القضية الثالثة: الحديث مخالف للقرآن: (في نفيه السحر عنه وعده من افتراء المشركين عليه… مع أن الذي قصده المشركون ظاهر؛ لأنهم كانوا يقولون: إن الشيطان يلابسه عليه السلام، وملابسة الشيطان تعرف بالسحر عندهم وضرب من ضروبه، وهو بعينه أثر السحر الذي نسب إلى لبيد… وقد جاء بنفي السحر عنه عليه السلام حيث نسب القول بإثبات حصول السحر له إلى المشركين أعدائه ووبخهم على زعمهم هذا، فإذًا هو ليس بمسحور قطعًا).
أقول: كان المشركون يعلمون أنه لا مساغ لأن يزعموا أنه يفتري -أي يتعمد- الكذب على الله عز وجل فيما يخبر به عنه، ولا لأنه يكذب في ذلك مع كثرته غير عامد، فلجؤوا إلى محاولة تقريب هذا الثاني. بزعم أن له اتصالًا بالجن، وأن الجن يلقون إليه ما يلقون فيصدقهم ويخبر الناس بما ألقوه إليه، هذا مدار شبهتهم، وهو مرادهم بقولهم: به جنة، مجنون، كاهن، ساحر، مسحور، شاعر، كانوا يزعمون أن للشعراء قرناء من الجن تلقي إليهم الشعر فزعموا أنه شاعر -أي أن الجن تلقي إليه كما تلقي إلى الشعراء- ولم يقصدوا أنه يقول للشعر أو أن القرآن شعر.
إذا عرف هذا فالمشركون أرادوا بقولهم: { إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلًا مَسْحُورًا } أن أمر النبوة كله سحر وأن ذلك ناشئ عن الشياطين استولوا عليه -بزعمهم- يلقون إليه القرآن ويأمرونه وينهونه فيصدقهم في ذلك كله ظانًا أنه إنما يتلقى من الله وملائكته. ولا ريب أن الحال التي ذكر في الحديث عروضها له لفترة خاصة ليست هي هذه التي زعمها المشركون، ولا هي من قبلها في شيء من الأوصاف المذكورة، إذن تكذيب القرآن وما زعمه المشركون لا يصح أن يؤخذ منه نفيه لما في الحديث.
فإن قيل: قد أطلق على تلك الحالة أنها سحر، ففي الحديث عن عائشة: «سحر رسول الله رجل…» والسحر من الشياطين، وقد قال الله تعالى للشيطان: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ }.
قلت: أما الذي أخبر به النبي عن الملك فإنما سماها طبًا كما مر في الحديث، وقد أنشد ابن فارس في مقاييس اللغة (3: 408):
فإن كنت مطبوبًا فلا زلت هكذا ** وإن كنت مسحورًا فلا برأ السحر
وأقل ما يدل عليه هذا أن الطب أخص من السحر، وأن من الأنواع التي يصاب بها الإنسان ويطلق184عليها سحر ما يقال له: (طب) وما لا يقال (طب) وعلى كل حال فالذي ذكر في الحديث ليس من نوع ما زعمه المشركون، ولا هو من ملابسة الشيطان، وإنما هو أثر نفس الساحر وفعله، وقد قدمت أن وقوع أثر ذلك نادر فلا غرابة في خفاء تفسيره. وهذا يغني عما تقدم (ص 98).
ثم نقل أبو رية (ص261) فصلًا عن صاحب المنار فيه: (إن بعض أحاديث الآحاد تكون حجة على من ثبتت عنده واطمأن قلبه بها، ولا تكون حجة على غيره يلزم العمل بها).
أقول: عدم الثبوت والطمأنينة قد يكون لسبب بين، وقد يكون لسبب محتمل يقوي عند بعض أهل العلم ويضعف عند بعضهم، وقد يكون لما دون ذلك من هوى وزيغ وارتياب وتكذيب، وعلى الأمة أن تنزل كل واحد من هؤلاء منزلته بحسب ما يتبين من حاله، وكما أننا إذا رأينا من يتعبد عبادة غير ثابتة شرعًا فسألته فذكر حديثًا باطلًا فبينا له ذلك فقال: هو ثابت عندي مطمئن به قلبي. كان علينا أن ننكر عليه، وكان على ولي الأمر ومن في معناه منعه ومعاقبته، فكذلك إذا رأينا رجلًا ينفي حديثًا ثابتًا وبينا له ثبوته فقال: لم يثبت عندي ولم يطمئن به قلبي. ولم يذكر سببًا، أو ذكر سببًا لا يعتد به شرعًا.
قال: (ولذلك لم يكن الصحابة يكتبون جميع ما سمعوا من الأحاديث ويدعون إليها…)
أقول: قد تقدم الكشف عن هذا (ص20-50).
قال: (ولم يرض الإمام مالك من الخليفتين المنصور والرشيد أن يحمل الناس على العمل بكتبه حتى الموطأ).
أقول: إنما أنكر الإلزام بالموطأ؛ لأنه يعلم أن فيه أحاديث أخذ بها هو وقد يكون عند غيره ما يخصصها، أو يقيدها أو يعارضها، وفيه توقف عن أحاديث قد يكون عند غيره ما يقويها ويؤيدها، وقد يكون عند غيره أحاديث لم يقف عليها هو. وفيه كثير مما قاله باجتهاده وفي الأمة علماء لهم أن يجتهدوا ويعملوا بما رجح عندهم وإن خالفوا مالكًا، وفوق هذا كله فهو يعلم أنه بنى على ما فهمه من القرآن ومن الأحاديث التي ذكرها، وأن في علماء الأمة من يخالفه في بعض ذلك الفهم. وعلى كل حال فليس في امتناع مالك من إلزام الأمة كلها علمائها وعامتها بقوله ما يقتضي أن لا يلزم بالعمل بالحديث من يعلم أنه ليس عنده من يخالفه إلا الهوى والزيغ والارتياب والتكذيب والعناد.
ثم قال (ص262): (وإنما يجب العمل…) كرر معنى ما تقدم.
185قال: (أحاديث الآحاد لا يؤخذ بها في العقائد…).
أقول: راجع (ص182).
قال: (وكل من ظهر له علة في رواية حديث فلم يصدق رفعه لأجلها فهو معذور كذلك).
أقول: الصواب في هذا أن ينظر في تلك العلة ويعامل صاحبها بما يستحق كما مر.
قال: (ولا يصح أن يقال إنه مكذب لحديث كذا).
أقول: أما إن زعم أنه كذب فهو مكذب له، ولا يضره ذلك ما لم يلزمه أحد أمرين: إما تكذيب النبي ، وإما تكذيب صادق بغير حجة.
قال: (وهي تفيد الظن).
أقول: وفي هذا كلام معروف.
قال: (ومن القواعد الجليلة… أن طروء الاحتمال في المرفوع من وقائع الأحوال يكسوها ثوب الإجمال فيسقط به الاستدلال).
أقول: موضع هذا أن يحتمل الخبر وجهين ولا دليل فيه على أحدهما، فأما إذا كان أحدهما راجحًا فالحكم له.
ثم قال أبو رية (ص263) (ليس في الحديث متواتر…).
أقول: من نفى هذا إنما نفى التواتر اللفظي، فأما المعنوي فكثير، فلتراجع الكتب التي نقل عنها.
وذكر في الحاشية حديث الحوض، وكأنه استهزأ به، ومن استهزأ به فليس من أهله.
ثم ذكر شيئًا من تقسيم العلماء للحديث، إلى أن قال (ص267): (تعدد طرق الحديث لا يقويها. قال العلامة السيد رشيد رضا: يقول المحدثون في بعض الأحاديث حتى التي لم يصح لها سند: إن تعدد طريقها يقويها وهي قاعدة للمحدثين لم يشر إليها الله في كتابه ولا ثبتت في سنته عن رسوله، وإنما هي مسألة نظرية غير مطردة).
أقول: أما إطلاق أبي رية في العنوان فباطل قطعًا كما سترى. وأما إشارة القرآن فيمكن إثباتها باشتراط القرآن العدد في الشهود وقوله تعالى: { إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ }، ومن السنة حديث ذي اليدين، والمعقول واضح. نعم قوله: (غير مطردة) حق لا ريب فيه، بل أزيد على ذلك أن بعض الأخبار يزيده تعدد الطرق وهنًا، كأن يكون الخبر في فضل رجل من كل طريق من طرق كذاب أو متهم ممن يتعصب له أو مغفل أو مجهول.
186قال: (فتعدد الطرق في مسألة مقطوع ببطلانها شرعًا كمسألة الغرانيق أو عقلًا لا قيمة له لجواز اجتماع تلك الطرق على الباطل).
أقول: أما الباطل يقينًا فلا يفيده التعدد شيئًا، بل يبعد جدًا أن تتعدد طرقه تعددًا يفيده قوة قوية، نعم قد يختلف المتن في الجملة ويكون الحكم بالبطلان إنما هو بالنظر إلى ما وقع في بعض الطرق، وقد يكون ذلك الخطأ وقع فيه وقد يفهم الناظر معنى بحكم بطلانه، وللخبر معنى آخر مستقيم، وكثيرًا ما يقع الخلل في الحكم بالبطلان.
مالك والموطأ
وقال أبو رية (ص 269): (كتب الحديث المشهورة) ثم ذكر الموطأ وذكر أشياء ينبغي مراجعة مصادرها، إلى أن قال (ص273): (قال ابن معين: إن مالكًا لم يكن صاحب حديث، بل كان صاحب رأي).
أقول: لم يذكر مصدره إن كان له مصدر، ومن المتواتر ثناء ابن معين البالغ على مالك بمعرفة الحديث ورواته والإتقان والتثبت، وليس من شأن ابن معين النظر في الفقه.
قال: (وقال الليث بن سعد: أحصيت على مالك سبعين مسألة وكلها مخالفة لسنة الرسول).
أقول: قد عرفنا أن مالكًا ربما توقف عن الأخذ بالحديث لاعتقاده أنه منسوخ أو نحو ذلك، وقد تبنى على الحديث الواحد مئات من المسائل، وقد قال مالك: «إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي فما وافق السنة فخذوا به». [60]
قال: (وقد اعترف مالك بذلك).
أقول: لم يذكر مأخذه حتى نبين له غلطه أو مغالطته.
قال: (وألف الدارقطني جزءًا فيما خولف فيه مالك من الأحاديث في الموطأ وغيره، وفيه أكثر من عشرين حديثًا).
أقول: منها ما الصواب فيه مع مالك، ومنها ما كلا الوجهين صحيح، ومنها ما الاختلاف فيه في أمر لا يضر.
البخاري
ثم قال: (البخاري وكتابه…) إلى أن قال: (ص274) (كان البخاري يروي بالمعنى…).
أقول: تقدم النظر في ذلك (ص95).
قال: (قال ابن حجر: من نوادر ما وقع في البخاري أنه يخرج الحديث تامًا بإسناد واحد بلفظين…).
أقول: عزاه إلى فتح الباري (10: 186) وإنما هو في (10: 193) من الطبعة الأولى الميرية، وبين ابن حجر هناك أن اختلاف اللفظ وقع ممن فوق البخاري لا من البخاري، فراجعه، وتعجب من أمانة أبي رية!
187ثم قال: (موت البخاري قبل أن يبيض كتابه. يظهر أن البخاري مات قبل أن يتم تبييض كتابه، فقد ذكر ابن حجر في مقدمة فتح الباري أن أبا إسحاق إبراهيم بن أحمد المستملي قال: انتسخت كتاب البخاري من أصله الذي كان عند صاحبه محمد بن يوسف الفربري، فرأيت فيه أشياء لم تتم، وأشياء مبيضة، منها تراجم لم يثبت بعدها شيئًا، ومنها أحاديث لم يترجم لها. فأضفنا بعض ذلك إلى بعض. قال أبو الوليد الباجي: ومما يدل على صحة هذا القول أن رواية أبي إسحاق المستملي ورواية… مختلفة بالتقديم والتأخير، مع أنهم انتسخوا من أصل واحد، وإنما ذلك بحسب ما قدر كل واحد منهم فيما كان في طرق أو رقعة مضافة أنه من موضع ما أضافه إليه. ويبين ذلك أنك تجد ترجمتين أو أكثر من ذلك متصلة ليس بينهما أحاديث).
أقول: قول أبي رية: (قبل أن يبيض) يوهم احتمال أن يكون في النسخة ما لم يكن البخاري مطمئنًا إليه على عادة المصنفين، يستعجل أحدهم في التسويد على أن يعود فينقح. وهذا باطل هنا، فإن البخاري حدث بتلك النسخة وسمع الناس منه منها وأخذوا لأنفسهم نسخًا في حياته، فثبت بذلك أنه مطمئن إلى جميع ما أثبته فيها. لكن ترك مواضع بياضًا رجاء أن يضيفها فيما بعد فلم يتفق ذلك، وهي ثلاثة أنواع: الأول: أن يثبت الترجمة وحديثًا أو أكثر ثم يترك بياضًا لحديث كان يفكر في زيادته وأخرّ ذلك لسبب ما ككونه كان يحب إثباته كما هو في أصله ولم يتيسر له الظفر به حينئذ.
الثاني: أن يكون في ذهنه حديث يرى إفراده بترجمة فيثبت الترجمة ويؤخر إثبات الحديث لنحو ما مر.
الثالث: أن يثبت الحديث ويترك قبله بياضًا للترجمة؛ لأنه يعني جدًا بالتراجم ويضمنها اختياره وينبه فيها على معنى خفي في الحديث أو حمله على معنى خاص أو نحو ذلك. فإذا كان مترددًا ترك بياضًا ليتمه حين يستقر رأيه. وليس في شيء من ذلك ما يوهم احتمال خلل في ما أثبته. فأما التقديم والتأخير فالاستقرار يبين أنه لم يقع إلا في الأبواب والتراجم؛ يتقدم أحد البابين في نسخة ويتأخر في أخرى، وتقع الترجمة قبل هذا الحديث في نسخة وتتأخر عنه في أخرى فيلتحق بالترجمة السابقة، ولم يقع من ذلك ما يمس سياق الأحاديث بضرر. وفي مقدمة الفتح بعد العبارة السابقة: (قلت: وهذه قاعدة حسنة يفزع إليها حيث يتعسر وجه الجمع بين الترجمة والحديث وهي مواضع قليلة جدًا).
ثم قال أبو رية (ص275): (وقد انتقده الحفاظ في عشرة ومائة حديث، منها (32) حديثًا وافقه مسلم على إخراجها).
أقول: قد ساقها الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح وبين حالها، ومن تدبر ذلك علم أن الأمر فيها هين،188ليس فيه ما يحط من قدر البخاري وصحيحه.
قال: (وكذلك ضغف الحفاظ من رجال البخاري نحو ثمانين رجلًا…).
أقول: سيأتي النظر في هذا قريبًا.
قال: (وقال السيد محمد رشيد رضا بعد أن عرض للأحاديث المتنقدة على البخاري ما يلي: إذا قرأت ما قاله الحافظ فيها رأيتها كلها في صناعة الفن… ولكنك إذا قرأت الشرح نفسه رأيت له في أحاديث كثيرة إشكالات في معانيها أو تعارضها مع غيرها مع محاولة الجمع بين المختلفات وحل المشكلات بما يرضيك بعضه فوق بعض).
أقول: السيد رشيد رضا وغيره يعلمون أن في القرآن آيات يشكل بعضها على كثير من الناس، وآيات يتراءى فيها التعارض. والذين فسروا القرآن ومنهم السيد رشيد يحاولون حل ما يتراءى إشكاله والجمع بين ما يتراءى تعارضه (بما يرضيك بعضه دون بعض). والقرآن كله حق: { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ }. فثبت بهذا أن ما ذكره السيد رشيد رضا في تلك الأحاديث لا تصلح دليلًا على البطلان.
هذا وللاستشكال أسباب، أشدها استعصاء أن يدل النص على معنى هو حق في نفس الأمر لكن سبق لك أن اعتقدت اعتقادًا جازمًا أنه باطل.
وقال (ص276): (وقال الدكتور أحمد أمين:.. إن بعض الرجال الذين روى لهم البخاري غير ثقات، وقد ضعف الحافظ من رجال البخاري فوق الثمانين).
أقول: هذا الأمر يتراءى مهولًا، فإذا تدبرنا حال أولئك الثمانين واستقرأنا ما أخرجه البخاري لهم اتضح أن الأمر هين، وقد ساق الحافظ ابن حجر في مقدمة فتح الباري تراجم هؤلاء وما قيل فيهم من مدح وقدح وما أخرجه لهم البخاري فذكر في أولهم ممن اسمه أحمد تسعة نفر اختلف فيهم وغالبهم من شيوخ البخاري الذين لقيهم واختبرهم، فثلاثة منهم اتضح أنهم ثقات وأنّ قدح من قدح فيهم ساقطًا كما تراه جليًا في مقدمة الفتح. وثلاثة فيهم كلام، وإنما أخرج لكل واحد منهم حديثًا واحدًا متابعة، يروي البخاري الحديث عن ثقة أو أكثر ويرويه مع ذلك عن ذاك المتكلم فيه، واثنان روى عن كل منهما أحاديث189يسيرة متابعة أيضًا. التاسع: أحمد بن عاصم البلخي ليس له في الصحيح نفسه شيء ولكن المستملي -أحد رواة الصحيح عن الفربري عن البخاري– أدرج في باب رفع الأمانة من الرقاق قوله: (قال الفربري: قال أبو جعفر حدثت أبا عبد الله البخاري فقال: سمعت أبا [جعفر] أحمد بن عاصم يقول: سمعت أبا عبيد يقول قال الأصمعي وأبو عمرو وغيرهما: جذور قلوب الرجال – الجذر: الأصل من كل شيء، والوكت: أثر الشيء).
هذا هو التحقيق، وإن وقع في التهذيب ومقدمة الفتح ما يوهم خلافه، وراجع الفتح (11: 286).
وإذا قد عرفت حال التسعة الأولين فقس عليهم الباقي، وإن شئت فراجع وابحث يتضح لك أن البخاري عن اللوم بمنجاة.
ثم قال أحمد أمين: (وفي الواقع هذه مشكلة المشاكل، فالوقوف على أسرار الرجال محال؛ نعم، إن من زل زلة واضحة سهل الحكم عليه، ولكن ماذا يصنع بمستور الحال)؟
أقول: الخبير الممارس لأحوال الناس وطباعهم وللرواية وأحوال الرواة وما جرى عليه أئمة النقد يتبين له أن الله تعالى قد هيأ الأسباب لبيان الحق من الباطل، وراجع (ص55 و 62).
قال: (ثم إن أحكام الناس على الرجال تختلف كل الاختلاف، فبعض يوثق رجلًا وآخر يكذبه، والبواعث النفسية على ذلك لا حد لها…).
أقول: إذا نظرنا إلى الواقع فعلًا انقشع هذا الضباب، حسبك أن رجال البخاري يناهزون ألفي رجل، وإنما وقع الاختلاف في ثمانين منهم، وقد عرضت سابقًا حال الثمانين.
قال: (ولعل من أوضح ذلك عكرمة مولى ابن عباس…).
أقول: ترجمة عكرمة في مقدمة فتح الباري فليراجعها من أحب، أما البخاري فكان الميزان بيده؛ لأنه كان يعرف عامة ما صح عن عكرمة أنه حدث به فاعتبر حديثه بعضه ببعض من رواية أصحابه كلهم فلم يجد تناقضًا ولا تعارضًا ولا اختلافًا لا يقع مثله في أحاديث الثقات، ثم اعتبر أحاديث عكرمة عن ابن عباس وغيره بأحاديث الثقات عنهم فوجدها يصدق بعضها بعضًا، إلا أن ينفرد بعضهم بشيء له شاهد في القرآن أو من حديث صحابي آخر. فتيبن للبخاري أنه ثقة. ثم تأمل ما يصح من كلام من تكلم فيه فلم يجد حجة تنافي ما تبين له.
قال: فابن جرير الطبري يثق به كل الثقة، ويملأ تفسيره وتاريخه بأقواله والرواية عنه.
190أقول: نعم يثق به ابن جرير، لكن ليس روايته عنه في تفسيره وتاريخه بدليل على ذلك، فإنه كثيرًا ما يروي فيهما عمن ليس بثقة عنده ولا عند غيره؛ لأنه لم يلتزم الصحة.
قال: (مسلم ترجح عنده كذبه فلم يروِ له إلا حديثًا واحدًا في الحج، ولم يعتمد فيه عليه وحده وإنما ذكره تقوية لحديث سعيد بن جبير).
أقول: كلمة (كذبه) لا وجه لها، ويردها ما بعدها، فإن من استقر الحكم عليه بأنه متهم بالكذب لا يتقوى بروايته أصلًا ولا سيما في الصحيح، لكن لعل مسلمًا لم يتجشم ما تجشم البخاري من تتبع حديث عكرمة واعتباره، فلم يتبين له ما تبين للبخاري، فوقف عن الاحتجاج بعكرمة.
ثم ساق أبو رية فصولًا لم أنعم النظر فيها، وفيها مواضع قد تقدم الكلام فيها، إلى أن قال (ص300): (المحدثون لا يعنون بغلط المتون، والمحدثون قلما يحكمون على الحديث بالاضطراب إذا كان الاختلاف فيه واقعًا في نفس المتن؛ لأن ذلك ليس من شأنهم من جهة كونهم محدثين، وإنما هو من شأن المجتهدين، وإنما يحكمون على الحديث بالاضطراب إذا كان الاختلاف فيه في نفس الإسناد؛ لأنه من شأنهم).
أقول: الاختلاف في المتن على أضرب:
الأول: ما لا يختلف به المعنى. وهذا ليس باضطراب.
الثاني: ما يختلف به معنى غير المعنى المقصود، وهذا قريب من سابقه، ومنه القضية التي استدل بها أبو رية في عدة مواضع يحسب أنه قد ظفر بقاصمة الظهر للحديث النبوي! وهي الاختلاف والشك في الصلاة الرباعية التي سها فيها النبي فسلم من ركعتين فنبهه ذو اليدين، فوقع في رواية: «إحدى صلاتي العشي» وفي رواية: (الظهر) وفي أخرى (العصر) فالأخريان مختلفتان لكن ذلك لا يوجب اختلافًا في المعنى المقصود فإن حكم الصلوات في السهو الواحد.
الثالث: ما يختلف به معنى مقصود لكن في الحديث معنى آخر مقصود لا يختلف كقصة المرأة التي زوجها النبي رجلًا بأن يعلمها ما معه من القرآن وقد تقدمت (ص59).
الرابع: ما يختلف به المعنى المقصود كله، فهذا إن صح السند بالوجهين وأمكن الترجيح فالراجح هو الصحيح، وإلا فالوقف، والغالب أن البخاري ومسلمًا ينبهان على الترجيح بطرق يعرفها من مارس الصحيحين، وكذلك كتب السنن يكثر فيها بيان الراجح، لكن قد لا يتبين لأحدهم الرجحان فيرى أن عليه إثبات الوجهين يحفظهما لمن بعده، فرب مبلغ أوعى من سامع.
191وذكر (ص301) عن السيد رشيد رضا: (أن علماء الحديث قلما يعنون بغلط المتون ما يخص معانيها وأحكامها.. وإنما يظهر معاني غلط المتون للعلماء والباحثين في شروحها من أصول الدين وفروعه وغير ذلك).
أقول: أما الكتب التي لم تلتزم الصحة ولا الاحتجاج فنعم، وقد يقع يسير من ذلك في صحيح مسلم، فأما صحيح البخاري وما يصححه الإمام أحمد ونظراؤه فإنهم يعنون بذلك، وراجع لأصول الدين ما تقدم (ص2).
وأشار إلى حديث «خلق الله التربة.. إلخ» وقد تقدم (ص135-138)، وإلى حديث أبي ذر في شأن الشمس وقد مر (ص165) ويأتي (ص213).
وقال: (لو انتقدت الروايات من جهة فحوى متنها كما تنتقد من جهة سندها لقضت المتون على كثير من الأسانيد بالنقض).
أقول: هذه دعوى إجمالية، والعبرة بالنظر في الجزئيات، فقد عرفنا من محاولي النقد أنهم كثيرًا ما يدعون القطع حيث لا قطع، ويدعون قطعًا يكذبه القرآن، ويقيمون الاستبعاد مقام القطع مع أن الاستبعاد كثيرًا ما ينشأ عن جهل بالدين وجهل بطبيعته وجهل بما كان عليه الحال في العهد النبوي، وكثيرًا ما يسيئون فهم النصوص.
وقال (ص303) (وقد تعرض كثير من أئمة الحديث للنقد من جهة المتن إلا أن ذلك قليل جدًا بالنسبة لما تعرضوا له من النقد من جهة الإسناد).
أقول: من تتبع كتب تواريخ رجال الحديث وتراجمهم وكتب العلل وجد كثيرًا من الأحاديث يطلق الأئمة عليها (حديث منكر، باطل، شبه الموضوع، موضوع) وكثيرًا ما يقولون في الراوي: (يحدث بالمناكير، صاحب مناكير، عنده مناكير، منكر الحديث) ومن أنعم النظر وجد أكثر ذلك من جهة المعنى، ولما كان الأئمة قد راعوا في توثيق الرواة النظر في أحاديثهم والطعن فيمن جاء بمنكر صار الغالب أن لا يوجد حديث منكر إلا وفي سنده مجروح، أو خلل، فلذلك صاروا إذا استنكروا الحديث نظروا في سنده فوجدوا ما يبين وهنه فيذكرونه، وكثيرًا ما يستغنون بذلك عن التصريح بحال المتن، انظر موضوعات ابن الجوزي وتدبر تجده إنما يعمد إلى المتون التي يرى فيها ما ينكره ولكنه قلما يصرح بذلك بل يكتفي غالبًا بالطعن في السند، وكذلك كتب العلل وما يعل من الأحاديث في التراجم تجد غالب ذلك ما ينكره متنه، ولكن الأئمة يستغنون عن بيان ذلك بقولهم: (منكر) أو نحوه، أو الكلام في الراوي، أو التنبيه على خلل من السند كقولهم: فلان192لم يلق فلانًا لم يسمع منه. لم يذكر سماعًا. اضطرب فيه. لم يتابع عليه. خالفه غيره. يروى هذا موقوفًا وهو أصح، ونحو ذلك.
وذكر حديث: «يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك. فيقول إبراهيم: يا رب! إنك وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد. فقال الله تعالى: إني حرمت الجنة على الكافرين…» وذكر قول الإسماعيلي: (هذا حديث في صحته نظر من جهة أن إبراهيم عالم بأن الله لا يخلف الميعاد، فكيف يجعل ما بأبيه خزيًا له مع إخباره أن الله قد وعده أن لا يخزيه يوم يبعثون، وأعلمه أنه لا خلف لوعده؟).
أقول: عن هذا جوابان: الأول: أن إبراهيم لم يجعل ما بأبيه حينئذ من القترة والغبرة خزيًا، إنما جعل الخزي ما كان منتظرًا من دخول النار كما يدل على إجابة الله تعالى له بقوله: إني حرمت الجنة على الكافرين، وكما يشهد له ما ذكره الله من قول عباده: { رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } فدعاؤه إنما هو استنجاز للوعد كما في: { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ }. وكان النبي يدعو في عريش بدر: «اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك». ومن هذا أو مما يأتي ما قصه الله تعالى عن نوح من قوله: { رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ }. الثاني: أن المخلوق قد يتملكه النظر من جهة فيناله ذهول من الجهة الأخرى، كما قصه الله تعالى عن الملائكة من قولهم: { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } ومن قول زكريا بعد أن سأل الله تعالى أن يهب له وليًا يرثه فبشره الله بغلام: { رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنْ الْكِبَرِ عِتِيًّا }، وقد بين الله تعالى لخليله أن الجنة محرمة على الكافرين، وبذلك لا يكون أبوه داخلًا في الوعد بل ليس في دخول آزر بكفره النار خزي لإبراهيم، لكن هذه الحقيقة إنما تكشف حق الانكشاف لأهل الجنة بعد دخولها. وقد يكون في بقية الحديث ما يستفاد منه أن الله تعالى كشف لإبراهيم تلك الحقيقة حينئذ، فراجعه وتدبر ما مر واعتبر به.
ثم ذكر أبو رية فصولًا، إلى أن قال: (ص307) (اختلافهم في الجرح والتعديل) وسمى جماعة ينبغي مراجعة تراجمهم في كتب الرجال، وراجع (ص189).
وقال (ص309): (وقال صاحب العلم الشامخ: قد اختلفت آراء الناس واجتهاداتهم في التعديل والتجريح، فترى الرجل الواحد تختلف فيه الأقوال حتى يوصف بأنه أمير المؤمنين وبأنه أكذب الناس، أو قريب من هاتين العبارتين).
193أقول: قد تقدم (ص189) أن المختلف فيهم قليل، ولا تبلغ كلمتان في رجل واحد هذا التفاوت الذي ذكره ولا ما يقاربه إلا قليلًا حيث يكون في إحداهما خلل، وللخلل أسباب وعلامات بسطت القول فيها بعض البسط في التنكيل، والناظرون في العلم ثلاثة: مخلص مستعجل يجأر بالشكوى، ومتبع لهؤلاء فأنى يهديه الله، ومخلص دائب فهذا ممن قال الله تعالى فيهم: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ }. وسنة الله عز وجل في المطالب العالية والدرجات الرفيعة أن يكون في نيلها مشقة ليتم الابتلاء ويستحق البالغ إلى تلك الدرجة شرفها وثوابها قال الله تعالى: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ }.
وذكر عن السيد رشيد رضا: (أن توثيق من وثقه المتقدمون وإن ظهر خلاف ذلك بالدليل يفتح باب الطعن في أنفسنا بنبذ الدليل…).
أقول: هذا حق، ولكن الشأن في الدليل الصحيح الذي يعارضه ما هو أقوى منه.
الصحابة رضي الله عنهم
ثم قال أبو رية (ص310) (عدالة الصحابة…).
أقول: الآيات القرآنية في الثناء على الصحابة والشهادة لهم بالإيمان والتقوى وكل خير معروفة، ومن آخرها نزولًا قول الله عز وجل: { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا } ساعة العسرة غزوة تبوك، وكلمة (المهاجرين) هنا تشمل السابقين واللاحقين ومن كان معهم من غير الأنصار، ولا نعلمه تخلف ممن كان بالمدينة من هؤلاء أحد إلا عاجز أو مأمور بالتخلف مع شدة حرصه على الخروج. وفي الصحيح قول النبي ص لما رجع من تبوك: «إن بالمدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم.. حبسهم العذر». وفي الفتح أن المهلب استشهد لهذا الحديث بقول الله تعالى: { لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ } وهو استشهاد متين، والمأمور بالتخلف أولى بالفضل. وفي هذا وآيات أخرى ثناء يعم المهاجرين من لحق بهم لا نعلم ثم ما يخصصه، فأما الأنصار فقد عمت الآية من خرج معهم إلى تبوك، والثلاثة الذين خلفوا والعاجزين والمهاجرين، ولم يبق إلا نفر كانوا منافقين. وفي الصحيح في حديث كعب بن مالك وهو أحد الثلاثة الذين خلفوا: «فكنت إذا خرجت إلى الناس بعد خروج رسول الله ص فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى194إلا رجلًا مغموصًا عليه النفاق، أو رجلًا ممن عذر الله من الضعفاء» وفي هذا بيان أن المنافقين قد كانوا معروفين في الجملة قبل تبوك، ثم تأكد ذلك بتخلفهم لغير عذر وعدم توبتهم، ثم نزلت سورة براءة فقشقشتهم، وبهذا يتضح أنهم قد كانوا مشارًا إليهم بأعيانهم قبل وفاة النبي ص، فأما قول الله عز وجل: { لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } فالمراد -والله أعلم- بالعلم ظاهره -أي باليقين- وذلك لا ينفي كونهم مغموصين -أي متهمين- غاية الأمر أنه يحتمل أن يكون في المتهمين من لم يكن منافقًا في نفس الأمر، وقد قال تعالى: { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ }. ونص في سورة براءة وغيرها على جماعة منهم بأوصافهم، وعين النبي ص جماعة منهم، فمن المحتمل أن الله عز وجل بعد أن قال: { لا تَعْلَمُهُمْ } أعلمه بهم كلهم، وعلى كل حال فلم يمت النبي ص إلا وقد عرف أصحابه المنافقين يقينًا أو ظنًا أو تهمة، ولم يبق أحد من المنافقين غير متهم بالنفاق. ومما يدل على ذلك، وعلى قلتهم وذلتهم وانقماعهم ونفرة الناس عنهم، أنه لم يحس لهم عند وفاة النبي ص حراك، ولما كانوا بهذه المثابة لم يكن لأحد منهم مجال في أن يحدث عن النبي ص؛ لأنه يعلم أن ذلك يعرضه لزيادة التهمة ويجر إليه ما يكره. وقد سمى أهل السير والتاريخ جماعة من المنافقين لا يعرف عن أحد منهم أنه حدث عن النبي ص، وجميع الذين حدثوا كانوا معروفين بين الصحابة أنهم من خيارهم.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)