بقلم: د. خالد الطراولي
بعضهم سمّاها 11 سبتمبر الإعلامية، والبعض اعتبرها منعرجاً خطيراً في الحركة الدبلوماسية بين الدول. آخرون رأوا فيها انتفاضة للحرية أمام الاستبداد والأبواب المغلقة، وهي بالتالي انتصار رهيب للإعلام الجديد أمام المتاريس والأجندات الخفية وتعاملات الكهوف والسراديب...ولكن...
لا يختلف اثنان بأن وثائق (ويكيليكس) قد مثّلت مفاجأة في أول قراءة لها؛ إذ بدا للعموم أن للدبلوماسية سننها وثناياها، وأن المخفي أكثر مما ظهر، وأن الكثير من المعلن يناقض صراحة كل ما حملته الحفلات واللقاءات تحت الأضواء المكشوفة.
اكتشفنا أن أحد الرؤساء العرب يهاب الطوابق الشاهقة والطيران فوق البحار! علمنا أن وزير دولة عربية طلب الاكتفاء بعدم قصف العدو لطائفته فقط أثناء العدوان، وآخر فرح لاغتيال أحد القيادات العليا.. عرفنا أن إيران هي العدو الرئيس عند بعض الحكام العرب، وأن قطع رأس الأفعى ضرورة حياتية لهم قبل شعوبهم! عرفنا أن الرئيس الفرنسي فضّل مشاركة بلاده للأمريكيين في العراق، وأن الوزير الأول الإيطالي صديق حميم لبوتين ولعله حليف...، وأن وزير الخارجية الروسي يكذب..، وأن المستشارة الألمانية تهاب المخاطر...، وأن الفساد والرشوة هي القاعدة السائدة في أفغانستان، وأن وجود الرجل النزيه عملة نادرة...
ولكن أين إسرائيل من هذه التعرية التي دخلت البيوت من أبوابها الصغيرة والكبيرة، حتى عرفنا أن الرئيس الفرنسي الحالي عند استقباله للسفير الأمريكي انفلت كلبه الشخصي، وأسرع يطارد أرنب ابنه الصغير، فأصبح المشهد ساخراً.. رئيس الجمهورية يجري وراء الكلب، الذي يجري وراء الأرنب، الذي يجري هرباً برأسه...مذكرات حفظها قلم السفير ووثقها للبيت الأبيض! هذه التفاصيل الذي غاصت في كل صغيرة وكبيرة حتى إنها قاربت المائتين وسبعين ألف وثيقة، ولامست كل بلاد الدنيا، فأينما وجدت سفارة أمريكية وجدت وثائق واكتشافات، غير أن العجيب اختفاء إسرائيل من هذا الكم الهائل من المعلومات، وكأنها بلد بسيط مرمي في الصحراء، أو أنه لا توجد به سفارة للعم سام لقلة الزاد، أو أن المكشوف والمستور قد تساويا؛ فالديمقراطية الكاملة الجامعة قد مرت من هنا.. أليست إسرائيل هي الواحة الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، ولعله في كل هذا العالم الغاطس حد الرقبة في الاستبداد!أسئلة محيّرة
سؤال محير! لماذا غابت إسرائيل عن هذه المأدبة التي دُعي إليها الجميع كرها؟ المصداقية المفروضة لموقع (ويكيليكس) تأخذ نصيباً من الشك المعقول، وتطرح تساؤلات تبحث عن إجابات معقولة. أين مرت غزة وجحافل الموتى والجرحى، أيام وليال سوداء دخلت فيها الدبلوماسية والقتل والتشريد على الخط من كل المناطق وعبر الحدود؟ ما هي المواقف المستورة والمخفية لبعض الحكام وأصحاب القرار؟ لماذا تواصل كل هذا القصف وسكون الخارج تقابله ليال حمراء وصياح أطفال رضع...؟! نعم لم نر إلى حد الآن تسريباً واحداً عن هذه الفترة السوداء من تاريخ العالم الذي سيكتبها يوماً بحبر أحمر من جمر.
أين مرت المفاوضات العديدة التي جمعت أطرافاً عدة بداية من عقد التسعينيات تخللتها انتفاضات وتقلبات وسقوط حكومات ودخول حركة حماس على الخط؟ أين مرّ استشهاد ياسر عرفات ومواقفه وأحواله في رام الله؟ لقد كانت وثائق السفير غائبة وقلمه السيال قد جفّ حين اقترب من هذه المواقع والمنازل!
أين صيف لبنان الحارق الذي كرس سطوة العنجهية والانفلات حيث دُكَّت بناه التحتية على مرمى ومسمع من الجميع؟ (1200) قتيل والعالم يعدّ القتلى والجرحى على ترانيم حزينة وفي غياب الموقف الحازم! محطة صعبة حملت الكثير من السفرات المكوكية والتنقلات ولا نظن أن المكشوف يساوي المحظور، فلماذا غاب المشهد كلية، وغابت معه الوثائق والمكاشفات؟
ولكن.. لعل هذا الغياب لإسرائيل في هذه الوثائق يعود ببساطة وأساساً لمطابقة المخفي مع المعلن، فلماذا تخفي إسرائيل أقوالها وأفعالها؛ فكل شيء تحت الأضواء وعلى المباشر، فممن الخوف والتورية؟ أمن نظام سياسي عربي مفقود وحكام غائبين يتقاسمون إرث الحكم وهم "جمهوريون" أو يدنسون انتخابات، ويدّعون خلوّ الصناديق من الثقوب؟ أم الخوف من صديق أمريكي أصبح يعيش انحدار إمبراطوريته بخطا متسارعة، ويبحث عن الملاذ قبل أن يكون ملاذاً؟ أم من عالم أوروبي لا يجد له مكاناً في معادلة الشرق الأوسط، ويعيش أياماً صعبة لإنقاذ حلم بدأ يتوارى؟ فلِمَ الهلع والبحث عن مكاشفات، لعل ليس لها وجود أصلاً؟ فالمعلن يطابق المستور بكل عنجهية وقوة، ولكن...
خوفي من أن هذه التعرية المبرمجة تدخل في خطة تماثل خططاً سابقة طرحت لتكوين رأي عام عالمي حول شأن معين. ولعل حجم التعرية وما لفته من اكتشافات دقيقة تمثل في الأغلب رأي الدبلوماسيين الأمريكيين فيما يجول حولهم من ممارسات وأحاديث، كل هذا يجعل من الشأن المطروح عالي المنزلة وضخم الخطورة، ولعله يمثل منعرجاً إستراتيجياً كبيراً من شأنه زعزعة المنازل والدرجات وقلب المعادلات وضرب المصالح!من هنا مرّ العراق...
خوفي أن هذه التسريبات تمثل الحلقة الأولى والضرورية لجمع دول العالم حول قرار لم يكسب حتى الآن شراكة الجميع وشرعيته الأممية، ويعطي للولايات المتحدة وإسرائيل تأشيرة ضرب إيران تحت مسوّغ الخطر العالمي الزاحف، فإخراج ورقة تواطؤ حكام الخليج ومساندتهم لضرب إيران، بل التشجيع والإسراع بهذا العمل، يجعل من هؤلاء في موقف صعب تجاه إيران والعالم، ويرمي بهم في أحضان الولايات المتحدة، حيث لم يعد لهم من صديق وحام، وحيث ظهرت إلى السطح إرادتهم ونواياهم التي لم تعد تخفى على الجانب الإيراني، فكل ما كان مستوراً حقيقة أو خيالاً والذي جعل الديبلوماسية أو النفاق السياسي يسيطر على الموقف، ويحمي ماء الوجه، ويؤخر قرارات لا تحبها الجماهير والشعوب على الضفتين، كل هذا قد أنهته التسريبات، وسقطت ورقة التوت، ورمت بالجميع على السطح، وقد افترشوا الأرض والتحفوا السماء!
لقد كان البحث عن مسوغ لضرب العراق طويلاً مبرمجاً وعلى نطاق عال من التنظيم والتحضير.. كان مساراً دقيقاً دخلت فيه البرمجات والإعلام والفضائيات والبث المباشر والخطب الرنانة..، دخلت على الخط حكومات ورؤساء وهيئات واستعراضات، حديث جاد ومخيف عن الكيمياويات العراقية ومنشآتها العملاقة وعلمائها وترساناتها وصواريخ مهيئة لضرب أوروبا، وتجارة اليورانيوم مع النيجر! وإذ كنا ناسين فلن ننسى الاستعراض المباشر في مجلس الأمن لوزير الخارجية الأمريكي السابق باول وهو يقلب بين يديه وأمام كاميرا العالم علبة كيمياوية قيل إنها وجدت في العراق...
كل هذا "العرس" العالمي والشطحات الدبلوماسية والتنقلات المكوكية مثل المسوّغ لتهيئة الرأي العام العالمي لضرب العراق، وقد أفلح القوم ودُكَّت أرض العراق ولا تزال، ولم تخرج بعد من غيابات هذا القرار الجائر. واليوم ولعله كالبارحة، ولكن اللقمة أصبحت أكبر ولم تعد سائغة، وما كل مرة تسلم الجرة؛ فالرأي العام العالمي أصبح متوجساً من كل فعل أمريكي، والأزمة العالمية مرت من هنا ولا تزال تلوح بمزيد من الضحايا، وأمريكا أوباما ليست كأمريكا بوش، وإن أصبحت المساحات تضيق والاختلاف يتوارى، وإيران ليست العراق، وحزب الله رقم يجب عدم تناسيه أو تهميشه، وأفغانستان لا تزال تعاني، وجيوش التحالف لم تخرج من المستنقع، والضحايا يتساقطون وجثامين العسكر تتلاحق على أرض المطارات والموانئ، وخزائن الدول لم تعد قادرة للاستجابة لهذا البئر بدون قاع، والشعوب الغربية أصبحت حائرة وخائفة على مستقبلها ومستقبل أبنائها. والجماهير العربية لعلها قد نهضت من غفوتها، والمستقبل يحمل كثيراً من الشكوك والضباب. كل هذه الأبعاد وهذه الثنايا تجعل من الضربة الإيرانية محطة صعبة وخطرة وتتطلب كثيراً من "الإبداع الديبلوماسي" والدهاء السياسي، ولعل تسريبات (ويكيليكس) تدخل من هذا الباب كورقة تهيئة وتحضير.
لعل الأيام المقبلة ستكون حبلى بالمفاجآت على كل الأرصدة، سواء ما كانت تخفيه الأزمة الاقتصادية العالمية من تعقيدات وتحوّلات، أو ما يحمله الداخل الأوروبي من تداخلات وإفرازات على مستوى البنية الداخلية الأوروبية، ولكن هناك مفاجأة لعلها أنهت بريقها، وأصبحت حقيقة لا مجازاً بهذه التسريبات والمكاشفات، وهو ضرب إيران على ترانيم غياب إسرائيل المحير في هذا الكم الهائل من الوثائق المعلنة.بعيداً عن نظرية المؤامرة ولكن...
نعم لا نريد أن نحبك حديثنا بعقلية المؤامرة؛ فالكل يتآمر علينا وينسج خيط فعله ونظره من هذا الباب. تاريخنا مؤامرة، وحاضرنا مؤامرة، ولعل مستقبلنا مؤامرة، نعم لا نريد الإصغاء لهذا الغلوّ الذي ينفي عنا كل فعل وإرادة وعزم، نعم لا نسعى إلى تبني هذه النظرية السهلة التي تزيدنا غفوة ونوماً وشخيراً، وتمدّد حكم الاستبداد والاستخفاف و"الاستحمار"، ولكن معطيات كثيرة وحقائق بدأنا نلمسها عن قرب أصبحت تشكل توجّسنا وخوفنا من أن أجندات خفية ومعلنة تُحاك دون علمنا، نعم لنا النصيب الأكبر في مصائبنا، نعم أيدينا مخضبة بأفعالنا السيئة، نعم حكاماً ومحكومين نحمل سواسية أسباب عقمنا وسقوطنا ولكن..
للآخر نصيبه في نكبتنا، وللآخر أجنداته ومصالحه، وللآخر فعله ونظره، وإن كنا شاكين فلنشكُ قلة وعينا بأجندتنا إذا كانت لنا أجندة وإستراتيجية، وغيبوبتنا تجاه فقه أجندة الآخرين.
يا خير من دفنت في الترب أعظمه *** فطاب من طيبهـن القـاع والأكـم
نفسي الـفـداء لـقبـر أنـت ساكـنـه *** فيه العفاف وفيـه الجـود والكـرم
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)