أقول: سيأتي رد هذا مفصلًا. والتحقيق أن بعض كبار الصحابة يرون أن تبليغ الأحاديث إنما يتعين31عند وقت الحاجة، ويرون أنهم إذا بلغوا بدون حضور حاجة فقد يكون منهم خطأ ما قد يؤاخذون به، بخلاف ما إذا بلغوا عند حضور الحاجة فإن ذلك متعين عليهم، فإما أن يحفظهم الله تعالى من الخطأ، وإما أن لا يؤاخذهم، لهذا رويت الأحاديث عنهم كلهم، ولم ينقل عن أحد منهم أنه كان عنده حديث فتحققت الحاجة إلى العمل به فلم يحدث به.
وكان جماعة آخرون من الصحابة يحدثون وإن لم تتحقق حاجة، يرون أن التبليغ قبل وقت الحاجة مرغب فيه لقول النبي : «حدثوا عني ولا حرج» وغير ذلك من الأدلة الداعية إلى نشر العلم وتبليغ السنة. ولكل وجهة، وكلهم على خير، على أنه لما قل الصحابة رجحت كفة الفريق الثاني.
قال: (بل في نهيهم عنه).
أقول: لم ينهوا، وكيف ينهون وما من أحد منهم إلا وقد حدث بعدد من الأحاديث، أو سأل عنها، وإنما جاء عن عمر أنه نهى عن الإكثار، ومرجع ذلك إلى أمرين: الأول: استحباب أن لا يكون التحديث إلا عند حضور الحاجة، الثاني: ما صرح به من إيثار أن لا يشغل الناس -يعني: بسماع الأحاديث دون حضور حاجة- عن القرآن.
وجاء عنه كما يأتي: (أقلوا الرواية عن رسول الله إلا فيما يعمل به) و(العمل) في كلامه مطلق، يعم العبادات والمعاملات والآداب، لا كما يهوى أبو رية.
قال: (قوي عندك ترجيح كونهم لم يريدوا أن يجعلوا الأحاديث (كلها) دينًا عامًا دائمًا كالقرآن).
أقول: هذه نظريته القائلة: (دين عام ودين خاص) والذي يظهر من كلماته أن الدين العام الدائم هو الدين الحقيقي اللازم، وأنه كما عبر عنه فيما مضى (ص15) (المتفق عليه) وعلى هذا فمقصوده أن ما ذكر هنا يقوي عند مخاطبه أن الصحابة كانوا لا يوجبون العمل بالأحاديث الثابتة عندهم عن رسول الله إلا قدرًا يسيرًا هو الذي اتفقوا ووافقهم بقية الأمة بعدهم على العمل به، وأن ما زاد على ذلك فالأمر فيه على الاختيار: من شاء أخذ، ومن شاء ترك. بل إنهم كانوا يرون من الخير إماتة تلك الأحاديث!
فإن كان هذا مراده فبطلانه معلوم من الدين قطعًا. وحسبك أنه لم يجد أحدًا من علماء الأمة ينسب إليه هذا القول بحق أو باطل سوى ما مر (ص15) من نسبته أو نحوه إلى الغزالي، وقدمنا بيان بطلان تلك النسبة. هذا ونصوص الكتاب والسنة والمتواتر عن الصحابة وإجماع علماء الأمة، كل ذلك يبطل قوله هذا قطعًا على أن نظريته هذه لا تقتصر على إهمال الأحاديث الصحيحة بل تتضمن كما تقدم (ص15) إهمال دلالات القرآن32التي نقل ما يخالفها عن بعض من نسب إلى العلم ولو واحدًا فقط، فعلى زعمه دلالات القرآن الظاهرة والأحاديث الصحيحة ولو رواها عدد من الصحابة لا يلزم المسلم أن يعمل بشيء منها قد نقل عن منسوب إلى العلم ما يخالفه وإن كان الجمهور على وفق ذلك الدليل، كأن عنده أن العالم إن خالف الدليل فهو معصوم من أن يغلط أو يغفل أو يزل أو يضل، وإن وافق الدليل فليس بمعصوم. هذا حكمهم غير متفقين، فأما إذا اتفقوا فهم معصومون إلا في مخالفتهم للنظرية هذه.
قال: (ولو كانوا فهموا من النبي ذلك لكتبوا أو لأمروا بالكتابة، ولجمع الراشدون ما كتب وضبطوا ما وثقوا به، ولم يكتفوا بالقرآن والسنة المتبعة المعروفة للجمهور بجريان العمل بها).
أقول: قد بينا أن النبي ص لم يكتب مصحفًا، وأن أبا بكر وعمر وعثمان مدة من ولايته لم يكتبوا إلا مصحفًا واحدًا بقي عندهم لا يكاد يصل إليه أحد، فما بالك بالإرسال إلى العمال؟ وإن عثمان إنما كتب وبعث بضعة مصاحف إلى بعض الأقطار لمنع الناس من القراءة بخلاف ما فيها، وقد علمنا أنه لم يحفظ القرآن كله في عهد النبي ص إلا نفر يسير، أربعة أو نحوهم، وذكر ابن سعد وغيره أن أبابكر وعمر ماتا قبل أن يحفظا القرآن كله. وقد بعث النبي ص ثم أبو بكر ثم عمر جماعة من العمال لم يحفظ كل منهم القرآن كله ولا كان عنده مصحف، فهل يقال لهذا: إن القرآن لم يكن حينئذ من الدين العام؟ نعم، كان العامل يحفظ طائفة من القرآن ويعلم جملة من السنة، فكان يبلغ هذا وهذا. ومن عرف وضع الشريعة عرف الحقيقة: إن وضع الشريعة عدم الإعنات، وتوجيه معظم العناية إلى التقوى. كان كثير من أصحاب النبي ص هاجروا من مكة إلى الحبشة، ونزل بعدهم قرآن وأحكام، وجعلت كل من الظهر والعصر والعشاء أربعًا بعد أن كانت ركعتين، وحولت القبلة وغير ذلك، فلم ينقل أن النبي ص كان عقب تجدد حكم من هذه وغيرها يبعث رسلًا إلى من بالحبشة أو إلى غيرهم ممن بعد عنه يبلغهم ذلك، بل كان يدعهم على ماعرفوا حتى يبلغهم ما تجدد اتفاقًا، وجاء أنه صلى الظهر إلى الكعبة أول ما صلى إليها، فخرج ممن كان معه لحاجته فمر وقت العصر ببني حارثة -وهم في بعض أطراف المدينة – وهم يصلون العصر إلى بيت المقدس، فأخبرهم فاستداروا إلى الكعبة فأتموا صلاتهم. وهكذا تحريم الكلام في الصلاة وتحريم الخمر، ومن المتفق عليه فيما أعلم أنه ليس واجبًا على الأعيان33حفظ القرآن سوى الفاتحة، ولا تعلم القراءة والكتابة واتخاذ مصحف، ولا يجب على الرجل أن يتعلم الفريضة إلا قرب العلم بها. وإنما الواجب أن يكون في الأمة علماء، ثم على العامي أن يسأل عالمًا ويعمل بفتواه، وكان في عهد النبي ص وخلفائه يكتفى في العامل أن يكون -مع حفظه لما شاء الله من القرآن- عارفًا بطائفة حسنة من السنة ثم يقال له: إذا لم تجد الحكم في الكتاب ولا السنة فاسأل من ترجو أن يكون عنده علم، فإن لم تجد فاجتهد رأيك، وقد كان أبو بكر وعمر إذا لم يجدا الحكم في الكتاب ولا فيما يعلمانه من السنة سألا الصحابة، فإذا أخبرا بحديث أخذا به، وربما أخبرهما من هو دونهما في العلم والفضل بكثير. وترى في رسالة الشافعي عدة قضايا لعمر من هذا القبيل. وإذ كان الواجب على الأمة أن يكون فيها علماء كل منهم عارف بالقرآن عارف بجملة حسنة من السنة ليعمل ويفتي ويقضي بما علم، ويسأل من تيسر له من العلماء عما لم يعلم فإن لم يجد اجتهد فقد كان الصحابة يعلمون أن منهم عددًا كثيرًا هكذا وأن من تابعيهم عددًا كثيرًا كذلك لا يزالون في ازدياد، وأن حال من بعدهم سيكون كذلك، وأن القرآن والسنة موجودان بتمامهما عند أولئك العلماء مافات
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
أحدهم منهما فموجود عند غيره، رأوا أن هذا كاف في أداء الواجب عليهم مع الإيمان التام بأن الله تعالى حافظ لشريعته، نعم، فكروا في الاحتياط لجمع السنة فعرض لهم خشية أن يؤدي ذلك إلى محذور كما مر فكفوا عنه. مكتفين بما ظهر لهم من حرص المسلمين وما آمنوا به من حفظ رب العالمين. وغاية ما يخشى بعد هذا أن يجهل العالم شيئًا من السنة ولا يتيسر له من يخبره بها فيجتهد فيخطئ. وهذا في نظر الشرع ليس بمحذور كما علم مما مر في حال من كان من المسلمين بعيدًا عن المدينة إذ بقوا مدة يصلون الرباعية ركعتين ويتكلمون في الصلاة ويصلون إلى بيت المقدس ويستحلون الخمر بعد نزول الأحكام المخالفة لذلك حتى بلغتهم. وكما أذن الله تعالى أن يبني المسلم على ظنه وإن اتفق له أن ينكح أخته وهو لا يدري، وأن يقتل مسلمًا يحسبه كافرًا، وأن يأكل لحمًا يظنه حلالًا فبان لحم خنزير ميت وغير ذلك. إنما المحذور أن تدع الدليل الشرعي عمدًا اتباعًا منك لقول عالم قد يجهل ويذهل ويغفل ويغلط ويزل، وأشد من ذلك وأضر وأدهى وأمر ما يقول صاحب تلك النظرية: إن الدليل الشرعي إذا وجد قول لعالم يخالفه ينزل بذلك عن الدين العام اللازم إلى الدين الخاص الاختياري، من شاء أخذ ومن شاء ترك.34ومن خالف كل دليل من هذا القبيل مع علمه بها وعقله لها واقتصر على ما لم يخالفه أحد (كان مسلمًا ناجيًا في الآخرة مقربًاً عند الله تعالى) كما تقد م عنه (ص 16)، فهذا هو المحذور عند من يعقل. قال: (وبهذا يسقط قول من قال: إن الصحابة كانوا يكتفون في نشر الحديث بالرواية).
أقول: قد عرفت الحقيقة ولله الحمد، وعرفت ما هو الساقط.
قال: (وإذا أضفت إلى ذلك حكم عمر بن الخطاب على أعين الصحابة بما يخالف بعض تلك الأحاديث).
أقول: كان عليه أن يبينها، فإن كان يريد مطاعن الرافضة في أمير المؤمنين عمر فجوابها في منهاج السنة وغيره، ويكفينا هنا أن نسأله: هل علمت عمر ثبت عنده حديث فتركه لغير حجة قائلًا: لا يلزمنا الأخذ بالأحاديث؟
قال: (ثم ما جرى عليه علماء الأمصار في القرن الأول والثاني من اكتفاء الواحد منهم –كأبي حنيفة – بما بلغه ووثق به من الحديث وإن قل وعدم تعنيه في جمع غيره إليه ليفهم دينه ويبين أحكامه).
أقول: لزم أبو حنيفة حماد بن أبي سليمان يأخذ عنه مدة، وكان حماد كثير الحديث، ثم أخذ عن عدد كثير غيره كما تراه في مناقبه، وقلة الأحاديث المروية عنه لا تدل على قلة ما عنده، ذلك أنه لم يتصدى للرواية، وقد قدمنا أن العالم لا يكلف جمع السنة كلها، بل إذا كان عارفًا بالقرآن وعنده طائفة صالحة من السنة بحيث يغلب على اجتهاده الصواب كان له أن يفتي، وإذا عرضت قضية لم يجدها في الكتاب والسنة سأل من عنده علم بالسنة، فإن لم يجد اجتهد رأيه. وكذلك كان أبو حنيفة يفعل، وكان عنده في حلقته جماعة من المكثرين في الحديث كمسعر وحبان ومندل، والأحاديث التي ذكروا أنه خالفها قليلة بالنسبة إلى ما وافقه، وما من حديث خالفه إلا وله عذر لا يخرج إن شاء الله عن أعذار العلماء، ولم يدَّعِ هو العصمة لنفسه ولا ادعاها له أحد، وقد خالفه كبار أصحابه في كثير من أقواله، وكان جماعة من علماء عصره ومن قرب منه ينفرون عنه وعن بعض أقواله، فإن فرض أنه خالف أحاديث صحيحة بغير حجة بينة فليس معنى ذلك أنه زعم أن العمل بالأحاديث الصحيحة غير لازم، بل المتواتر عنه ما عليه غيره من أهل العلم أنها حجة، بل ذهب إلى أن القهقهة في الصلاة تنقض الوضوء اتباعًا لحديث ضعيف. [5] ومن ثم ذكر أصحابه أن من أصله تقديم الحديث الضعيف –بله الصحيح– على القياس.
قال: (قوي عندي ذلك الترجيح).
أقول: أما عند من يعرف دينه فهيهات.
35قال: (بل تجد الفقهاء بعد اتفاقهم على جعل الأحاديث أصلًا من أصول الأحكام الشرعية، وبعد تدوين الحفاظ لها في الدواوين وبيان ما يحتج به وما لا يحتج به لم يتفقوا على تحرير الصحيح والاتفاق على العمل به. فهذه كتب الفقه في المذاهب المتبعة -ولاسيما كتب الحنفية فالمالكية فالشافعية- فيها مئات من المسائل المخالفة للأحاديث المتفق على صحتها، ولا يعد أحد منهم مخالفًا لأصول الدين).
أقول: أما ما اعترفت به من اتفاقهم على أن الأحاديث الصحيحة أصل من أصول الأحكام الشرعية، فحجة عليك وعليهم مضافة إلى سائر الحجج. وأما عدم اتفاقهم على تحرير الصحيح وعدم اتفاقهم على العمل به فإنما حاصله أنهم يختلفون في صحة بعض الأحاديث، وذلك قليل بالنسبة إلى ما اتفقوا عليه، ويتوقف بعضهم عن الأخذ ببعضها بدعوى أنه منسوخ أو مؤول أو مرجوح، وليس في ذلك مخالفة للأصل الذي اتفقوا عليه.
فإن قيل: منهم من يتعمد رد الصحيح بدعوى ضعفه أو نسخه أو تأويله أو رجحان غيره عليه وهو يعلم أنه لا شيء من ذلك. قلنا: لنا الظاهر والله يتولى السرائر -على أنهم قد تراموا بهذا زمنًا طويلًا وجرت فتن وحروب ثم ملوا فمالوا إلى التجامل وحسن الظن غالبًا- وعلى كل حال فلا متشبث لك فيما ذكر، والفرق واضح بين من يستحل معلنًا قتل المؤمنين بغير حق، ومن يقول: قتل المؤمن حرام، ثم يتفق له أن يقتل مؤمنًا قائلًا: حسبته كافرًا حربيًا، وإن فرض دلالة القرائن على كذبه.
قال (وقد أورد ابن القيم في إعلام الموقعين شواهد كثيرة جدًا من رد الفقهاء للأحاديث الصحيحة عملًا بالقياس ولغير ذلك).
أقول: القياس في الجملة دليل شرعي. وعلى كل حال فلا متنفس لك في ذلك كما مر.
قال: (ومن أغربها أخذهم ببعض الحديث الواحد دون باقيه، وقد أورد لهذا أكثر من ستين شاهدًا).
أقول: نصف عليك، ونصف ليس لك.
ثم ذكر أبو رية (ص27-28) كلامًا قد تقدم جوابه مستوفي ولله الحمد.
الصحابة ورواية الحديث
36ذكر أبو رية (ص29) تحت هذا العنوان أن الصحابة: (كانوا يرغبون عن رواية الحديث، وينهون عنها، وأنهم كانوا يتشددون في قبول الأخبار تشديدًا قويًا).
أقول: دعوى عريضة، فما دليلها؟
قال: (روى الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ قال: ومن مراسيل ابن أبي مليكة «أن أبا بكر جمع الناس بعد وفاة نبيهم فقال: إنكم تحدثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها والناس بعدكم أشد اختلافًا، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئًا، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه».
أقول: قدم الذهبي في التذكرة قول أبي بكر للجدة: «ما أجد لك في كتاب الله شيئًا، وما علمت أن رسول الله ص ذكر لكِ شيئًا، ثم سأل الناس... إلخ».
فقضى بما أخبره المغيرة ومحمد بن مسلمة عن النبي ص. ثم ذكر الذهبي هذا الخبر -ولا ندري ما سنده إلى ابن أبي مليكة– وبين الذهبي أنه مرسل -أي منقطع- لأن ابن أبي مليكة لم يدرك أبا بكر ولا كاد، ومثل ذلك ليس بحجة، إذ لايدرى ممن سمعه، ومع ذلك قال الذهبي: (مراد الصديق التثبت في الأخبار والتحري، لا سد باب الرواية… ولم يقل: حسبنا كتاب الله كما تقوله الخوارج).
أقول: المتواتر عن أبي بكر رضي الله عنه، أنه كان يدين بكتاب الله تعالى وسنة رسوله، وأخذ بحديث «لا نورث» مع ما يتراءى من مخالفته لظاهر القرآن، وأحاديثه عن النبي ص موجودة في دواوين الإسلام، وقد استدل أبو رية كما مر (ص24) بما روي أن أبا بكر كتب خمسمائة حديث ثم أتلف الصحيفة وذكر ممما يخشاه إن بقيت قوله: «أو يكون قد بقي حديث لم أجده فيقال: لو كان قاله رسول الله ص ما خفي على أبي بكر».
وقد ذكر أهل العلم أن أصول أحاديث الأحكام نحو خمسمائة حديث. انظر إعلام الموقعين (2: 342) وفيه (1: 61) (عن ابن سيرين قال: «وإن أبا بكر نزلت به قضية فلم يجد في كتاب الله منها أصلًا ولا في السنة أثرًا فاجتهد رأيه ثم قال: هذا رأيي فإن كان صوابًا فمن الله.. » وفيه (1: 70) عن ميمون بن مهران قال: «كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله تعالى... وإن لم يجد في كتاب الله نظر في سنة رسول الله ص، فإن وجد فيها ما يقضي به قضى به، فإن أعياه ذلك سأل الناس: هل علمتم أن رسول الله ص قضى فيه... ».37وفيه (3: 379) «لا يحفظ للصديق خلاف نص واحدٍ أبدًا». وفي تاريخ الإسلام للذهبي (1: 381) في قصة طويلة عن أبي بكر: «وددت أني سألت رسول الله ص... وأني سألته عن العمة وبنت الأخ فإن في نفسي منها حاجة» فإن كان لمرسل ابن أبي مليكة أصل فكونه عقب الوفاة النبوية يشعر بأنه يتعلق بأمر الخلافة، كأن الناس عقب البيعة بقوا يختلفون يقول أحدهم: أبو بكر أهلها؛ لأن النبي ص قال كيت وكيت. فيقول آخر: وفلان قد قال له النبي ص كيت وكيت، فأحب أبو بكر صرفهم عن الخوض في ذلك وتوجيهم إلى القرآن وفيه: { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } ).
قال أبو رية: (وروى ابن عساكر عن [إبراهيم بن] عبد الرحمن بن عوف قال: «والله ما مات عمر بن الخطاب حتى بعث إلى أصحاب رسول الله فجمعهم من الآفاق: عبد الله بن حذيفة، وأبا الدرداء، وأبا ذر، وعقبة بن عامر قال: ما هذه الأحاديث التي أفشيتم عن رسول الله في الآفاق؟ قالوا: تنهانا؟ قال [لا]. أقيموا عندي، لا والله لا تفارقوني ما عشت، فنحن أعلم، نأخذ منكم ونرد عليكم، فما فارقوه حتى مات».
أقول: أخذ أبو رية هذا من كنز العمال (1: 239) وأسقط منه ما أضفته بين حاجزين. وفي خطبة كنز العمال (1: 3) إن كل ما عزى فيه إلى تاريخ ابن عساكر فهو ضعيف، وعبد الله بن حذيفة غير معروف، إنما في الصحابة عبد الله بن حذافة، وهو مقل جدًا لا يثبت عنه حديث واحد، فلا يصلح لهذه القصة. وفي سماع إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف من عمر خلاف والظاهر أنه لا يثبت، ثم إن هؤلاء النفر لم يكونوا جميع الصحابة، بل كان كثير جدًا من الصحابة في الأمصار والأقطار يحدثون.
قال أبو رية: (وفي رواية ابن حزم في الأحكام أنه حبس ابن مسعود وأبا موسى وأبا الدرداء في المدينة على الإكثار من الحديث).
أقول: هذا من أحكام ابن حزم (2: 39)، وتعقبه بقوله: (مرسل ومشكوك فيه… ثم هو في نفسه ظاهر الكذب والتوليد.. ) وسيأتي الكلام في الإكثار.
قال (ص30): (وروى ابن عساكر عن السائب بن يزيد قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي هريرة «لتتركن الحديث عن رسول الله أو لألحقنك بأرض دوس». وقال لكعب الأحبار: لتتركن الحديث [عن الأول] أو لألحقنك بأرض القردة).
38أقول: قد علمت حال تاريخ ابن عساكر، وقد أعاد أبو رية هذا الخبر (ص163) ويأتي الكلام عليه هناك وبيان سقوطه. وأسقط أبو رية هنا كلمة "عن الأول" لغرض خبيث، وصنع مثل ذلك (ص115) و(ص126)، وفعل (ص163) فعلة أخرى، ويأتي شرح ذلك في الكلام عليها إن شاء الله.
قال: (وكذلك فعل معهما عثمان بن عفان).
أقول: لم يعزه، ولم أجده.
قال: (وروى ابن سعد وابن عساكر عن محمود بن لبيد [6] قال سمعت عثمان بن عفان على المنبر يقول: «لا يحل لأحد يروي حديثًا لم يسمع به في عهد أبي بكر ولا عهد عمر، فإنه لم يمنعني أن أحدث عن رسول الله أن لا أكون أوعى أصحابه، إلا أني سمعته يقول: من قال عليَّ ما لم أقل فقد تبوأ مقعده من النار».
أقول: هو عند ابن سعد عقب السيرة النبوية في باب: (ذكر من كان يفتي بالمدينة) رواه ابن سعد عن محمد بن عمر الأسلمي وهو الواقدي أحد المشهورين بالكذب، وكان ابن عساكر رواه من طريقه، وحال تاريخ ابن عساكر قد مر، وأحاديث عثمان ثابتة في أمهات الحديث كلها، ولم يزل يحدث حتى قتل.
قال: وفي جامع بيان العلم… عن الشعبي عن قرظة بن كعب قال: «خرجنا نريد العراق، فمشى معنا عمر إلى صرار ثم قال لنا: أتدرون لِمَ مشيت معكم؟ قلنا أردت أن تشيعنا وتكرمنا، قال: إن مع ذلك لحاجة خرجت لها، إنكم لتأتون بلدة لأهلها دويّ كدوي النحل، فلا تصدوهم بالأحاديث عن رسول الله وأنا شريككم». قال قرظة: «فما حدثت بعده حديثًا عن رسول الله... » وفي رواية أخرى: «إنكم تأتون أهل قرية لها دوي بالقرآن كدوي النحل، فلا تصدوهم بالأحاديث لتشغلوهم، جردوا القرآن، وأقلوا الرواية عن رسول الله».
وفي الأم للشافعي «... فلما قدم قرظة قالوا: حدثنا. قال: نهانا عمر».
أقول اختلف في وفاة قرظة والأكثرون أنها كانت في خلافة علي، ووقع في صحيح مسلم في رواية ما يدل أنه تأخر بعد ذلك ولعلها خطأ. وسماع الشعبي منه غير متحقق، وقد جزم ابن حزم في الإحكام (2/138) بأنه لم يلقه، وردّ هذا الخبر وبالغ كعادته، ومما قاله: إن عمر نفسه رويت عنه خمسمائة حديث ونيف، فهو مكثر بالقياس إلى المتوفين قريبًا من وفاته. أقول: مع اشتغاله بالوزارة لأبي بكر ثم بالخلافة. وكذلك رده ابن عبد البر في كتاب العلم (2/121-123) وأطال، قال: (والآثار الصحاح عنه -أي: عمر – من رواية أهل المدينة بخلاف حديث قرظة هذا، وإنما يدور على بيان عن الشعبي وليس مثله حجة في هذا الباب؛ لأنه يعارض السنة والكتاب) وذكر آيات وأحاديث وآثارًا عن عمر في الحض على تعلم السنن، والشعبي لم يذكر في طبقات المدلسين، لكن ذكر أبو حاتم في ترجمة سليمان بن قيس اليشكري أن أكثر ما يرويه الشعبي عن جابر إنما أخذه الشعبي من صحيفة سليمان بن قيس اليشكري عن جابر، وهذا تدليس. ثم أقول: كان قد تجمع في العراق كثير من العرب من أهل اليمن وغيرهم وشرعوا في تعلم القرآن، فكره عمر أن يشغلوا عنه بذكر مغازي النبي ونحوها من أخباره التي لا حكم فيها. ولا مانع أن يجب39فيما فيه حكم أن تتوخى به الحاجة، وإن كان الخبر الآتي يخالف هذا.
قال: وكان عمر يقول: «أقلوا الرواية عن رسول الله إلا فيما يعمل به».
أقول: عزاه إلى البداية والنهاية، وهو فيها عن الزهري، ولم يدرك عمر. وعلق عليه أبو رية قوله: (أي السنة العملية) فإن أراد اصطلاح شيخه: (السنة العملية المتواترة) فلا يخفى بطلانه؛ لأن هذا اصطلاح محدث، وإنما المراد ما يترتب عليه عمل شرعي، فيدخل في ذلك جميع الأحكام والآداب وغيرها، ولا يخرج إلا القصص ونحوها، استحب الإقلال من القصص ونحوها، ولم يمنع من الإكثار فيما فيه عمل.
ثم قال: (ولا غرابة في أن يفعل عمر ذلك؛ لأنه كان لا يعتمد إلا على القرآن والسنة العملية، فقد روى البخاري عن ابن عباس «أنه لما حضر النبي وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب قال النبي: هلم أكتب لكم كتابًا لن تضلوا بعده. فقال عمر: إن النبي غلبه الوجع، وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله».
أقول: تكلم بعض المتأخرين في هذا الحديث وذكر أنه لوكانت الواقعة بنحو هذه الصورة لما أغفل الصحابة ذكرها والتنويه بشأنها، فما باله لم يذكرها إلا ابن عباس مع أنه كان صغيرًا يؤمئذ. ويميل هذا المتأخر إلى أنها كانت واقعة لا تستحق الذكر تجسمت في ذهن ابن عباس واتخذت ذاك الشكل، والذي يهمنا هنا أن نتبين أنه من المعلوم يقينًا أن عمر لا يدعي كفاية كتاب الله عن كل ما سواه بما فيه بيان الصلاة والزكاة والحج وغير ذلك، إذن فإنما ادعى كفاية القرآن عن أمر خاص، ودلالة الحال تبين أنه ذاك الكتاب الذي عرض عليهم النبي أن يكتبه لهم. والظاهر أنه قد كان جرى ذكر قضية خاصة بدا للنبي أن يكتب لهم في شأنها، فرأى عمر أن حكمها في القرآن، وأن غاية ما سيكون في ذاك الكتاب تأكيد أو زيادة توضيح أو نحو ذلك، فرأى أنه لا ضرورة إلى ذلك مع ما فيه من المشقة على النبي في شدة وجعه.
هذا وفي رسالة الشافعي (ص422-445)، وإعلام الموقعين (1: 61-98، 74)، وأحكام ابن حزم (2: 137-141) وكتاب العلم لابن عبد البر (2: 121-124) وغيرها آثار كثيرة تبين تمسك عمر بالأحاديث والسنن، ورجوعه إليها، وعنايته بها، وحثه على تعلمها وتعليمها، وأمره باتباعها، فمن أحب فليراجعها، ومعنى ذلك في الجملة متواتر.
قال أبو رية (ص31) (وروى ابن سعد في الطبقات عن السائب بن يزيد أنه صحب سعد بن أبي وقاص من المدينة إلى مكة، قال: فما سمعته يحدثنا حديثًا عن النبي حتى رجع). أقول: أحاديث سعد موجودة في كتب الإسلام، وقد قدمنا أن جماعة من الصحابة كانوا لا يحبون أن يحدثوا في غير وقت الحاجة.
قال: «وسئل عن شيء فاستعجم وقال: إني أخاف أن أحدثكم واحدًا فتزيدوا عليه المائة».
أقول: هذا في الطبقات من طريق سعد، وهو ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن خالته (كذا، ولعل الصواب: عن خاليه) أنهم دخلوا على سعد ابن أبي وقاص فسئل… إلخ. وأحاديث أبناء سعد عنه كثيرة، والظاهر أنه كان معهم هذه المرة من لا يأتمنه سعد، ولعلهم سألوه عن شيء يتعلق بما جرى بين الصحابة.
قال: (وعن عمرو بن ميمون قال: «اختلفت إلى عبد الله بن مسعود سنة فما سمعته فيها يحدث عن رسول الله ولا يقول قال رسول الله، إلا أنه حدث ذات يوم بحديث فجرى على لسانه قال رسول الله فعلاه الكرب حتى رأيت العرق يتحدر عن جبينه ثم قال: إن شاء الله، إما فوق ذاك أو قريبًا من ذاك وإما دون ذلك» وفي رواية عند ابن سعد عن علقمة بن قيس «أنه كان يقوم قائمًا كل عشية خميس، فما سمعته في عشية منها يقول قال رسول الله غير مرة واحدة فنظرت إليه وهو يعتمد على عصا فنظرت إلى العصا تزعزع».
أقول: رواية عمرو بن ميمون انفرد بها -فيما أعلم- مسلم البطين واضطرب فيها على أوجه، راجع مسند أحمد الحديث (3670)، وفي بعض الطرق التقييد بيوم الخميس وذلك أن ابن مسعود كان يقوم يوم الخميس يعظ الناس بكلمات. وأما رواية علقمة هذا ولهذين وغيرهما عن ابن مسعود عن النبي ص أحاديث كثيرة في دواوين الإسلام، وأما كربُ ابنِ مسعود فالظاهر أنه عرض له تشكك في ضبطه لذلك الحديث. ولهذا قال: «إن شاء الله... إلخ» والأحاديث الصحيحة عنه بالجزم كثيرة، وراجع ما تقدم عنه (ص 13).
قال: «وسأل مالك بن دينار ميمون الكردي أن يحدث عن أبيه الذي أدرك النبي وسمع منه فقال: كان أبي لا يحدثنا عن النبي مخافة أن يزيد أم ينقص».
41أقول: لم يعزه ولم أعثر عليه، ووالد ميمون الكردي لا يكاد يعرف. وقد ذكر في أسد الغابة والإصابة باسم (جابان) ولم يذكروا له شيئًا إلا أنه وقع بسند ضعيف عن ميمون عن أبيه، فذكر حديثًا لا يصح وفيه اضطراب.
قال: وأخرج الدارقطني عن عبد الرحمن بن كعب قال: «قلت لأبي قتادة حدثني بشيء سمعته من رسول الله ص، قال: أخشى أن يزل لساني بشيء لم يقله رسول الله».
أقول: قد قدمنا أنهم كانوا لا يحبون التحديث عند عدم الحاجة، وأحاديث أبي قتادة موجودة في دواوين الإسلام.
قال: (وروى ابن الجوزي في كتاب دفع شبهة التشبيه قال: «سمع الزبير رجلًا يحدث، فاستمع الزبير حتى قضى الرجل حديثه، قال له الزبير: أنت سمعت هذا من رسول الله؟ فقال الرجل: نعم. فقال: هذا وأشباهه مما يمنعني أن أتحدث عن النبي ص. قد لعمري سمعت هذا من رسول الله ص وأنا يؤمئذ حاضر، ولكن رسول الله ص ابتدأ بهذا الحديث فحدثناه عن رجل من أهل الكتاب حديثه يومئذ، فجئت أنت بعد انقضاء صدر الحديث، وذكر الرجل الذي هو من أهل الكتاب فظننت أنه من حديث رسول الله ص».
أقول: أسنده البيهقي في الأسماء والصفات (ص258ط الهند): (أخبرنا أبو جعفر الغرابي [7] أخبرنا أبو العباس الصبغي حدثنا الحسن بن علي بن زياد حدثنا ابن أبي أويس حدثني ابن أبي الزناد عبد الرحمن عن هشام بن عروة عن [عبد الله بن] [8] عروة بن الزبير أن الزبير بن العوام سمع رجلًا…) أبو جعفر لم أعرفه، والصبغي هو محمد بن إسحاق بن أيوب مجروح، وابن أبي الزناد فيه كلام، وعبد الله بن عروة ولد بعد الزبير بمدة فالخبر منقطع. وكأنه مصنوع.
قال (ص32): (وأخرج البخاري والدارقطني عن السائب بن يزيد قال: «صحبت عبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص والمقداد بن الأسود فلم أسمع الواحد منهم يحدث عن رسول الله».
أقول: قد حدثوا، وسمع منهم غير السائب، وحدث من هو خير منهم الخلفاء الأربعة والكثير الطيب من الصحابة رضي الله عنهم. وانتظر.
قال: (وأخرج أحمد وأبو يعلى عن دجين… إلخ).
أقول: دجين أعرابي ليس بشيء في الرواية، وترجمته في لسان الميزان وفيها نحو هذا مع اختلاف.
قال: (وقال عمران بن حصين: «والله إن كنت لأرى أني لو شئت لحدثت عن رسول الله ص يومين متتابعين، ولكن بطأني من ذلك أن رجالًا من أصحاب رسول الله ص سمعوا كما سمعت وشهدوا كما شهدت ويحدثون أحاديث ما هي كما يقول، وأخاف أن يشبه لي كما شبه لهم) فأعلمك أنهم كانوا يغلطون (وفي نسخة: يخطئون) لأنهم كانوا يتعمدون».
أقول: هذا ذكره ابن قتيبة في مختلف الحديث (ص49) فقال: (روى مطرف بن عبد الله أن عمران بن حصين قال…) ولم يذكر سنده. وقوله (فأعلمك… إلخ) عن كلام ابن قتيبة.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 7 (0 من الأعضاء و 7 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)