ما رفع إلينا موبذان موبذ
« رفع إلينا موبذان موبذ: أنّ قوما سمّاهم من ذوي الشرف - بعضهم بالباب كان شاهدا وبعضهم ببلاد أخر - دينهم مخالف لما ورثنا عن نبّينا وعلمائنا، وأنّهم يتكلّمون بدينهم سرّا ويدعون إليه الناس، وأنّ ذلك مفسدة للملك، حيث لا تقوم الرعيّة على هوى واحد: فيحرّمون جميعهم ما يحرّم الملك ويستحلّون ما يستحلّ الملك في دينه، فإنّ ذلك إذا اجتمع للملك، قوى جنده لأجل الموافقة بينهم وبين الملك، فاستظهر على قتال الأعداء.
فأحضرت أولئك المختلفين في الأهواء [ ثمّ أمرت ] أن يخاصموا حتى يقفوا على الحقّ ويقرّروا به، وأمرت أن يقصوا عن مدينتي وعن بلادي ومملكتي، وبتتبّع كلّ من هو على هواهم، فيفعل به ذلك. » وقال:
ما سألته الترك ومسيرنا إلى باب صول
« إنّ الترك الذين في ناحية الشمال، كتبوا إلينا بما قد أصابهم من الحاجة، وأنهم لا يجدون بدّا - إن لم نعطهم شيئا - من أن يغزونا، وسألوا خصالا، أحدها: أن نتّخذهم في جندنا ونجري عليهم ما يعيشون به، وأن نعطيهم من أرض الكنج وبلنجر وتلك الناحية، ما يتعيّشون منه. فرأيت أن أسير في ذلك الطريق إلى باب صول، وأحببت أن تعرف الملوك من قبلنا هناك نشاطنا للأسفار وقوّتنا عليها متى هممنا، وأن يروا ما رأوا من هيبة الملوك، وكثرة الجنود، وتمام العدّة، وكمال السلاح ما يقوون به على أعدائهم ويعرفون به قوّة من خلفهم إن هم احتاجوا إليه، وأحببنا - بمسيرنا - أن يجرى لهم على أيدينا الجوائز والحملان والقرب من المجلس واللطف في الكلام، ليزيدهم ذلك مودّة لنا، ورغبة فينا، وحرصا على قتال أعدائنا. وأحببت أيضا التعهّد لحصونهم، وأن أسأل أهل الخراج عن أمرهم في مسيرنا، فسرت في طريق همذان وآذربيجان. فلمّا بلغت باب الصول ومدينة فيروز خسره، رمّمت تلك المدائن العتيقة والحدود، وأمرت ببناء حصون أخر.
« فلمّا بلغ خاقان الخزر نزولنا هناك، تخوّف أن نغزوه. فكتب:
أنّه لم يزل - منذ ملكت - يحبّ موادعتى، وأنّه يرى الدخول في طاعتي سعادة، ورأى بعض قوّاده لما شاهد حاله تركه، فأتانا في ألفين من أصحابه، فقبلناه، وأنزلناه مع أساورتنا في تلك الناحية، وأجريت عليه وعلى أصحابه الرزق، وأمرت لهم بحصن هناك، وأمرت بمصلّى لأهل ديننا، وجعلت فيه موبذا وقوما نسّاكا، وأمرتهم أن يعلّموا من دخل في طاعتنا من الترك، ما في طاعة الولاة من المنفعة العاجلة في الدنيا، والثواب الآجل في الأخرى، وأن يحثّوهم على المودّة والصحّة والعدل والنصيحة ومجاهدة العدوّ، وأن يعلّموا أحداثهم رأينا ومذهبنا. وأقمت لهم في تلك التخوم الأسواق وأصلحت طرقهم، وقوّمت السكك، ونظرنا فيما اجتمع لنا هناك من الخيل والرجال، فإذا بحيث لو كان في وسط فارس، لكان منزلنا بها فاضلا. » قال:
تجديد النظر في أمر المملكة
« ولمّا أتى لملكنا ثمان وعشرون سنة جدّدت النظر في أمر المملكة والعدل على الرعية، والنظر في أمرهم وإحصاء مظالمهم وإنصافهم، وأمرت موبذ كلّ [ ثغر ] ومدينة وبلد وجند بإنهاء ذلك إليّ، وأمرت بعرض الجند من كان منهم بالباب، بمشهد مني، ومن غاب في الثغور والأطراف، بمشهد القائد وباذوسبان والقاضي وأمين من قبلنا، وأمرت بجمع أهل كور الخراج في كلّ ناحية من مملكتي إلى مصرها، مع القائد وقاضى البلد والكاتب والأمين، وسرّحت من قبلي من عرفت صحّته وأمانته ونسكه وعلمه، ومن جرّبت ذلك منه إلى كلّ مصر ومدينة، حيث أولئك [ الغلمان و ] العمال وأهل الأرض، ليجمعوا بينهم وبين أهل أرضيهم وبين وضيعهم وشريفهم، وأن يرفع الأمر كلّه على حقّه وصدقه: [ فما ] نفذ فيه لهم أمر - لو صحّ فيه القضاء ورضى به أهله - فرغوا منه هنالك، وما أشكل عليهم رفعوه إليّ. وبلغ اهتمامي بتفقّد ذلك ما لولا الذي أدارى من الأعداء والثغور، لباشرت أمر الخراج والرعيّة بنفسي قرية قرية، حتى أتعهّدها وأكلّم رجلا رجلا من أهل مملكتي، غير أنّى تخوّفت أن يضيع بذلك السبب أمر هو أعظم منه، والأمر الذي لا يغنى فيه غنائى ولا يقدر على إحكامه غيري، ولا يكفينيه كاف، مع الذي في الشخوص إلى قرية قرية، ومن المؤونة على الرعيّة من جندنا، ومن لا نجد بدّا من إشخاصه معنا. وكرهنا أيضا إشخاصهم إلينا، مع تخوّفنا أن يشغل أهل الخراج عن عمارة أرضيهم، أو يكون فيهم من يدخل عليه في ذلك مؤونة في تكلف السير إلى بابنا، وقد ضيّع قراه وأنهاره وما لا يجد بدّا من تعهّده في السنة كلّها في أوقات العمارة.
ففعلنا ذلك بهم، ووكّلنا موبذان موبذ وكتبنا به الكتب وسرّحنا من وثقنا به ورجونا أن يجرى مجرانا، وشخّصنا وقلّدناه ذلك. » قال:
جلوسنا مع أهل الكور للفحص عن الرعية وأمناء الخراج
« ولمّا آمن الله جميع أهل مملكتنا من الأعداء. فلم يبق منهم إلّا نحو من ألفى رجل من الديلم الذين عسر افتتاح حصنهم لصعوبة الجبال عليها، لم نجد شيئا أنفع لمملكتنا من أن نفحص من الرعيّة وأولئك الأمناء الذين وصّيناهم بإنصاف أهل الخراج، وكان بلغنا أنّ أولئك الأمناء لم يبالغوا على قدر رأينا في ذلك، فأمرت بالكتب إلى قاضى كورة كورة: أن يجمع أهل الكورة بغير علم عاملهم وأولى أمرهم، فيسألهم عن مظالمهم وما استخرج منهم، ويفحص عن ذلك بمجهود رأيه، ويبالغ فيه، ويكتب حال رجل رجل منهم، ويختم عليه بخاتمه وخاتم الرضا من أهل تلك الكورة، ويبعث به إليّ، ويسرّح ممن يجتمع رأى أهل الكورة عليه بالرضا نفرا، وإن أحبّوا أن يكون في من يشخص، بعض سفلتهم أيضا، فعل ذلك.
« فلمّا حضروا جلست للناس وأذنت بمشهد من عظماء أرضنا وملوكهم، وقضاتهم وأحرارهم وأشرافهم، ونظرت في تلك الكتب والمظالم. فأيّة مظلمة كانت من العمّال ومن وكلائنا، أو من وكلاء وكلائنا، ونسائنا، وأهل بيتنا، حططنا عنهم بغير بيّنة، لعلمنا بضعف أهل الخراج عنهم وظلم أهل القوّة من السلطان لهم، وأية مظلمة كانت لبعضهم من بعض ووضحت لنا، أمرت بإنصافهم قبل البراح، وما أشكل، أو وجب الفحص عنه، بشهود البلد وقاضيها، سرّحت معه أمينا من الكتّاب، وأمينا من فقهاء ديننا، وأمينا ممن وثقنا به من خدمنا وحاشيتنا، فأحكمت ذلك إحكاما وثيقا، ولم يجعل الله لذوي قرابتنا وخدمنا وحاشيتنا منزلة عندنا دون الحقّ والعدل، فإنّ من شأن قرابة الملك وحاشيته أن يستطيلوا بعزّة وقوّة. فإذا أهمل السلطان أمرهم هلك من حاوروه إلّا أن تكون فيهم متأدّب بأدب ملكه، محافظ على دينه، شفيق على رعيّته، وأولئك قليل. فدعانا الذي اطّلعنا عليه من ظلم أولئك، إلى أن لا نطلب البيّنة عليهم في ما ادّعى قبلهم، ولم نرد ظلم أحد ممن كان عزيزا بنا، ومنيعا بمكانه ومنزلته عندنا، فانّ الحق واسع للضعفاء والأقوياء، والفقراء والأغنياء، ولكنّا لمّا أشكلت الأمور في ذلك علينا، كان الحمل على خواصّنا وخدمنا، أحبّ إلينا من أن نحمل على ضعفاء الناس ومساكينهم وأهل الفاقة والحاجة منهم.
وعلمنا أنّ أولئك الضعفاء لا يقدرون على ظلم من حولنا وعلمنا مع ذلك أنّ [ الذين ] أعدينا عليهم من خاصّتنا يرجعون من نعمتنا وكرامتنا إلى ما لا يرجع إليه أولئك الضغفاء.
ولعمري، إنّ أحبّ خواصّنا إلينا، وأبرّ خدمنا في أنفسنا، الذين يحفظون سيرتنا في الرعيّة، ويرحمون أهل الفاقة والمسكنة، وينصفونهم، فإنّه قد ظلمنا من ظلمهم، وجار علينا من جار عليهم، وأراد تعطيل ذمّتنا التي هي حرزهم وملجأهم. » قال:
ما كتبه إلينا أربعة أصناف من ترك الخزر
« ثم كتب إلينا على رأس سبع وثلاثين سنة من ملكنا أربعة أصناف من الترك من ناحية الخزر، ولكلّ صنف منهم ملك، يذكرون ما دخل عليهم من الحاجة، وما لهم من الحظّ في عبودتنا، وسألوا أن نأذن لهم في القدوم بأصحابهم لخدمتنا والعمل بما نأمرهم به، ولا نحقد عليهم ما سلف منهم قبل ملكنا، وأن ننزلهم منزلة سائر عبيدنا، فإنّا سنرى في كلّ ما نأمرهم به من قتال وغيره، كأفضل ما نرى من أهل نصيحتنا.
« فرأيت في قبولي إيّاهم عدّة منافع، منها: جلدهم وبأسهم، ومنها: أنّى تخوّفت أن تحملهم الحاجة على إتيان قيصر أو بعض الملوك فيقووا بهم علينا. وقد كان في ما سلف يستأجر قيصر منهم لقتال ملوك ناحيتنا بأغلى الأجرة، فكان لهم في ذلك القتال بعض الشوكة بسبب أولئك الأتراك، ولأنّ الترك ليس عندهم لذّة الحياة، فهو الذي يجرّيهم مع شقاء معيشتهم على الموت.
فكتبت إليهم: أنّا نقبل من دخل في طاعتنا ولا نبخل على أحد بما عندنا. وكتبت إلى مرزبان الباب آمره أن يدخلهم أوّلا فأولا.
« فكتب إليّ أنّه: قد أتاه منهم خمسون ألفا بنسائهم وأولادهم وعيالاتهم، وأتاه من رؤسائهم ثلاثة آلاف بأهل بيتهم ونسائهم وأولادهم وعيالاتهم.
« ولمّا بلغني ذلك أحببت أن أقرّبهم إليّ، ليعرفوا إحسانى إليهم في ما أكرمهم به وأعطيهم، وليطمئنّوا إلى قوّادنا حتى إذا أردنا تسريحهم مع بعض قوّادنا، كان كلّ واحد بصاحبه واثقا. فشخصت إلى آذربيجان. فلما نزلت آذربيجان أذنت لهم في القدوم، وأتانى عند ذلك طرائف من هدايا قيصر، وأتانى رسول خاقان الأكبر ورسول صاحب خوارزم، ورسول ملك الهند، والداور، وكابل شاه، وصاحب سرنديب، وصاحب كله، وكثير من الرسل، وتسعة وعشرون ملكا في يوم واحد، وانتهيت إلى أولئك الأتراك الثلاثة والخمسين الألف، فأمرت أن يصفّفوا هناك، وركبت لذلك، فكان يومئذ من أصحابي، ومن قدم عليّ، ومن دخل في طاعتي وعبودتى، من لم يسعهم مرج كان طوله نحو عشرة فراسخ.
فحمدت الله كثيرا، وأمرت أن يصنّف أولئك الأتراك في أهل بيوتاتهم على سبع مراتب ورأّست عليهم منهم، وأقطعتهم، وكسوت أصحابهم، وأجريت عليهم الأرزاق، وأمرت لهم بالمياه والأرضين، وأسكنت بعضهم مع قائد لي ببرجان، وبعضهم مع قائد لي باللّان، وبعضهم بآذربيجان، وقسمتهم في كلّ ما احتجنا إليه من الثغور، وضممتهم إلى المرزبان. فلم أزل أرى من مناصحتهم واجتهادهم في ما نوجههم له، ما يسرّنا في جميع المدائن والثغور وغيرها. »
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
خاقان الأكبر يعتذر إلي ويسأل التجاوز
« وكتب إليّ خاقان الأكبر يعتذر إليّ من بعض غدراته، ويسأل المراجعة والتجاوز، وذكر في كتابه ورسالته: إنّ الذي حمله على عداوتي وغزو أرضى من لم ينظر له، وناشدني الله أن أتجاوز عنه، ويوثّق لي بما أطمئن إليه، وذكر أنّ قيصر قد أرسل إليه، وزعم أنّه يستأذننى في قبول رسله، وأنّه لا يعمل في قبول رسل أحد إلّا بما أمرته، ولا يجاوز أمري، ولا يرغب في الأموال ولا في المودّات لأحد إلّا برضاي. وكان دسيس لي في الترك كاتبني بندم خاقان وندم أصحابه على غدره وعداوته إيّاي.
« فأجبته: إني لعمري لا أبالى أبطبيعة نفسك وغريزتك غدرت بنا، أم أطعت غيرك في غدرك بنا، وما ذنبك في طاعة من أطعت في ذلك إلّا كذنبك في ما فعلته برأى نفسك، وإنّك قد استحققت أشدّ العقوبة. - وكتبت: - إني لا أظنّ شيئا مما وجب بيني وبينكم إلّا وقد كنت صنعته، ولا أظنّ شيئا من الوثيقة بقي لكم إلّا وقد وثّقت لنا به قبل اليوم ثم غدرتم، فكيف نطمئنّ إليك ونثق بقولك، ولسنا نأمنك على مثل ما فعلت من الغدر ونقض العهد والكذب في اليمين؟ وذكرت أنّ رسل قيصر عندك، ووقفنا على استيذانك إيّانا فيهم، وإني لست أنهاك عن مودّة أحد. وكرهت أن يرى أنّى أتخوّف مصادقته وأهاب ذلك منه، وأحببت أن أعلمه أنّى لا أبالى بشيء ممّا يجرى بينهما، « ثم سرّحت لمرمّة المدائن والحصون التي بخراسان وجمع الأطعمة والأعلاف إليها ما يحتاج إليه الجند، وأمرتهم أن يكونوا على استعداد وحذر، ولا يكون من غفلتهم ما كان في المرّة الأولى وهم على حال الصلح. » قال:
المقاتلة وأهل العمارة سواء
« وكان شكرى لله تعالى لمّا وهب لي وأعطاني متّصلا بنعمه الأول التي وهبها لي في أوّل خلقه إيّاى، فإنّما الشكر والنعم عدلان ككفّتى الميزان، أيّهما رجح بصاحبه احتاج الأخفّ إلى أن يزاد فيه حتى يعادل صاحبه. فإذا كانت النعم كثيرة والشكر قليلا، انقطع الحمل وهلك ظهر الحامل، وإذا كان ذلك مستويا استمرّ الحامل. فكثير النعم يحتاج صاحبها إلى كثير الشكر، وكثير الشكر يجلب كثير النعم. ولمّا وجدت الشكر بعضه بالقول، وبعضه بالعمل، نظرت في أحبّ الأعمال إليه، فوجدته الشيء الذي به أقام السماوات والأرض، وأرسى به الجبال، وأجرى به الأنهار، وبرأ به البريّة، وذلك الحقّ والعدل فلزمته، ورأيت ثمرة الحقّ والعدل عمارة البلدان التي بها معاش الناس والدوابّ والطير وسكّان الأرض.
« ولمّا نظرت في ذلك، وجدت المقاتلة أجراء لأهل العمارة، ووجدت أيضا أهل العمارة أجراء للمقاتلة. وأمّا المقاتلة فإنّهم يطلبون أجورهم من أهل الخراج وسكّان البلدان لمدافعتهم عنهم، ومجاهدتهم من ورائهم. فحقّ على أهل العمارة أن يوفوهم أجورهم. فإنّ عمارتهم تتمّ بهم، وإن أبطأوا عليهم بذلك أوهنوهم، فقوى عدوّهم. فرأيت من الحقّ على أهل الخراج ألّا يكون لهم من عمارتهم إلّا ما أقام معايشهم، وعمروا به بلدانهم. ورأيت أن لا أجتاحهم وأستفرغ ذات أيديهم للخزائن والمقاتلة، فإني إذا فعلت ذلك ظلمت المقاتلة مع ظلم أهل الخراج، وذلك أنّه إذا فسد العامر فسد المعمور، وذاك أهل الأرض والأرض، فإنّه إذا لم يكن لأهل الخراج ما يعيشهم ويعمرون به بلادهم، هلكت المقاتلة الذين قوّتهم بعمارة الأرض وأهل العمارة. فلا عمارة للأرض إلّا بفضل ما في يد أهل الخراج، فمن الإحسان إلى المقاتلة، والإكرام لهم أن أرفق بأهل الخراج وأعمر بلادهم وأدع لهم فضلا في معايشهم.
فأهل الأرض وذوو الخراج أيدى المقاتلة والجند، وقوّتهم، والمقاتلة أيضا أيدى أهل الخراج وقوّتهم.
« ولقد فكّرت وميّزت ذلك جهدي وطاقتي، فما رأيت أن أفضّل هؤلاء على أولئك ولا أولئك على هؤلاء، إذ وجدتهما كاليدين المتعاونتين، وكالرِجلين المترافدتين. ولعمري ما أعفى أهل الخراج من الظلم من أضرّ بالمقاتلة، ولا كفّ الظلم عن المقاتلة من تعدّى على أهل الخراج، ولولا سفهاء الأساورة لأبقوا على الخراج والبلاد إبقاء الرجل ضيعته التي منها معيشته وحياته وقوّته. ولولا جهّال أهل الخراج لكفّوا عن أنفسهم بعض ما يحتاجون إليه من المعايش إيثارا للمقاتلة على أنفسهم. » قال:
أقبلنا بعد ذلك على السير والسنن
« ولمّا فرغنا من إصلاح العامّة والخاصّة بهذين الركنين من أهل الخراج والمقاتلة، وكان ذلك ثمرة العدل والحقّ الذي به دبّر الله العظيم خلائقه، وشكرت الله على نعمه في أداء حقّه على مواهبه، وأحكمنا أمور المقاتلة وأهل الخراج ببسط العدل، أقبلنا بعد ذلك على السير والسنن. ثم بدأنا بالأعظم فالأعظم نفعا لنا والأكبر فالأكبر عائدة على جندنا ورعيّتنا. ونظرنا في سير آبائنا من لدن بشتاسف، إلى ملك قباذ أقرب آبائنا منّا، ثم لم نترك صلاحا في شيء إلّا أخذناه، ولا فسادا إلّا أعرضنا عنه، ولم يدعنا إلى قبول ما لا خير فيه من السنن حبّ الآباء، ولكنّا آثرنا حبّ الله وشكره وطاعته.
« ولمّا فرغنا من النظر في سير آبائنا - وبدأنا بهم وكانوا أحقّ بذلك، فلم ندع حقّا إلّا أكثرناه، ووجدنا الحقّ أقرب القرابة - نظرنا في سير أهل الروم والهند، فاصطفينا محمودها، وجعلنا عيار ذلك عقولنا، وميّزناه بأحلامنا، فأخذنا من جميع ذلك ما زيّن سلطاننا، وجعلناه سنّة وعادة، ولم تنازعنا أنفسنا إلى ما تميل إليه أهواؤنا، وأعلمناهم ذلك وأخبرناهم به، وكتبنا إليهم بما كرهنا لهم من السير ونهيناهم عنه، وتقدمنا إليهم فيه، غير أنّا لم نكره أحدا على غير دينه وملّته ولم نحسدهم ما قبلنا، ولا مع ذلك أنفنا من تعلّم ما عندهم، فإنّ الإقرار بمعرفة الحق والعلم، والإتّباع له، من أعظم ما تزيّنت به الملوك، ومن أعظم المضرّة على الملوك الأنفة من التعلّم، والحميّة من طلب العلم، ولا يكون عالما من لا يتعلّم.
« ولمّا استقصيت ما عند هاتين الأمّتين من حكمة التدبير والسياسة، وصلت بين مكارم أسلافى، وما أحدثته برأيي، وأخذت به نفسي، وقبلته عن الملوك الذين لم يكونوا منّا وثبتّ على الأمر الذي نلت به الظفر والخير. ورفضت سائر الأمم، لأنّى لم أجد عندهم رأيا ولا عقولا، ولا أحلاما، ووجدتهم أصحاب بغى وحسد وكلب وحرص وشحّ وسوء تدبير وجهالة ولؤم عهد وقلّة مكافأة. وهذه أمور لا تصلح عليها ولاية، ولا تتمّ بها نعمة. »
وقرأت مع هذه السيرة في آخر هذا الكتاب، الذي كتبه أنوشروان في سيرة نفسه، أنّ أنوشروان لمّا فرغ من أمور المملكة وهذّبها، جمع إليه الأساورة مع القوّاد والعظماء والمرازبة والنسّاك والموابذة وأماثل الناس معهم، فخطبهم فقال:
خطبة أنوشروان
« أيّها الناس! أحضرونى فهمكم، وأرعونى أسماعكم، وناصحونى أنفسكم، فانّى لم أزل واضعا سيفي على عنقي - منذ وليت عليكم - غرضا للسيوف والأسنّة، كل ذلك للمدافعة عنكم والإبقاء عليكم، وإصلاح بلادكم مرة بأقصى المشرق، وتارة في آخر المغرب، وأخرى في ناحية الجنوب، ومثلها في جانب الشمال.
ونقلت الذين اتهمتهم إلى غير بلادهم، ووضعت الوضائع في بلدان الترك، وأقمت بيوت النيران بقسطنطينية، ولم أزل أصعد جبلا شامخا وأنزل عنه، وأطأ حزونه بعد سهولة، وأصبر على المخمصة والمخافة، وأكابد البرد والحرّ، وأركب هول البحر وخطر المفازة، إرادة هذا الأمر الذي قد أتمّه الله لكم من الإثخان في الأعداء، والتمكين في البلاد، والسعة في المعاش ودرك العزّ، وبلاغ ما نلتم. فقد أصبحتم بحمد الله ونعمته على الشرف الأعلى من النعمة والفضل الأكبر من الكرامة والأمن، وقد هزم الله أعداءكم وقتلهم. فهم بين مقتول هالك، وحيّ مطيع لكم سامع.
« وقد بقي لكم عدوّ عددهم قليل، وبأسهم شديد، وشوكتهم عظيمة، وهؤلاء الذين بقوا، أخوف عندي عليكم، وأحرى أن يهزموكم ويغلبوكم، من الذين غلبتموهم من أعدائكم أصحاب السيوف والرماح والخيول. فإن أنتم - أيّها الناس - غلبتم عدوّكم هذا الثاني غلبتكم لعدوّكم الذين قاتلتم وحاصرتم، فقد تمّ الظفر والنصر، وتمّت فيكم القوّة وتمّ لكم العزّ، وتمّت عليكم النعمة، وتمّ لكم الفضل، وتمّ لكم الاجتماع والألفة والنصيحة والسلامة. وإن كنتم قصّرتم ووهنتم، وظفر هذا العدو بكم، فإنّ الظفر الذي كان منكم على عدوّكم بالمغرب والمشرق وفي الجنوب والشمال، لم يكن ظفرا منكم. فاطلبوا أن تقتلوا من هذا العدوّ الباقي مثل الذي قتلتم من ذلك العدوّ الماضي، وليكن جدّكم في هذا واجتهادكم واحتشادكم أكبر وأجلّ وأحزم وأعزم وأصحّ وأسدّ. فإنّ أحقّ الأعداء بالاستعداد له أعظمهم مكيدة وأشدّهم شوكة، وليس الذي كنتم تخافون من عدوّكم الذي قاتلتم، بقريب من هؤلاء الذين آمركم بقتالهم الآن. فاطلبوه، وصلوا ظفرا بظفر، ونصرا بنصر، وقوّة بقوّة، وتأييدا بتأييد، وحزما وعزما بحزم وعزم، وجهادا بجهاد. فإنّ ذلك اجتماع صلاحكم، وتمام النعمة عليكم، والزيادة في الكرامة من الله لكم، والفوز برضوانه في الآخرة.
« ثم اعلموا أنّ عدوّكم من الترك والروم والهند وسائر الأمم، لم يكونوا ليبلغوا منكم - إن ظهروا عليكم وغلبوكم - مثل الذي يبلغ هذا العدوّ منكم، إن غلبكم وظهر عليكم، فإنّ بأس هذا العدوّ أشدّ، وكيده أكبر، وأمره أخوف من ذلك العدوّ.
« يا أيّها الناس، إني قد نصبت لكم كما رأيتم، ولقيت ما قد علمتم بالسيف والرمح والمفاوز والبحار والسهولة والجبال أقارع عدوّا عدوّا، وأكالب جندا جندا، وأكابد ملكا ملكا، لم أتضرع إليكم هذا التضرع في قتال أولئك الجنود والملوك، ولم أسألكم هذه المسألة في طلب الجدّ والاجتهاد والاحتفال والاحتشاد، وإنّما فعلت هذا اليوم لعظم خطره، وشدّة شوكته ومخافة صولته بكم، وإن أنا - أيّها الناس - لم أغلب هذا العدوّ وأنفه عنكم، فقد أبقيت فيكم أكبر الأعداء، ونفيت عنكم أضعفها. فأعينونى على نفى هذا العدوّ المخوف عليكم، القريب الدار منكم. فأنشدكم الله - أيّها الناس - لمّا أعنتمونى عليه حتى أنفيه عنكم وأخرجه من بين أظهركم، فيتمّ بلائي عندكم، وبلاء الله فيكم عندي، وتتمّ النعمة عليّ وعليكم، والكرامة من الله لي ولكم، ويتمّ هذا العزّ والنصر وهذا الشرف والتمكين، وهذا الثروة والمنزلة.
« يا أيّها الناس! إني تفكّرت بعد فراغي من كتابي هذا وما وصفت من نعمة الله علينا في الأمر الذي، لما غلب « دارا » الملوك والأمم، وقهرها واستولى على بلادها، ثم لما لم يحكم أمر هذا العدو، هلك [ بسببه ] وهلكت جنوده، بعد السلامة والظفر والنصر والغلبة. وذلك أنّه لم يرض بالأمر الذي تمّ له به الملك، واشتدّ به له السلطان وقوى به على الأعداء، وتمّت عليه به النعمة، وفاضت عليه من وجوه الدنيا كلّها الكرامة، حتى احتيل له بوجوه النميمة: البغي، فدعا البغي، والحسد، فتقوّى به وتمكّن، ودعا الحسد بعض أهل الفقر لأهل الغنى، وأهل الخمول لأهل الشرف. ثم أتاهم الإسكندر على ذلك من تفرق الأهواء، واختلاف الأمور، وظهور البغضاء، وقوة العداوة فيما بينهم، والفساد منهم. ثم ارتفع ذلك إلى أن قتله صاحب حرسه وأمينه على دمه، للذي شمل قلوب العامّة من الشرّ والضغينة، وثبت فيها من العداوة والفرقة، فكفى الإسكندر مؤنة نفسه. وقد اتّعظت بذلك اليوم فذكرته.
« يا أيّها الناس! فلا أسمعنّ في هذه النعمة تفرّقا ولا بغيا ولا حسدا ظاهرا ولا وشاية ولا سعاية، فإنّ الله قد طهّر من ذلك أخلاقنا وملكنا وأكرم عنه ولايتنا. وما نلت ما نلته - بنعمة ربنا وحمده - بشيء من هذه الأمور الخبيثة التي نفتها العلماء، وعافتها الحكماء، ولكني نلت هذه الرتب بالصحّة والسلامة، والحبّ للرعيّة، والوفاء والعدل والاستقامة والتؤدة. وإنّما تركنا أن نأخذ عن هذه الأمم التي سميناها أعني: من الترك والبربر والزنج والجبال وغيرهم مثل ما أخذنا عن الهند والروم، لظهور هذه الأخلاق فيهم وغلبتها عليهم. ولم تصلح أمّة قطّ ولا ملكها على ظهور هذه الأخلاق فيها. وإنّ أول ما أنا ناف وتارك من هذه الأمور، هذه الأخلاق التي هي أعدى أعداءكم.
« أيّها الناس! إنّ فيما بسط الله علينا بالسلامة والعافية والاستصلاح، غنى لنا عمّا نطلب بهذه الأخلاق المردية المشؤومة.
فاكفوني في ذلك أنفسكم فإنّ قهر هذه الأعداء أحبّ إليّ وخير لكم من قهر أعدائكم من الترك والروم. فامّا أنا - يا أيّها الناس - فقد طبت نفسا بترك هذه الأمور ومحقها وقمعها ونفيها عنكم، لا حاجة لي بما فيها، ولا بالذي عليّ منها، فطيبوا أنفسا بالذي طبت به نفسا منكم.
« يا أيها الناس! إني قد أحببت أن أنفى عنكم عدوّكم الباطن والظاهر، فأمّا الظاهر منهما، فإنّا بحمد الله ونعمته، قد نفيناه وأعاننا الله عليه وخضد لنا شوكته، وأحسنتم فيه وأجملتم وآسيتم وأجهدتم. فافعلوا في هذا العدوّ كما فعلتم في ذلك العدوّ، واعملوا فيه كالذي عملتم في ذلك، واحفظوا عنى ما أوصيكم به، فانّى شفيق عليكم ناصح لكم.
« أيّها الناس! من أحيى هذه الأمور فينا، فقد أفسد بلاءه عندنا بقتاله من كان يقاتلنا من أعدائنا، فإنّ هذه أكثر مضرّة وأشدّ شوكة وأعظم بليّة وأضر تبعة. اعلموا أنّ خيركم - يا أيّها الناس! - من جمع إلى بلاءه السالف عندنا، المعونة لنا على نفسه في هذا الغابر.
واعلموا أنّ من غلبه هذا غلب عليه ذاك، ومن غلب هذا فقد قهر ذاك. وذلك أن بالسلامة، والألفة، والمودّة، والاجتماع، والتناصح منكم يكون العزّ والقدرة والسلطان، ومع التحاسد، والبغي، والنميمة، والتشتّت، يكون ذهاب العزّ وانقطاع القوّة، وهلاك الدنيا والآخرة. فعليكم بما أمرناكم به، واحذروا ما نهيناكم عنه، ولا قوّة إلّا بالله. عليكم بمواساة أهل الفاقة وضيافة السائلة. وأكرموا جوار من جاوركم، وأحسنوا صحبة من دخل من الأمم فيكم، فإنّهم في ذمّتى. لا تجبهوهم ولا تظلموهم، ولا تسلّطوا عليهم، ولا تحرجوهم، فإنّ الإحراج يدعو إلى المعصية، ولكن اصبروا لهم على بعض الأذى، واحفظوا أمانتكم وعهدكم، واحفظوا ما عهدت إليكم من هذه الأخلاق. فإنّا لم نر سلطانا قطّ ولا أمّة هلكوا إلّا بترك هذه الأخلاق، ولا صلحوا إلّا معها. وبالله ثقتنا في الأمور كلّها. » ثم هلك أنوشروان بعد ثمان وأربعين سنة من ملكه، وملك أبنه:
هرمز بن أنوشروان
وكانت أمّه بنت خاقان الأكبر، وكان كثير الأدب، حسن النيّة في الإحسان إلى الضعفاء والمساكين، إلّا أنّه كان يحمل على الأشراف، فعادوه وأبغضوه، فعلم بذلك منهم، فكان في نفسه منهم مثل ما في أنفسهم منه.
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
من سيرته المرتضاة
وكان من سيرته المرتضاة: أنّه تحرّى الخير والعدل على الرعيّة، وتشدّد على العظماء المستطيلين على الضعفاء، وبلغ من عدله أنّه كان يسير إلى ال « ماه » ليصيف هناك، فأمر فنودي في مسيره ذلك في مواضع الحروث أن يتحامى، ولا يسير فيها الراكب لئلّا يضرّوا بأحد ووكّل بتعهّد ما يجرى في عسكره، ومعاقبة من تعدّى أمره، وتغريمه عوضا لصاحب الحرث.
وكان ابنه كسرى في عسكره، فعار مركب من مراكبه، ووقع في محرثة من المحارث التي كانت على طريقه، فرتع فيها، وأفسد منها. فأخذ ذلك المركب، ورفع إلى الرجل الذي وكّله هرمز بمعاقبة من أفسد هو أو دابّته شيئا من المحارث وتغريمه، ولم يقدر الرجل على إنفاذ أمر هرمز في كسرى ابنه، ولا أحد من حشمه. فرفع ما رأى من إفساد ذلك المركب إلى هرمز، فأمره أن يجدع أذنيه، ويبتّر ذنبه، ويغرّم كسرى. فخرج الرجل لإنقاذ الأمر. فدسّ له كسرى رهطا من العظماء ليسألوه التغبيب في أمره، فلقوه وكلّموه في ذلك، فلم يجب إليه، فسألوه أن يؤخّر ما أمر به هرمز في المركب حتى يكلّموه. فأمر بالكفّ عنه، ففعل. فلقى أولئك الرهط هرمز، وأعلموه أنّ بذلك [ المركب ] الذي عار، زعارة، وأنّه أخذ للوقت. وسألوه أن يأمر بالكفّ عن جدعه وتبتيره لما فيه من سوء الطيرة. فلم يجبهم إلى ما سألوه، وأمر بالمركب، فجدع أذناه وبتّر ذنبه وغرّم كسرى كما يغرّم غيره في هذا الحد، ثم ارتحل.
وأيضا: ركب ذات يوم في أوان إيناع الكرم إلى ساباط المدائن وكان ممرّه على بساتين وكروم. فاظّلع بعض أساورته في كرم، فرأى فيه حصرما فأصاب منها عناقيد، ودفعها إلى غلامه وقال:
« اذهب بها إلى المنزل، واطبخها بلحم، واتخذ منها مرقة، فانّها نافعة في هذا الإبّان. » فأتاه حافظ ذلك الكرم، فلزمه وصرخ. فبلغ اشفاق الرجل من عقوبة هرمز على تناوله من ذلك الكرم، أن دفع إلى حافظ الكرم منطقة محلّاة بذهب كانت عليه، عوضا له من الحصرم الذي رزأه من كرمه، وافتدى بها نفسه، ورأى أنّ قبض الحافظ إيّاها منه، وتخليته عنه، منّة من بها عليه.
فهذه كانت سيرة هرمز في العدل والضبط والهيبة، وكان مظفّرا منصورا لا يمدّ يده إلى شيء إلّا وأتاه، وكان مع ذلك أديبا، داهيا، إلّا عرقا قد نزعه أخواله من الترك. فكان لذلك مقصيا للأشراف وأهل البيوتات والعلماء.
وقيل: إنّه قتل ثلاثة عشر ألف رجل وستمائة رجل. ولم يكن [ له رأى ] إلّا في [ تألّف ] السفلة واستصلاحهم. وحبس خلقا من العظماء، وحطّ مراتب خلق، وقصّر بالأساورة، [ ففسدت ] عليه نيات جنده من الكبراء، [ واتصل ] ذلك بما جناه على بهرام شوبين مما سنحكيه. فكان ذلك سبب هلاكه.
ذكر سوء اختياره جنده وبهرام جوبين حتى هلك
خرج على هرمز خوارج منها: « شابة ملك الترك الأعظم في ثلاثمائة ألف مقاتل. وصار إلى باذغيس، وذلك بعد إحدى عشر سنة من ملكه، وخرج عليه ملك الروم في ثمانين ألف مقاتل قاصدا له، وخرج عليه ملك الخزر حتى صار إلى باب الأبواب، وخرج عليه من العرب خلق نزلوا في شاطئ الفرات، وشنّوا الغارة على أهل السواد واجترأ عليه أعداؤه، وغزوا بلاده.
فأمّا شابة ملك الترك فإنّه أرسل إلى هرمز وإلى عظماء الفرس يؤذنهم بإقباله ويقول:
« رمّوا لي قناطر أنهار وأودية أجتاز عليها إلى بلادكم، واعقدوا القناطر على كلّ نهر لا قنطرة له، وافعلوا ذلك في الأنهار والأودية التي عليها مسلكي من بلادكم إلى بلاد الروم، فإني مجمع على المسير إليها من بلادكم.
فاستفظع هرمز ما ورد عليه من ذلك، فشاور فيه، فأجمع له على قصد ملك الترك وصرف العناية إليه. فوجّه إليه رجلا من أهل الريّ يقال له: بهرام بن بهرام جشنس ويعرف ب « جوبين ». فاختار بهرام من الجند اثنى عشر ألف رجل على عينيه من الكهول دون الشباب، وكانت عدّة من يشتمل عليه الديوان سبعين ألف مقاتل.
فمضى بهرام بجدّ وإغذاذ، حتى حاز هراة وباذغيس، ولم يشعر شابة ببهرام حتى نزل بالقرب منه معسكرا. فجرت بينهما حروب ورسائل، إلى أن قتل بهرام شابة برمية رماها إيّاه، فاستباح عسكره، وأقام موضعه، فوافاه برموذة بن شابة، وكان يعدل بأبيه، فحاربه، فهزمه، وحصره في بعض الحصون، ثم ألحّ عليه حتى استسلم له، فوجّهه أسيرا إلى هرمز، وغنم كنوزا عظيمة.
فيقال: إنّه حمل إلى هرمز من الأموال والجواهر والأوانى وسائر الأمتعة ممّا غنمه وقر مائتين وخمسين ألف بعير في مدّة تلك الأيّام. فشكره هرمز على ذلك، إلّا أنّه أراد منه أن يتقدّم بمن معه إلى بلاد الترك، وكاتبه في ذلك، فلم ير بهرام ذلك صوابا. ثم خاف بهرام سطوة هرمز، وحكى له: أنّ الملك يستقلّ ما حمله إليه من الغنائم في جنب ما وصل إليه وأنّه يقول في مجالسه:
« بهرام قد ترفّه، واستطاب الدعة ».
وبلغ ذلك الجند، فخافوا مثل خوفه.
فيقال: إنّ بهرام جمع ذات يوم وجوه عسكره، فأجلسهم على مراتبهم، ثم خرج عليهم في زيّ النساء، وبيده مغزل وقطن، حتى جلس في موضعه، وحمل لكلّ واحد من أولئك القوم مغزل وقطن، فوضع بين أيديهم، فامتعضوا من ذلك وأنكروه. فقال بهرام:
« إنّ كتاب الملك ورد عليّ بذلك، ولا بدّ من امتثال أمره إن كنتم طائعين. » فأظهروا أنفة وحميّة، وخلعوا هرمز، وأظهروا أنّ ابنه أبرويز أصلح للملك منه، وساعدهم على ذلك خلق كثير ممّن كان بحضرة هرمز.
وأنفذ هرمز جيشا كثيفا مع آذينجشنس لمحاربة بهرام، وأشفق أبرويز من الحديث وخاف سطوة بهرام، فهرب إلى آذربيجان. فاجتمع إليه هناك عدّة من المرازبة والإصفهبذين، فأعطوه بيعتهم. ولم يظهر أبرويز شيئا، وأقام بمكانه إلى أن بلغه قتل آذينجشنس الموجّه لمحاربة بهرام جوبين، وانفضاض الجمع الذي معه، واضطراب أمر أبيه هرمز.
وكتبت إليه أخت آذينجشنس - وكانت تربه - تخبره بضعف أبيه هرمز، وأعلمته أنّ العظماء والوجوه قد أجمعوا على خلعه، وأعلمته أنّ جوبين - إن سبقه إلى المدائن - احتوى على الملك. ولمتلبث العظماء بذلك أن وثبت على هرمز وفيهم بندويه وبسطام خالا أبرويز. فخلعوه وسملوا عينيه وتركوه تحرّجا من قتله. فلمّا بلغ ذلك أبرويز، بادر بمن معه إلى المدائن وسبق إليها بهرام جوبين، وتتوّج وجمع إليه الوجوه والأشراف، وجلس لهم على سريره، ومنّاهم ووعدهم وقال:
« إنّ هرمز كان لهم قاضيا عادلا، ومن نيّتنا البرّ والإحسان، فعليكم بالسمع والطاعة. » فاستبشر له الناس، ودعوا له.
فلمّا كان اليوم الثاني، أتى أباه، فسجد له وقال:
« عمّرك الله أيّها الملك، إنّك تعلم أنّى بريء مما آتاه إليك المنافقون، وإنّما هربت خوفا منك. » فصدّقه هرمز وقال له:
« يا بنيّ! لي إليك حاجتان، فأسعفنى بهما: إحداهما أن تنتقم ممّن عاون على خلعى والسمل لعيني، ولا تأخذك بهم رأفة، والأخرى أن تؤنسني كلّ يوم بثلاثة نفر لهم أصالة رأى، وتأذن لهم في [ الوصول ] إليّ. »
فتواضع له أبرويز وقال:
« عمّرك الله أيّها الملك، إنّ المارق بهرام قد أظلّنا ومعه الشجاعة والنجدة، ولسنا نقدر أن نمدّ يدا إلى من أتى إليك ما أتى، فإنّهم وجوه أصحابك. ولكن إن أدالنى الله من المنافق، فأنا خليفتك وطوع أمرك. »
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
ذكر الحيلة التي تمت لأبرويز حتى أفلت من بهرام بعد ظفره به ورجوعه بعد ذلك وقتله إياه ببلاد الترك واستيلائه على الملك
إنّ أبرويز خرج إلى النهروان لما وردها بهرام، وواقفه وجعل النهر بينه وبينه، ودار بينهما كلام كثير، كلّ ذلك يدور على استصلاح بهرام، فلا يردّ عليه بهرام إلّا ما يسوءه، حتى يئس منه وأجمع على حربه. ولهما أخبار كثيرة وأحاديث طويلة آخرها: أن أبرويز ضعف عنه بعد أن قتل بيده ثلثة نفر من الأتراك كانوا وثّقوا بهرام من أبرويز، وضمن لهم عليه مالا عظيما، وكان هؤلاء الثلاثة من أشدّ الأتراك وأعظمهم أجساما وشجاعة. ثم رأى أبرويز من أصحابه فتورا وحرّض أصحابه فتبيّن منهم فشلا. فصار إلى أبيه وشاوره، فرأي له المصير إلى ملك الروم فأحرز نساءه وشخص في عدّة يسيرة فيهم: بندويه، وبسطام، وكردى أخو بهرام. لأنّ كردى هذا كان ماقتا لأخيه، معاديا له، شديد الطاعة والنصيحة لأبرويز. فلمّا خرجوا، من المدائن خاف القوم من بهرام وأشفقوا أن يردّ هرمز إلى الملك، ويكاتب ملك الروم عن هرمز في ردّهم فيتلفوا. فأعلموا أبرويز ذلك واستأذنوا في إتلاف هرمز فلم يحر جوابا. فانصرف بندويه وبسطام وطائفة معهما إلى هرمز حتى أتلفوه خنقا، ثم رجعوا إلى كسرى وقالوا:
« سر على خير طائر. » فحثّوا دوابّهم، وصاروا إلى الفرات، فقطعوه، وأخذوا طريق المفازة، بدلالة رجل يقال له: خرشيذان، وصاروا إلى بعض الديارات في أطراف العمارة. فلمّا أوطنوا الراحة، لحقتهم خيل بهرام. فلمّا نذروا بهم، أنبه بندويه أبرويز من نومه وقال له:
« احتل لنفسك، فإنّ القوم قد أظلّوك. » فقال كسرى: « ما عندي حيلة. » فقال بندويه: « فإني سأحتال لك بأن أبذل نفسي دونك. » قال: « وكيف ذلك؟ » قال: تدفع إليّ بزّتك وزينتك لأعلوا الدير وتنجو أنت ومن معك من وراء الدير، فإنّ القوم إذا وصلوا إليّ ورأوا هيئتك عليّ، اشتغلوا عن غيري وطاولتهم حتى تفوتهم. » ففعلوا ذلك وبادروهم حتى تواروا بالجبل. ثم وافاهم خيل بهرام وعليهم قائد له يقال له: بهرام بن سياوش. فاطّلع عليهم بندويه من فوق الدير وعليه بزّة أبرويز، وأوهمه أنّه هو، وسأله أن ينظره إلى غد ليصير في يده سلما، ويصير به إلى بهرام جوبين. فأمسك عنه وحفظ الدير بالحرس ليلته.
فلمّا أصبح اطّلع عليه في بزّته وحليته وقال:
« إنّ عليّ وعلى أصحابي بقيّة شغل من استعداد لصلوات وعبادات، فأمهلنا. »
ولم يزل يدافع حتى مضى عامّة النهار. وأمعن أبرويز وعلم أنّه قد فاتهم. ففتح الباب حينئذ، وأعلم بهرام بأمره. فانصرف به إلى جوبين، فحبسه في يد بهرام بن سياوش.
فأمّا بهرام جوبين فإنّه دخل المدائن، وجلس على سرير الملك، وجمع العظماء، فخطبهم وذمّ أبرويز، ودار بينهم كلام. فكان كلّهم منصرفا عنه إلّا أن بهرام تتوّج وانقاد له الناس خوفا.
ثم إنّ بهرام بن سياوش واطأ بندويه على الفتك بجوبين وظهر جوبين على ذلك فقتله، وأفلت بندويه ولحق آذريبجان. وسار أبرويز حتى أتى أنطاكية، وكاتب ملك الروم منها وراسله بجماعة ممّن كان معه، وسأله نصرته، فأجابه إلى ذلك وانساقت الأمور بالمقادير، إلى أن زوّجه ابنته مريم وحملها إليه، وبعث إليه ب « تياذوس » أخيه ومعه ستّون ألف مقاتل، عليهم رجل يقال له:
سرجس يتولّى تدبير أمرهم، ورجل آخر يقال له: « الكميّ » - كان يعدل بألف رجل - معظّم في الروم، وسأله ترك الإتاوة التي كان آباؤه يسألونها ملوك الروم، إذا هو ملّك. فاغتبط بهم أبرويز، وأراحهم خمسة أيّام، ثم عرضهم وعرّف عليهم العرفاء، وفي القوم تياذوس، وسرجس، والكميّ الذي وصفناه، وسار بهم حتى نزل من آذربيجان في صحراء تدعى الدنق، فوافاه هناك بندويه ورجل من إصبهبذى الناحية - ويقال له: موسيل - في أربعين ألف مقاتل وانفضّ إليه الناس بالخيل من إصبهان وخراسان وفارس، وانتهى إلى بهرام مكانه بصحراء الدنق، فشخص نحوه من المدائن، فجرت بينهما حرب شديدة قتل فيها الكميّ الرومي بضربة ضربه بها بعض الفرس على رأسه، فقدّ رأسه ويده، وعار فرسه بنصف بدنه الباقي إلى معركة أبرويز ومعسكره، فاستضحك أبرويز، وعظم ذلك على الروم حتى كثر الكلام فيه، وعوتب أبرويز، وقيل له:
« هذا جزاؤنا منك، يقتل كميّنا وواحد عصره في طاعتك، وبين يديك، فتضحك؟ » فاعتذر بأن قال:
« إني والله ما ضحكت لما تكرهون. ولقد شقّ عليّ أن فقدت مثله أكثر ممّا شقّ عليكم، ولكني رأيتكم تستصغرون شأن بهرام جوبين، وتنكرون هربي منه، فذكرت ذلك من قولكم الآن، وعلمت أنكم برؤيتكم هذه الضربة وأثرها على هذا الكميّ تعذروننى وتعلمون يقينا أنّ هربي إنّما كان من أمثال هؤلاء القوم الذين هذا مبلغ نكايتهم في الأبطال. » ويقال: إنّ أبرويز حارب بهرام منفردا عن العسكر بأربعة عشر رجلا منهم كردى أخو بهرام، وبندويه وبسطام حربا شديدة وصل فيها بعضهم إلى بعض، والمجوس تحكى حكايات عظيمة لا فائدة في ذكرها مع امتناعها، وجملتها: أنّ أبرويز استظهر استظهارا أيس معه بهرام جوبين، وعلم أنّه لا حيلة له فيه، فانحاز عنه نحو خراسان، ثم صار إلى الترك، وصار أبرويز إلى المدائن بعد أن فرّق في الجنود من الروم أموالا عظيمة وصرفهم إلى ملك الروم.
ولبث بهرام في الترك مكرّما عند الملك، حتى احتال عليه أبرويز بتوجيه رجل يقال له هرمز: إلى الترك بجوهر نفيس وغيره، حتى احتال لخاتون امرأة الملك، ولاطفها بذلك الجوهر وغيره من الهدايا حتى دسّت لبهرام من قتله. فاغتمّ خاقان لموته، وأرسل إلى أخته كردية وامرأته يعلمها بلوغ الحادث ببهرام منه، ويسأل أن يتزوّجها وطلّق امرأته خاتون بهذا السبب، فأجابته كردية جوابا ليّنا، وضمّت من كان مع أخيها من المقاتلة إليها، وخرجت بهم من بلاد الترك إلى حدود مملكة فارس فأتّبعها ملك الترك أخاه بطرا في اثنى عشر ألف فارس.
فيقال: إنّ كردية قاتلت، وقتلت بطرا بيدها، ومضت لوجهها، حتى تلقّتها خيول الفرس من الحدود. وكتبت إلى أخيها كردى، فأخذ لها أمانا من أبرويز. فلمّا قدمت عليه اغتبط بها، وتزوّج بها أبرويز.
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)