حملتُ كيس المجوهرات توجهتُ إلى غرفة مكتب وليد... كنتُ قد بحثتُ عنه في أرجاء مختلفة من المنزل و لم أره، و ذهبتُ لسؤال السيدة ليندا عنه حين فاجأتني أروى بموقفها الجديد هذا
حسنا ! تبا لك ِ يا أروى... سترين !
طرقتُ الباب و لم أسمع جوابا، ففتحته و دخلتُ الغرفة. الوقت آنذاك كان وقت غروب الشمس... الغرفة كانتْ تسبح في السواد إلا عن بصيص بسيط يتسلل عبر فتحة صغيرة بين ستائر إحدى النوافذ...
البصيص كان يشقّ طريقه عبر فراغ الغرفة و يقع رأسا على جسم مغناطيسي... طويل... عريض... ضخم... محشور فوق أحد المقاعد !
متأكدة أن البصيص اختار الانجذاب طوعا إليه هو... دونا عن بقية الأجسام... الطويلة العريضة الضخمة... التي تفرض وجودها بكل ثقة في أرجاء هذه الغرفة !
لا أعرف ما الذي دهاني !؟
كنتُ قادمة بمشاعر غاضبة تريد أن تنفجر... و فجأة تحوّلتْ مشاعري إلى نهر دافئ ينجرف طوعا نحو وليد !
أغلقتُ الباب و على هدى النور الخافت سرتُ نحو وليد أحمل الكيس بحذر...
وقفتُ قربه و أنا أشعر بأنه أقرب إليّ من الهواء الذي يلامسني، و من المشاعر التي تختلج صدري...
وضعتُ الكيس جانبا فأصدر صوتا... لكن وليد لم ينتبه له... يبدو أنه نائم بعمق ! و لكن لماذا ينام هنا و بهذا الشكل المتعب و في مثل هذا الوقت؟ كنتُ على وشك أن أهتف باسمه إلا أن هتافا أقوى و أعظم تسلل عبر زجاج نوافذ الغرفة أو جدرانها و ملأ داخلها إصغاء ً و خشوعا

( الله أكبر الله أكبر )


و لم ينتبه وليد لصوت الأذان...

توجهتُ نحو تلك النافذة... و أزحتُ الستائر و فتحتها بهدوء... فاندفع صدى الأذان أقوى و أخشع نحو الداخل... و انتشر النور الباهت في الغرفة...
النافذة تطل على الفناء الخلفي للمنزل، و الذي كانت تستعمره حديقة جميلة في الماضي... تحولتْ إلى صحراء قاحلة خالية إلا من بعض قطع الأثاث و السجاد القديمة التي ركناها هناك عند مجيئنا للمنزل...
أما السماء فقد كانت تودع خيوط الشمس الراحلة... و التي لم تشأ توديع الكون قبل أن ترسل بصيصها الأخير... إلى وليد !
انتهى الأذان و وليد لم يسمعه ... و لم يشعر بحركة شيء من حوله ! قررتُ أخيرا أن أوقظه !
ناديته بضع مرات و بصوتٍ يعلو مرة تلو الأخرى إلى أن سمعني و استيقظ أخيرا !
فتح وليد عينيه و هو ينظر نحو النافذة مباشرة !

قلت ُ :


" صحوة حميدة ! "


وليد مغط ذراعيه و تثاءب ثم قال:


" من ؟ أهذه أنتِ رغد ؟؟ "


أجبتُ :


" نعم "


وليد أخذ يدلّك عنقه قليلا... ربما يشعر بألم بسبب نومه على المقعد ! لا أعرف لم يحبّ وليد النوم على المقاعد ؟؟


قلت ُ :


" لماذا تنام هنا وليد ؟؟ "


أسند وليد رأسه إلى مسند المقعد لبرهة ثم أخذ ينظر إلى ساعة يده:


" كم الساعة الآن ؟؟ "


قلت ُ :


" تقريبا السادسة ! رُفع أذان المغرب قبل قليل فأردتُ إيقاظك ! "


قال وليد :


" آه... هل نمتُ كل هذا !؟ إنني هنا منذ الظهيرة "


ابتسمتُ و قلتُ:


" نوم العافية ! "


وليد فجأة نظر نحوي... ثم أخذ يتلفتْ يمينا و شمالا ... ثم نهض واقفا و هو ينظر نحوي و قال :


" رغد ؟؟! ماذا تفعلين هنا ؟؟ "


و كأنه انتبه للتو أنني موجودة ! و كأنه استيقظ الآن فقط من النوم !


قلت ُ باستغراب :


" أتيتُ لإيقاظك ! وقت الصلاة "


قال :


" و النافذة ؟ "


قلتُ :


" كنتُ أستمع إلى الأذان... و أراقب السماء ! "


وليد حكّ شعر رأسه قليلا ثم سار باتجاهي... حتى صار عند الطرف الآخر من النافذة ثم قال :


" و لكن أين المطر "


استغربتُ و سألت ُ:


" المطر ؟ أي مطر ؟؟ "


قال :


" ألم تقولي أنك كنتِ تراقبين المطر ؟ "


قلتُ :


" أبدا ! قلتُ أنني كنتُ استمع إلى الأذان و أراقب السماء ! أي مطر هذا و نحن في قلب الصيف ! "


قال وليد :


" لم أسمع جيدا "


قلتُ و أنا أبتسم :


" يبدو أنك لا تزال نائما ! "


ابتسم وليد و ألقى نظرة على السماء و مجموعة من العصافير تطير عائدة إلى أعشاشها...


التفت إليّ بعدها و سأل:


" صحيح رغد... كيف أنت ِ الآن ؟ "


و تذكّرت ُ لحظتها الدوخة الذي داهمتي صباحا بسبب الجوع ... و كيف أنه أغشي عليّ بضع دقائق... و انهرتُ بين ذراعي وليد !

و شعرت ُ بطعم السكّر في فمي... فازدرتُ ريقي وأنا أطأطئ رأسي خجلا و أهمس:

" بخير... "


وليد قال :


" جيّد ! و هل تناولت ِ وجبة بعد البيتزا ؟ "


قلت :


" لا "


" سيء ! لماذا رغد ؟ أنت ِ صغيرة و نحيلة و لا تتحملين الجوع لوقت ٍ طويل... تكرر هذا معنا في البر... أتذكرين ؟ "


رفعتُ بصري إليه و ابتسمت ُ... طبعا أذكر ! من ينسى يوما كذلك اليوم ؟؟ و نحن حفاه جياع عطشى مرعوبون و هائمون في البر؟؟

و لكن لحظة ! هل أنا صغيرة لهذا الحد ؟؟

قلت ُ :


" لا تقلق... متى ما شعرتُ بالجوع سأحضّر لي بعض البطاطا المقلية "


ابتسم وليد و قال :


" طبقك ِ المفضّل ! "


اتسعتْ ابتسامتي تأييدا و أضفت ُ:


" و الوحيد ! فأنا لا أجيد صنع شيء آخر ! "


ضحك وليد... ضحكة عفوية رائعة... أطربت ْ قلبي... و كدتُ أنفجر ضحكا من السعادة لولا أنني كتمتُ أنفاسي خجلا منه !


في ذات اللحظة، انفتح باب الغرفة ... التفتنا نحن الاثنان نحو الباب... فوجدنا أروى تطلّ علينا... و لأن الإضاءة كانتْ خافتة جدا... يصعب عليّ كشف تعبيرات وجهها... لم تتحدّث أروى بادئ الأمر، كما ألجم الصمت لسانينا أنا و وليد... بعدها قالت أروى:


" استيقظتَ ؟ جيّد إذن... كنت ُ سأوقظك لتأدية الصلاة "


وليد قال و هو يسير نحو الباب مبتعدا عنّي :


" نعم أروى... نهضت لتوّي "


وصل وليد إلى مكابس مصابيح الغرفة، فأضاءها... الإنارة القوية ضيّقت بؤبؤي عينيّ المركزين على أروى، للحد الذي كادا معه أن يخنقاها !

كانت أروى تنظر نحوي، ثم نقلتْ نظرها إلى وليد...
سمعتُ وليد و الذي صار قربها يهمس بشيء لم تترجمه أذناي... ثم رأيتُ أروى تشيح بوجهها و تغادر الغرفة.
وليد وقف على وضعه لثوان... ثم استدار و هو يتنهّد و قال أخيرا :

" سأذهب إلى المسجد... هل تريدين شيئا أحضره ؟ "


قلتُ و أنا مشغولة البال بفك رموز همسة وليد السابقة :


" كلا... شكرا "


و غادر وليد الغرفة...



~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~