بعد المدى ]"، فإنه لفظ مليح، وهو كقول القائل: * قد أركب الآلة بعد الآلة [233] * وروي: "الحالة بعد الحالة". وكقول امرئ القيس: * سمو حباب الماء حالا على حال * ولكنها طريقة مذلَّلة، فهو فيها تابع.
وأما البيت الثاني فقريب في اللفظ والمعنى.
وقوله: "لا يصنع المعروف" ليس بلفظ محمود.
وأما قوله:
عالٍ على نظر الحسود كأنما * جَذَبَته أفرادُ النجوم بأحبُلِ
أوَما رأيت المجد ألقى رَحْلَه * في آل طلحةَ ثم لم يتحوَّل
فالبيت الأول منكر جدا في جر النجوم بالأرسان [ من ] موضعه إلى العلو! والتكلف فيه واقع.
والبيت الثاني أجنبي عنه، بعيد منه، وافتتاحه ردئ، وما وجه الاستفهام والتقرير والاستبانة والتوقيف؟
والبيتان أجنبيان من كلامه، غريبان في قصيدته.
ولم يقع له في المدح في هذه القصيدة شئ جيد.
ألا ترى أنه قال بعد ذلك:
نفسي فداؤك يا محمدُ من فتًى * يُوفي على ظُلَم الخُطُوب فتنجلي
إني أريد أبا سعيدٍ، والعِدَى * بيني وبين سحابه المتهلِّل
كأن هذا ليس من طبعه ولا من سبكه.
وقوله:
مُضَرُ الجزيرة كلُّها وربيعةُ الـ * * خابورِ تُوعدني وأزدُ الموصِلِ
قد جُدتَ بالطرف الجواد فثنِّه * لأخيكَ من أُدَدٍ أبيك بمنصل
البيت الأول حسن المعنى، وإن كانت ألفاظه بذكر الأماكن لا يتأتى فيه التحسين.
وهذا المعنى قد يمكن إيراده بأحسن من هذا اللفظ وأبدع منه وأرق منه، كقوله:
إذا غَضِبَت عليك بنو تميم * رأيت الناس كلَّهم غضابا
والبيت الثاني قد تعذر عليه وصله بما سبق من الكلام على وجه يلطف، وهو قبيح اللفظ، حيث يقول فيه: "فثنه لأخيك من أدد أبيك"، ومن أخذه بهذا التعرض لهذا السجع، وذكر هذا النسب، حتى أفسد به شعره!
وأما قوله بعد ذلك في وصف السيف، يقول:
يتناول الروحَ البعيد منالُها * عفوا ويفتح في القضاء المقفل
بإبانة في كل حتف مظلم * وهداية في كل نفسٍ مَجْهَلِ
ماض وإن لم تمضه يد فارِسٍ * بطل ومصقول وإن لم يصقل
ليس لفظ البيت الأول بمضاهٍ لديباجة شعره، ولا له بهجة نظمه، لظهور أثر التكلف عليه، وتبين ثقل فيه.
وأما "القضاء المقفل" وفتحه، فكلام غير محمود ولا مرضي، واستعارة لو لم يستعرها كان أولى به! وهلا عيب عليه كما عيب على أبي تمام قوله:
فضربتُ الشتاء في أخدعيه * ضربة غادرته عودا ركوبا [234]
وقالوا: يستحق بهذه الاستعارة أن يصفع في أخدعيه! وقد اتبعه البحتري في استعارة الأخدع، ولوعا باتباعه، فقال في الفتح بن خاقان:
وإني وإن أبلغتني شرف العلا * وأعتقتَ من ذل المطامع أخدعي
إن شيطانه حيث زين له هذه الكلمة، [ و ] تابعه حين حسن عنده هذه اللفظة - لخبيث مارد، وردئ معاند، أراد أن يطلق أعنة الذم فيه، ويسرح جيوش العتب إليه! ولم يقنع بقفل القضاء، حتى جعل للحتف ظلمة تجلى بالسيف، وجعل السيف هاديا في النفس المجهل الذي لا يهتدى إليه! وليس في هذا مع تحسين اللفظ وتنميقه شئ، لأن السلاح وإن كان معيبا، فإنه يهتدي إلى النفس.
وكان يجب أن يبدع في هذا إبداع المتنبي في قوله:
كأن الهامَ في الهيجا عيونٌ * وقد طُبعت سيوفك من رُقادِ
وقد صُغتَ الأسِنّة من هموم * فما يخطرن إلا في فؤاد
فالاهتداء على هذا الوجه في التشبيه بديع حسن.
وفي الببت الأول شئ آخر: وذلك أن قوله "ويفتح في القضاء" في هذا الموضع حشو ردئ، يلحق بصاحبه اللكنة، ويلزمه الهجنة.
وأما البيت الثالث، فإنه أصلح هذه الأبيات، وإن كان ذكر الفارس حشوا وتكلفا ولغوا، لأن هذا لا يتغير بالفارس والراجل. على أنه ليس في بديع.
وأما قوله:
يَغشَى الوَغى والتُّرْسُ ليس بجُنّة * من حَدِّه والدرعُ ليس بمَعقَلِ
مُصغٍ إلى حُكمِ الرَّدَى، فإذا مَضَى * لم يلتفتْ، وإذا قضى لم يعدِلِ
مُتوقّدٌ يَبري بأول ضربة * ما أدركتْ، ولو أنها في يَذبُلِ [235]
البيتان الأولان من الجنس الذي يكثر الكلامه وعليه، وهي طريقته التي يجتبيها، وذلك من السبك الكتابي والكلام المعتدل، إلا أنه لم يبدع فيهما بشئ، وقد زيد عليه فيهما.
ومن قصد إلى أن يكمل عشرة أبيات في وصف السيف، فليس من حكمه أن يأتي بأشياء منقولة وأمور مذكورة، وسبيله أن يغرب ويبدع، كما أبدع المتنبي في قوله:
سَلَّهُ الرَّكضُ بَعدَ وَهنٍ بِنَجْدٍ * فتصدّى للغيث أهلُ الحجاز
هذا في باب صقاله وأضوائه وكثرة مائه، وكقوله:
رَيّان لو قَذَفَ الذي أسقيتَه * لجَرى مِن المُهَجاتِ بحرٌ مُزبدُ
وقوله: "مصغ إلى حكم الردى" إن تأملته مقلوب، كان ينبغي أن يقول: يصغي الردى إلى حكمه، كما قال الآخر: * فالسيف يأمر والأقدار تنتظر *
وقوله: "وإذا قضى لم يعدل"، متكرر على ألسنتهم في الشعر خاصة، في نفس هذا المعنى.
والبيت الثالث سليم، وهو كالأولين في خلوه من البديع.
فأما قوله:
فإذا أصاب فكلُّ شئ مَقتَلٌ * وإذا أُصيبَ فما له من مَقتَلِ
وكأنما سُودُ النِّمال وحُمرُها * دَبَّت بأيدٍ في قَراهُ وأرجُلِ
البيت الأول يقصد بمثله صنعة اللفظ، وهو في المعنى متفاوت، لأن المضرب قد لا يكون مقتلا، وقد يطلق الشعراء ذلك، ويرون أن هذا أبدع من قول المتنبي، وأنه بضده:
القاتِلِ السيفَ في جِسمِ القتيل به * وللسيوف كما للناس آجالُ
وهذه طريقة لهم يتمدحون بها في قصف الرمح طعنا، وتقطيع السيف ضربا.
وفي قوله: "وإذا أصيب فما له من مقتل" تعسف، لأنه يريد بذلك أنه لا ينكسر، فالتعبير بما عبر به عن المعنى الذي ذكرناه يتضمن التكلف وضربا من المحال، وليس بالنادر، والذي عليه الجملة ما حكيناه من غيره.
ونحوه قال بعض أهل الزمان:
يُقَصِّفُ في الفارس السَّمْهَريَّ * وصَدْرَ الحُسامِ فريقا فريقا
والبيت الثاني أيضا هو معنى مكرر على ألسنة الشعراء.
وأما تصنيعه بسود النمال وحمرها، فليس بشئ، ولعله أراد بالحمر الذَّرّ، والتفصيل بارد، والاعراب به منكر! وهو كما حكي عن بعضهم أنه قال: كان كذا حين كانت الثريا بحذاء رأسي على سواء، أو منحرفا قدر شبر، أو نصف شبر، أو إصبعا، أو ما يقارب ذلك! فقيل له: هذا من الورع الذي يبغضه الله، ويمقته الناس!
ورب زيادة كانت نقصانا.
وصفة النمل بالسواد والحمرة في هذا من ذلك الجنس، وعليه خرج بقية البيت في قوله: * دبت بأيد في قراه وأرجل * وكان يكفي ذكر الأرجل عن ذكر الأيدى.
ووصف الفِرِنْد بمدبّ النمل شئ لا يشذ عن أحد منهم. [236]
وأما قوله:
وكأن شاهرَه إذا استَضوى به الزَّ * حفان يَعصي بالسِّمَاكِ الأعزلِ [237]
حَمَلَتْ حَمائلُه القديمةُ بَقْلَةً * من عهدِ عادٍ غَضّةً لم تذبُلِ
البيت الأول منهما فيه ضرب من التكلف، وهو منقول من أشعارهم وألفاظهم، وإنما يقول:
[ وتراهُ في ظُلَمِ الوَغَى فتخالُه * قمرًا يشدُّ على الرجال بكوكب ]
فجعل ذلك الكوكب السِّمَاكَ، واحتاج إلى أن يجعله أعزل للقافية! ولو لم يحتج إلى ذلك كان خيرا له، لأن هذه الصفة في هذا الموضع تغض من الموصوف، وموضع التكلف الذي ادعيناه، الحشو الذي ذكره من قوله: "إذا استضوى به الزحفان" وكان يكفي أن يقول: كأن صاحبه يعصي بالسماك، وهذا، وإن كان قد تعمل فيه للفظ، فهو لغو، على ما بينا.
وأما البيت الثاني ففيه لغو من جهة قوله: [ "حمائله القديمة"، ولا يوصف السيف بأن ] حمائله قديمة، ولا فضيلة له في ذلك.
ثم تشبيه السيف بالبَقلة من تشبيهات العامة والكلام الرذل النذل، لأن العامة قد يتفق منها تشبيه واقع حسن.
ثم انظر إلى هذا المقطع الذي هو بالعِيِّ أشبه منه بالفصاحة، وإلى اللكنة أقرب منه إلى البراعة.
وقد بينا أن مراعاة الفواتح والخواتم، والمطلع والمقاطع، والفصل والوصل، بعد صحة الكلام، ووجود الفصاحة فيه، مما لا بد منه، وأن الاخلال بذلك يخل بالنظم، ويذهب رونقه، ويحيل بهحته، ويأخذ ماءه وبهاءه.
وقد أطلت عليك فيما نقلت، وتكلفت ما سطرت، لأن هذا القبيل قبيل موضوع متعمل مصنوع.
وأصل الباب في الشعر على أن ينظر إلى جملة القصة، ثم يتعمل الألفاظ، ولا ينظر بعد ذلك إلى مواقعها، ولا يتأمل مطارحها. وقد يقصد تارة إلى تحقيق الأغراض، وتصوير المعاني التي في النفوس، ولكنه يلحق بأصل بابه، ويميل بك إلى موضوعه، وبحسب الاهتمام بالصنعة يقع فيها التفاضل.
وإن أردت أن تعرف أوصاف الفرس، فقد ذكرت لك أن الشعراء قد تصرفوا في ذلك بما يقع إليك - إن كنت من أهل الصنعة - مما يطول على نقله، وكذلك في السيف.
وذكر لي بعض أهل الادب أن أحسن قطعة في السيف قول أبي الهول الحميري:
حازَ صَمْصامةَ الزُّبَيديِّ مِن بيـ * ن جميع الأنام موسى الأمينُ
سَيفُ عَمرٍو وكان - فيما سمعنا - * خَيرَ ما أطبقت عليه الجُفونُ
أخضرُ اللونِ بين بُرديه حَدٌّ * من ذُعافٍ تَميسُ فيه المَنونُ
أَوْقَدَت فَوقه الصواعقُ نارا * ثم شابَت له الذُّعافَ القُيونُ [238]
فإذا ما شَهَرتَه بَهَرَ الشمـ * سَ ضياءً فلم تكد تستبين
يَستطيرُ الأبصار كالقَبَس المُشـ * عَلِ لا تستقيمُ فيه العيون
وكأن الفِرِنْدَ والرَّونَقَ الجا * ريَ في صفحتيه ماءٌ مَعينُ [239]
نِعمَ مِخراقُ ذي الحفيظة في الهَيـ * * جاءِ يَعصِى به، ونِعمَ القرينُ
ما يُبالي إذا انتحاه بضربٍ * أشمالٌ سَطَت به أم يمين
وإنما يوازن شعر البحتري بشعر شاعر من طبقته، ومن أهل عصره، ومن هو في مضماره أو في منزلته.
ومعرفة أجناس الكلام، والوقوف على أسراره، والوقوف على مقداره، شئ - وإن كان عزيزا، وأمر - وإن كان بعيدا - فهو سهل على أهله، مستجيب لأصحابه، مطيع لاربابه، ينقدون الحروف، ويعرفون الصروف.
وإنما تبقى الشبهة في ترتيب الحال بين البحتري، وأبي تمام، وابن الرومي، وغيره.
ونحن وإن كنا نفضل البحتري بديباجة شعره على ابن الرومي وغيره من أهل زمانه: نقدمه بحسن عبارته، وسلاسة كلامه، وعذوبة ألفاظه، وقلة تعقد قوله.
والشعر قبيل ملتمس مستدرك، وأمر ممكن مُطيع.
ونظم القرآن عال عن أن يعلق به الوهم، أو يسمو إليه الفكر، أو يطمع فيه طامع، أو يطلبه طالب: { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد }.
وكنت قد ذكرت لك قبل هذا أنك إن كنت بصنعة علم اللسان متدربا وفيه متوجها متقدما، أمكنك الوقوف على ما ذكرنا والنفوذ فيما وصفنا، وإلا فاجلس في مجلس المقلدين، وارض بمواقف المتحيرين.
ونصحتُ لك حيث قلت: انظر، هل تعرف عروق الذهب، ومحاسن الجوهر، وبدائع الياقوت، ودقائق السحر، من غير معرفة بأسباب هذه الأمور ومقدماتها؟ وهل يُقطع سَمْتُ البلاد من غير اهتداء فيها؟
ولكل شئ طريق يتوصل إليه به، وباب يؤخذ نحوه فيه، ووجه يؤتى منه.
ومعرفة الكلام أشد من المعرفة بجميع ما وصفت لك، وأغمض وأدق وألطف.
وتصوير ما في النفس وتشكيل ما في القلب، حتى تعلمه وكأنك مشاهده، وإن كان قد يقع بالإشارة، ويحصل بالدلالة والامارة، كما يحصل بالنطق الصريح، والقول الفصيح. فللإشارات أيضا مراتب، وللسان منازل. ورب وصف يصور لك الموصوف كما هو على جهته لا خلف فيه، ورب وصف ببر عليه ويتعداه. ورب وصف يقصر عنه.
ثم إذا صدق الوصف انقسم إلى صحة وإتقان، وحسن وإحسان، وإلى إجمال وشرح، وإلى استيفاء وتقريب، وإلى غير ذلك من الوجوه.
ولكل مذهب وطريق، وله باب وسبيل:
فوصف الجملة الواقعة كقوله تعالى: { لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منم رعبا }.
والتفسير كقوله: { ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا } إلى آخر الآيات في هذا المعنى.
وكنحو قوله: { يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شئ عظيم، يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد }.
هذا مما يصور الشئ على جهته، ويمثل أهوال ذلك اليوم.
ومما يصور لك الكلام الواقع في الصفة، كقوله حكاية عن السحرة لما توعدهم فرعون بما توعدهم به حين آمنوا: { قالوا لا ضير، إنا إلى ربنا منقلبون، إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين }.
وقال في موضع آخر: { إنا إلى ربنا منقلبون، وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا، ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين }، وهذا ينبئ عن كلام الحزين لما ناله، الجازع لما مسه.
ومن باب التسخير والتكوين قوله تعالى: { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون }.
وقوله: { فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين }.
وكقوله: { فأوحينا إلى موسى أن أضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم }.
وتقصي أقسام ذلك مما يطول، ولم أقصد استيفاء ذلك، وإنما ضربت لك المثل بما ذكرت لتستدل، وأشرت إليك بما أشرت لتتأمل.
وإنما اقتصرنا على ذكر قصيدة البحتري، لأن الكُتاب يفضلونه على أهل دهره، ويقدمونه على من في عصره، ومنهم من يدعي له الإعجاز غلوا، ويزعم أنه يناغي النجم في قوله علوا، والملحدة تستظهر بشعره، وتتكثر بقوله، وترى كلامه من شبهاتهم، وعباراته مضافة إلى ما عندهم من ترهاتهم. فبينا قد درجته وموضع رتبته، وحد كلامه.
وهيهات أن يكون المطموع فيه كالمأيوس منه، وأن يكون الليل كالنهار، والباطل كالحق، وكلام رب العالمين ككلام البشر.
فإن قال قائل: فقد قدح الملحد في نظم القرآن، وادعى عليه الخلل في البيان، وأضاف إليه الخطأ في المعنى واللفظ، [ وزعم ما زعم ]، وقال ما قال فهل من فصل؟
قيل: الكلام على مطاعن الملحدة في القرآن مما قد سُبقنا إليه، وصَنف أهل الأدب في بعضه، فكَفَوْا، وأتى المتكلمون على ما وقع إليهم، فشَفَوا، ولولا ذلك لاستقصينا القول فيه في كتابنا.
وأما الغرض الذي صنفنا فيه في التفصيل والكشف عن إعجاز القرآن، فلم نجده على التقريب الذي قصدنا، وقد رجونا أن يكون ذلك مُغنيا ووافيا.
وإن سهل الله لنا ما نويناه: من إملاء معاني القرآن ذكرنا في ذلك ما يشتبه من الجنس الذي ذكروه، لأن أكثر ما يقع من الطعن عليه، فإنما يقع على جهل القوم بالمعاني، أو بطريقة كلام العرب.
وليس ذلك من مقصود كتابنا هذا، وقد قال النبي : "فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه". [240]
وقد قصدنا فيما أمليناه الاختصار، ومهدنا الطريق، فمن كمل طبعه للوقوع على فضل أجناس الكلام استدرك ما بينا.
ومن تعذر عليه الحكم بين شعر جرير والفرزدق والأخطل، والحكم بين فضل زهير والنابغة، أو الفضل بين البحتري وأصحابه، ولم يعرف سخف مسيلمة في نظمه، ولم يعلم أنه من الباب الذي يُهزأ به ويُسخر منه، كشعر أبي العَنبَس في جملة الشعر، وشعر علي بن صلاءة - فكيف يمكنه النظر فيما وصفنا، والحكم على ما بينا؟
فإن قال قائل: فاذكر لنا من هؤلاء الشعراء الذين سميتهم الأشعر والأبلغ.
قيل له، هذا أيضا خارج عن غرض هذا الكتاب، وقد تكلم فيه الأدباء. ويحتاج أن يجرد لنحو هذا كتاب، ويفرد له باب، وليس من قبيل ما نحن فيه بسبيل.
وليس لقائل أن يقول: قد يَسْلَمُ بعض الكلام من العوارض والعيوب، ويبلغ أمده في الفصاحة والنظم العجيب، ولا يبلغ عندكم حد المعجز، فلم قضيتم بما قضيتم به في القرآن دون غيره من الكلام؟
وإنما لم يصح هذا السؤال، وما نذكر فيه من أشعار في نهاية الحسن، وخطب ورسائل في غاية الفضل - لأنا قد بينا أن هذه الاجناس قد وقع التنازع فيها، والمساماة عليها، والتنافس في طرقها، والتنافر في بابها. وكان البون بين البعض والبعض في الطبقة الواحدة قريبا، والتفاوت خفيفا، وذلك القدر من السبق إن ذهب عنه الواحد لم ييأس منه الباقون، ولم ينقطع الطمع في مثله.
وليس كذلك سَمْتُ القرآن، لأنه قد عرف أن الوهم ينقطع دون مجاراته، والطمع يرتفع عن مباراته ومساماته، وأن الكل في العجز عنه على حد واحد.
وكذلك قد يزعم زاعمون أن كلام الجاحظ من السمت الذي لا يؤخذ فيه، والباب الذي لا يذهب عنه، وأنت تجد قوما يرون كلامه قريبا، ومنهاجه معيبا، ونطاق قوله ضيقا، حتى يستعين بكلام غيره، ويفزع إلى ما يوشح به كلامه، من بيت سائر، ومثل نادر، وحكمة ممهدة منقولة، وقصة عجيبة مأثورة. وأما كلامه في أثناء ذلك فسطور قليلة، وألفاظ يسيرة؛ فإذا أحوج إلى تطويل الكلام خاليا عن شئ يستعين به - فيخلط بقوله من قول غيره - كان كلاما ككلام غيره.
فإن أردت أن تحقق هذا، فانظر في كتبه في نظم القرآن [241] وفي الرد على النصارى وفي خبر الواحد، وغير ذلك مما يجرى هذا المجرى، هل تجد في ذلك كله ورقة [ واحدة ] تشتمل على نظم بديع أو كلام مليح؟
على أن متأخرى الكتاب قد نازعوه في طريقته، وجاذبوه على منهجه، فمنهم من ساواه حين ساماه، ومنهم من أبر عليه إذ باراه.
هذا أبو الفضل بن العميد قد سلك مسلكه، وأخذ طريقه، فلم يقصر عنه، ولعله قد بان تقدمه عليه، لأنه يأخذ في الرسالة الطويلة فيستوفيها على حدود مذهبه، ويكملها على شروط صنعته، ولا يقتصر على أن يأتي بالاسطر من نحو كلامه، كما ترى الجاحظ يفعله في كتبه، متى ذكر من كلامه سطرا أتبعه من كلام الناس أوراقا، وإذا ذكر منه صفحة بنى عليه من قول غيره كتابا.
وهذا يدلك على أن الشئ إذا استُحسن اتبع، وإذا استملح قصد له وتعمد. وهذا الشئ يرجع إلى الأخذ بالفضل، والتنافس في التقدم.
فلو كان في مقدور البشر معارضة القرآن لهذا الغرض وحده، لكثرت المعارضات، ودامت المنافسات.
فكيف وهناك دواع لا انتهاء لها، وجوالب لا حد لكثرتها، لأنهم لو كانوا عارضوه لتوصلوا إلى تكذيبه، ثم إلى قطع المحامين دونه عنه، أو تنفيرهم عليه، وإدخال الشبهات على قلوبهم، وكان القوم يكتفون بذلك عن بذل النفوس ونصب الأرواح والإخطار بالأموال والذراري في وجه عداوته، ويستغنون بكلام - هو طبعهم وعادتهم وصناعتهم - عن محاربته، وطول مناقشته ومجاذبته.
وهذا الذي عرضناه على [ عقلك، وجلوناه على ] قلبك، يكفي إن هديت لرشدك، ويشفي إن دللت على قصدك.
ونسأل الله حسن التوفيق، والعصمة والتسديد، إنه لا معرفة إلا بهدايته ولا عصمة إلا بكفايته، وهو على ما يشاء قدير، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
فصل
فإن قال قائل: قد يجوز أن يكون أهل عصر النبي قد عجزوا عن الإتيان بمثل القرآن، وإن كان من بعدهم من أهل الاعصار لم يعجزوا.
قيل: هذا سؤال معروف، وقد أجيب عنه بوجوه، منها ما هو صواب، ومنها ما فيه خلل؛ لأن من كان يجيب عنه بأنهم لا يقدرون على معارضته في الإخبار عن الغيوب إن قدروا على مثل نظمه - فقد سَلَّم المسألة، لأنا ذكرنا أن نظمه معجز لا يُقدر عليه، فإذا أجاب بما قدمناه فقد وافق السائل على مراده.
والوجه أن يقال: فيه طرق:
منها: أنا إذا علمنا أن أهل ذلك العصر كانوا عاجزين عن الإتيان بمثله، فمن بعدهم أعجز؛ لأن فصاحة أولئك في وجوه ما كانوا يتفننون فيه من القول، مما لا يزيد عليه فصاحة من بعدهم، وأحسن أحوالهم أن يقاربوهم أو يساووهم، فأما أن يتقدموهم أو يسبقوهم فلا.
ومنها: أنا قد علمنا عجز سائر أهل الاعصار كعلمنا بعجز أهل العصر الأول، والطريق في العلم بكل واحد من الأمرين طريق واحد، لأن التحدي في الكل على جهة واحدة، والتنافس في الطباع على حد [ واحد ]، والتكليف على منهاج لا يختلف. ولذلك قال الله تبارك وتعالى: { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا }.
فصل في التحدي
يجب أن تعلمَ أن مِن حكم المعجزات إذا ظهرت على الأنبياء أن يدعوا فيها أنها من دلالتهم وآياتهم، لأنه لا يصح بعثة النبي من غير أن يؤتى دلالة ويؤيد بآية، لأن النبي لا يتميز من الكاذب بصورته ولا بقولِ نفسه ولا بشئ آخر، سوى البرهان الذي يظهر عليه، فيستدل به على صدقه.
فإن ذكر لهم أن هذه آيتي وكانوا عاجزين عنها صح له ما ادعاه.
ولو كانوا غير عاجزين عنها لم يصح أن يكون برهانا له.
وليس يكون معجزا إلا بأن يتحداهم إلى أن يأتوا بمثله. فإذا تحداهم وبان عجزهم صار ذلك معجزا.
وإنما احتيج في باب القرآن إلى التحدي لأن من الناس من لا يعرف كونه معجزا، فإنما يُعرف أولا إعجازه بطريق، لأن الكلام المعجز لا يتميز من غيره بحروفه وصورته، وإنما يحتاج إلى علم وطريق يتوصل به إلى معرفة كونه معجزا.
فإن كان لا يعرف بعضهم إعجازه، فيجب أن يعرف هذا، حتى يمكنه أن يستدل به.
ومتى رأى أهلَ ذلك اللسان قد عجزوا عنه بأجمعهم مع التحدي إليه، والتقريع به، والتمكين منه - صار حينئذ بمنزلة من رأى اليد البيضاء، وانقلاب العصى ثعبانا تتلقف ما يأفكون.
وأما من كان من أهل صنعة العربية، والتقدم في البلاغة، ومعرفة فنون القول ووجوه المنطق، فإنه يعرف حين يسمعه عجزَه عن الإتيان بمثله، ويعرف أيضا أهل عصره، ممن هو في طبقته أو يدانيه في صناعته، عجزَهم عنه، فلا يحتاج إلى التحدي حتى يعلم به كونه معجزا.
ولو كان أهل الصنعة الذين صفتهم ما بينا لا يعرفون كونه معجزا حتى يعرفوا عجز غيرهم عنه، لم يجز أن يعرف النبي أن القرآن معجز حتى يرى عجز قريش عنه بعد التحدي إليه، وإذا عَرَفَ عجز قريش لم يعرف عجز سائر العرب عنه حتى ينتهي إلى التحدي إلى أقصاهم، وحتى يعرف عجز مسيلمة الكذاب عنه، ثم يعرف حينئذ كونه معجزا.
وهذا القول - إن قيل - أفحش ما يكون من الخطأ!
فيجب أن تكون منزلة أهل الصنعة في معرفة إعجاز القرآن بأنفسهم منزلة من رأى اليد البيضاء وفلق البحر، بأن ذلك معجز.
وأما من لم يكن من أهل الصنعة، فلا بد له من مرتبة قبل هذه المرتبة، يعرف بها كونه معجزا، فيساوي حينئذ أهل الصنعة، فيكون استدلالهما في تلك الحالة به على صدق من ظهر ذلك عليه على سواء، إذا ادعاه - دلالة على نبوته وبرهانا على صدقه.
فأما من قدر أن القرآن لا يصير معجزا إلا بالتحدي إليه، فهو كتقدير من ظن أن جميع آيات موسى وعيسى عليهما السلام ليست بآيات حتى التحدي إليها والحض عليها، ثم يقع العجز عنها، فيعلم حينئذ أنها معجزات.
وقد سلف من كلامنا في هذا المعنى ما يغني عن الإعادة.
ويبين ما ذكرناه في غير البليغ: أن الأعجمي الآن لا يعرف إعجاز القرآن إلا بأمور زائدة على الأعجمي الذي كان في ذلك الزمان مشاهدا له، لأن من هو من أهل العصر يحتاج أن يعرف أولا أن العرب عجزوا عنه، وإنما يعلم عجزهم عنه بنقل الناقلة إليه أن النبي قد تحدى العرب إليه فعجزوا عنه، ويحتاج في النقل إلى شروط، وليس يصير القرآن بهذا النقل معجزا، كذلك لا يصير معجزا بأن يعلم العربي الذي ليس ببليغ أنهم قد عجزوا عنه بأجمعهم، بل هو معجز في نفسه، وإنما طريق معرفة هذا وقوفهم على العلم بعجزهم عنه.
فصل في قدر المعجز من القرآن
الذي ذهب إليه عامة أصحابنا - وهو قول [ الشيخ ] أبي الحسن الأشعري في كتبه - أن أقل ما يعجز عنه من القرآن السورة، قصيرة كانت أو طويلة، أو ما كان بقدرها.
قال: فإذا كانت الآية بقدر حروف سورة، وإن كانت سورة الكوثر، فذلك معجز.
قال: ولم يقم دليل على عجزهم عن المعارضة في أقل من هذا القدر.
وذهبت المعتزلة إلى أن كل سورة برأسها فهي معجزة.
وقد حُكي عنهم نحو قولنا، إلا أن منهم من لم يشترط كون الآية بقدر السورة، بل شرط الآيات الكثيرة.
وقد علمنا أنه تحداهم تحديا إلى السور كلها، ولم يخصّ، ولم يأتوا لشئ منها بمثل، فعلم أن جميع ذلك معجز.
وأما قوله عز وجل: { فليأتوا بحديث مثله } فليس بمخالف لهذا، لأن الحديث التام لا تتحصل حكايته في أقل من كلمات سورة قصيرة.
وهذا يؤكد ما ذهب إليه أصحابنا ويؤيده، وإن كان قد يتأول قوله: { فليأتوا بحديث مثله } على أن يكون راجعا إلى القبيل دون التفصيل.
وكذلك يحمل قوله تعالى: { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله } على القبيل، لأنه لم يجعل الحجة عليهم عجزهم عن الإتيان بجميعه من أوله إلى آخره.
فإن قيل: هل تعرفون إعجاز السور القصار بما تعرفون إعجاز السور الطوال؟ وهل تعرفون إعجاز كل قدر من القرآن بلغ الحد الذي قدرتموه بمثل ما تعرفون به إعجاز سورة البقرة ونحوها؟
فالجواب: أن [ شيخنا ] أبا الحسن الأشعري رحمه الله أجاب عن ذلك بأن كل سورة قد عُلم كونها معجزة بعجز العرب عنها.
وسمعت بعض الكبراء من أهل هذا الشأن يقول: إن ذلك يصح أن يكون علم ذلك توقيفا.
والطريقة الأولى أسدُّ. وليس هذا الذي ذكرناه أخيرا بمنافٍ له، لأنه لا يمتنع أن يعلم إعجازه بطرق مختلفة تتوافى عليه وتجتمع فيه.
واعلم أن تحت اختلاف هذه الأجوبة ضربا من الفائدة.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 2 (0 من الأعضاء و 2 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)