« إنّ الأمير قد ثار المرار به من خمار لحقه. » وفي هذه السنة خرج عسكر الأمّة المعروفة بالروس إلى أذربيجان وقصدوا برذعة وملكوها وسبوا أهلها.
شرح أخبار الروسية وما آل إليه أمرهم
هؤلاء أمة عظيمة لهم خلق عظام ولهم بأس شديد لا يعرفون الهزيمة ولا يولّى الرجل منهم حتى يقتل أو يقتل. ومن عادة الواحد منهم أن يحمل آلة السلاح ويعلق على نفسه أكثر آلات الصنّاع من الفاس والمنشار والمطرقة وما أشبهها ويقاتل بالحربة والترس ويتقلد السيف ويعلق عليه عمودا وآلة كالدشنيّ ويقاتلون رجالة لا سيما هؤلاء الواردين.
وذلك انهم ركبوا البحر الذي يلي بلادهم وقطعوه الى نهر عظيم يعرف بالكرّ يحمل من جبال آذربيجان وأرمينية ويصبّ الى البحر وهو نهر برذعة الذي يشبّهونه بدجلة. فلما وصلوا إلى الكرّ توجه إليهم صاحب المرزبان وخليفته على برذعة وكان معه ثلاثمائة رجل من الديلم ونحو من عددهم صعاليك وأكراد واستنفر العامة فخرج معه من المطوّعة نحو خمسة آلاف رجل لجهاد هؤلاء وكانوا مغترّين لا يعرفون شدتهم وحسبوا أنّهم يجرون مجرى الأرمن والروم.
فلمّا صافّوهم الحرب لم تكن إلّا ساعة حتى حملت الروسية حملة منكرة فهزموا العسكر وولّت المطوّعة بأسرهم وسائر العسكر إلّا الديلم. فإنّهم ثبتوا ساعة فقتلوا كلّهم إلّا من كان بينهم فارسا، واتبعوا الفلّ الى البلد فهرب كل من كان له مركوب بجملة من الجند والرعية وتركوا البلد فنزلته الروسية وملكوه.
فحدثني أبو العبّاس ابن ندار وجماعة من المحصّلين أنّ القوم بادروا إلى البلد ونادوا فيه وسكنّوا الناس وقالوا لهم:
« لا منازعة بيننا وبينكم في الدين وانما نطلب الملك وعلينا ان نحسن السيرة وعليكم حسن الطاعة. » ووافتهم العساكر من كل ناحية فكانوا يخرجون إليهم ويهزمونهم وكان أهل برذعة يخرجون معهم فإذا حملوا عليهم المسلمون كبّروا ورجموهم بالحجارة فكانت الروسية تتقدم إليهم بأن يضبطوا أنفسهم ولا يدخلوا بين السلطان وبينهم فيقبل أهل السلامة منهم خاصّة فأمّا العامة ومعظم الرعاع فكانوا لا يضبطون أنفسهم ويظهرون ما في نفوسهم ويتعرضون لهم إذا حمل عليهم أصحاب السلطان.
فلمّا طال ذلك عليهم نادى مناديهم بألّا يقيم في البلد أحد من أهله وأجلوهم ثلاثة أيام من يوم ندائهم فخرج كل من كان له ظهر يحمله ويحمل حرمه وولده وهم نفر يسير وجاء اليوم الرابع والأكثر مقيمون فوضعت الروسية فيهم سيوفهم فقتلوا خلقا عظيما لا يحصى عددهم وأسروا بعد القتل بضعة عشر ألف رجل وغلام مع حرمهم ونسائهم وبناتهم وجعلوا النساء والصبيان في حصن داخل المدينة وهي شهرستان القوم وكانوا نزلوه وعسكروا به وتحصنوا فيه. ثم جمعوا الرجال الى المسجد الجامع ووكلوا بأبوابه وقالوا لهم: « اشتروا أنفسكم ».
ذكر تدبير صواب أشار به بعضهم فلم يقبلوا منه حتى قتلوا بأجمعهم واستبيحت أموالهم وذراريهم
كان بالبلد نصرانيّ له رأي سديد يعرف بابن سمعون وكان يسعى في السفارة بينهم ووافق الروسية ان يبتاع كل رجل منهم بعشرين درهما فتابعه على ذلك عقلاء المسلمين وخالفه الباقون وقالوا:
« إنّما يريد ابن سمعون أن يلحق المسلمين بالنصارى في أداء الجزية. » فأمسك ابن سمعون وتوقف الروسية عن قتل الرجال طمعا في هذا القدر اليسير أن يحصل لهم من جهتهم فلما لم يحصل لهم شيء وضعوا فيهم السيوف فقتلوهم عن آخرهم الا عددا يسيرا خرجوا في قناة ضيقة كانت تحمل الماء الى المسجد الجامع والّا من افتدى نفسه بذخيرة كانت له.
فربما وافق الواحد من المسلمين الروسيّ على مال يفدى به نفسه فحضر معه إلى منزله أو حانوته فإذا استخرج ذخيرته وكانت زائدة على مال موافقته لا يمكن صاحبها منها وإن كانت أضعافا مضاعفة عليه وعطف بالمطالبة حتى يجتاحه فإذا علم أنّه لم يبق له عين ولا ورق ولا جوهر ولا فرش ولا كسوة أفرج عنه وأعطاه طينا مختوما يأمن به من غيره فاجتمع لهم من البلد شيء عظيم يجلّ قدره ويعظم خطره وكانوا قد حازوا النساء والصبيان ففجروا بهنّ وبهم واستعبدوهم.
فلمّا عظمت المصيبة وتسامع المسلمون في البلدان بخبرهم تنادوا بالنفير وجمع المرزبان بن محمد عسكره واستنفر الناس وأتاه المطوّعة من كل ناحية فسار في ثلاثين ألف رجل فلم يقاوم الروسية مع إجماع هذه العدّة ولا أمكنه أن يؤثّر فيهم أثرا فكان يغاديهم القتال ويراوحه وينقلب عنهم مفلولا واتصلت الحرب بينهم على هذه الصورة أياما كثيرة فكانت الدبرة أبدا على المسلمين.
فلمّا أعيا المسلمين أمرهم ورأى المرزبان الصورة التجأ الى الحيلة والمكيدة واتفق له أن الروسية لما حصلوا بالمراغة تبسّطوا في الفاكهة وهناك أنواع كثيرة منها فمرضوا ووقع فيهم الوباء لأنّ بلادهم شديدة البرد ولا ينبت فيها شجر وإنّما يحمل إليهم الشيء اليسير من البلاد الشاسعة عنهم.
فلمّا تمحّق عددهم وفكر المرزبان في الحيلة وقع له أن يكمن لهم ليلا وواطأ عسكره ان يبادروا الحرب فإذا حمل عليهم القوم انهزم هو وانهزموا معه وأطمعهم بذلك في العسكر والمسلمين فإذا تجاوزوا موضع الكمين عطف المرزبان ورجاله عليهم وصاحوا بالكمين بشعار اتفقوا عليه فإذا حصل الروسية في الوسط تمكنوا منهم.
فلمّا أصبحوا على هذه المكيدة تقدّم المرزبان وأصحابه وبرز الروسية وأميرهم راكب حمار وخرج رجاله واصطفّوا للحرب فجروا على عادتهم وانهزم المرزبان والمسلمون واتبعهم الروسية حتى تجاوزوا موضع الكمين واستمر الناس على هزيمتهم.
فحكى المرزبان بعد ذلك أنّه لمّا رأى الناس كذلك وصاح بهم واجتهد بهم أن يراجعوا الحرب فلم يفعلوا لما تمكن في قلوبهم من هيبتهم علم أنّه ان استمر الناس على هزيمتهم عاد القوم فلم يخف عليهم موضع الكمين فيكون ذلك هلاكهم. قال:
« فرجعت وحدي مع من تبعني من أخي وخاصّتى وغلماني ووضعت في نفسي الشهادة فحينئذ استحيا أكثر الديلم فرجعوا وكررنا عليهم ونادينا « الكمين » فخرجوا من ورائهم فصدقناهم الحرب وقتلنا منهم سبعمائة نفس فيهم أميرهم وحصل الباقون في الحصن الذي كانوا فيه من البلد وقد كانوا نقلوا اليه غلّات كثيرة وميرا عظيمة وحصّلوا فيه السبي والأموال. » فبينما المرزبان في منازلتهم وهو لا يقدر لهم على حيلة سوى المصابرة إذ ورد عليه الخبر بدخول أبي عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان آذربيجان وانتهائه الى سلماس واجتماعه مع جعفر بن شكّويه الكردي في جماهير الهدايانية واضطرّ الى أن خلف على حرب الروسية أحد قوّاده في خمسمائة من الديلم وألف وخمسمائة فارس من الأكراد وألفين من المطوّعة وسار إلى أوران ولقي أبا عبد الله فاقتتلا قتالا خفيفا وسقطت ثلجة عظيمة واضطرب أصحاب أبي عبد الله لأنّ معظمهم أعراب وساروا عنه فسار بسيرهم إلى بعض المدن الحصينة فلقيه في طريقه كتاب من ابن عمه ناصر الدولة يعلمه فيه وفاة توزون بمدينة السلام واستئمان رجاله إليه وأنّه قد عمل على الانحدار معهم إلى بغداد ومحاربة معزّ الدولة لأنّه كان دخلها فاستولى عليها بعد إصعاد توزون عنها ويأمره بالتخلية عن أعمال آذربيجان والانكفاء إليه ففعل.
سنتهم في دفن موتاهم
فلم يزل أصحاب المرزبان عن قتال الروسية وحصارهم إلى أن ضجروا واتفق أن زاد الوباء عليهم فكان إذا مات الرجل منهم دفنوا معه سلاحه وثيابه وآلته وزوجته أو غيرها من النساء وغلامه إن كان يحبه على سنة لهم.
فاستثار المسلمون بعد زوال أمرهم مقابرهم فاستخرجوا منها سيوفا يتنافس فيها إلى اليوم لمضائها وجودتها.
فلمّا قلّ عددهم خرجوا ليلا من الحصن الذي كانوا فيه وحملوا على ظهورهم كل ما أمكنهم من المال والجواهر والثياب الفاخرة وأحرقوا الباقي وساقوا من النساء والصبيان والصبايا ما شاءوا ومضوا إلى الكرّ وكانت السفن التي خرجوا فيها من بلادهم معدّة فيها مع ملّاحهم وثلاثمائة رجل من الروسية كانوا يمدونهم بإقساطهم من غنائمهم فجلسوا فيها ومضوا وكفى الله المسلمين أمرهم.
شاهد يروى ما رءاه
فسمعت ممن شاهد هؤلاء الروسيّة حكايات عجيبة من شدّتهم وقلّة مبالاتهم بمن يجتمع عليهم من المسلمين فمن ذلك خبر شاع في الناحية وسمعته من غير واحد أنّ خمسة نفر من الروسية اجتمعوا في بستان ببرذعة وفيهم غلام أمرد وضيء الوجه من أولاد رؤسائهم ومعهم نسوة من السبي وأنّ المسلمين لمّا عرفوا خبرهم أحاطوا بالبستان واجتمع عدد كثير من الديلم وغيرهم على حرب أولئك النفر الخمسة واجتهدوا في أن يحصل لهم أسير واحد فلم يكن إليه سبيل لأنّه كان لا يستسلم أحد منهم ولم يمكن قتلهم حتى قتلوا من المسلمين أضعافا كثيرة لعدّتهم وكان ذلك الأمرد آخر من بقي. فلمّا علم أنّه يؤخذ أسيرا صعد شجرة كانت بالقرب منه ولم يزل يجرح نفسه بخنجر معه في مقاتله إلى أن سقط ميّتا.
وفي هذه السنة ظهر للمتقى من بنى حمدان ضجر به وبمقامه عندهم وشهوة لمفارقته فراسل توزون في الصلح فتلقّى توزون ذلك بنهاية الرغبة فيه والحرص عليه ووردت رسالة المتقي لله إلى توزون مع الحسن بن هارون وأبي عبد الله بن أبي موسى الهاشمي وتوثّقا من توزون واستحلفاه أيمانا مؤكدة للمتقى وللوزير أبي الحسين ابن مقلة وأحضر توزون القضاة والعدول والعباسيين والطالبيين ومشايخ الكتّاب حتى حلف بحضرتهم للمتقي لله وكتب بذلك كتاب وأحكم ووقعت فيه الشهادة من جميع من حضر على توزون.
ودخلت سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة
ولمّا كان يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من المحرّم وصل الأخشيد إلى حضرة المتقي لله وهو بالرقة ولقيه بها وأعظمه المتقى نهاية الإعظام ووقف الأخشيد بين يديه وقوف الغلمان وفي وسطه سلاح ثم ركب المتقى فمشى بين يديه الأخشيد فأمره أن يركب فلم يفعل ولم يزل على تلك الحال مختلطا بالغلمان إلى أن نزل من ركوبه وحمل إليه هدايا ومالا وحمل إلى أبي الحسين ابن مقلة عشرين ألف دينار ولم يدع كاتبا ولا حاجبا إلّا برّه.
واجتهد بالمتقي لله أن يسير معه إلى مصر والشام فيكون بين يديه فلم يجبه إلى ذلك وأشار عليه بالمقام مكانه فلم يقبل فلمّا امتنع عليه من الأمرين عدل إلى الوزير أبي الحسين وأشار عليه بأن يسير معه إلى مصر وضمن له إنفاذ أمره وترك الاعتراض عليه في شيء يدبّره فخالفه.
وكان أبو الحسين بعد ذلك يظهر التندّم ويقول:
« نصحنى الأخشيد فلم أقبل. » وكانت دنانير الأخشيد في صندوق أبي الحسين إلى أن انتهبت لمّا قبض على المتقي لله.
ولمّا توثّق المتقي لله من توزون انحدر من الرقّة يريد بغداد في الفرات ومعه غلامان من غلمان الأخشيد ومحمد بن فيروز ونقط فلمّا وصل إلى هيت أقام بها وأنفذ القاضي الخرقى وابن شيرزاد حتى جدّدا على توزون الأيمان والعهود والمواثيق وأكرم المتقي لله توزون ولقّبه المظفّر وعاد القاضي إلى هيت وعرّف المتقى أنه قد أحكم الأمر مع توزون.
وخرج توزون لليلة بقيت من صفر إلى البثق الذي كان بالسندية ونزل الوزير أبو الحسين على شاطئ الفرات وبين توزون والمتقى نحو فرسخ فلمّا همّ بالانحدار استقبله توزون وترجّل له وقبّل الأرض بين يديه ووكّل به وبالوزير وبالجماعة وأنزل بهم في مضرب نفسه مع حرم المتقي لله وارتجّت الدنيا فسمله. وحكى ثابت أنّ توزون سملة بحضرة قهرمانة المستكفي بالله.
وانحدر توزون من الغد وفي قبضه الجماعة فكانت مدّة وزارة أبي الحسين ابن مقلة سنة واحدة وخمسة أشهر واثنى عشر يوما.
خلافة المستكفي بالله
ذكر السبب في القبض على المتقى وخلافة المستكفي بالله
قال ثابت: حدثني أبو العبّاس التميمي الرازي وكيله، قال: وكان خصيصا بتوزون مستوليا عليه، قال:
كنت أنا السبب فيما جرى على المتقى وذاك أنّ إبراهيم بن الربنبذ الديلمي لقيني يوما وسألنى أن أصير إلى دعوته فاستأذنت توزون في ذلك فأذن لي فيه ومضيت إليه وهو ينزل في دار القراريطي على دجلة فوجدت داره مفروشة منضّدة فسألته عن السبب في ذلك وقلت: أحسبك قد تزوّجت.
فقال: أنا أحدّثك عن أمري:
اعلم أنّى خطبت إلى قوم وتجمّلت عندهم بأن ادّعيت أنّ لي محلّا من الأمير واختصاصا به فقالت لي المرأة: إذا كنت بهذه المنزلة فهل لك أن تسفر في شيء يجمع صلاح الأمير وصلاحك وصلاح المسلمين؟ فقلت لها: نعم.
قالت: هذا الخليفة (يعنى المتقي لله) قد عاداكم وعاديتموه وكاشفكم وكاشفتموه وليس يجوز أن تصفو نيته لكم آخر الدهر وقد اجتهد في بواركم فلم يتم له فمرّة ببني حمدان ومرّة ببني بويه وهاهنا رجل من ولد الخلافة من فهمه وعقله ودينه ورجلته كيت وكيت تنصبونه في الخلافة وتزيلون المتقي لله وهو يثير لكم أموالا جليلة لا يعرفها غيره ولا يقدر عليها سواه وتكونون أنتم قد استرحتم من عدوّ تريدون أن تحرسوه وتحترسون منه وتخافونه ويخافكم وتقيمون رجلا من قبلكم يرى أنّكم قد أحسنتم إليه وأنّ روحكم مقرونة بروحه.
وأطالت الكلام في هذا المعنى فهوّستنى ودار كلامها في نفسي وعلمت أنّ محلى لا يبلغ الكلام في مثله والسفارة فيه وكرهت أن اكذّب نفسي عندها لما ادّعيته من المحلّ والمنزلة فاطمعتها في ذلك وعلمت أنّ هذا الأمر لا يتمّ إلّا بك ولا يقدر عليه غيرك وقد أطلعتك عليه فأيّ شيء عزمك أن تعمل؟
فقلت: أريد أن أسمع كلام المرأة. فجاءني بامرأة تتكلم بالعربية والفارسية من أهل شيراز جزلة شهمة فهمة فخاطبتني بنحو ما خاطبني به الرجل فقلت لها: لا بد من أن ألقى الرجل وأسمع كلامه. فقالت: تعود غدا إلى ههنا حتى أجمع بينك وبينه. فلمّا كان من غد عدت فوجدت الرجل قد أخرج من دار ابن طاهر في زي امرأة وحصل في دار ابن الربنبذ فلقيته وعرّفنى أنّه عبد الله بن المكتفي بالله. وخاطبني رجل حصيف فهم ووجدته مع هذا يتشيّع ورأيته عارفا بأمر الدنيا وضمن لي ستمائة ألف دينار يستخرجها ويمشّى بها الأمر ومائتي ألف دينار للأمير توزون وقال: أنا رجل فقير وإنّما أعرف وجوه أموال لا يعرفها غيري وأعرف من ذخائر الخلافة في يد قوم لا يعرفهم غيري. وذكر أنّ وجوهها صحيحة لا شك فيها ولا يقدر غيره عليها. فلمّا سمعت ذلك وعرفت صحته صرت إلى توزون. وفكرّت في أنّ الأمر لا يتمّ بي وحدي فلقيت في طريقي وأنا أصعد إلى توزون أبا عمران موسى بن سليمان في الحديدى الذي على باب توزون فأخذت بيده واعتزلنا. واستحلفته على كتمان ما أطلعه عليه فحلف ثم حدثته به كلّه وسألته معاونتى على تمامه فقال:
هذا أمر عظيم لا أدخل فيه. فلمّا آيسنى من نفسه سألته أن يمسك ولا يعارضني فقال: افعل. فدخلت إلى توزون وأدخلته إلى حجرة وخلوت به واستحلفته بالمصحف وبأيمان مؤكّدة أن يكتم ما أحدّثه به فحلف فلمّا حلف حدّثته الحديث من أوله إلى آخره فوقع بقلبه وقال: صواب ولكني أريد أن أرى الرجل وأسمع كلامه. فقلت: عليّ ذلك ولكن إن أردت تمام هذا الأمر فلا تطلع عليه أبا جعفر ابن شيرزاد فإنّه يفثأ عزمك ويصرفك عنه.
فقال: افعل.
وبلغ أبا جعفر خلوتي بالأمير فاتّهمنى أنى سعيت عليه ومضيت إلى القوم ووعدتهم بحضور الأمير ليرى الرجل ويكون الاجتماع في منزل موسى بن سليمان.
قال: وتشددنا في الطوف بالليل في دجلة فلمّا كان ليلة الأحد لأربع عشرة خلت من صفر وافى عبد الله بن المكتفي بالله إلى دار موسى بن سليمان ولقيه توزون هناك وخاطبه وبايع له في تلك الليلة وكتمنا القصة.
فلمّا وافى المتقي لله من الرقّة ولقيه توزون وسلم عليه قلت لتوزون:
« عزمك على ما كنا اتفقنا عليه صحيح؟ » فقال: « بلى. » قلت: « فافعله الساعة فانّه إن دخل داره بعد عليك مرامه. » قال: فوكّل به وجرى ما جرى.
وكانت المرأة التي سفرت في هذا الأمر المعروفة بحسن الشيرازية حماة أبي أحمد الفضل بن عبد الرحمن الشيرازي فلمّا تمت للمستكفي الخلافة غيرت اسمها وجعلته « علم » وصارت قهرمانة المستكفي واستولت على أمره كلّه.
ذكر مصير الأمير أبي الحسين إلى ديالى
وقد كان قبل خلافة المستكفي صار الأمير أبو الحسين أحمد بن بويه إلى واسط وقت مصير توزون إلى الموصل. فلمّا صالح توزون ابن حمدان وعاد إلى الحضرة عمل على الانحدار لدفعه.
فخرج في ذي القعدة من سنة اثنتين وثلاثين وورد عليه خبر الأمير أبي الحسين ابن بويه بانه نزل بسيب بنى كوما ولقيه جيش توزون وما زالت الحرب بينهما تسعة أيام في قباب حميد وهي في كل يوم على توزون يتأخّر توزون إلى خلف ويتقدّم الأمير أبو الحسين إلى قدّام إلى أن بلغ توزون نهر ديالى وعبره إلى جانب بغداد وقطع الجسر الذي عليه وأقام.
ووافاه أحمد بن بويه إلى الجانب مقابلا له وبينهما الماء. فلمّا كان يوم الأحد لأربع خلون من ذي الحجة انصرف الأمير أبو الحسين راجعا إلى الأهواز.
ذكر السبب في انصرافه مع استظهاره وبعد ما هزم توزون
كان مع الأمير أبي الحسين سواد عظيم وكراع كثير وجمال وافرة فكان إذا سار جعل سواده بينه وبين دجلة وله خيمة تضرب على رسم لهم فما دامت الخيمة منصوبة فالقتال واقع ومتى قلعت كان ذلك علامة الهزيمة.
فلمّا كان يوم مسيره إلى ديالى أخذ السواد يسير على طول ديالى واجتهد أن يضبطه ويستوقفه فلم يمكن ذلك.
وأراد أن يضرب الخيمة على الرسم فلمّا تباعد الديلم وصار بين السواد والديلم فرجة دخل أصحاب توزون وأعرابه بين السواد والديلم وأوقعوا بالسواد ولم يكن عنه دافع فدفعت الضرورة إلى أن ينصرف وصارت هزيمة، واضطرّ الديلم إلى أن يستأمنوا إلى توزون لأنّهم رحالة فاستأمن أكثرهم إلى توزون وأخذ الأمير على طريق بادرايا، وباكسايا إلى الأهواز.
وقد كانت الميرة أيضا ضاقت على الأمير أبي الحسين حتى اضطر في الليلة التي انصرف فيها من غد إلى أن ذبح خمسين جملا من جماله وفرق لحمها على أصحابه ورجاله وأخذ له بقر فذبحها ونهب في وقت هزيمته نهبا عظيما.
واستؤسر من وجوه قوّاده سبعة عشر قائدا فيهم أبن الداعي العلوي وأسر أبو بكر أبن قرابة واستأمن من الديلم أكثر من ألف رجل.
وأقام توزون وعاوده الصرع يوم هزيمة الأمير أبي الحسين وشغل بنفسه عن الطلب فعاد إلى داره.
ونعود إلى تمام خبر المستكفي بالله.
قلّد وزارته أبا الفرج محمد بن علي السامرّيّ ولم يكن له من الوزارة إلّا أسمها والمدبر للأمور أبو جعفر ابن شيرزاد.
وخلع على توزون وطوّق ووضع على رأسه تاج مرصّع بجوهر وجلس بين يدي المستكفي بالله على كرسيّ وانصرف بالخلع والتاج والطوق والسوار الى منزله.
وطلب المستكفي بالله الفضل بن المقتدر طلبا شديدا فاستتر وأمر بهدم داره وكان الفضل طول أيام المستكفي بالله مستترا.
شرح قصة أبي الحسين البريدي ومصيره إلى بغداد مستأمنا إلى توزون وما آل إليه أمره من القتل
كنا ذكرنا حاله إلى وقت خروجه إلى بغداد ولما وصل إلى بغداد ولقي توزون وأنزله أبو جعفر بالقرب من داره في دار طازاذ التي في قصر فرج على شاطئ دجلة.
ثم شرع أبو الحسين في مسئلة توزون أن يعاونه على فتح البصرة وضمن له إذا فتحها أن يحمل إليه مالا رغبة عن كثرته فكان يطمع في المال ويعلل بالمواعيد.
وسأل أن يوصل إلى المستكفي بالله فوصل إليه مع توزون وابن شيرزاد فخلع المستكفي بالله عليه خلعة الرضا وأنصرف إلى منزله.
وبلغ الخبر ابن أخيه أبا القاسم وأنّ عمه يسعى في أمر البصرة فوجّه بمن أصلح أمره مع توزون وابن شيرزاد وحمل مالا فأقرّ على عمله وأنفذت الخلع اليه.
ووقف عمه أبو الحسين على ذلك ويئس مما كان شرع فيه ولم يقطع توزون أطماعه فيه.
ذكر الخبر عن قتل أبي الحسين البريدي
لما يئس أبو الحسين البريدي من معاونة تلحقه في فتح البصرة سعى في أن يكتب لتوزون ويقبض على ابن شيرزاد وصح ذلك عند ابن شيرزاد فاستوحش من أبي الحسين ومن توزون فجلس في منزله أياما وما زال توزون يراسله ويترضاه حتى كتب إليه وأخذ في التدبير عليه.
فلمّا كان يوم السبت لستّ خلون من ذي الحجة أنفذ أبو العباس وكيله وصافى حاجب توزون إلى أبي الحسين البريدي فقبضا عليه وأحدراه إلى دار صافى وضرب هناك ليلة الأحد ضربا عنيفا وقيّد وأحدر إلى دار السلطان وبسط ابن شيرزاد لسانه فيه أقبح بسط وذكر معايبه وأذكر بذنوبه.
وكان أبو عبد الله محمد ابن أبي موسى الهاشمي أخذ في أيام ناصر الدولة فتوى الفقهاء والقضاة بإحلال دمه فأظهرها في هذا الوقت فلمّا كان بعد أسبوع من القبض عليه استحضر الفقهاء والقضاة وأحضر أبو الحسين البريدي وجمعوا بين يدي المستكفي بالله وأحضر السيف والنطع ووقف السيّاف بيده السيف وحضر ابن أبي موسى الهاشمي ووقف فقرأ ما أفتى به واحد واحد من إباحة دمه على رؤوس الأشهاد وكلما قرأ فتوى واحد منهم سأله هل هي فتواه فيعترف بها حتى أتى على جماعتهم وأبو الحسين البريدي يسمع ذلك كلّه ويراه ورأسه مشدود والسيف مسلول بإزائه في يد السيّاف.
فلمّا اعترف القضاة والفقهاء بالفتوى أمر المستكفي بالله بضرب عنقه فضربت من غير أن يحتجّ لنفسه بشيء أو يعاود بكلمة أو ينطق بحرف وأخذ رأسه وطيف به في جانبي بغداد ورد إلى دار السلطان وصلبت جثّته حيث كان حديديّه مشدودا فيه لما ظفر بدار السلطان فبقى مصلوبا هناك أياما.
ثم قرأت صكا على الجهبذ بثمن بواري ونفط اشتريت بتسعة دراهم لإحراق جثّته فأحرقت للنصف من ذي الحجة.
وقبض على الوزير أبي الفرج السامرّيّ وصودر على ثلاثمائة ألف درهم فكانت مدة وقوع اسم الوزارة عليه اثنتين وأربعين يوما.
وفي هذه السنة طالب المستكفي بالله القاهر بأن يخرج من دار السلطان ويرجع إلى دار ابن طاهر فامتنع فسأل فيه أبو أحمد الفضل بن عبد الرحمن وهو يومئذ يكتب للمستكفي بالله على خاصّ أموره ورفق بالقاهر وضمن أن ينزله عنده ولا يردّه إلى دار ابن طاهر.
قال أبو أحمد: فلمّا قلت له ذلك استجاب بعد أن سألنى عن منزلي في أى جانب هو فقلت: في الشرقي ناحية سوق يحيى. فسكنت نفسه إلى ذلك واستجاب حينئذ وأنزلت به إلى طيّارى بعد أن غيّرت زيّه فإني وجدته ملتفّا في قطن حشو جبّة وفي رجله نعل خشب مربعة. فلمّا حصل في الطيّار عبرت به من إزاء دارى وأومأت إلى الملاحين إيماء من غير أن أنطق بحرف.
فلمّا وضع صدر الطيار للعبور فطن وقال « هوذا يعبر بي إلى دار ابن طاهر » وأراد أن يرمى بنفسه إلى الماء فتقدمت إلى غلماني بضبطه فضبطوه إلى أن أصعدت به إلى داره من دار ابن طاهر فأقام فيها مدة ثم خرج في يوم جمعة إلى المسجد الجامع في مدينة المنصور وأخذ في أن يتصدق فرآه أبو عبد الله ابن أبي موسى الهاشمي فمنعه من ذلك وأعطاه خمسمائة درهم وردّه إلى داره.
وفي هذه السنة ورد الخبر بأن قوما يعرفون بالروس يكونون وراء بلدان الخزر خرجوا إلى آذربيجان وملكوا برذعة. وهم قوم لا دين لهم وإنّما طلبوا الملك وليس يعرفون الهزيمة وسلاحهم وزيّهم تشبه سلاح الديلم وفيهم قوة شديدة ولهم أبدان عظام.
ثم أوقع بهم المسلمون فلم يبق منهم كبير أحد وكان للمرزبان بن محمد بن مسافر في ذلك أثر كبير وعناء عظيم وقد ذكرناه في موضعه.
ودخلت سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة
موت توزون
وفي المحرم منها مات توزون في داره ببغداد فكانت مدة إمارته سنتين وأربعة أشهر وسبعة عشر يوما ومدة كتابة ابن شيرزاد له سنتان وستة عشر يوما.
وورد الخبر على ابن شيرزاد وهو بهيت وكان خرج إليها لمواقفة أبي المرجّى ابن فيان على مال ضمانه وكان قد أخّره وطمع في ناحيته بموت توزون واضطرب العسكر ثم اجتمعوا على عقد الرياسة لابن شيرزاد.
وكان أبو جعفر قد عزم على عقد الأمر لناصر الدولة فانحدر ابن شيرزاد فلمّا وصل إلى باب حرب وذلك في مستهلّ صفر أقام هناك في معسكره وخرج إليه الأتراك والديلم وأنفذ إليه المستكفي بالله خلع ثياب بياض وحمل إليه طعاما عدّة أيام.
فلمّا كان يوم الجمعة لليلتين خلتا من صفر أجمع الجيش بأسره على عقد الرياسة له وحلفوا له وأخذ البيعة عليهم لنفسه وحبوه بالريحان على رسم العجم.
ووجّه ابن شيرزاد إلى المستكفي بالله يسأله ان يحلف له يمينا بحضرة القضاة والعدول تسكن نفسه إليها ففعل المستكفي ذلك ثم سأله إعادة اليمين بحضرة وجوه الأتراك والديلم فاشتد ذلك عليه ثم فعله.
فدخل ابن شيرزاد من معسكره على الظهر بتعبية إلى دار السلطان ووصل إلى الخليفة وانصرف مكرّما.
وزاد ابن شيرزاد الأتراك والديلم في أرزاقهم زيادات كثيرة فاشتدّت الإضافة فأنفذ إلى ناصر الدولة يطالبه بحمل المال ويطمعه في رد الامارة اليه فحمل إليه دقيقا وسفاتج بخمسمائة ألف درهم فلم يكن لها موقع مع الإضاقة فنقض ما عزم عليه من عقد الإمارة لناصر الدولة وأقام على أمره وقلّد أبا السائب القاضي مدينة المنصور وقلّد جماعة القضاة في نواحي بغداد وأخذ في المصادرات وقسط على الكتّاب والعمّال والتجار وسائر طبقات الناس ببغداد مالا لأرزاق الجند.
هاروت وماروت
وكان الغمازون يغمزون بمن عنده قوت من حنطة أو عدّة لعياله فكبسه وأخذه وكان قد انتصب للغمز بذلك وغيره وبمن يرمق بنعمة رجلان من السعاة يعرفان بهاروت وماروت فكانا يصلان إلى ابن شيرزاد في الأسحار والخلوات ويمضيان أيضا إلى دار المستكفي بالله فلحق الناس منهما أمر عظيم وكذلك من الضرائب فإنّها كثرت حتى تهارب التجار من بغداد وعاد هذا الفعل بالخراب وفساد الأمر وزيادة الإضاقة فاحتيج إلى مصادرة ابن عبد العزيز الهاشمي وإخوته.
وكثرت كبسات اللصوص فكان إذا ظفر السلطان بلصّ قتلته العامّة قبل أن يصل إلى الوالي.
وقلد أبو جعفر ابن شيرزاد ينال كوسه أعمال المعاون بواسط والفتح اللشكري أعمال المعاون بتكريت فأمّا الفتح اللشكري فإنّه خرج إلى عمله بتكريت فلمّا وصل إليها امتدّ إلى ناصر الدولة فقبله وأكرمه وقلّده تكريت من قبله وردّه إليها.
وأما ينال كوسه فكاتب الأمير أبا الحسين ابن بويه.
وأخرج ابن شيرزاد تكين الشيرزادى إلى الجبل فهزمه أصحاب أبي على أبي محتاج وانصرف إلى بغداد.
ذكر الخبر عن مسير أبي الحسين أحمد بن بويه إلى بغداد
ورد الخبر بدخول ينال كوسه في طاعة الأمير أبي الحسين أحمد بن بويه وأنّ الأمير قد تحرّك من الأهواز يريد الحضرة فاضطرب الأتراك والديلم ببغداد وأخرجوا مضاربهم إلى المصلّى وعسكروا هناك وأخرج أبو جعفر مضربه معهم.
ثم ورد الخبر بنزول الأمير أبي الحسين أحمد بن بويه باجسرى فزاد الاضطراب ببغداد واستتر ابن شيرزاد واستتر المستكفي بالله فكانت امارة ابن شيرزاد ثلاثة أشهر وعشرين يوما.
فلمّا وقف الأتراك على استتارهما عبروا إلى الجانب الغربي وساروا إلى الموصل فلمّا سار الأتراك ظهر المستكفي بالله وعاد إلى دار الخلافة.
وورد أبو محمد الحسن بن محمد المهلّبي صاحب الأمير أبي الحسين أحمد بن بويه ولقي ابن شيرزاد حيث هو مستتر وفاوضه ثم انحدر إلى دار السلطان ولقي المستكفي بالله فأظهر المستكفي بالله سرورا بموافاة الأمير أبي الحسين أحمد بن بويه وأعلمه أنّه إنّما استتر من الأتراك لينحلّ أمرهم فيحصل الأمر للأمير أحمد بن بويه بلا كلفة.
المستكفي يلقب الإخوان بمعز الدولة وعماد الدولة وركن الدولة
فلمّا كان يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة نزل الأمير أبو الحسين في معسكره بباب الشمّاسية ووصل إلى المستكفي بالله ووقف بين يديه طويلا وأخذت عليه البيعة للمستكفي بالله واستحلف له بأغلظ الأيمان وأدخل في اليمين الصيانة لأبي أحمد الشيرازي كاتبه، ولعلم قهرمانته، ولأبي عبد الله ابن أمّ موسى وللقاضي أبي السائب ولأبي العباس أحمد بن خاقان الحاجب ووقعت الشهادة على المستكفي بالله وعلى الأمير أبي الحسين.
فلمّا فرغ من اليمين سأل الأمير أبو الحسين المستكفي بالله في أمر ابن شيرزاد واستأذنه في أن يستكتبه فآمنه وأذن له في ذلك.
ثم لبس الأمير الخلع وكنّى ولقّب بمعز الدولة ولقّب أخوه أبو الحسن علي بن بويه بعماد الدولة وأخوه أبو على الحسن بن بويه بركن الدولة وأمر أن تضرب ألقابهم وكناهم على الدنانير والدراهم وانصرف بالخلع إلى دار مونس.
ونزل الديلم والجيل والأتراك دور الناس فلحق الناس من ذلك شدة عظيمة وصار رسما عليهم إلى اليوم.
ذكر كتابة ابن شيرزاد لمعز الدولة أبي الحسين
ظهر أبو جعفر ابن شيرزاد من استتاره ولقي معزّ الدولة ودبّر أمر الخراج وجباية الأموال. وقبض الأمير أبو الحسين على أبي عبد الله الحسين بن علي بن مقلة وذلك لوصول رقعة له إليه يطلب فيها مكان ابن شيرزاد.
ذكر الخبر عن قبض معز الدولة على المستكفي بالله
كان السبب الظاهر أنّ علما قهرمانته دعت دعوة عظيمة حضرها جماعة من قواد الديلم فاتهمها الأمير معز الدولة أنها فعلت ذلك لتأخذ عليهم البيعة للمستكفي بالله وأن ينقضوا رياسة معز الدولة عليهم ويطيعوه دونه فساء ظنّه لذلك ولما رأى من جسارتها وإقدامها على قلب الدول.
ثم قبض المستكفي بالله على الشافعي رئيس الشيعة من باب الطاق فشفع فيه اصفهدوست فلم يشفّعه فأحفظه ذلك وذهب إلى معز الدولة وقال:
« راسلني الخليفة في أن ألقاه متنكرا في خفّ وإزار. » فنتج من ذلك وغيره مما لم يظهر خلعه من الخلافة.
فلمّا أن كان يوم الخميس لثمان بقين من جمادى الآخرة انحدر الأمير معز الدولة إلى دار السلطان وانحدر الناس على رسمهم.
فلمّا جلس المستكفي بالله على سريره ووقف الناس على مراتبهم دخل أبو جعفر الصيمري وأبو جعفر ابن شيرزاد فوقفا في مرتبتهما ودخل الأمير معز الدولة فقبّل الأرض على رسمه ثم قبّل يد المستكفي بالله ووقف بين يديه يحدثه ثم جلس على كرسيّ وأذن لرسول كان ورد من خراسان ورسول ورد من أبي القاسم البريدي. فتقدّم نفسان من الديلم فمدّا أيديهما إلى المستكفي بالله وعلا صوتهما فارسية فظنّ أنهما يريدان تقبيل يده فمدّها إليهما فجذباه بها وطرحاه إلى الأرض ووضعا عمامته في عنقه وجرّاه.
فنهض حينئذ معز الدولة واضطرب الناس وارتفعت الزعقات وقبض الديلم على أبي أحمد الشيرازي وعلى ابن أبي موسى الهاشمي ودخلوا إلى دار الحرم فقبضوا على علم القهرمانة وابنتها وتبادر الناس إلى الباب من الروشن فجرى أمر عظيم من الضغط والنهب.
وساق الديلميان المستكفي بالله ماشيا إلى دار معز الدولة واعتقل فيها ونهبت دار السلطان حتى لم يبق فيها شيء وانقضت أيام خلافة المستكفي بالله.
وأحضر معز الدولة أبا القاسم الفضل بن المقتدر بالله إلى دار الخلافة في يوم الخميس لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة وخوطب بالخلافة وبويع له ولقب المطيع لله.
خلافة المطيع لله ذكر خلافة المطيع لله وما جرى عليه من الأمور
وقام له ابن شيرزاد في تدبير الأمور والأعمال بمقام الوزراء من غير تسمية بوزارة واستخلف على كتابته على خاص أمره أبا الحسن طازاذ بن عيسى واستحجب المطيع لله أبا العباس ابن خاقان.
وأقام له الأمير معز الدولة لنفقته كل يوم ألفى درهم وكتب بخبر تقلده الخلافة إلى الآفاق.
وتمّ الصلح بين الأمير معزّ الدولة وبين أبي القاسم البريدي وتسلّم ابن البريدي واسطا وضمن البقايا بها بألف ألف وستمائة ألف درهم واستخلف بالحضرة أبا القاسم عيسى بن علي بن عيسى.
وطلب الأمير معز الدولة ابن شيرزاد برهينة لأنّه تبيّن منه تبليحا في أمر المال ولم يأمن أن يهرب واضطرب أبو جعفر وسأل الأمير أن يقرضه ما يمشى به أمره فدفع إليه عدة من مراكب ذهب وفضّة على أن يردّ مكانها.
فتسلّم أبو جعفر ذلك وسلّم أخاه أبا الحسن زكريا رهينة.
وكان وصف للأمير معز الدولة كفاية أبي الفرج ابن أبي هشام وشهامته فأوصله إلى حضرته وأنس به ولطف محلّه وردّ إليه أمر الضياع الخراب بالسواد وكلّفه عمارتها.
قال ثابت: وأخبرني أبو الفرج أنّه قال لمعزّ الدولة:
« لججت أيها الأمير في أمر أبي جعفر ابن شيرزاد في أن يكتب لك وراجعت الخليفة المستكفي بالله دفعات حتى أذن، فبأيّ سبب طننت أنّه لا مثيل له في الوقت في صناعته فإنّه ما كان صانعا أمر كتّاب الرسائل وأمر كتّاب الخراج وإنّما ولى ديوان النفقات مرّة وكتب لابن الخال وكان امرءا متوسطا وما عدّه كتاب الحضرة وأصحاب دواوينهم في الكفاة وأهل الصناعة. » قال، فقال:
« أنت صادق فإني ما سألت عنه أحدا فقال فيه إلّا مثل قولك ولمّا رأيت لحيته قلت: هذا بأن يكون قطّانا أولى منه أن يكون كاتبا. ولكن وجدته وقد تقلّد الإمارة ببغداد واستولى على الخلافة وصار لي نظيرا ولملوك الأطراف وتصوّره الرجال بصورة من يصلح أن يرؤسهم ومن يعقدون له على نفوسهم فأردت أن أحطّه من هذه الحال إلى أن أجعله كاتبا لغلام لي أو عاملا على بلد. » وكان الأمير معز الدولة قد أخرج موسى فياذه وينال كوسه في يوم الجمعة لتسع بقين من رجب إلى عكبرا مقدّمة له إلى الموصل. فلمّا سارا أوقع ينال كوسه وابن البارد بموسى فياذه وأخذوا سواده ومضوا إلى ناصر الدولة.
وفي يوم الاثنين لتسع خلون من شعبان استتر أبو جعفر ابن شيرزاد وأسلم أخاه أبا الحسن زكريا.
ابتداء الحرب بين ناصر الدولة وبين معز الدولة
ونزل ناصر الدولة ومعه الأتراك بسر من رأي لأربع بقين من شعبان وابتدأت الحرب بينه وبين أصحاب معز الدولة بعكبرا وسار معزّ الدولة يوم الخميس لأربع خلون من شهر رمضان ومعه الخليفة المطيع لله إلى عكبرا.
وظهر أبو جعفر ابن شيرزاد ومضى فتلقى أبا العطّاف جبير بن عبد الله بن حمدان أخا ناصر الدولة فإنّه وافى بغداد ونزل باب قطربّل فنزل معه أبو جعفر ابن شيرزاد ولؤلؤ وجماعة من العجم.
ولقيه أهل بغداد ودبّر الأمور أبو جعفر ابن شيرزاد من قبل ناصر الدولة والحرب متصلة بين معز الدولة وناصر الدولة بسرّ من رأى ونواحيها.
فلمّا كان يوم الأربعاء لعشر خلون من شهر رمضان وافى ناصر الدولة إلى بغداد فنزل في الجانب الغربي أسفل قطربّل بعد أن أحرق خزائن نفسه وأصحابه التي في الزواريق لظهور الديلم عليه وخلف أبا عبد الله الحسين بن حمدان في الحرب.
ثم عبر أصحاب معز الدولة الديلم من الجانب الشرقي من سرّ من رأى إلى الجانب الغربي من دجلة وساروا إلى تكريت ونهبوها ثم صار بهم إلى سرّ من رأى ونهبوها ثم عبر جميعهم مع معز الدولة إلى الجانب الغربي من دجلة والخليفة معهم وساروا منحدرين إلى بغداد وبإزائهم أبو عبد الله الحسين بن سعيد والأتراك في الجانب الشرقي.
فلمّا حصل معز الدولة في الجانب الغربي عبر ناصر الدولة إلى الشرقي ونزل في رقّة الشمّاسية واجتمع مع الأتراك وما خطب ناصر للمطيع لله ولا ذكر اسمه ولا كنيته في الخطب.
وفي يوم الأحد لليلتين بقيتا من شهر رمضان أوقع أبو عبد الله الحسين بن سعيد بعسكر معز الدولة في الماء فغرق منهم وملك آلات الماء التي كانت معهم.
ولمّا كان يوم الخميس لليلتين خلتا من شوّال وجّه ناصر الدولة بخمسين رجلا من الديلم الذين كانوا في جملته إلى الجانب الغربي من بغداد في جملة الجيش الذين عبر بهم لمحاربة معزّ الدولة.
فلمّا صاروا على الخندق الذي في قطيعة أم جعفر وخاطبوا الديلم الذين مع معزّ الدولة يريدون أن يعبروا الخندق ليستأمنوا إلى ناصر الدولة فأفرجوا لهم عن الخندق حتى عبروه وقلبوا تراسهم على جيش ناصر الدولة وحاربوه وأوقعوا به فانهزم أصحاب ناصر الدولة بأسرهم.
وحصل القرامطة من أصحاب ناصر الدولة وتكين الشيرزادى وغيره من قوّاده محدقين بعسكر معزّ الدولة في الجانب الغربي فلم يكن يقدر معز الدولة على تناول شيء من علف ولا غيره فلحق أهل الجانب الغربي غلاء شديد وعدموا الأقوات.
وكان أبو جعفر الصميرى لتشاغله بأمر الحرب قد ردّ خدمة معز الدولة والقيام بما يحتاج إليه هو وحاشيته وأسبابه إلى أبي على الحسن بن هارون.
فحدثني أبو على هذا أنّه اشترى للأمير معز الدولة كرّ دقيق حوّارى بعشرين ألف درهم.
وتعذّر على الناس العبور من الجانب الغربي إلى الشرقي ومن الشرقي إلى الغربي لمنع ناصر الدولة من ذلك ولحق الناس في السواد من الجانبين ضرر عظيم بتسلط الجند على غلّاتهم فإنّهم كانوا يحصدونها ويدرسونها ويحملونها إلى معسكرهم.
سعر الخبز في الجانبين
وكان السعر في الجانب الشرقي في خمسة أرطال خبز بدرهم لورود الزواريق من الموصل بالدقيق وبقي السعر في الجانب الغربي غاليا بعد إدراك الغلات لما ذكرنا فكان الرطل الواحد من الخبز بدرهم وربع إذا وجد وذلك لمنع ناصر الدولة ما يرد من الموصل أن يصل إلى الجانب الغربي ولأن أعرابه منتشرون في الجانب الغربي يحولون بين أصحاب معز الدولة وبين الغلّات.
وضرب ناصر الدولة دنانير ودراهم بسكة سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة باسم المتقي لله وناصر الدولة وسيف الدولة.
واستعان ابن شيرزاد بالعامّة والعيّارين من بغداد على حرب معز الدولة والديلم وفرض قوما منهم وكان يركب كل يوم في الماء ومعه عدّة زبازب فيها أتراك فينحدر ويصعد في دجلة ويرمى من على الشطوط في الجانب الغربي من الديلم بالنشّاب.
وكان ناصر الدولة عبر بصافى التوزونى في ألف رجل لكبس معز الدولة وعسكره فلقيه اصفهدوست وأبو جعفر الصميرى فهزماه.
فكان جعفر بن ورقاء يقول وكان معهما:
« كنت أسمع أنّ رجلا واحدا يفي بألف رجل فلا أصدق حتى شاهدت اصفهدوست وحملته وهزيمته صافى وزمرته فصدقت بذلك. » وكان معز الدولة بنى زبازب في قطيعة أم جعفر وعددها نيف وخمسون فخرجت يوم الأربعاء لثلاث بقين من ذي الحجة إلى دجلة وكان غلمان معز الدولة يحاربون فيها من في زبازب ناصر الدولة من أصحابه وذكر أبو جعفر الصيمري أنّ الجهد كان قد بلغ منهم والحيل قد أعيتهم وضاق بهم الأمر حتى عزم معز الدولة على الرحيل إلى الأهواز وحمل أثقاله وقال:
« ترون في طريقنا العبور فإن أمكننا حيلة فيه وإلّا جعلنا وجهنا إلى الأهواز. » وتهيّأ أن عبر الصيمري واصفهدوست... تسعة نفر في سحر يوم السبت انسلاخ ذي الحجة إلى الجزيرة التي بازاء المخرّم وأرادوا العبور منها إلى الجانب الشرقي فعارضهم ينال كوسه معارضة يسيرة وتهيّأ لهم العبور وتبعهم أصحابهم فعبروا.
ذكر الحيلة التي تم بها عبورهم
كان معز الدولة رتّب هذه المعابر في الصراة ثم حدرها في الليل على شاطئ دجلة إلى موضع التمارين لأنّه أضيق موضع في دجلة ووافق وزيره الصيمري واصفهدوست وخواص ديلمه على العبور وأظهر هو أنّه يعبر من أعلى قطربّل. فمضى بالليل في وقت موافقتهم وضرب البوقات وسار بالمشاعل وحمل بعض تلك المعابر بالأوهاق على الظهر. فلمّا رأى أعداءه ذلك سار أكثرهم بإزائه لممانعته فتمكن الصيمري ومن معه من العبور وكان الصيمري أوّل من بذل نفسه لأنّ أصحابه تهيّبوا العبور فلمّا سبقهم أنفوا وتبعوه.
ثم عاد معز الدولة إلى هذا الموضع وقد أحسّ القوم بحيلته فتكاثروا بالزبازب ومنعوهم من العبور وغرّقوا ركوتين واشتدّت الحرب وانهزم الأتراك.
وكان ينال كوسه قد شرب ليلته ولمّا حصل جماعة من الديلم في الجانب الشرقي زعقوا بينال كوسه فانهزم ومضى أصحابه إلى باب الشماسيّة. واضطرب عسكر ناصر الدولة فوجّه ابن شيرزاد إلى ناصر الدولة: أنّ الصواب أن تركب لتلقى من عبر من الديلم.
فرد عليه في الجواب، أنّ العادة قد جرت بأنّى إذا ركبت انهزم الناس.
وأنّ الصواب أن يركب هو. فركب أبو جعفر ورأى الناس قد ركب بعضهم بعضا وليس يلوى أحد على أحد ولا يقف فانهزم هو أيضا معهم وانهزم ناصر الدولة وملك الديلم الجانب الشرقي وأحرقوا ونهبوا وقتل من العامّة جماعة ومات منهم عدد كثير من رجال ونساء وصبيان لأنّ الخوف حملهم على الهرب لما كانوا قدّموه إلى الديلم من الشتم والحرب في أيام الفتنة فخرجوا حفاة في الحرّ الشديد ومشوا إلى عكبرا فماتوا في الطريق.
وجرى معز الدولة على عادته في الرأفة فأمر برفع السيف والكف عن النهب وأمن الناس وملك الجانبين.
ولما منعهم معز الدولة ونادى بالكفّ لم ينتهوا ولا كانت له قدرة على منعهم حتى ركب الصيمري فقتل جماعة وصلب بعض غلمان الديلم وواصل الطوف والحماية بنفسه حتى أمكنه تسكين الجند وحزر ما انتهب فكان مقداره عشرة آلاف ألف دينار وذاك ان القصد وقع على مواضع التجار وحيث الأموال والأمتعة.
ومضى ناصر الدولة وابن شيرزاد والأتراك التوزونيّة مصعدين إلى عكبرا فلمّا استقروا بها راسل ناصر الدولة الأمير معز الدولة يلتمس الصلح في آخر المحرّم سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة.
وكان ناصر الدولة فعل ذلك بغير علم الأتراك فلمّا وقفوا على ذلك أرادوا الوثوب به وهمّوا به فرقى إليه الخبر وصحّ عنده ما عزموا عليه، فهرب منهم ومضى مغذّا مسرعا نحو الموصل وتركهم.
وكتب معز الدولة بالفتح عن المطيع لله كتابا نفذ إلى الأمير عماد الدولة وإلى سائر الأطراف.
حيلة غريبة ينبغي أن يحترز من مثلها
ومن أطرف الأمور وأعجبها أنّ رجلا قصد مضرب ناصر الدولة وهو بباب الشمّاسية بإزاء معسكر معز الدولة فدخله بالليل ودخل خيمته وهو نائم فيها ولم يشعر به الحرّاس ولا الحجّاب ولا البوّابون ولا الخدم ومضى حتى عرف موضعه وشاهده وهو نائم وعرف موضع رأسه من المخدّة ورجع ليطفئ السراج وشمعة كانت بقربه خارج الخيمة فيعود فيضع السكين في موضع حلقه.
فاتّفق أن انقلب ناصر الدولة في نومه ولمّا رجع الرجل لإطفاء الشمعة من جنب إلى جنب. فأطفأ الرجل الشمعة وعاد وقد أظلم الموضع فوضع سكّينه في الموضع الذي كان فيه تقديره وما شكّ أنّ السكين يقع في حلقه فبقى السكين مغرّزا في المخدّة مكان رأس ناصر الدولة وعند الرجل أنّه قد قتله، وخرج من المضرب ولم يعلم به أحد وانتبه ناصر الدولة ورأى السكين وطلب الرجل فلم يلحق وشاع الخبر فصار الناس إلى ناصر الدولة للتهنئة بالسلامة.
ومضى الرجل إلى معز الدولة ليبشّره بأنّه قد قتله واستشرحه ما عمل فشرحه له فقال معز الدولة:
« مثل هذا لا يؤمن. » وسلّمه إلى الصيمري ليحبسه فقتله الصيمري.
الغلاء جعل الناس سباعا
وفي هذه السنة أفرط الغلاء حتى عدم الناس الخبز البتة وأكل الناس الموتى والحشيش والميتة والجيف وكانت الدابة إذا راثت اجتمع على الروث جماعة ففتّشوه ولقطوا ما يجدون فيه من شعير وأكلوه وكان يؤخذ بزر قطونا ويضرب بالماء ويبسط على طابق حديد ويجعل على النار حتى يقبّ ويؤكل ولحق الناس من ذلك في أحشائهم أورام ومات أكثرهم ومن بقي كان في صورة الموتى.
وكان الرجل والمرأة والصبيّ يقف على ظهر الطريق وهو تالف ضرّا فيصيح الجوع الجوع إلى أن يسقط ويموت. وكان الإنسان إذا وجد اليسير من الخبز ستره تحت ثيابه وإلّا استلب منه، ولكثرة الموتى وأنّه لم يكن يلحق دفنهم كانت الكلاب تأكل لحومهم. وخرج الضعفى إلى البصرة خروجا مفرطا متتابعين لأكل التمر فتلف أكثرهم في الطريق ومن وصل منهم مات بعد مديدة.
ووجدت امرأة هاشمية قد سرقت صبيا فشوته وهو حيّ في تنوّر فأكلت بعضه وظفر بها وهي تأكل البعض الباقي فضربت عنقها. وكانت الدور والعقارات تباع برغفان ويأخذ الدلال بحق دلالته بعض ذلك الخبز. ووجدت امرأة أخرى تقتل الصبيان وتأكلهم ثم فشا ذلك فقتلت عدّة منهنّ.
ولمّا زالت الفتنة ودخلت الغلات الجديدة انحلّ السعر.
توالى الناظرين في أعمال الخراج
ولما استتر ابن شيرزاد نظر أبو جعفر فيما كان ينظر فيه ابن شيرزاد ثم قلد الأمير معز الدولة والصيمري الحسن بن علي بن مقلة ما كان أبو جعفر ينظر فيه من أعمال الخراج وجباية الأموال.
شغب الديلم على معز الدولة
وفي هذه السنة شغب الديلم على معز الدولة شغبا قبيحا وكاشفوه بالإسماع وخرقوا عليه بالسفه الكثير فضمن إطلاق أموالهم في مدة ضربها لهم فاضطرّ إلى خبط الناس واستخراج الأموال من غير وجوهها.
فاقطع قوّاده وخوّاصه واتراكه ضباع السلطان وضياع المستترين وضياع ابن شيرزاد وحق بيت المال في ضياع الرعية وصار أكثر السواد مغلقا وزالت أيدى العمّال عنه وبقي اليسير منه من المحلول فضمّن واستغنى عن أكثر الدواوين فبطلت وبطلت أزمّتها وجمعت الأعمال كلّها في ديوان واحد.
ذكر ما انتهى إليه هذا التدبير من سوء العاقبة وخراب البلاد وفساد العساكر وسوء النظام
إنّ التدبير إذا بنى على أصول خارجة عن الصواب وإن خفى في الابتداء ظهر على طول الزمان. ومثل ذلك مثل من ينحرف عن جادّة الطريق انحرافا يسيرا ولا يظهر انحرافه في المبدأ حتى إذا طال به المسير بعد عن السمت وكلّما ازداد إمعانا في السير زاد بعده عن الجادة وظهر خطاؤه وتفاوت أمره.
فمن ذلك أنّه أقطع أكثر أعمال السواد على حال خرابه ونقصان ارتفاعه وقبل عودته إلى عمارته. ثم سامح الوزراء المقطعين وقبلوا منهم الرشى وأخذوا المصانعات في البعض وقبلوا الشفاعات في البعض فحصلت الإقطاعات لهم بعبر متفاوتة.
فلمّا أتت السنون وعمرت النواحي وزاد الارتفاع في بعضها بزيادة الغلّات ونقص في بعضها بانحطاط الأسعار - وذلك أنّ الوقت الذي أقطع فيه الجند الإقطاعات كان السعر مفرط الغلاء للقحط الذي ذكرناه - فتمسّك الرابحون بما حصل في أيديهم من إقطاعاتهم ولم يمكن الاستقصاء عليهم في العبرة.
وردّ الخاسرون إقطاعاتهم فعوّضوا عنها وتمّمت لهم نقائصها واتّسع الخرق حتى صار الرسم جاريا بأن يخرب الجند إقطاعاتهم ثم يردّوها ويعتاضوا عنها من حيث يختارون ويتوصلون إلى حصول الفضل والفوز بالربح.
وقلّدت الإقطاعات المرتجعة من كان غرضه تناول ما يجده فيها ورفع الحساب ببعضه وترك الشروع في عمارتها ثم صار المقطعون يعودون إلى تلك الإقطاعات وقد اختلط بعضها ببعض فيستقطعونها بالموجود بعد تناهيها في الاضمحلال والانحطاط.
وكانت الأصول تذوب على ممر السنين ودرست العبر القديمة وفسدت المشارب وبطلت المصالح وأتت الجوائح على التنّاء ورقّت أحوالهم فمن بين هارب جال وبين مظلوم صابر لا ينصف وبين مستريح إلى تسليم ضيعته إلى المقطع ليأمن شرّه وبوائقه.
فبطلت العمارات وأغلقت الدواوين وأمحى أثر الكتابة والعمالة ومات من كان يحسنها ونشأ قوم لا يعرفونها ومتى تولّى أحدهم شيئا منها كان فيه دخيلا متجلّفا. واقتصر المقطعون على تدبير نواحيهم بغلمانهم ووكلائهم فلا يضبطون ما يجرى على أيديهم ولا يهتدون إلى وجه تثمير ومصلحة ويقطعون أموالهم بضروب الإفساد واعتاض أصحابهم مما يذهب من أموالهم بمصادراتهم وبالحيف على معامليهم.
وأنصرف عمّال المصالح عنها لخروج الأعمال عن يد السلطان ووقع الاقتصار في عملها على أن يقدّر ما يحتاج إليه لها ويقسّط على المقطعين تقسيطات يتقاعدون بها وبأدائها وإن أدّوها وقعت الخيانة فيها فلم تنصرف إلى وجوهها.
وقلّ حفل الناظرين بالحوادث تعويلا على أخذ ما صفا وترك ما كدر والرجوع على السلطان بالمطالبة وردّ ما تخرب على أيديهم من الإقطاعات وفوّض تدبير كل ناحية إلى بعض الوجوه من خواص الديلم فاتخذه مسكنا وطعمة والتحف عليهم المتصرفون الخونة وصار غرض أحدهم الترجية والتمشية والدفع من سنة إلى سنة.
وعقدت النواحي الخارجة من الاقطاعات على طبقتين من الناس إحداهما أكابر القواد والجند والأخرى أصحاب الدراريع والمتصرفون فأمّا القوّاد فإنّهم حرصوا على جمع الأموال وحيازة الأرباح ودعوى المظالم والتماس الحطائط فان استقصى عليهم صاروا أعداءهم.
ولمّا كثرت أموالهم وانفتقت بهم الفتوق خرج منهم الخوارج وإن سومحوا استشرى طمعهم ولم يقفوا منه عند غاية.
وأمّا أصحاب الدراريع فكانوا أهدى من الجندي إلى تغريم السلطان والحيلة عليه في كسب الأموال ونظر بعضهم إلى بعض فيما تجرى عليه معاملاتهم وبذلوا المرافق واعتصموا بالوسائل ووجب أن يجمع الناس حكم واحد.
وتوالت السنون عليهم فتفردوا بنواحيهم وخلوا بمعامليهم فمن مستضعف يصادر ويغيّر رسمه وتنقص معاملته على قدر حاله وماله ومن مانع جانبه فيخفّف عنه الرسوم ويرتفق على ذلك منه بالأموال ويتخذه الضامن عضدا في شدائده وعند مناظرة سلطانه ويصطلم المستضعفين.
فبطل أن ترفع إلى الدواوين جماعة أو تعمل لعامل مؤامرة أو يسمع لأحد ظلامة أو يقبل من كاتب نصيحة واقتصر في محاسبة الضمناء على ذكر أصول العقد وما صح منه وبقي من غير تفتيش عما عوملت به الرعية وأجريت عليه أحوالها من جور أو نصفة من غير إشراف على احتراس من الخراب أو خراب يعاد إلى العمارة وجبايات تحدث على غير رسم ومصادرات ترفع على محض الظلم وإضافات إلى الارتفاع ليست بعبرة وحسبانات في النفقات لا حقيقة لشيء منها ومتى تكلم كاتب من الكتاب في شيء من ذلك فكان ذا حال ضمن ونكب واجتيح وقتل وباعه السلطان بالتطفيف. وإن كان ذا فاقة وخلّة أرضى باليسير فانقلب وصار عونا للخصم ولم يكن في ذلك بملوم لانّ سلطانه لا يحميه إذا خاف ولا ينصره إذا قال.
فهذه جملة الحال في ضياع الدخل فأمّا الخروج فإنّ النفقات تضاعفت وسوق الدواوين أزيلت والأزمّة بطلت إلى غير ذلك من أمور يتّسع فيها القول ويقتضى بعضها سياقة بعض فاقتصرنا على الإشارة دون التطويل.
معز الدولة يركب الهوى في أمور الغلمان
ثم ركب معز الدولة الهوى في أمور غلمانه فتوسّع في إقطاعاتهم وزياداتهم وأسرف في تمويلهم وتخويلهم فتعذّر عليه أن يذخر ذخيرة لنوائبه أو أن يستفضل شيئا من ارتفاع ولم تزل مؤونته تزيد ومواده تنقص حتى حصل عليه عجز لم يكن واقفا على حدّ منه بل يتضاعف تضاعفا متفاقما وأدى ذلك على مرّ السنين إلى الإخلال بالديلم فيما يستحقون من أموالهم وداخلتهم المنافسة للأتراك من أجل حسن أحوالهم.
وقادت الضرورة إلى ارتباط الأتراك وزيادة تقريبهم والاستظهار بهم على الديلم وبحسب انصراف العناية إلى هؤلاء ووقوع التقصير في أمور أولئك فسدت النيّات وفسد الفريقان أما الأتراك فبالطمع والضراوة وأمّا الديلم فبالضرّ والمسكنة واشرأبّوا إلى الفتن وصارت هذه المعاملة لقاحا لها وسببا لوقوع ما وقع فيها مما سنذكر جملا منه في مواضعها بمشيئة الله.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 3 (0 من الأعضاء و 3 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)