وقيل إن بغيه عليهم كان بأن زاد عليهم في الثياب شبرًا. كذلك حدثني علي بن سعيد الكندي وأبو السائب وابن وكيع، قالوا: حدثنا حفص ابن غياث، عن ليث، عن شهر بن حَوْشب.
فوعظه قومه على ما كان من بغيه ونهوه عنه، وأمروه بإنفاق ما أعطاه الله في سبيله والعمل فيه بطاعته، كما أخبر الله عز وجل عنهم أنهم قالوا له فقال: " إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرِحين، وابتغِ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسَ نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسِدين ". وعني بقوله: " ولا تنس نصيبك من الدنيا ": لا تنس في دنياك أن تأخذ نصيبك فيها لآخرتك، فكان جوابُه إياهم جهلًا منه، واغترارًا بحلم الله عنه، ما ذكر الله تعالى في كتابه أن قال لهم: إنما أوتيت ما أوتيت من هذه الدنيا على علم عندي قيل: معنى ذلك: على خير عندي، كذلك رُوي ذلك عن قتادة.
وقال غيره: عني بذلك: لولا رضاء الله عني ومعرفته بفضلي ما أعطاني هذا، قال الله عز وجل مكذّبًا قيله: " أوَ لم يعلم أن الله قد أهلك مِنْ قَبله من القُرون من هو أشدَّ منه قوّة واكثر جمعًا " للأموال. ولو كان الله إنما يُعطى الأموال والدنيا من يعطيه إياها لرضاه عنه، وفضلُه عنده، لم يهلك من أهلك من أرباب الأموال الكثيرة قبله، مع كثرة ما كان أعطاهم منها، فلو يردعه عن جهله، وبغيه على قومه عظة من وعظه، وتذكير من ذكره بالله ونصيحته إياه؛ ولكنه تمادي في غيه وخسارته، حتى خرج على قومه في زينته راكبًا بِرْذَوْنًا أبيض مسرجًا بسرج الأرجُوان، قد لبس ثيابًا معصفرة، قد حمل معه من الجواري بمثل هيئته وزينته على مثل بِرْذَوْنه ثلاثمائة جارية وأربعة آلاف من أصحابه.
وقال بعضهم: كان الذين حملهم على مثل هيئته وزينته من أصحابه سبعين ألفًا.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو خالد الأحمر، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد: " فخرج على قومه في زينته "، قال: على بِرْاذيْن بيض، عليها سروج الأرجوان، عليهم المعصفرة. فتمنى أهل الخسار من الذين خرج عليهم في زينته مثل الذي أوتيه، فقالوا: " يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم "، فأنكر ذلك من قوله عليهم أهل العلم بالله فقالوا لهم: ويلكم أيها المتمنّون مثل ما أوتي قارون! اتقوا الله، واعملوا بما أمركم الله به، وانتهوا عما نهاكم عنه، فإن ثواب الله وجزاءه أهل طاعته خيرٌ لمن آمن به وبرسله، وعمل بما أمره به من صالح الأعمال، يقول الله: " ولا يُلقّاها إلا الصابرون "، يقول: لا يلقي مثل هذه الكلمة إلا الذين صبروا عن طلب زينة الحياة الدنيا، وآثروا جزيل ثواب الله على صالح الأعمال على لذات الدنيا وشهواتها، فعلموا له بما يوجب لهم ذلك.
فلما عتا الخبيث وتمادى في غيه، وبطر نعمة ربه ابتلاه الله عز وجل من الفريضة في ماله والحق الذي ألزمه فيه ما ساق إليه شحّه به أليم عقابه، وصار به عبرة للغابرين وعظة للباقين.
فحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا جابر بن نوح، قال: أخبرنا الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس، قال: لما نزلت الزكاة أتى قارونُ موسى فصالحه عن كل ألف دينار دينارًا، وعلى كل ألف درهم درهمًا، وعلى كل ألف شيء شيئًا، أو قال: وكل ألف شاة شاةً - قال أبو جعفر الطبري: أنا أشد - قال: ثم أتى بيته فحسبه فوجده كثيرًا فجمع بني إسرائيل، فقال: يا بني إسرائيل، إن موسى قد أمركم بكل شيء فأطعمتموه، وهو الآن يريد أن يأخذ أموالكم. فقالوا له: أنت كبيرنا وسيدنا، فمرنا بما شئت، فقال: آمركم أن تجيئوا بفلانة البغي فتجعلوا لها جُعلًا فتقذفه بنفسها. فدعوْها فجعلوا لها جُعلًا على أن تقذفه بنفسها، ثم أتى موسى فقال: إن قومك قد اجتمعوا لتأمرهم وتنهاهم، فخرج إليهم وهم في براح من الأرض، قال: يا بني إسرائيل، منْ سرق قطعْنا يده، ومن افترى جلَدناه ثمانين، ومن زنى ولي سله امرأة جلدناه مائة، ومن زنى وله امرأة جلدناه حتى يموت - أو قال: رجمناه حتى يموت - قال أبو جعفر أنا أشك - فقال له قارون: وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا. قال: وإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة، فقال: ادعوها، فإن قالت فهو كما قالت، فلما أن جاءت قال لها موسى: يا فلانة، قالت: لبيك! قال: أنا فعلت بك ما يقول هؤلاء؟ قالت: لا، وكذبوا، ولكن جعلوا إلي جُعلًا على أن أقذفك بنفسي، فوثب فسجد وهو بينهم، فأوحى إليه: مُر الأرض بما شئت، قال: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى أقدامهم، ثم قال: يا أرض خُذيهم فأخذتهم إلى ركبهم، ثم قال: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى أعناقهم، قال: فجعلوا يقولون: يا موسى، ويتضرعون إليه، يا أرض خذيهم، فأطبقت عليهم، فأوحى الله إليه: يا موسى يقول لك عبادي: يا موسى يا موسى، فلا ترحمهم، أما لو إياي دعوا لوجدوني قريبًا مجيبًا، قال: فذلك قوله: " فخرج على قومه في زينته "، وكانت زينته أنه خرج على دوابّ شُقْر عليها سروج أرجوان، عليها ثياب مصبّغة بالبهرمان،: " قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون " إلى قوله: " لا يُفلح الكافرون ". يا محمد " تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون عُلُواّ في الأرض ولا فسادًا والعاقبة للمتقين ".
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن المنهال، عن رجل، عن ابن عباس بنحوه، وزادني فيه: قال: فأصاب بني إسرائيل بعد ذلك شدة وجوع شديد، فأتوا موسى فقالوا: ادع لنا ربك، قال: فدعا لهم فأوحى الله إليه: يا موسى، أتكلمني في قوم قد أظلم ما بيني وبينهم من خطاياهم، وقد دعوك فلم تجبهم أما لو إياي دعوا لأجبتهم.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا علي بن هاشم ابن البريد، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس في قوله: " إن قارون كان من قوم موسى "، قال: كان ابن عمه، وكان موسى يقضي في ناحية بني إسرائيل وقارون في ناحية، قال: فدعا بغيّة كانت في بني إسرائيل، فجعل لها جُعلًا على أن ترمي موسى بنفسها، فتركه، حتى إذا كان يوم يجتمع فيه بنو إسرائيل إلى موسى أتاه قارون فقال: يا موسى، ما حدُّ من سرق؟ قال: أن تقطع يده، قال: فإن كنت أنت؟ قال نعم، قال: فما حد من زنا؟ قال: أن يُرجم، قال: وإن كنت أنت؟ قال: نعم، قال: فإنك قد فعلت، قال: ويلك! بمن؟ قال: بفلانة، فدعاها موسى فقال: أنشدك بالذي أنزل التوراة، أصدق قارون؟ قالت: اللهمّ إذ نشدتني، فإني أشهد أنك بريء، وأنك رسول الله، وأن عدو الله قارون جعل لي جُعلًا على أن أرميك بنفسي، قال: فوثب موسى فخرّ ساجدًا، فأوحى الله إليه أن أرفع رأسك فقد أمرت الأرض أن تطيعك، فقال موسى: خذيهم، فأخذتهم حتى بلغوا الحَقْوا، قال: يا موسى، قال: خذيهم فأخذتهم حتى بلغوا الصدور، قال: يا موسى، قال: خذيهم، قال: فذهبوا، قال: فأوحى الله إليه: يا موسى، استغاث بك فلم تُغثه، أما لو استغاثَ بي، لأجبتُه ولأغثته.
حدثنا بشر بن هلال الصواف، قال: حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي، قال: حدثنا علي بن زيد بن جُدعان، قال: خرج عبد الله بن الحارث من الدار، ودخل المقصورة فلما خرج منها جلس وتساند عليها وجلسنا إليه، فذكر سليمان بن داود و " قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين " إلى قوله: " إن ربي غنيٌ كريم ". قال: ثم سكت عن حديث سليمان، فقال: " إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم "، وكان قد أوتي من الكنوز ما ذكره الله في كتابه: " ما إن مفاتحه لتنوء بالعُصبة أولي القوة ". فقال: إنما أوتيته على علم عندي قال: وعاد موسى وكان مؤذيًا له، فكان موسى يصفح عنه، ويعفو للقرابة حتى بنى دارًا، وجعل باب داره من ذهب، وضرب على جدر داره صفائح الذهب، وكان الملأ من بني إسرائيل يغدون عليه ويروحون، فيطعمهم الطعام ويحدثونه ويضكحونه، فلم تدعه شقوته والبلاء حتى أرسل إلى امرأة من بني إسرائيل مشهورة بالخنا مشهورة بالسب، فجاءت قال لها: هل لك أن أموّلك وأعطيك وأخلِطك بنسائي، على أن تأتيني والملأ من بني إسرائيل عندي فتقولي: يا قارون أل تنهى عني موسى! قالت: بلى، فلما جلس قارون، وجاءه الملأ من بني إسرائيل أرسل إليها فجاءت، فقامت بين يديه، فقلب الله قلبها، وأحدث لها توْبة، فقالت في نفسها: لا أجد اليوم توبة أفضل من ألا أوذي رسول الله وأعذب عدو الله، فقالت: إن قارون قال لي: هل لكِ أن أمولك وأعطيك وأخلطك بنسائي على أن تأتيني والملأ من بني إسرائيل عندي، فتقولي: يا قارون ألا تنهى عني موسى! فلم أجد توبة أفضل من ألا أوذي رسول الله، وأعذب عدو الله. فلما تكلمت بهذا الكلام سُقط في يدي قارون، ونكس رأسه، وسكت عن الملأِ، وعرف أنه قد وقع في هَلكة، فشاع كلامُها في الناس، حتى بلغ موسى، فلما بلغ اشتد غضبه فتوضأ من الماء وصلى وبكى، وقال: يا رب عدوك لي مؤذٍ، أراد فضيحتي وشيْتني، يا رب سلطني عليه. فأوحى الله إليه أن مر الأرض بما شئت تطعك، فجاء موسى إلى قارون، فلما دخل عليه عرف الشر في وجه موسى له، فقال له: يا موسى ارحمني، قال: يا أرض خذيهم، قال: فاضطربت داره، وساخت بقارون وأصحابه إلى الكعبين، وجعل يقول: يا موسى ارحمني، قال: يا أرض خذيهم، فاضطربت دارُه وساخت، وخُسِف بقارون وأصحابه إلى ركبهم وهو يتضرع إلى موسى: يا موسى، ارحمني! قال: يا أرض خذيهم، فخسف به وبداره وأصحابه، قال: وقيل لموسى: يا موسى، ما أفظك، أما وعزتي لو إياي نادى لأجبتُه! حدثنا بشر بن هلال، قال: حدثنا جعفر بن سليمان، عن أبي عمران الجوْني، قال: بلغني أنه قيل لموسى: لا أعبِّد الأرض لأحد بعدك أبدًا.
حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد عن قتادة، " فخسفنا به وبداره الأرض "، ذكر لنا أنه يخسف به كل يوم قامة، وأنه يجلجل فيها ولا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة.
قال أبو جعفر: فلما نزلت نقمة الله بقارون حمِد الله على ما أنعم به عليهم المؤمنون الذين وعظوه وأنذروه بأمر الله، ونصحوا له من المعرفة بحقّه والعمل بطاعته، وندم الذين كانوا يتمنون ما هو فيه من كثرة المال، والسعة في العيش على أمنيتهم، وعرفوا خطأ أنفسهم في أمنيتها، فقالوا ما أخبر الله عز وجل عنهم في كتابه: " ويكأن الله يبسُط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن منّ الله علينا "، فصرف عنا ما ابتلى به قارون وأصحابه مما كنا نتمناه بالأمس لخسف بنا كما خسف به وبهم. فنجّى الله تعالى من كل هول وبلاء نبيه موسى والمؤمنين به المتمسكين بعهده من بني إسرائيل، وفتاه يوشع بن نون المتبعين له بطاعتهم ربهم، وأهلك أعداءه وأعداءهم: فرعون وهامان وقارون والكنعانيين بطفرهم وتمردهم عليه وعتوهم، بالغرق بعضًا، وبالخسف بعضًا، وبالسيف بعضًا، وجعلهم عبرًا لمن اعتبر بهم، وعظة لمن اتعظ بهم، مع كثرة أموالهم وكثرة عدد جنودهم، وشدة بطشهم، وعظم خلقهم وأجسامهم، فلم تغن عنهم أموالهم ولا أجسامهم ولا قواهم ولا جنودهم وأنصارهم عنهم من الله شيئًا؛ إذ كانوا يجحدون بآيات الله، ويسعوْن في الأرض فسادًا، ويتّخذون عباد الله لأنفسهم خَوَلًا، وحاق بهم ما كانوا منه آمنين؛ نعوذ بالله من عمل يقرّب من سخطه، ونرغب إليه في التوفيق لما يدني من محبته، ويزلف إلى رحمته! وروي عن النبي ما حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: حدثنا عمى، قال: حدثني الماضي بن محمد، عن أبي سليمان، عن القاسم بن محمد، عن أبي إدريس الخوْلاني، عن أبي ذرّ، قال: قال رسول الله : " أول أنبياء بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى ". قال: قلت: يا رسول الله، ما كان في صحف موسى؟ قال: كانت عِبرًا كلها، عجبت لمن أيقن بالنار ثم يضحك، عجبت لمن أيقن بالموت ثم يفرح، عجبت لمن أيقن بالحساب غدًا ثم لم يعمل! وكان تدبير يوشع أمر بني إسرائيل من لدن مات موسى، إلى أن توفي يوشع، كله في زمان منوشهر عشرين سنة، وفي زمان فراسياب سبع سنين.
ونرجع الآن إلى:
ذكر القائم بالملك ببابل من الفرس بعد منوشهر
إذ كان التاريخ إنما تدرك صحته على سياق مدة أعمار ملوكهم.
ولما هلك منوشهر الملك بن منشخورنر، قهر فراسياب بن فشنج ابن رستم بن ترك على خنيارث ومملكة أهل فارس وصار - فيما قيل - إلى أرض بابل، فكان يُكثر المقام ببابل وبمِهرجان قذَق، فأكثر الفساد في مملكة أهل فارس.
وقيل: إنه قال حين غلب على مملكتهم: نحن مسرعون في إهلاك البريّة، وإنه عظُم جوره وظلمه، وخرّب ما كان عامرًا من بلاد خنيارث، ودفن الأنهار والفتي، وقَحِط الناس في سنة خمس من ملكه، إلى أن خرج عن مملكة أهل فارس، ورُدّ إلى بلاد الترك، فغارت المياه في تلك السنين، وحالت الأشجار المثمرة.
ولم يزل الناس منه في أعظم البلية، إلى أن ظهر زوّ بن طهْماسب وقد يلفظ باسم " زوّ " بغير ذلك فيقول بعضهم: زاب بن طهْماسفان، ويقول بعضهم: زاغ، ويقول بعضهم: راسب بن طهماسَب بن كانجو بن زاب بن أرفس بن هراسف بن ونديج بن أريج بن نوذ وجوش ابم منسوا - بن نوذر بن منوشهر.
وأم زوّ مادول ابنة وامن بن واذرجا بن قود بن سَلْم بن أفريدون.
وقيل: إن منوشهر كان وجد في أيام ملكه على طهماسب بسبب جناية جناها، وهو مقيم في حدود الترك لحرب فراسياب، فأراد منوشهر قتله بسبب ذلك، فكلّمه في الصفح عنه عُظماء أهل مملكته. وكان من عدل منوشهر - فيما ذكر - أنه قد كان يسّوي بين الشريف والوضيع، والقريب والبعيد في العقوبة، إذا استوجبها بعض رعيته على ذنب أتاه - فأبى إجابتهم إلى ما سألوه من ذلك، وقال لهم: هذا في الدين وهَنٌ، ولكنكم إذ أبيتم علي، فإنه لا يسكن في شيء من مملكتي، ولا يُقيم به، فنفاه عن مملكته فشخص إلى بلاد الترك، فوقع إلى ناحية وامن، فاحتال لابنته وهي محبوسة في قصر من أجل المنجَمين كانوا ذكروا لوامن أبيها أنها تلد ولدًا يقْتله، حتى أخرجها من القصر الذي كانت محبوسة فيه، بعد أن حملت منه بزوّ.
ثم إن منوشهر إذِن لطهماسب بعد أن انقضت أيام عُقوبته في العود إلى خينارث مملكة فارس، فأخرج مادول ابنة وامن بالحيلة منها ومنه في إخراجها من قصرها من بلاد الترك إلى مملكة أهل فارس، فولدت له زواّ بعد العود إلى بلاد إيرانكرد، ثم إن زوًا - فيما ذكر - قتل جدّه، وامّن في بعض مغازيه الترك، وكطرد فراسياب عن مملكة أهل فارس، حتى ردّه إلى الترك بعد حروب جرت بينه وبينه وقتال، فكانت غَلبة فراسياب أهل فارس على إقليم بابل اثنتي عشرة سنة، من لدن توفي منوشهر إلى أن طرده عنه، وأخرجه زوّ بن طهماسب إلى تركستان.
وذكر أن طَرْدَ زوّ فراسياب عما كان عليه من مملكة أهل فارس في روزأبان من شهر أبانماه، فاتخذ العجم هذا اليوم عيدًا لما رفع عنهم فيه من شر فراسياب وعَسْفه وجعلوه الثالث من أعيادهم النوروز والمهرجان.
وكان زوّ محمودًا في مُلكه، محسنًا إلى رعيته، فأمر بإصلاح ما كان فراسياب أفسد من بلاد خنيارث، ومملكة بابل وبناء ما كان هُدم من حصون ذلك، ونثل ما كان طم وغوّر من الأنهار والقنى، وكرى ما كان اندفن من المياه حتى أعاد كل ذلك - فيما ذكر - إلى أحسن ما كان عليه، ووضع عن الناس الخراج سبع سنين، ودفعه عنهم، فعمرت بلاد فارس في ملكه، وكثُرت المياه فيها، ودرّت معايش أهلها، واستخرج بالسواد نهرًا سماه الزاب، وأمر فبنيت على حافتيه مدينة وهي التي تسمى المدينة العتيقة، كوّرها كورة، وسماها الزوابي، وجعل لها ثلاثة طَساسيج: منها طسّوج الزاب الأعلى، ومنها طسّوج الزاب الأوسط، ومنها طسّوج الزاب الأسفل؛ وأمر بحمل بُزور الرياحين من الجبال إليها وأصول الأشجار، وبذْر ما يبذر من ذلك، زغرس ما يغرس منه، وكان أولَ من اتُّخذ له ألوان الطبيخ وأمر بها بأصناف الأطعمة، وأعطى جنودَه مما غنِم من الخيل والرّكاب، مما أوْجَف عليه من أموال الترك وغيرهم. وقال يوم ملك وعقد التاج على رأسه: نحن متقدمون في عمارة ما أخْربه الساحر فراسياب.
وكان له كرشاسب بن أثرط بن سهم بن نريمان بن طورك بن شيراسب بن أروشسب بن طوج بن أفريدون الملك.
وقد نسبه بعض نسابي الفرس غير هذا النسب فيقول: هو كرشاسف بن أشنان بن طهموس بن أشك بن ترس بن رحر بن دودسرو بن منوشهر الملك - مؤازرًا على ملكه.
ويقول بعضهم: كان زوّ وكرشاسب مشتركين في الملك، والمعروف من أمرهما أن الملْك كان لزو بن طهماسب وأن كرشاسب كان له مؤازرًا وكان كرشاسب عظيم الشأن في أهل فارس، غير أنه لم يملك، فكان جميعُ ملْك زوّ إلى أن انقضى ومات - فيما قيل - ثلاث سنين.
ثم ملك بعد زوّ كيقباذ، وهو كيقياذ بن زاغ بن نوحباه بن منشو بن نوذر بن منوشهر. وكان متزوجًا بفرتك ابنة تدرسا التركي، وكان تدرسا من رؤوس الأتراك وعظمائهم، فولدت له كي إفنه، وكي كاوس، وكي أرش، وكيبه أرش، وكيفاشين وكيبية؛ وهؤلاء هم الملوك الجبابرة وآباء الملوك الجبابرة.
وقيل إن كيقباذ قال يوم ملك وعقد التاج على رأسه: نحن مدوّخون بلاد الترك ومجتهدون في إصلاح بلادنا، حدبون عليها، وأنه قدّر مباه الأنهار والعيون لشرب الأرضين، وسمى البلاد بأسمائها، وحدّها بحدودها، كوّر الكُور، وبيّن حير كل كورة منها وحريمها، وأمر الناس باتخاذ الأرض، وأخذ العُشْر عن غَلاتها لأرزاق الجند، وكان - فيما ذكر - كيقباذ يُشبّه في حرثه على العمارة، ومنعه البلاد من العدو، وتكبّره في نفسه بفرعون.
وقيل إن الملوك الكيية وأولادهم من نسله، وجرت بينه وبين الترك وغيرهم حروب كثيرة، وكان مقيمًا في حدّ ما بين مملكة الفرس والترك بالقرب من نهر بلْخ، لمنع الترك من تطرق شيء من حدود فارس، وكان ملكه مائة سنة، والله أعلم.
ونرجع الآن إلى:
ذكر أمر بني إسرائيل والقوّام الذين كانوا بأمرهم بعد يوشع بن نون والأحداث التي كانت في عهد زوّ وكيقباذ
ولا خلاف بين أهل العلم بأخبار الماضين وأمور الأمم السالفين من أمتنا وغيرهم أن القيّم بأمور بني إسرائيل بعد يوشع كان كال بو يوفنّا، ثم حِزْقيل بن بُوذي من بعده، وهو الذي يقال له ابن العجوز.
فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: إنما سمي حِزقيل بن بوزي ابن العجوز؛ أنها سألت الله الولد، وقد كبرت وعقِمت، فوهبه الله لها، فبذلك قيل له: ابن العجوز؛ وهو الذي دعا للقوم الذين ذكر الله في الكتاب عليه السلام كما بلغنا: " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوفٌ حَذَرَ الموْتِ ".
حدثني محمد بن سهل بن عسكر، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال: حدثني عبد الصمد بن معقل؛ أنه سمع وهب بن منبه يقول: أصاب ناسًا من بني إسرائيل بلاءٌ وشدة من الزمان، فشكوا ما أصابهم فقالوا: يا ليتنا قد مِتنا فاسترحنا مما نحن فيه! فأوحى الله إلى حزقيل: إن قومك صاحوا من البلاء، وزعموا أنهم ودّوا لو ماتوا فاستراحوا، وأي راحة لهم في الموت! أيظنون أني لا أقدر على أن أبعثَهم بعد الموت! فانطلقْ إلى جبانة كذا وكذا فإن فيها أربعة آلاف - قال وهب: وهم الذين قال الله تعالى: " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حَذَرَ الموت " - فقم فيهم فنادهم، وكانت عظامهم قد تفرقت؛ فرّقتها الطير والسباع، فناداها حزقيل، فقال: يا أيتها العظام النخرة، إن الله عز وجل بأمرك أن تجتمعي. فاجتمع عظام كل إنسان منهم معًا، ثم نادى ثانية حزقيل فقال: أيتها العظام، إن الله يأمرك أن تكتسي اللحم، فاكتست اللحم، وبعد اللحم جلدًا، فكانت أجسادًا، ثم نادى حزقيل الثالثة فقال: أيتها الأرواح، إن الله يأمرك أن تعودي في أجسادك. فقاموا بإذن الله، وكبّروا تكبيرة واحدة.
حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمْذاني، عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب النبي : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارِهم وهمْ ألوفٌ حَذَرَ الموت فقال لهمُ الله موتوا ثم أحياهم " كانت قرية يقال لها داوردان قبل واسط، فوقع بها الطاعون، فهرب عامة أهلها فنزلوا ناحية منها، فهلك أكثر من بقي في القرية وسلم الآخرون، فلم يمت منهم كثير، فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين، فقال الذين بقوا: أصحابنا هؤلاء كانوا أحزَم منا، لو صنعنا كما صنعوا بقينا! ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجنّ معهم. فوقع في قابل فهربوا وهم بضعة وثلاثين ألفًا، حتى نزلوا ذلك المكان، وهو واد أفيَح، فناداهم ملَك من أسفل الوادي، وآخر من أعلاه: أن موتوا، فماتوا حتى هلكوا، وبليت أجسادهم، فمر بهم نبيٌّ يقال له هزقيل، فلما رآهم وقف عليهم فجعل يتفكر فيهم، ييلوي شِدقه وأصابعه، فأوحى الله إليه: يا هزقيل، أتريد أن أريك كيف أحييهم؟ قال: نعم، وإنما كان تفكّره أنه تعجّب من قدرة الله عليهم، فقال: نعم، فقيل له: ناد، فنادى يا أيتها العظام، إن الله يأمرك أن تجتمعي، فجعلت العظام يطير بعضها إلى بعض؛ حتى كانت أجسادًا من عظام، ثم أوحى الله أن ناد: يا أيتها العظام؛ إن الله يأمرك أن تكتسي لحمًا فاكتست لحمًا ودمًا وثيابها التي ماتت فيها؛ وهي عليها، ثم قيل له: ناد، فنادى: يا أيتها الأجساد، إن الله بأمُرك أن تقومي، فقاموا.
حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، قال: فزعم منصور بن المعتمر عن مجاهد أنهم قالوا حين أحْيوا: سبحانك ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت؛ فرجعوا إلى قومهم أحياء يعرفون أنهم كانوا موتى، سحنةُ الموت على وجوههم، لا يلبسون ثوبًا إلا عاد دسمًا مثل الكفن، حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكّام، عن عنبسة، عن أشعث، عن سالم النصري، قال: بينما عمر بن الخطاب يصلي ويهوديان خلفه، وكان عمر إذا أراد أن يركع خوّى، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال: فلما انفتل عمر قال: أرأيت قول أحدكما لصاحبه: أهو هو؟ فقالا: إنا نجد في كتابنا قرنًا من حديد يعطى ما أعطى حزقيل الذي أحيا الموتى بإذن الله، فقال عمر: ما نجد في كتابنا حزقيل، ولا أحيا الموتى بإذن الله إلا عيسى ابن مريم، فقالا: أما تجد في كتاب الله " ورسلًا لم نقصصهم عليك "، فقال عمر: بلى، قالا وأما إحياء الموتى فسنحدثك أن نبي إسرائيل وقه فيهم الوباء، فخرج منهم قوم حتى إذا كانوا على رأس ميل أماتهم الله، فبنوا عليهم حائطًا، حتى إذا بليت عظامُهم بعث الله حزقيل فقام عليهم، فقال: ما شاء الله! فبعثهم الله له، فأنزل الله في ذلك: " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوفٌ حذَرَ الموت.. "، والآية.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن وهب بن منبه: أن كالب بن يوفنّا لما قبضه الله بعد يوشع؟، خلف فيهم - يعني في بني إسرائيل - حزقيل بن بوذي، وهو ابن العجوز، وهو الذي دعا للقوم الذين ذكر الله في الكتاب لمحمد كما بلغنا: " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم.. " الآية.
قال ابن حميد: قال سلمة قال ابن إسحاق: فبلغني أنه كان من حديثهم أنهم خرجوا فرارًا مهن بعض الأوباء من الطاعون، أو من سُقْم كان يصيب الناس حذرًا من الموت وهم ألوف، حتى إذا نزلوا بصعيد من البلاد قال لهم الله: موتوا، فماتوا جميعًا، فعمِد أهل تلك البلاد فحظروا عليهم حظيرة دون السباع، ثم تركزهم فيها، وذلك أنهم كثروا عن أن يغيّبوا، فمرت بهم الأزمان والدهور، حتى صاروا عظامًا نخرة، فمر بهم حزقيل بن بوذي، فوقف عليهم، فتعجب لأمرهم، ودخلته رحمة لهم، فقيل له: أتحب التي قد رمّت وبليت، ليرجع كل عظم إلى صاحبه. فناداهم بذلك، فنظر إلى العظام تتواثب يأخذ بعضُها بعضًا، ثم قيل له: قل أيها اللحم والعصَب والجلد، اكسِ العظام بإذن ربك، قال فنظر إليها والعصب يأخذ العظام، ثم اللحم والجلد والأشعار، حتى استووا خلْقًا ليست فيهم الأرواح، ثم دعا لهم بالحياة، فتغشاه من السماء شيء كرَبَه، حتى غُشِيَ منه، ثم أفاق والقوم جلوس يقولون: سبحان الله فقد أحياهم الله! فلم يذكر لنا مدة مكْث حزقيل في بني إسرائيل.
إلياس واليسع عليهما السلام
ولما قبض الله حزقيل كثرت الأحداث - فيما ذكر - في بني إسرائيل، وتركوا عهد الله الذي عهد إليهم في التوراة، وعبدوا الأوثان، فبعث الله إليهم فيما قيل: إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران.
فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق: ثم إن الله عز وجل قبض حزقيل، وعظمت في بني إسرائيل الأحداث، ونَسوا ما كان من عهدِ الله إليهم، حتى نصبوا الأوثان وعبدوها من دون الله، فبعث الله إليهم إلياس بن ياسين بن فِنْحاص بن العيزار بن هارون بن عمران نبيًا؛ وإنما كانت الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى يُبعثون إليهم بتجديد ما نسوا من التوراة. فكان إلياسُ مع ملِك من ملوك بني إسرائيل يقال له أحاب، وكان اسم امرأته أزبل، وكان يسمع منه ويصدّقه، وكان إلياس يقيم له أمرَه، وكان سائر بني إسرائيل قد اتخذوا صنمًا يعبدونه من دون الله، يقال له: بَعْلِ. قال ابن إسحاق: وقد سمعت بعض أهل العلم يقول: ما كان بعْل إلا امرأة يعبدونها من دون الله يقول الله لمحمد " وإن إلياسَ لمنَ المرسَلين إذ قال لقومه ألا تتقون " - إلى قوله: " الله ربكم وربَّ آبائكُمُ الأولين " - فجعل إلياس يدعوهم إلى الله، وجعلوا لا يسمعون منه شيئًا إلا ما كان من ذلك الملك، الذي كان إلياس معه، يقوم له بأمره، ويراه على هدى من بين أصحابه يومًا يا إلياس، والله ما أرى ما تدعو إليه إلا باطلًا، والله ما أرى فلانًا وفلانًا فعد ملوكًا من ملوك بني إسرائيل قد عبدوا الأوثان من دون الله إلا على مثل ما نحن عليه، يأكلون ويشربون ويتنعمون، مملَّكين، ما ينقص دنياهم أمرهم الذي تزعم أنه باطل، وما نرى لنا عليهم من فضل.
فيزعمون - والله أعلم - أن إلياس استرجع وقام شعرُ رأسه وجلده، ثم رفضه وخرج عنه ففعل ذلك الملك فعل أصحابه؛ عَبَدَ الأوثان، وصنع ما يصنعون. فقال إلياس: اللهم إن بني إسرائيل قد أبوا إلا الكفر بك، والعبادة لغيرك، فغيّر ما بهم من نعمتك. أو كما قال.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: ذكر لي أنه أوحى إليه: إنا قد جعلنا أمر أرزاقهم بيدك وإليك؛ حتى تكون أنت الذي تأمر في ذلك. فقال إلياس: اللهمّ فأمسك عنهم المطر. فحبس عنهم ثلاث سنين حتى هلكت الماشية والدوابّ والهوامّ والشجر، وجَهِد الناس جهدًا شديدًا.
وكان إلياس - فيما يذكرون - حين دعا بذلك على بني إسرائيل قد استخفى شفقًا على نفسه منهم، وكان حيث ما كان وضع له رزق، فكانوا إذا وجدوا ريح الخبز في دار أو بيت قالوا: لقد دخل إلياس هذا المكان، فطلبوه، ولقي أهل ذلك المنزل منهم شرًّا. ثم إنه أوى ليلة إلى امرأة من بني إسرائيل، لها ابن يقال له اليسع بن أخطوب، به ضُرّ، فآوته وأخفت أمرَه، فدعا إلياس لابنها فعوفي من الضُرّ الذي كان به، واتبع اليسع فآمن به وصدّقه ولزمه، فكان يذهب معه حيثما ذهب، وكان إلياس قد أسنّ وكبِر، وكان اليسع غلامًا شابًا. فيزعمون - والله أعلم - أن الله أوحى إلى إلياس أنك قد هلكت كثيرًا من الخلق ممن لم يعصِ، سوى بني إسرائيل ممن لم أكن أريد هلاكه بخطايا بني إسرائيل من البهائم والدوابّ والطير والهوامّ والشجر، بحبس المطر عن بني إسرائيل. فيزعمون - والله أعلم - أن إلياس قال: أي رب، دعني أكن أنا الذي أدعو لهم به، وأكن أنا الذي آتيهم بالفرج مما هم فيه من البلاء الذي أصابهم، لعلهم أن يرجعوا وينزعوا عما هم عليه من عبادة غيرك. قيل له نعم، فجاء إلياس إلى بني إسرائيل، فقال لهم: إنكم قد هلكتم جهدًا، وهلكت البهائم والدوابّ والطير والهوام والشجر بخطاياكم، وأنكم على باطل وغرور - أو كما قال لهم - فإنْ كنتم تحبون أن تعلموا ذلك وتعلموا أن الله عليكم ساخط فيما أنتم عليه، وأن الذي أدعوكم إليه الحق، فاخرُجوا بأصنامكم هذه التي تعبدون وتزعمون أنها خير مما أدعوكم إليه؛ فإن استجابت لكم فذلك كما تقولون، وإن هي لم تفعل علمتم أنكم على باطل فنزعتم، ودعوت الله ففرّج عنكم ما أنتم فيه من البلاء. قالوا: أنصفت، فخرجوا بأوثانهم وما يتقربون به إلى الله من أحداثهم التي لا يرضى، فدعوها فلم تستجب لهم. ولم تفرّج عنهم ما كانوا فيه من البلاء، حتى عرفوا ما هم فيه من الضلالة والباطل، ثم قالوا لإلياس: يا إلياس؛ إنا قد هلكنا، فادع الله لنا، فدعا لهم إلياس بالفرج مما هم فيه، وأن يُسقَوا، فخرجت سحابة مثل الترس بإذن الله على ظهر البحر، وهم ينظرون، ثم ترامى إليه السحاب، ثم أدجنت، ثم أرسل الله المطر فأغاثهم، فحييت بلادُهم، وفرج عنهم ما كانوا فيه من البلاء، فلم ينزعوا ولم يرجعوا وأقاموا على أخبث ما كانوا عليه. فلما رأى ذلك إلياس من كفرهم دعا ربه أن يقبِضه إليه فيريحه منهم، فقيل له - فيما يزعمون: انظر يوم كذا وكذا فاخرج فيه إلى بلد كذا وكذا، فما جاءك من شيء فاركبه ولا تهبه، فخرج إلياس، وخرج معه اليسع بن أخطوب حتى إذا كان بالبلد الذي ذكر له في المكان الذي أمر به أقبل فرسٌ من نار، حتى وقف بين يديه فوثب عليه، فانطلق به فناداه اليسع: يا إلياس، يا إلياس، ما تأمرني؟ فكان آخر عهدهم به، فكساه الله الريش وألبسه النور، وقطع عنه لذة المطعم، والمشرب، وطار في الملائكة، فكان إنسيًا مَلكيًا أرضيًا سمائيًا.
ثم قام بعد إلياس بأمر بني إسرائيل - يعني في بني إسرائيل - بعده يعني بعد إلياس - اليسع، فكان فيهم ما شاء الله أن يكون، ثم قبضه الله إليه، وخلفت فيهم الخلُوف، وعظمت فيهم الخطايا، وعندهم التابوت يتوارثونه كابرًا عن كابر، فيه السكينة وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون، فكانوا لا يلقاهم عدوّ فيقدمون التابوت ويزحفون به معهم إلا هزن الله ذلك العدو.
والسكينة فيما ذكر ابن إسحاق عن وهب بن منبه عن بعض أهل العلم من بني إسرائيل رأس هرة ميتة، فإذا صرخَت في التابوت بصراخ هر أيقنوا بالنصر، وجاءهم الفتح.
ثم خلف فيهم ملِك يقال له إيلاف، وكان الله قد بارك لهم في جبلهم من إيليا، لا يدخله عليهم عدو، ولا يحتاجون معه إلى غيره، فكان أحدهم - فيما يذكرون - يجمع التراب على الصخرة، ثم ينبذ في الحب، فيخرج الله له ما يأكل منه سنة، وهو وعياله، ويكون لأحدهم الزيتونة فيعتصر منها ما يأكل؛ هو وعيالُه سنة، فلما عظمت أحداثهم، وتركوا عهد الله إليهم، نزل بهم عدو فخرجوا إليه وأخرجوا التابوت كما كانوا يخرجونه، ثم زحفوا به فقوتلوا حتى استُلب من أيديهم، فأتى ملكهم إيلاف، فأخبر أن التابوت قد أخذ واستلب. فمالت عنقه فمات كمدًاُ عليه، فمرج أمرهم بينهم واختلف ووطئهم عدوهم حتى أصيب من أبنائهم ونسائهم، فمكثوا على اضطراب من أمرِهم، واختلاف من أحوالهم يتمادون أحيانًا في غيهم وضلالهم، فسلط الله عليهم من ينتقم به منهم، ويراجعون التوبة أحيانًا فيكفيهم الله عند ذلك شر مَنْ بَغَاهم سوءًا؛ حتى بعث الله فيهم طالوت ملكًا، وردّ عليهم تابوت الميثاق.
وكانت مدة ما بين وفاة يوشع بن نون - التي كان أمر بني إسرائيل في بعضها إلى القضاة منهم والساسة، وفي بعضها إلى غيرهم ممن يقهرهم فيتملّك عليهم من غيرهم إلى أن ثبت الملك فيهم، ورجعت النبوة إليهم بشمويل بن بالي - أربعمائة سنة وستين سنة. فكان أولَ من سُلِّط عليهم غيما قيل رجل من نسل لوط، يقال له: كوشان، فقهرهم وأذلهم ثمانيَ سنين، ثم تنقّذهم من يده أخ لكالب الأصغر يقال له عتنيل بن قيس - فقام بأمرهم فيما قيل - أربعين سنة، سُلِّط عليهم ملك يقال له جعلون فملكهم ثمانيَ عشرة سنة، ثم تنقّذهم منه - فيما قيل - رجل من سبط بنيامين يقال له أهود بن حيرا الأشلّ اليمنى، فقام بأمرهم ثمانين سنة، ثم سلط عليهم ملك من الكنعانيين يقال له يا فين، فملكهم عشرين سنة، ثم تنقّذهم - فيما قيل - امرأة نبية من أنبيائهم يقال لها دبورا فدبر أمرهم - فيما قيل - رجل من قِبلها يقال له باراق أربعين سنة، ثم سُلط عليهم قوم من نسل لوط كانت لهم منازل في تخوم الحجاز فملكوهم سبع سنين، ثم تنقّذهم منهم رجل من ولد نفثالي بن يعقوب يقال له جدعون بن يواش، فدبر أمرهم أربعين سنة، ثم دبر أمرهم من بعد جدعون ابنه أبيملك بن جدعون ثلاث سنين، ثم دبرهم من بعد أبيملك تولغ بن فوا بن خال أبيملك. وقيل إنه ابن عمه - ثلاثًا وعشرين سنة، ثم دبر أمرهم بعد تولغ رجل من بني إسرائيل يقال له: ياثير اثنتين وعشرين سنة، ثم ملكهم بنو عمون، وهم قوم من أهل فلسطين ثمانيَ عشرة سنة، ثم قام بأمرهم رجل منهم يقال له يفتح ست سنين، ثم دبرهم من بعده يجشون، وهو رجل من بني إسرائيل سنع سنين، ثم دبرهم بعده ألون عشر سنين، ثم من بعده كيرون - ويسميه بعضهم عكرون - ثماني سنين، ثم قهرهم أهل فلسطين وملوكهم أربعين سنة، ثم وليهم شمسون وهو من بني إسرائيل عشرين سنة، ثم بقوا بغير رئيس ولا مدبّر لأمرهم بعد شمسون - فيما قيل - عشر سنين، ثم دبر أمرهم بعد ذلك عالي الكاهن، وفي أيامه غلب أهل غزّة وعسقلان على تابوت الميثاق، فلما مضى من وقت قيامه بأمرهم أربعين سنة، بعث سمويل نبيًا فدبر شمويل أمرهم - فيما ذكر - عشر سنين. ثم سألوا شمويل حين نالهم بالذل والهوان بمعصيتهم ربهم أعداؤهم، أن يبعث لهم ملِكًا يجاهدون معه في سبيل الله، فقال لهم شمويل ما قد قصّ الله في كتابه العزيز.
ذكر خبر داود
ابن إيشي بن عويد بن باعز بن سلمون بن نحشون بن عمى نادب بن رام بن حصرون بن فارص بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.
وكان داود عليه السلام - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبّه - قصيرًا أزرق قليلَ الشعر، طاهر القلب نقيّه.
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني ابن زيد في قول الله: " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوفٌ حذر الموت " إلى قوله: " والله عليم بالظالمين " قال: أوحى الله إلى نبيّهم أن في ولد فلان رجلًا يقتل الله به جالوت، ومن علامته هذا القرن يضعه على رأسه فيفيض ماء، فأتاه فقال: إن الله عز وجل أوحى إلي أنّ في وَلَدك رجلًا يقتل الله به جالوت. فقال: نعم يا نبي الله، قال: فأخرج له اثني عشر رجلًا أمثال السواري وفيهم رجلًا بارع عليهم، فجعل يعرِضهم على القرْن فلا يرى شيئًا، فيقول لذلك الجسيم: ارجع، فيردده عليه، فأوحى الله إليه: إنا لا نأخذ الرجال على صُورهم، ولكنا نأخذهم على صلاح قلوبهم، قال: يا رب، قد زعم أنه ليس له ولد غيره، فقال: كذب، فقال: إن ربي قد كذبك، وقال: إن لك ولدًا غيرهم. قال: قد صدق يا نبي الله إن لي ولدًا قصيرًا استحييت أن يراه الناس فجعلته في الغنم، قال: فأين هو؟ قال: في شِعْب كذا وكذا، من جبل كذا وكذا، فخرج إليه فوجد الواديَ قد سال بينه وبين البقعة التي كان يريح إليها. قال: ووجده يحمل شاتين شاتين، يُجيزُ بهما السيل ولا يخوض بهما السيل. فلما رآه قال: هذا هو، لا شك فيه، هذا يرحم البهائم، فهو بالناس أرحم! قال: فوضع القرن على رأسه ففاض.
حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقِل، عن وهب بن منبّه قال: لما سلّمت بنو إسرائيل المُلك لطالوت، أوحى الله إلى نبي بني إسرائيل: أن قل لطالوت: فليغزُ أهلَ مدين، فلا يترك فيها حيًا إلا قتله، فإني سأظهرُه عليهم، فخرج بالناس حتى أتى مدين، فقتل مَنْ كان فيها، إلا ملكهم فإنه أسره، وساق مواشيهم، فأوحى الله إلى أشمويل: ألا تعجبُ من طالوت إذ أمرته بأمري فاختل فيه، فجاء بملكهم أسيرًا، وساق مواشيهم! فالقه فقل له: لأنزعنّ الملك من بيته، ثم لا يعود فيه إلى يوم القيامة، فإني إنما أكرم منْ أطاعني، وأهين من هان عليه أمري. فلقيه فقال له: ما صنعت! لم جئت بملكهم أسيرًا، ولم سقت مواشيهم؟ قال: إنما سقت المواشي لأقرّبها، قال له أشمويل: إن الله قد نزع من بيتك المُلك ثم لا يعود فيه إلى يوم القيامة، فأوحى الله إلى أشمويل: انطلق إلى إيشى فيعرِض عليك بنيه، فادهُن الذي آمرك بدُهْن القدس، يكُنْ ملكًا على بني إسرائيل. فانطلق حتى أتى إيشى، فقال: اعرض علي بنيك، فدعا إيشى أكبرَ ولده، فأقبل رجل جسيم حسن المنظر، فلما نظر إليه أشمويل أعجبه، فقال: الحمد لله، إن الله بصير بالعباد! فأوحى الله إليه: إن عينيك تبصران ما ظهر، وإني أطّلع على ما في القلوب، ليس بهذا! فقال: ليس بهذا، اعرض علي غيره. فعرض عليه ستة، في كل ذلك يقول: ليس بهذا، اعرض علي غيره، فقال: هل لك من ولد غيرهم؟ فقال: بلى، لي غلام أمغر وهو راع في الغنم. قال: أرسل إليه، فلما أن جاء داود، جاء غلام أمغر؛ فدهنه بدُهن القدس، وقال لأبيه: اكتم هذا، فإن طالوت لو يطّلع عليه قتله. فسار جالوت في قومه إلى بني إسرائيل فعسكر، وسار طالوت ببني إسرائيل وعسكر، وتهيئوا للقتال، فأرسل جالوت إلى طالوت: لم يُقتل قومي وقومُك؟ ابرُز لي، أو أبرِز لي من شئت، فإن قتلتُك كان الملك لي، وإن قتلتني كان الملك لك. فأرسل طالوت في عسكره صائحًا: من يبرز لجالوت! ثم ذكر قصة طالوت وجالوت وقتل داود إياه، وما كان من طالوت إلى داود.
قال أبو جعفر: وفي هذا الخبر بيان أن داود قد كان الله حوّل الملك له قبل قتله جالوت، وقبل أن يكون من طالوت إليه ما كان من محاولته قتله، وأما سائر من روينا عنه قولًا في ذلك، فإنهم قالوا: إنما مَلك داود بعدما قتل طالوت وولده.
وقد حدثنا ابن حميد، قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق - فيما ذكر لي بعض أهل العلم - عن وهب بن منبّه قال: لما قتل داودُ جالوت، وانهزم جنده قال الناس: قتل داود جالوت وخلع طالوت، وأقبل الناس على داود مكانه حتى لم يسمع لطالوت بذكْر.
قال: ولما اجتمعت بنو إسرائيل على داود أنزل الله عليه الزبور، وعلّمه صنعة الحديد، وألانَه له، وأمر الجبال والطير أن يسبّحن معه إذا سبّح، ولم يعطِ الله - فيما يذكرون - أحدًا من خلقه مثل صوته، كان إذا قرأ الزبور - فيما يذكرون - ترنو له الوحوش حتى يؤخذ بأعناقها، وإنها لَمُصِيخة تسمع لصوته، وما صنعت الشياطين المزامير والبرابط والصنوج إلا على أصناف صوته، وكان شديد الاجتهاد، دائب العبادة، كثير البكاء، وكان كما وصفه الله عز وجل لنبيه محمد عليه السلام فقال: " واذكر عبدنا داود ذا الأيدِ إنه أوّابٌ، إنا سخّرنا الجبال معه يسبّحن بالعَشيِّ والإشراق، يعني بذلك ذا القوة.
وقد حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: " واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أوّاب "، وقال: أعطيَ قوة في العبادة، وفقهًا في الإسلام. وقد ذُكر لنا أن داود عليه السلام كان يقوم الليل ويصوم نصف الدهر. وكان يحرسه - فيما ذكر - في كل يوم وليلة أربعة آلاف.
حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضّل، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، في قوله: " وشددنا ملكَه "، قال: كان يحرسُه كل يوم وليلة أربعة آلاف.
وذُكر أنه تمنى يومًا من الأيام على ربه منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وسأله أن يمتحنه بنحو الذي كان امتحنهم، ويعطيَه من الفضل نحو الذي كان أعطاهم.
فحدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، قال: قال: السدي: كان داود قد قسّم الدهر ثلاثة أيام: يومًا يقضي فيه بين الناس، ويومًا يخلو فيه لعبادة ربه، ويومًا يخلو فيه لنسائه، وكان له تسع وتسعون امرأة، وكان فيما يقرأ من الكتب أنه كان يجد فيه فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فلما وجد ذلك فيما يقرأ من الكتب، قال: يا رب أرى الخير كلّه قد ذهب به آبائي الذين كانوا قبلي، فأعطني مثل ما أعطيتهم، وافعل بي مثل ما فعلت بهم. قال: فأوحى الله إليه أن آباءك ابتُلوا ببلايا لم تبتل بها، ابتلي إبراهيم بذبح ابنه، وابتلي إسحاق بذهاب بصره، وابتُلي يعقوب بحزنه على ابنه يوسف، وإنك لم تبتل من ذلك بشيء. قال: يا رب ابتلني بمثل ما ابتليتهم به، وأعطني مثل ما أعطيتهم. قال: فأوحى الله إليه أنك مبتلىً فاحترس. قال: فمكث بعد ذلك ما شاء الله أن يمكث إذ جاءه الشيطان قد تمثل في صورة حمامة من ذهب، حتى وقع عند رجليه وهو قائم يصلّي، قال: فمد يده ليأخذه فتنحى فتبعه، فتباعدا حتى وقع في كُوّة، فذهب ليأخذه، فطار من الكوة، فنظر أين يقع فيبعث في أثره، قال: فأبصر امرأة تغتسل على سطح لها، فرأى امرأة من أجمل النساء خلْقًا، فحانت منها التفاتة فأبصرته، فألقت شعرها فاستترت به، قال: فزاده ذلك فيها رغبة، قال: فسأل عنها فأخبِر أن لها زوجًا، وأن زوجها غائب بمسلَحة كذا وكذا، قال: فبعث إلى صاحب المسلحة يأمره أن يبعث أهريا إلى عدوّ كذا وكذا. قال: فبعثه ففتح له، قال: وكتب إليه بذلك، فكتب إليه أيضًا: أن ابعثه إلى عدوّ كذا وكذا، أشد منهم بأسًا. قال: فبعثه ففتح له أيضًا، قال: فكتب إلى داود بذلك، قال: فكتب إليه أن ابعثه إلى عدو كذا وكذا. قال: فبعثه، قال: فقتل المرّة الثالثة، قال: وتزوّج داود امرأته، فلما دخلتْ عليه لم تلبث عنده إلا يسيرًا حتى بعث الله ملكين في صورة إنسيين فطلبا أن يدخلا عليه، فوجداه في يوم عبادته، فمنعهما الحرس أن يدخلا عليه، فتسوّرا عليه المحراب، قال: فما شعُر وهو يصلي إذا هو بهما بين يديه جالسين، قال: ففزع منهما، فقالا: لا تخف، إنما نحن " خصمان بغى بعضُنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط " يقول: لا تحِف، " واهدنا إلى سواء الصراط " إلى عدل القضاء. قال: قُصّا علي قصتكما، قال: فقال: أحدهما: " إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة ". فهو يريد أن يأخذ نعجتي، فيكمّل بها نعاجه مائة، قال: فقال للآخر: ما تقول؟ فقال: إن لي تسعًا وتسعين نعجة، ولأخي هذا نعجة واحدة، فأنا أريد أن آخذها منه، فأكمّل بها نعاجي مائة، قال: وهو كاره! قال: وهو كاره، قال: إذًا لا ندعك وذاك، قال: ما أنت على ذلك بقادر! قال: فإن ذهبت تَرُوم ذلك أو تريد ذلك، ضربنا منك هذا وهذا - وفسّر أسباط طَرف الأنف والجبهة - فقال: يا داود، أنت أحق أن يُضرب منك هذا وهذا، حيث لك تسع وتسعون امرأة، ولم يكن لأهريا إلا امرأة واحدة. فلم تزل به تعرّضه للقتل حتى قُتِل، وتزوجت امرأته. قال: فنظر فلم ير شيئًا، قال: فعرف ما قد وقع فيه، وما ابتُلي به، قال: فخرّ ساجدًا فبكى، قال: فمكث يبكي ساجدًا أربعين يومًا لا يرفع رأسه إلا لحاجة لا بد منها، ثم يقع ساجدًا يبكي، ثم يدعو حتى نبت العُشب من دموع عينيه، قال: فأوحى الله إليه عز وجل إليه أربعين يومًا: يا داود، ارفع رأسك قد غفرتُ لك، فقال: يا رب، كيف أعلم أنك قد غفرتَ لي وأنت حكَمٌ عدل لا تحيف في القضاء؛ إذا جاء أهريا يوم القيامة آخذًا رأسه بيمينه أو بشماله تشخَبُ أوداجه دمًا في قِبَل عرشك: يقول يا رب، سل هذا فيم قتلني! قال فأوحى الله إليه: إذا كان ذلك دعوت أهريا فأستوهبك منه، فيهبك لي فأثيبه بذلك الجنة. قال: رب الآن علمت أنك قد غفرت لي، قال: فما استطاع أن يملأ عينيه من السماء حياءً من ربه حتى قبض.
حدثني علي بن سهل، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال: حدثني عطاء الخراساني، قال: نقَش داود خطيئته في كفه لكيلا ينساها؛ فكان إذا رآها خفقت يده واضطربت.
وقد قيل: إن سبب المحنة بما امتُحن به، أن نفسه حدثته أنه يُطيق قطْع يوم من الأيام بغير مقارفة سوء، فكان اليوم الذي عرَض له فيه ما عرض، اليوم الذي ظن أنه يقطعه بغير اقتراف سوء.
ذكر من قال ذلك
حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن مطر، عن الحسن، أن داود جزّأ الدهر أربعة أجزاء: يومًا لنسائه، ويومًا لعبادته، ويومًا لقضاء بني إسرائيل، ويومًا لبني إسرائيل؛ يذاكرهم ويذاكرونه، ويبكيهم ويبكونه. فلما كان يوم بني إسرائيل، ذكروا فقالوا: هل يأتي على الإنسان يومٌ لا يصيب فيه ذنبًا! فأضمر داود في نفسه أنه سيُطيق ذلك، فلما كان يوم عبادته غلّق أبوابه، وأمر ألا يدخل عليه أحد، وأكبّ على التوراة، فبينما هو يقرؤها إذا حمامة من ذهب، فيها من كل لون حسن، قد وقعت بين يديه، فأهوى إليها ليأخذَها، قال: فطارت فوقعت غير بعيد، من غير أن تؤئِسَه من نفسها، قال: فما زال يتبعها حتى أشرف على امرأة تغتسل، فأعجبه خَلْقها وحسنها، فلما رأت ظلّه في الأرض جلّلت نفسها بشعرها، فزاده ذلك أيضًا إعجابًا بها، وكان قد بعث زوجَها على بعض جيوشه، فكتب إليه أن يسير إلى مكان كذا وكذا - مكان إذا سار إليه لم يرجع - قال: ففعل فأصيب، فخطبها فتزوّجها - قال: وقال قتادة بلغنا أنها أم سليمان - قال: فبينما هو في المحراب إذ تسوّر الملَكان عليه، وكان الخصمان إذا أتوه يأتونه من باب المحراب، ففزع منهم حين تسوّروا المحراب، فقالوا: " لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض " حتى بلغ: ولا تُشطِطْ " أي ولا تملْ " واهدنا إلى سواء الصراط " أي أعدله وخيره، " إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة " - وكان لداود تسع وتسعون امرأة - " ولي نعجة واحدة " قال: وإنما كان للرجل امرأةٌ واحدة " فقال أكفلنيها وعزّني في الخِطاب "، أي ظلمني وقهرني. " قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه " - إلا " وظن داود "، فعلم أنما أضمِر له، أي عُني بذلك، " فخرّ راكعًا وأناب ".
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثًا يذكر عن مجاهد، قال: لما أصاب داودَ الخطيئة، خر لله ساجدًا أربعين يومًا، حتى نبت من دموع عينيه من البقل ما غطّى رأسه، ثم نادى: يا رب قرِح الجبين، وجمدت العين! وداود لم يُرجع إليه من خطيئته شيء. فنودي: أجائع فتطعَم؟ أم مريض فتُشفى؟ أم مظلوم فيُنتصر لك! قال: فنحِب نحْبةً هاج كل شيء كان نبت، فعند ذلك غُفِر له. وكانت خطيئته مكتوبة بكفه يقرؤها، وكان يؤتي بالإناء ليشرب فلا يشرب إلا ثُلثه أو نصفه، وكان يذكر خطيئته فينتحب النحبة تكاد مفاصله يزول بعضها عن بعض، ثم ما يتم شربه حتى يملأ الإناء من دموعه. وكان يقال: إن دمعة داود تعدل دمعة الخلائق، ودمعة أدم تعدل دمعة داود ودمعة الخلائق. قال: وهو يجيء يوم القيامة خطيئته مكتوبة بكفّه فيقول: رب ذنبي ذنبي قدِّمْني! قال: فيقدَّم فلا يأمن، فيقول رب أخرني، قال: فيؤخر فلا يأمن.
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن لهيعة، عن أبي صخر، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله يقول: إن داود النبي عليه السلام حين نظر إلى المرأة فأهمّ، قطَع على بني إسرائيل بعثًا، فأوصى صاحب البعث، فقال: إذا حضر العدو فقرّب فلانًا بين يدي التابوت، وكان التابوت في ذلك الزمان يَستنصر به من قدم بين يدي التابوت لم يرجع حتى يقتل أو ينهزم عنه الجيش، فقُتل زوج المرأة، ونزل الملَكان على داود يقصّان عليه قصته، ففطن داود فسجد، فمكث أربعين ليلة ساجدًا، حتى نبت الزرع من دموعه على رأسه، وأكلت الأرض من جبينه، وهو يقول في سجوده - فلم أحص من الرقاشي إلا هؤلاء الكلمات: رب زلّ داود زلة أبعد مما بين المشرق والمغرب! ربي إن لم ترحم ضُعف داود، وتغفر ذنبه جعلتَ ذنبه حديثًا في الخُلوف من بعده. فجاءه جبرائيل من بعد أربعين ليلة فقال: يا داود، إن الله قد غفر لك الهمّ الذي هممتَ به، فقال داود: قد علمتُ أن الله قادر على أن يغفر ليَ الهم الذي هممتُ به، وقد عرفتُ أن الله عدْلٌ لا يمول، فكيف بفلان إذا جاء يوم القيامة؛ فقال: يا رب دمي الذي عند داود! فقال جبرئيل: ما سألتُ ربك عن ذلك، ولئن شئت لأفعلن، قال: نعم، قال: فعرج جبرئيل وسجد داود، فمكث ما شاء الله ثم نزل، فقال: قد سألتُ الله يا داود عن الذي أرسلتني فيه فقال: قل له: يا داود، إن الله يجمعكما يوم القيامة فيقول: هب لي دمك الذي عند داود، فيقول: هو لك يا رب، فيقول: فإن لك في الجنة ما شئت وما اشتهيت عِوَضًا.
ذكر خبر داود
ابن إيشي بن عويد بن باعز بن سلمون بن نحشون بن عمى نادب بن رام بن حصرون بن فارص بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.
وكان داود عليه السلام - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبّه - قصيرًا أزرق قليلَ الشعر، طاهر القلب نقيّه.
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني ابن زيد في قول الله: " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوفٌ حذر الموت " إلى قوله: " والله عليم بالظالمين " قال: أوحى الله إلى نبيّهم أن في ولد فلان رجلًا يقتل الله به جالوت، ومن علامته هذا القرن يضعه على رأسه فيفيض ماء، فأتاه فقال: إن الله عز وجل أوحى إلي أنّ في وَلَدك رجلًا يقتل الله به جالوت. فقال: نعم يا نبي الله، قال: فأخرج له اثني عشر رجلًا أمثال السواري وفيهم رجلًا بارع عليهم، فجعل يعرِضهم على القرْن فلا يرى شيئًا، فيقول لذلك الجسيم: ارجع، فيردده عليه، فأوحى الله إليه: إنا لا نأخذ الرجال على صُورهم، ولكنا نأخذهم على صلاح قلوبهم، قال: يا رب، قد زعم أنه ليس له ولد غيره، فقال: كذب، فقال: إن ربي قد كذبك، وقال: إن لك ولدًا غيرهم. قال: قد صدق يا نبي الله إن لي ولدًا قصيرًا استحييت أن يراه الناس فجعلته في الغنم، قال: فأين هو؟ قال: في شِعْب كذا وكذا، من جبل كذا وكذا، فخرج إليه فوجد الواديَ قد سال بينه وبين البقعة التي كان يريح إليها. قال: ووجده يحمل شاتين شاتين، يُجيزُ بهما السيل ولا يخوض بهما السيل. فلما رآه قال: هذا هو، لا شك فيه، هذا يرحم البهائم، فهو بالناس أرحم! قال: فوضع القرن على رأسه ففاض.
حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقِل، عن وهب بن منبّه قال: لما سلّمت بنو إسرائيل المُلك لطالوت، أوحى الله إلى نبي بني إسرائيل: أن قل لطالوت: فليغزُ أهلَ مدين، فلا يترك فيها حيًا إلا قتله، فإني سأظهرُه عليهم، فخرج بالناس حتى أتى مدين، فقتل مَنْ كان فيها، إلا ملكهم فإنه أسره، وساق مواشيهم، فأوحى الله إلى أشمويل: ألا تعجبُ من طالوت إذ أمرته بأمري فاختل فيه، فجاء بملكهم أسيرًا، وساق مواشيهم! فالقه فقل له: لأنزعنّ الملك من بيته، ثم لا يعود فيه إلى يوم القيامة، فإني إنما أكرم منْ أطاعني، وأهين من هان عليه أمري. فلقيه فقال له: ما صنعت! لم جئت بملكهم أسيرًا، ولم سقت مواشيهم؟ قال: إنما سقت المواشي لأقرّبها، قال له أشمويل: إن الله قد نزع من بيتك المُلك ثم لا يعود فيه إلى يوم القيامة، فأوحى الله إلى أشمويل: انطلق إلى إيشى فيعرِض عليك بنيه، فادهُن الذي آمرك بدُهْن القدس، يكُنْ ملكًا على بني إسرائيل. فانطلق حتى أتى إيشى، فقال: اعرض علي بنيك، فدعا إيشى أكبرَ ولده، فأقبل رجل جسيم حسن المنظر، فلما نظر إليه أشمويل أعجبه، فقال: الحمد لله، إن الله بصير بالعباد! فأوحى الله إليه: إن عينيك تبصران ما ظهر، وإني أطّلع على ما في القلوب، ليس بهذا! فقال: ليس بهذا، اعرض علي غيره. فعرض عليه ستة، في كل ذلك يقول: ليس بهذا، اعرض علي غيره، فقال: هل لك من ولد غيرهم؟ فقال: بلى، لي غلام أمغر وهو راع في الغنم. قال: أرسل إليه، فلما أن جاء داود، جاء غلام أمغر؛ فدهنه بدُهن القدس، وقال لأبيه: اكتم هذا، فإن طالوت لو يطّلع عليه قتله. فسار جالوت في قومه إلى بني إسرائيل فعسكر، وسار طالوت ببني إسرائيل وعسكر، وتهيئوا للقتال، فأرسل جالوت إلى طالوت: لم يُقتل قومي وقومُك؟ ابرُز لي، أو أبرِز لي من شئت، فإن قتلتُك كان الملك لي، وإن قتلتني كان الملك لك. فأرسل طالوت في عسكره صائحًا: من يبرز لجالوت! ثم ذكر قصة طالوت وجالوت وقتل داود إياه، وما كان من طالوت إلى داود.
قال أبو جعفر: وفي هذا الخبر بيان أن داود قد كان الله حوّل الملك له قبل قتله جالوت، وقبل أن يكون من طالوت إليه ما كان من محاولته قتله، وأما سائر من روينا عنه قولًا في ذلك، فإنهم قالوا: إنما مَلك داود بعدما قتل طالوت وولده.
وقد حدثنا ابن حميد، قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق - فيما ذكر لي بعض أهل العلم - عن وهب بن منبّه قال: لما قتل داودُ جالوت، وانهزم جنده قال الناس: قتل داود جالوت وخلع طالوت، وأقبل الناس على داود مكانه حتى لم يسمع لطالوت بذكْر.
قال: ولما اجتمعت بنو إسرائيل على داود أنزل الله عليه الزبور، وعلّمه صنعة الحديد، وألانَه له، وأمر الجبال والطير أن يسبّحن معه إذا سبّح، ولم يعطِ الله - فيما يذكرون - أحدًا من خلقه مثل صوته، كان إذا قرأ الزبور - فيما يذكرون - ترنو له الوحوش حتى يؤخذ بأعناقها، وإنها لَمُصِيخة تسمع لصوته، وما صنعت الشياطين المزامير والبرابط والصنوج إلا على أصناف صوته، وكان شديد الاجتهاد، دائب العبادة، كثير البكاء، وكان كما وصفه الله عز وجل لنبيه محمد عليه السلام فقال: " واذكر عبدنا داود ذا الأيدِ إنه أوّابٌ، إنا سخّرنا الجبال معه يسبّحن بالعَشيِّ والإشراق، يعني بذلك ذا القوة.
وقد حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: " واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أوّاب "، وقال: أعطيَ قوة في العبادة، وفقهًا في الإسلام. وقد ذُكر لنا أن داود عليه السلام كان يقوم الليل ويصوم نصف الدهر. وكان يحرسه - فيما ذكر - في كل يوم وليلة أربعة آلاف.
حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضّل، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، في قوله: " وشددنا ملكَه "، قال: كان يحرسُه كل يوم وليلة أربعة آلاف.
وذُكر أنه تمنى يومًا من الأيام على ربه منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وسأله أن يمتحنه بنحو الذي كان امتحنهم، ويعطيَه من الفضل نحو الذي كان أعطاهم.
فحدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، قال: قال: السدي: كان داود قد قسّم الدهر ثلاثة أيام: يومًا يقضي فيه بين الناس، ويومًا يخلو فيه لعبادة ربه، ويومًا يخلو فيه لنسائه، وكان له تسع وتسعون امرأة، وكان فيما يقرأ من الكتب أنه كان يجد فيه فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فلما وجد ذلك فيما يقرأ من الكتب، قال: يا رب أرى الخير كلّه قد ذهب به آبائي الذين كانوا قبلي، فأعطني مثل ما أعطيتهم، وافعل بي مثل ما فعلت بهم. قال: فأوحى الله إليه أن آباءك ابتُلوا ببلايا لم تبتل بها، ابتلي إبراهيم بذبح ابنه، وابتلي إسحاق بذهاب بصره، وابتُلي يعقوب بحزنه على ابنه يوسف، وإنك لم تبتل من ذلك بشيء. قال: يا رب ابتلني بمثل ما ابتليتهم به، وأعطني مثل ما أعطيتهم. قال: فأوحى الله إليه أنك مبتلىً فاحترس. قال: فمكث بعد ذلك ما شاء الله أن يمكث إذ جاءه الشيطان قد تمثل في صورة حمامة من ذهب، حتى وقع عند رجليه وهو قائم يصلّي، قال: فمد يده ليأخذه فتنحى فتبعه، فتباعدا حتى وقع في كُوّة، فذهب ليأخذه، فطار من الكوة، فنظر أين يقع فيبعث في أثره، قال: فأبصر امرأة تغتسل على سطح لها، فرأى امرأة من أجمل النساء خلْقًا، فحانت منها التفاتة فأبصرته، فألقت شعرها فاستترت به، قال: فزاده ذلك فيها رغبة، قال: فسأل عنها فأخبِر أن لها زوجًا، وأن زوجها غائب بمسلَحة كذا وكذا، قال: فبعث إلى صاحب المسلحة يأمره أن يبعث أهريا إلى عدوّ كذا وكذا. قال: فبعثه ففتح له، قال: وكتب إليه بذلك، فكتب إليه أيضًا: أن ابعثه إلى عدوّ كذا وكذا، أشد منهم بأسًا. قال: فبعثه ففتح له أيضًا، قال: فكتب إلى داود بذلك، قال: فكتب إليه أن ابعثه إلى عدو كذا وكذا. قال: فبعثه، قال: فقتل المرّة الثالثة، قال: وتزوّج داود امرأته، فلما دخلتْ عليه لم تلبث عنده إلا يسيرًا حتى بعث الله ملكين في صورة إنسيين فطلبا أن يدخلا عليه، فوجداه في يوم عبادته، فمنعهما الحرس أن يدخلا عليه، فتسوّرا عليه المحراب، قال: فما شعُر وهو يصلي إذا هو بهما بين يديه جالسين، قال: ففزع منهما، فقالا: لا تخف، إنما نحن " خصمان بغى بعضُنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط " يقول: لا تحِف، " واهدنا إلى سواء الصراط " إلى عدل القضاء. قال: قُصّا علي قصتكما، قال: فقال: أحدهما: " إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة ". فهو يريد أن يأخذ نعجتي، فيكمّل بها نعاجه مائة، قال: فقال للآخر: ما تقول؟ فقال: إن لي تسعًا وتسعين نعجة، ولأخي هذا نعجة واحدة، فأنا أريد أن آخذها منه، فأكمّل بها نعاجي مائة، قال: وهو كاره! قال: وهو كاره، قال: إذًا لا ندعك وذاك، قال: ما أنت على ذلك بقادر! قال: فإن ذهبت تَرُوم ذلك أو تريد ذلك، ضربنا منك هذا وهذا - وفسّر أسباط طَرف الأنف والجبهة - فقال: يا داود، أنت أحق أن يُضرب منك هذا وهذا، حيث لك تسع وتسعون امرأة، ولم يكن لأهريا إلا امرأة واحدة. فلم تزل به تعرّضه للقتل حتى قُتِل، وتزوجت امرأته. قال: فنظر فلم ير شيئًا، قال: فعرف ما قد وقع فيه، وما ابتُلي به، قال: فخرّ ساجدًا فبكى، قال: فمكث يبكي ساجدًا أربعين يومًا لا يرفع رأسه إلا لحاجة لا بد منها، ثم يقع ساجدًا يبكي، ثم يدعو حتى نبت العُشب من دموع عينيه، قال: فأوحى الله إليه عز وجل إليه أربعين يومًا: يا داود، ارفع رأسك قد غفرتُ لك، فقال: يا رب، كيف أعلم أنك قد غفرتَ لي وأنت حكَمٌ عدل لا تحيف في القضاء؛ إذا جاء أهريا يوم القيامة آخذًا رأسه بيمينه أو بشماله تشخَبُ أوداجه دمًا في قِبَل عرشك: يقول يا رب، سل هذا فيم قتلني! قال فأوحى الله إليه: إذا كان ذلك دعوت أهريا فأستوهبك منه، فيهبك لي فأثيبه بذلك الجنة. قال: رب الآن علمت أنك قد غفرت لي، قال: فما استطاع أن يملأ عينيه من السماء حياءً من ربه حتى قبض.
حدثني علي بن سهل، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال: حدثني عطاء الخراساني، قال: نقَش داود خطيئته في كفه لكيلا ينساها؛ فكان إذا رآها خفقت يده واضطربت.
وقد قيل: إن سبب المحنة بما امتُحن به، أن نفسه حدثته أنه يُطيق قطْع يوم من الأيام بغير مقارفة سوء، فكان اليوم الذي عرَض له فيه ما عرض، اليوم الذي ظن أنه يقطعه بغير اقتراف سوء.
ذكر من قال ذلك
حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن مطر، عن الحسن، أن داود جزّأ الدهر أربعة أجزاء: يومًا لنسائه، ويومًا لعبادته، ويومًا لقضاء بني إسرائيل، ويومًا لبني إسرائيل؛ يذاكرهم ويذاكرونه، ويبكيهم ويبكونه. فلما كان يوم بني إسرائيل، ذكروا فقالوا: هل يأتي على الإنسان يومٌ لا يصيب فيه ذنبًا! فأضمر داود في نفسه أنه سيُطيق ذلك، فلما كان يوم عبادته غلّق أبوابه، وأمر ألا يدخل عليه أحد، وأكبّ على التوراة، فبينما هو يقرؤها إذا حمامة من ذهب، فيها من كل لون حسن، قد وقعت بين يديه، فأهوى إليها ليأخذَها، قال: فطارت فوقعت غير بعيد، من غير أن تؤئِسَه من نفسها، قال: فما زال يتبعها حتى أشرف على امرأة تغتسل، فأعجبه خَلْقها وحسنها، فلما رأت ظلّه في الأرض جلّلت نفسها بشعرها، فزاده ذلك أيضًا إعجابًا بها، وكان قد بعث زوجَها على بعض جيوشه، فكتب إليه أن يسير إلى مكان كذا وكذا - مكان إذا سار إليه لم يرجع - قال: ففعل فأصيب، فخطبها فتزوّجها - قال: وقال قتادة بلغنا أنها أم سليمان - قال: فبينما هو في المحراب إذ تسوّر الملَكان عليه، وكان الخصمان إذا أتوه يأتونه من باب المحراب، ففزع منهم حين تسوّروا المحراب، فقالوا: " لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض " حتى بلغ: ولا تُشطِطْ " أي ولا تملْ " واهدنا إلى سواء الصراط " أي أعدله وخيره، " إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة " - وكان لداود تسع وتسعون امرأة - " ولي نعجة واحدة " قال: وإنما كان للرجل امرأةٌ واحدة " فقال أكفلنيها وعزّني في الخِطاب "، أي ظلمني وقهرني. " قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه " - إلا " وظن داود "، فعلم أنما أضمِر له، أي عُني بذلك، " فخرّ راكعًا وأناب ".
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثًا يذكر عن مجاهد، قال: لما أصاب داودَ الخطيئة، خر لله ساجدًا أربعين يومًا، حتى نبت من دموع عينيه من البقل ما غطّى رأسه، ثم نادى: يا رب قرِح الجبين، وجمدت العين! وداود لم يُرجع إليه من خطيئته شيء. فنودي: أجائع فتطعَم؟ أم مريض فتُشفى؟ أم مظلوم فيُنتصر لك! قال: فنحِب نحْبةً هاج كل شيء كان نبت، فعند ذلك غُفِر له. وكانت خطيئته مكتوبة بكفه يقرؤها، وكان يؤتي بالإناء ليشرب فلا يشرب إلا ثُلثه أو نصفه، وكان يذكر خطيئته فينتحب النحبة تكاد مفاصله يزول بعضها عن بعض، ثم ما يتم شربه حتى يملأ الإناء من دموعه. وكان يقال: إن دمعة داود تعدل دمعة الخلائق، ودمعة أدم تعدل دمعة داود ودمعة الخلائق. قال: وهو يجيء يوم القيامة خطيئته مكتوبة بكفّه فيقول: رب ذنبي ذنبي قدِّمْني! قال: فيقدَّم فلا يأمن، فيقول رب أخرني، قال: فيؤخر فلا يأمن.
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن لهيعة، عن أبي صخر، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله يقول: إن داود النبي عليه السلام حين نظر إلى المرأة فأهمّ، قطَع على بني إسرائيل بعثًا، فأوصى صاحب البعث، فقال: إذا حضر العدو فقرّب فلانًا بين يدي التابوت، وكان التابوت في ذلك الزمان يَستنصر به من قدم بين يدي التابوت لم يرجع حتى يقتل أو ينهزم عنه الجيش، فقُتل زوج المرأة، ونزل الملَكان على داود يقصّان عليه قصته، ففطن داود فسجد، فمكث أربعين ليلة ساجدًا، حتى نبت الزرع من دموعه على رأسه، وأكلت الأرض من جبينه، وهو يقول في سجوده - فلم أحص من الرقاشي إلا هؤلاء الكلمات: رب زلّ داود زلة أبعد مما بين المشرق والمغرب! ربي إن لم ترحم ضُعف داود، وتغفر ذنبه جعلتَ ذنبه حديثًا في الخُلوف من بعده. فجاءه جبرائيل من بعد أربعين ليلة فقال: يا داود، إن الله قد غفر لك الهمّ الذي هممتَ به، فقال داود: قد علمتُ أن الله قادر على أن يغفر ليَ الهم الذي هممتُ به، وقد عرفتُ أن الله عدْلٌ لا يمول، فكيف بفلان إذا جاء يوم القيامة؛ فقال: يا رب دمي الذي عند داود! فقال جبرئيل: ما سألتُ ربك عن ذلك، ولئن شئت لأفعلن، قال: نعم، قال: فعرج جبرئيل وسجد داود، فمكث ما شاء الله ثم نزل، فقال: قد سألتُ الله يا داود عن الذي أرسلتني فيه فقال: قل له: يا داود، إن الله يجمعكما يوم القيامة فيقول: هب لي دمك الذي عند داود، فيقول: هو لك يا رب، فيقول: فإن لك في الجنة ما شئت وما اشتهيت عِوَضًا.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 5 (0 من الأعضاء و 5 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)