وقيل لآخرً‏:‏ ما البلاعة قال‏:‏ تَصْوير الحقّ في صُورة الباطل والباطل في صورة الحق‏.‏ وقيل لإبراهيم الإمام‏:‏ ما البلاغة فقال‏:‏ الجزالة والإصابة‏.‏
تضمين الأسرار في الكتب

وأما تَضْمين الأسرار في الكُتب حتى لا يقرؤها غيرُ المكتوب إليه ففيه أدبٌ تجب معرفتُه‏.‏ وقد تعلّقت العامّةُ بكتاب القُمّيّ والأصبهانيّ‏.‏ وكان أبو حاتم سهل بن محمد قد وصف لي منهما أشياءَ جليلة من تبديل الحروف وذلك مُمكن لكل إنسان‏.‏ غير أنّ اللطيف من ذلك‏:‏ أن تأخذ لَبَنا حليبا فتكتب به في القِرْطاس فَيَذرّ المكتوبُ له عليه رَماداً سُخْنا من رَماد القراطيس فيظهرُ ما كتبتَ به إن شاء الله‏.‏ وإن شئتَ كتبتَ بماء الزَّاج الأبيض فإذا وصل إلى المكتوب إليه أمر عليه شيئاً من غُبار الزَّاج وإن أحببتَ أن لا يُقرأ الكتاب بالنهار وُيقرأ بالليل فاكتُبه بمرارة السُّلحفاة
قولهم في الأقلام

قالوا‏:‏ القلم أحدُ اللَسانين وهو المخاطب للعًيون بسرائر القلوب على لغات مختلفة من معان مَعْقودة بحروف مَعْلومة مؤلفة متباينات الصور مختلفات الجهات لقاحُها التفكير ونتاجها التَّدبير تَخْرس مُنفردات وتَنْطق مُزْدوجات بلا أصوات مسموعة ولا ألْسن مَحدودة ولا حركات ظاهرة خلا قلمٍ حَرف باريه قطّته ليتعلّق المِداد به وأرهف جانبيه ليُرَد ما انتشر عنه إليه وشَقَّ رأسه ليحتبس المِدادُ عليه فهنالك استمد القلم بشقّه ونثر في القرطاس بخَطه حروفاً أحكمها التفكّر وجرى على أسلته الكلام الذي سَدّاه العقل وألحمه اللسان ونَهسته اللهوات وقطّعته الأسنان ولفظته الشّفاه ووعته الأسماع عن أنحاء شتى من صفات وأسماء‏.‏ وقالت الشاعر وهو أبو الحسن محمد بن عبد الملك بن صالح الهاشمي‏:‏ وأسمرَ طاوِي الكَشْح أخْرَسَ ناطقٍ له ذَمَلان في بُطون المَهارِقِ إذا استعجلْته الكفُّ أمطرَ وبْلهَ بلا صوت إِرعاد ولا ضَوْء بارق إذا ما حدَا غرَّ القوافي رأيتَها مُجلية تمضي أمام السوابق كأن عليه من دجى الليل حلةً إذا ما استهلت مًزْنه بالصواعق كأنَ اللآلي والزَبَرْجدُ نُطْقَهُ ونَوْرُ الخُزامى في عُيون الحدائق وقال العلويُ في صِفة القلم‏:‏ وعُرْيانَ من خِلْعةٍ مُكْتَسٍ يميس من الوَشيْ في يَلْمَقِ تَحدّرُ من رأسه ريقة تَسيل على ذِرْوة المَفْرِق فكم من أسيرٍ له مُطْلَق وكم من طَليق له مُوثَق يُقيم ويُوطن غربَ البلاد ويَنهي ويأمر بالمَشرْق قليلٌ كثيرُ ضُروب الخُطوط وأخرس مُسْتَمع المَنْطق يَسير بَركْبِ ثلاث عِجالٍ إذا ما حدا الفكرُ فِي مُهْرق لك القَلم المُطيعك غير أنَا وَجدنا رسْمه خيرَ المُطاع له ذَوْقان من أريٍ هَنِيٍ ومن شَرْيٍ وَبّي ذي امتناع أحذُ اللَفظ يُنْطق عن سِواه فيًسمع وهو ليسً بذي استماع إذا استسقى بلاغتك استهلَت عليه سماءُ فِكْرك باندفاع وبيتٍ بعَلْيَاء العَلاة بنيته بأسمرَ مَشقوق الخَياشيم يُرْعَفُ كأنَّ عليه مَلْبساً جلدَ حيّة مُقيم فما يَمضي وما يتخلف جليلُ شُؤون الخَطْب ما كان راكباً يسيرُ وإنْ أرجلتَه فمضعّف وقال حبيبُ بن أوس وهو من أحسن ما قيل فيه‏:‏ لك القلمُ الأعلى الذي بشَباته يُصاب من الأَمر الكُلَى والمفاصلُ لُعاب الأفاعِي القاتلاتِ لُعابُه وأرْي الجَنَى اشتارتْه أيدٍ عواسِل له ريقةٌ طَل ولكن وَقْعَها بآثاره في الشَرق والغَرب وابل فصيح إذا استنطقته وهو راكب وأعجمُ إن خاطبتَه وهو راجل وقد رَفَدته الخِنْصران وسَدّدت ثلاِثَ نواحيه الثلاثُ الأنامل رأيتَ جليلَاً شأنهُ وهو مُرْهَفٌ ضَنَىً وسَميناً خَطْبهُ وهو ناحل ولما قال حبيب هذا الشعرَ حَسده الخَثْعميّ فقال لابن الزيّات‏:‏ ما خُطبة القلم التي أنبيتُها وردت عليك لشاعر مَجدودِ وأنشد البُحتريّ لنفسه يَصف قلم الحسن بن وهْب‏:‏ وإذا تألّق في النَديّ كلامُه الْ مصقول خِلْتَ لسانَه مِن عَضْبِه وإذا دَجت أقلامُه ثم انتحت بَرَقت مَصابيح الدُّجى في كُتْبه باللَفظ يَقْربُ فَهْمُه في بُعده منّا وَيبْعد نَيلُه في قُرْبِه حِكَم فسائحُها خِلالَ بَنانه مَتدفّق وقَليبُها في قَلبه وكأنها والسمعُ مَعْقُودٌ بها شَخْص الحبيب بدا لعين مُحبّه وأنشد أحمد بن أبي طاهر في بَعض الكُتَاب ويصف القلم‏:‏ قَلم الكتابة في يَمينك آمِن ممّا يَعود عليه فيما يَكْتُبُ قلم به ظُفْرُ العدوِ مُقلم وهو الأمانُ لما يُخاف وُيرْهَب بكفّه ساحرُ البيان إذا أداره في صَحيفة سَحَرَا يَنْطِق في عُجمة بلَفْظته نُصَمُّ عنها وتسمع البَصرا نوادرٌ يَقْرع القُلوبَ بها إنْ تَسْتَبنها وجدتَها صُورا نظام دُرّ الكلام ضمنه سِلْكاً لخطّ الكِتاب مُسْتَطَرا إذا امتطى الخِنْصرين أذكرَ مِن سَحْبان فيما أطال واختصرا يُخاطب الغائب البعيد بما يُخاطب الشاهدَ الذي حَضرا تَرى المَقادير تَستدفّ له وتُنْفِذ الحادثاتً ما أمرا شَخْت ضئيلٌ لفِعْله خَطَر أعظِم به في مُلمة خَطرا تَمُجّ فكّاه ريقةً صَغرت وخَطْبها في القُلوب قد كَبُرا تُواقع النفسُ منه ما حَذِرت وربما جنبت به الحَذرا مُهَفهف تَزْدهي به صُحف كأنما حُلًيت به دُررا كأنما تَرتع العيونُ بها خلالٍَ رَوْض مُكلَّل زَهَرا كأن أنوف الطَّير في